أرضٌ واسعة

 

هاني نجَّار

 

كان ولدًا حالمًا، ولم يكن بيتُه يتَّسع لحلمه.

كان حلمُه أكبر، وبيتُهُ لم يكن بيتَه. كان بيت أبيه.

عندما كبر دخل المدرسة.

ولكن المدرسة لم تكن مدرسته. كانت مدرسة أبيه.

وكان الشارعُ. والشارعُ ملك الجميع.

ولكنه فشل في أن يأخذ مكانه. كان غريبًا في شارعه، غريبًا عنه.

كان العماءُ سمة المرحلة. وكانت المياه أينما التفت بوجهه.

كان البحرُ سيِّد الموقف.

هكذا قضى طفولته مراقبًا منكمشًا، يلحظ كلَّ شيء، منتهزًا أدنى فرصة تحمله ليقول أناه، ليختار ما ليس لأبيه.

منتظرًا على الشاطئ كان يقضي يومَهُ، والبحرُ توقُهُ.

يرقب كلَّ السفن العابرة، لعلَّه يحظى بسفينته المأمولة.

وفي يوم عاديٍّ لاحتْ في الأفق مقدمةُ سفينة شدَّتْ إحساسَه بقوتها وتوازن إبحارها.

صاح في داخله فَرِحًا محمومًا صيحة الغريق: ها هي ذي السفينة التي ستأخذني إلى جزيرتي حيث الأمان!

بدا له أن كلَّ مَن على ظهر السفينة منتقَوْن، مصطَفَوْن، رجال أشداء، شباب شرفاء، يسعون مثله إلى هدفهم النبيل المشترك، صادقون في عزيمتهم، لا تثنيهم الأعاصير ولا تُرهِبُهم العواصف، يشبهونه إلى حدٍّ كبير – أو هكذا بدا له – ولذلك اختارهم.

إنهم أهلٌ لمشاركتهم الحياة. فجزيرتهم هي لا بدَّ جزيرته.

كانت الرحلة باتجاه الجزيرة مليئة بالسرِّ، بالمغامرة، بالتواطؤ الداخلي، بالخطر. وكانت الجزيرة تلوح كفسحة الأمل، كفردوس خالد تبنيه النخبة – وهم منها.

كانت الجزيرة هي المعنى، هي الحاضر، هي المستقبل. أما الماضي فصار بعيدًا. الغاية كانت الوطن، والكلُّ في خدمة الوصول، في خدمة الجزيرة. كلُّ شيء مجيَّرٌ لصالح الجزيرة: الأهل، العلاقات، العاطفة، الحب، الفكر.

كانت إلهه.

تصرفاته، أحاديثه، سلوكه، آراؤه، كلها تُبنى بشكل انضباطي لاستحقاق أفضل الأماكن في الجزيرة.

ولشدة إيمانه بقدرة السفينة وبحتمية الوصول تخلَّص سريعًا من طوق النجاة، تخلَّص من الله. لم يكن يريد أن يساعده أحد – حتى الله. كان يريد أن يكون الوصولُ وصولَه هو، لا وصول أحد سواه.

وكان الوصول.

شعورٌ عميقٌ مبهمٌ فسَّرَهُ كلَّ التفسيرات – إلا تفسيره الحقيقي الوحيد.

هكذا كان الوصول.

وسرعان ما اتخذ لنفسه أفضل الأماكن التي، من خلالها بالذات، اكتشف – ويا للفاجعة! – زيف الجماعة، زيف المشاركة. فالكلُّ يريد أكثر، يريد الأفضل، يريد أن يسيطر، يتحكم. الكلُّ له غاياته الخاصة، أهدافه الخاصة، نوازعه، المدرَكة أو غير المدرَكة. قد يكونون صادقين، ولكنهم ليسوا حقيقيين. الكلُّ يستند إلى الكلِّ. الكلُّ يتَّكئ على الكلِّ. الكلُّ ليس كلاً. الكلُّ كلٌّ على حدة.

الكلُّ منفصل، منكفئ على ذاته، ولا اتصال بين أحد.

وأضحت الجزيرة فردوس غرباء.

ولكي لا يكون قاضيًا أو متجنيًا، وليكون أكثر صدقًا مع نفسه، ولكي لا يحكم على أحد، عند بزوغ سفينة أخرى تراءتْ له، غادر الجزيرة مسرعًا بعد أن فجَّر ما كان استحقه من أماكن.

إن كان الآخرون قد ارتضوا بها جزيرة لهم، فبالنسبة له هذه الجزيرة ليست جزيرته: لا أرضها أرضه، لا أهلها أهله، ولا جوُّها جوُّه.

