ولادة...

 

رندة صعب

 

إلى سعد الله ونوس وتجربته في ...موت عابر

 

لدى قراءتي نص الكاتب سعد الله ونوس "رحلة في مجاهل موت عابر"*، ومعايشتي مشاعره وهو على فراش المرض، وأفكاره المتدافعة عن الموت والحياة، وتفاعلي معه في انفعالاته، شعرت برغبة شديدة في مخاطبته. وما وجدت أفضل من دعوته إلى مشاركتي تجربتي في الولادة – وأنا الموحِّدة، المؤمنة بالتقمص، وبأن الموت هو مرحلة انتقالية إلى الحياة.

لقد تحدث سعد الله ونوس عن لحظات الفراق. أما أنا فأود التحدث عن لحظات اللقاء التي تلي مباشرة لحظات الفراق، في استمرارية عجيبة... مثل وَجْهَيْ القمر؛ المظلم والمضيء – وهما وجهان لقمر واحد، بدون خطٍّ يفصل بينهما؛ مثل توالي الليل والنهار، والزمن مستمر – واحدًا لا يتجزأ؛ مثل تفجُّر الينبوع الفتيِّ في مهده في أعالي الجبل.

قال الكاتب: "من الظلام جئنا وإلى الظلام نعود، وتلك هي كلُّ الحكاية." وأقول له: "إنما من النور جئنا وإلى النور نعود، وتلك هي كلُّ الحكاية...".

أدعو الله أن يخفف آلام الكاتب الكبير، وأن يعظِّم صبره على محنته، وأن يلهمه اختبار الغبطة الإلهية العظيمة في مرحلته هذه.

***

 

ولادة...

 

إنها ساعة الولادة!

مشاعر متضاربة تتدافع في داخلي. مشاعر الألم والخوف والترقُّب والانفعال والاستسلام والغيبوبة اليقظة اللذيذة. إنها التجربة الأولى لي في الأمومة. أعرف أنها ستكون ابنة؛ فقد رأيتها في منامي قبل أن تتصور. وهكذا أخبرني طيفُ جدتي. في منام آخر طلبتْ مني أن أسميها "سارة"، وقررت أن هذا سيكون اسمها فعلاً.

أسمع صراخي في أذني وكأنه يأتي من شخص آخر. أشعر بذاتي تذوب وأحاسيسي تختلف إلى شكل لم أعهده قبلاً. شعرت بنفسي تملأ الغرفة. شعرت بها تحيط بكلِّ غرفة العمليات، في جميع أرجائها. أسمع صوت الطبيب والممرضة يتحدثان عني وعن الطفلة المناضلة للخروج إلى الحياة.

أسمع صراخي مجددًا، وأتعجب من هذا الجسد الضعيف كيف يصرخ معبِّرًا عن مشاعر غريبة من الغبطة الإلهية الممزوجة بالآلام الجسدية. شعرت بنفسي خارج حدود جسدي، والمشاعر الغريبة تنتابني. فكأني فلكٌ أدور، وأدور، وأدور! كأني في تلك القِدْر التي تُخَضُّ فيها الزبدة. أتساءل: هل ينتاب هذا الشعور كلَّ النساء ساعة الولادة؟!

الله أكبر، سبحان الله، باسم الله – كلمات إلهية تتردد في رأسي في محيطٍ خارج حدود رأسي... كلمات لا تحدِّدها الحروف، كلمات تتداخل في المعنى وتشعُّ به.

أسمع صوتي ينطلق من حنجرتي يسبِّح الله، ومشاعر الغبطة تتدافع في صدري. فكأن كلَّ مشاعر الألم، بقوَّتها وإصرارها، أصبحت تُفسَّر من خلال أحاسيسي بمشاعر غبطة لا توصَف.

الله أكبر! سبحان الله! أشعر بنفسي في حضرة كيان عظيم. أشعر بانصهار ذاتي مع الوجود. أشعر بالرهبة، بالخشوع، بالحبِّ العظيم.

أرى الخضرة، أرى الماء العذب، أرى جمالاً ما رأيتُه في حياتي. وتلك اللبونة الذهبية ترمقني بحبٍّ. أشعر بالعالم الآخر، وأدور، أدور من جديد. أسمع أصواتًا رائعة، موسيقى إلهية. أسمعها، ولكن من خلال فكري؛ فهي تأتي من الداخل، وليس من غرفة العمليات حيث تتراءى لي الآلات المختلفة والطبيب والممرضة بالثوب الأبيض.

هل تشعر كلُّ الأمهات بهذه المشاعر؟ وكيف لم يخبرني أحدٌ عنها من قبل؟ أخبروني عن كلِّ ما يتعلق بالأطفال والغذاء والحمل وآلام الولادة. لِمَ لَمْ يخبرني أحدٌ عن اختبار الوجود المطلق؟ عن انبثاق الروح من الروح لحظةَ تخطِّي حدود الجسد إلى المطلق؟ مشاعر غريبة نشعر بها ولا تُفسَّر.

الموسيقى الرائعة تصدح بأنغام إيقاعات إلهية، جليلة، رائعة.

تاك، تاك، تاك، تاك...

الله، الله، الله، الله...

واع، واع، واع، واع...

لقد ولدتُ، يا الله! لقد ولدتْ "سارة"، ابنتي!

سمعت صوتًا إلهيًّا يدوِّن في سجلِّ الكون: "لقد ولدت سارة، ابنة حفيدة أمون."

شعرت أنني تغيرت! لم أعد أنا وحدي في كياني! أصبح لي امتداد جديد رائع!

شعرت أن كلَّ ذنوبي قد غُفِرَتْ، أن كلَّ آثام "الأنا" قد أُحْرِقَتْ. شعرت أنني أقرب إلى الله، أن شعوري بوجوده قد تضاعف وتَعاظَم. شعرت بمحبته ومباركته وعنايته – سبحانه!

واع، واع، واع...

الصراخ الجميل يعلو... أعرف أنها "سارة"! لكنني سألتُهم، رغم أني أراها داخل فكري، عما إذا كانت أنثى... سألتهم: "بنت؟" وجاء الردُّ بالإيجاب. وفرحت! لقد جاءت إليَّ كما وَعَدَتْ، هي بذاتها! سارة، الملاك! سارة الرائعة! الآن فقط يمكنني أن أنام وأرتاح من آلام الجسد، وأقرَّ عينًا بنوم، أصحو منه لأراها بعينيَّ الماديتين أيضًا.

أتأمل في هذا الجسد، من يكون؟ في وعيه، في لاوعيه، في علاقته بباقي الأجساد، في علاقته بالكون... أغوص في انعكاس الصورة، في البعد اللامتناهي... هذا الجسد النابض بالحياة، بدمائه الحمراء والزرقاء، بشهيقه وزفيره، بحواسه الخمس، برغباته، بآلامه... هذا الجسد، مَن يكون؟

وإذا بصوت ناعمٍ يسري إليَّ بهدوء، يهفُّ كالنسيم حين يلامس أوراق الأغصان، كجدول ماء رقراق، كنغم تلتقطُه الآذان المرهفة. إذا بصوت ناعم، يكشف أسرارًا منسية، يسري إليَّ بهدوء: أنا لست هذا الجسد، أنا لست هذا الجسد...

غبطة جبارة تغمر أناي الكبرى... غبطةٌ تفوق كلَّ الغبطات المعهودة... تلاشٍ رائع تخفُتُ فيه حدودُ الجسد.

أنا لست هذا الجسد، أنا لست هذا الجسد...

الله حق.

***

 

النقطة

 

أشرق إله الشمس رآ وغمرَ أديمَ الأرض بالدفء والخير والخصب. عانقتْ شعاعاتُه الأغصان والأوراق والطيور والصخور. امتزج دفؤه بقطرات الندى فتباركتْ، وشفَّتْ وارتقتْ، حتى تحولتْ أثيرًا جانَسَتْ طبيعتُه طبيعة النور... أثيرًا تعالى وعلا، تصاعَدَ لملاقاة مصدر الشعاع، ليخترق حواجز وطبقات، ليُصدَم بعوائق ومعوقات، ليحاول من جديد بفرح، من دون كلل.

قطرة ندى ابتهلتْ إلى الإله رآ: خذني إليك، وحِّدْني معك. طهِّرْ كياني من كلِّ الغبار الذي علق بي خلال هذا الليل الطويل. اجعلني قطرة مقطَّرة، مشبعة بنورك.

أذهب في مشواري البعيد وأعود إلى نقطة البداية:
قطرة ندى أنا، هطلت من الضباب

نقطة ماء أنا، تنشد المحيط

سكرى أنا من نشوة اللقاء

أتوق بلهفة، أتألم للفراق

أنادي، أناجي، أحنُّ إلى الحبيب

وأرنو إليه بلوعة المشتاق

آلاف المرايا تعكس الحنين

وتَعْلَقُ فيها ومضاتٌ من البعيد

وعينٌ سحرية تنفتح على الفضاء...

***

 

استفاقة جثة

 

الجثة الملقاة في وهج اللظى تتحرك. ترفع وجهها المدفون في الرمال، تفرك عينيها المحروقتين من شمس الصحراء، وتمسح حبيبات الرمل العالقة على رطوبة الوجنتين.

تفتح عينيها، وتخشى الظلمة من حولها، تلفُّها، تعصرها عصرًا. تتطلع إلى السماء بحثًا عن قمر خجول أو عن نجمة تستنير بضوئها.

كان هنالك قمر محجوز وراء كثبان الرمال القاسية التي تحجب نوره وتبخل عليها بإشعاعه. فقط شعاعات عذبة تتسرب إليها، بين الفينة والفينة، جميلة كبراءة الأطفال. كانت هنالك نجوم كثيرة، لكنها غير مضيئة ولا مشعة. بحثتْ عن نجمة القطب، علَّها تهتدي إلى طريقها، علَّها تهتدي إلى مكان وجودها – من دون جدوى! هل غيَّرتْ نجمةُ القطب موقعها؟ لم تكن متأكدة من ذلك! هل يئستْ نجمةُ القطب من هداية تلك الجثة، فاختفت؟! لم تكن متأكدة من ذلك!

تساءلت الجثة عن وضعها، تلمَّستْ أطرافها، فشعرت أن الأحاسيس لم تَمُتْ. ثم تفحصت أجزاءها فوجدت أن التماسُك لم يُفقَد. ثم تأملتْ في صحة تفكيرها وسلامتها العقلية، فقررتْ أن اتِّزانها لم يتأثر. نظرت إلى جسدها وقالت لنفسها: "صحيح أن الجسم منهك من حرِّ النهار وقرِّ الليل، صحيح أنه متشقق من الجفاف، لكن العروق مازالت غنية بالدماء الحمراء التي تغذيها. مازال القلب ينبض، والفكر يثقب!" انتقلت من مفهوم الجثة إلى مفهوم الجسد.

جلس الجسد الحيُّ ينظر إلى السماء... ينتظر انجلاء الغيوم عن نجمة القطب، لتشع من جديد فوق الرمال، وتهدي مسافر الصحراء إلى وِجْهَته.

*** *** ***

تنضيد: نبيل سلامة


* السفير الثقافي، 4/10/1996.

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

Editorial

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال يوسف وديمة عبّود