وهكذا، بدون طوق نجاة، مع كثير من الجروح وبعض التشوهات، استجمع ما تبقى من قواه ليركب سفينة جديدة في رحلة جديدة.

كانت هذه السفينة آخر سفينة يركبها بحثًا عن جزيرته المبتغاة. فلقد استنفد كلَّ شيء، استنفد الله، استنفد الناس، ولم يبقَ له إلا احتمال اتصاله الأخير.

لم يكن على ظهر السفينة الجديدة إلا أنثى، فتاة وحيدة، أصبح يرى من خلالها حلم العثور على الجزيرة وإنشاء مملكتهما المصغرة على جزيرتهما المصغرة، جزيرتهما المشتركة.

هي وهو فقط.

على كلٍّ، كانت الرحلة مرعبة من إحدى جوانبها، ذلك أنه وقع عن ظهر السفينة. فلا شيء سيحمله بعد الآن. وهكذا ازداد، يومًا بعد يوم، تعلقًا بها. فهي الآن كلُّ شي، هي الشي الوحيد المتبقي. لذلك كان عليه – وبكل سرعة – الوصول إلى شاطئه المنشود.

لم تمضِ فترة طويلة حتى حدث ما لم يكن بدٌّ من حدوثه، ما لم يكن يريده، ما لم يكن يطيقه، ما كان يمثل النهاية والخراب، الغياب والانقطاع.

لقد سَقَطَ. سَقَطَ من شدة تعلقه. سقط ليجد نفسه أمام الخيار الذي لا مفرَّ منه.

الخيار الحقيقي المؤجل الذي آن أوانُ مواجهته وحيدًا بدون أحد:

إما الغرق وإما بناء الجزيرة.

***

بحيرة زرقاء، تعلوها غيوم توحي بالغموض، وبالخطر أحيانًا، وتغريك بلذة البحث والاكتشاف والخوض.

المشهد ضبابي.

نقف على إحدى الضفتين، مأخوذين برغبة عميقة في الإبحار، والوقت غير كافٍ.

كلٌّ عليه أن يبني قاربًا بنفسه. فالشعور العميق يقول بأن الأفضل، الأجمل، الأكثر فرحًا، الأكثر سعادة، الأكثر طمأنينة، الأكثر حبًّا، ينتظرنا هناك، على الضفة الأخرى غير المرئية.

بعضنا يسرع في إنجاز زورقه، ويُبحِر مستعجلاً قطع المسافات، ليخونه زورقُه قبل الوصول.

وبعضنا الآخر يتأنَّى في صنع زورقه، ليسير دون مخاطر، ولكن ربما ليفوته الوقت أو شيء آخر.

وهناك من يقف متأملاً المشهدَ، منكِرًا، متسائلاً عن جدوى الإبحار أو إمكانية الوصول، محاولاً الاستمتاع بما يجري.

وتبقى قلةٌ تطلق ما حملتْ من سهام حنينٍ تخرق الضباب بدفئها.

نوَّار طريق.

***

كانت هناك أرضٌ، أرضٌ واسعةٌ تكفي الكثير.

وكان هناك رجلان يعيشان على هذه الأرض. رجلان فقط.

كانا يعرفان واحدهما الآخر عن بُعد. فالأرض واسعة وتكفي الكثير.

ولسبب ما، له علاقة بالإنسان، اقتربا ذات يوم واحدهما من الآخر. لم يَدُمِ الاقترابُ طويلاً.

فلسبب ما، له علاقة بالإنسان أيضًا، قام أحدهما بضرب الآخر. فقام الآخر بالردِّ عليه بشكل أقوى.

وبدأت المعركة، واستمرت عشرات السنين، إلى أن ضَعُفَ أحدُهما وفاز الأقوى.

وكانت الأرض تضيق.

وبدأت هدنةٌ، واستمرت عشرات السنين، إلى أن صار الضعيف قويًّا، لتبدأ معركة جديدة استمرت مئات السنين.

وكانت الأرض تضيق.

واستمرت الحال هكذا، آلاف آلاف السنين، بين القوي يقتل الضعيف.

وتناوب الرجلان على القتل، مرة القوي ومرة الضعيف. وكانت آلاف السنين.

وكانت الأرض تضيق.

ذات يوم – ولسبب له أيضًا علاقة بالإنسان – توقف أحدهما عن الضرب، فضربه الآخر ضربًا أقوى من أية مرة أخرى، واستمر في ضربه ملايين السنين، رغم أنه كان مرة قويًّا ومرة ضعيفًا.

استمر الضرب ملايين السنين ولم يتوقف أبدًا.

ولكن الأرض...

صارت الأرض واسعة حتى المدى.

*** *** ***

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

Editorial

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال يوسف وديمة عبّود