حبُّ الآخرين، وحبُّ الله،

وحبُّ الحبيب!

 

أديب الخوري

 

1. الجرح والينبوع

 

"أما يسوع فلما رأَوا أنه قد مات لم يكسِروا ساقَيهِ؛

بيدَ أنَّ أحدَ الجنود فتحَ جنبَه بحربة، فجرى منه للوقتِ دمٌ وماء."

إنجيل يوحنا 19: 33-34

 

صار الجرحُ ينبوعًا... لأن المجروح كان قد غفر!

يروي فكتور هوغو في روايته الخالدة البؤساء بعض أحداث كُمُّونة باريس. كان الصبيُّ غافروش يجمع فوارغ الطلقات للثوار عندما، قبل أن يُصابَ هو نفسُهُ بقليل، رأى رصاصة تصيب إحدى الجثث، فعلَّق متهكِّمًا: "ويحهم، إنهم يقتلون الموتى!"

هكذا أرادوا أن يقتلوا يسوع وهو ميْتٌ حتى!

وكان جوابُ يسوع لا يتغيَّر: العطاء بقدر ما نريد أن نقتله، والغفران والفداء بقدر ما نطلب لأنفسنا الدينونة!

وكم يجدر بنا أن نتأمل في هذا العطاء، في هذا الجدول المضاعف الذي منه نستقي.

وماذا نستقي إن لم نستقِ درسًا؟ ولماذا نسمِّي أنفسنا "مسيحيِّين" إن لم نكن نريد أن نكون تلامذةً ليسوع وأن نتمثَّل به؟ وهل لا نستطيع حقًّا أن نكون على مثاله؟ ألم يقل هو نفسه أنْ لا تلميذ أفضل من معلِّمه، لكن التلميذ الكامل يكون كمعلِّمه؟ ألم يقل لنا هو نفسه: "كونوا كاملين"؟ ألم يذكِّر اليهود بما وَرَدَ في الكتاب: "إنكم آلهة"...

من منَّا يخلو من الجراح؟ من منَّا لم يطعنْه جندي أو آخر؟ ألا يمثِّل الجندي قوة السلطة، أي قوة المجتمع؟ فمن منَّا لم يطعنه المجتمع؟ من منَّا لم تطعنه الكنيسة؟ من منَّا لم تطعنه "التربية"؟ من منَّا لم يطعنه أقربُ الناس إليه – لأن "أعداء الإنسان أهل بيته"؟

من منَّا يخلو من الجراح؟ ولكن من منَّا يريد أن يجعل من جراحه نبعًا؟ من منَّا يريد أن يتمثَّل بيسوع؟ من منَّا يريد أن يغفر؟ من منَّا يؤمن بأن الجرح لا يشفى بالانتقام، بل يستحيل نبعًا بالغفران؟ ومن منَّا يملك شجاعة الغفران؟!

هل نؤمن بأن الجرح، كلَّما كان أعمق، أمكن له أن يصير نبعًا أغزر؟

هل نؤمن أن "العطاء أعظم غبطةً من الأخذ"؟

هل نملك شجاعة الخروج من ذواتنا لبذلها لمن يحتاج؟

هل نملك شجاعة أن نضيِّع أنفسنا من أجل يسوع الذي في المهمَّش والمتروك والمرذول والمُدان؟ – لكي نجدها!

هل نملك أن ننسى جراحاتِنا ونؤمن أنها مصدر قوة لنا؟

هل نؤمن أن الله يؤتينا من النعمة على قدر ما يصيبنا العالمُ من جراح؟

وهل نحن على استعداد لقبول هذه النعمة، للمتاجرة بهذه الوزنات؟

إن لا، فلسوف أعيش حياتي كلَّها منتظرًا شفاءً لن يكون. وإن نعم، فطوبى لي لأن الفرح سيكون نصيبي – وهو الفرح الذي وعدني به وقال لي: "هذا الفرح لا يستطيع أحدٌ ولا شيءٌ أن يسلبك إيَّاه."

 

2. طبيعة الحب

 

"الله نورُ السمواتِ والأرض. مثلُ نورِهِ كمشكاةٍ فيها مصباحٌ، المصباحُ في زجاجةٍ، الزجاجةُ كأنَّها كوكبٌ درِّيٌّ يوقَدُ من شجرةٍ مباركة، زيتونةٍ لا شرقيَّة ولا غربيَّة، يكادُ زيتُها يضيءُ ولو لم تمْسَسْهُ نار. نورٌ على نورٌ – يهدي الله لنورِهِ مَن يشاء."

القرآن الكريم، سورة النور، 35

 

"أحتاج ساعةً من الصمت قبل أن أخطَّ كلمة واحدة عنه. يلزمني أن أطهِّر شفتيَّ بالنار المقدسة قبل أن أتلفظ باسمه"، كما يقول جبران.

"الحبُّ" – أفليس هو علَّة وجودنا؟ أما هو المنطلق والقصد؟ أما هو الألف والياء؟

نعتقد دومًا – ونعتقد باطلاً – أننا نحبُّ – ولا نحب!

والحقُّ هو أن الحبَّ فعلٌ لا نقوم به نحن أنفسُنا: إنه حبُّ الله من خلالنا؛ إنها حياة الله فينا. ولهذا السبب فلا فضل لنا فيه.

يكذب من يقول إنني أحبُّ زوجي، ولا أحبُّ عدوِّي، لأنه يحبُّ نفسَه في زوجه، ولا يحبُّ زوجَه.

يكذبُ من يقول إنه يحبُّ أخاه أكثر مما يحبُّ ابن عمِّه، لأنه يحبُّ نفسه في أخيه أكثر مما يحبُّ نفسه في ابن عمِّه.

ويكذب من يقول إنه يحبُّ زيدًا على غير نحو ما يحبُّ عمرًا، لأنه يحبُّ نفسه في زيد على غير نحو ما يحبُّ نفسه في عمرو.

ثمة شخصٌ يكون أنانيًّا حتى أقصى درجات النرجسية، وثمة شخصٌ يكونُ غيريًّا حتى أقصى درجات بذل الذات – وبين الاثنين طريقٌ لا نهاية لها! فالحبُّ هو أن يعرف المرء مكانه على هذه الطريق، وأن يختار وجهته؛ وأكثر من الاثنين: أن يسير، ولا يلبث واقفًا في مكانه.

من قال إنه يستطيع أن يقدِّم هذه أو تلك من التضحيات لزوجه دون عدوِّه كان كاذبًا، لأنه إنما ينتظر من زوجه أن تردَّ له تضحيته، فلا تعود تضحية.

ومن قال إنه يستطيع أن يَهَبَ أخيه أكثر مما يَهَبُ ابن عمِّه كان كاذبًا أيضًا، لأنَّه يرجو أن يردَّ له أخوه أكثر مما يردُّ له ابنُ عمِّه.

ومن قال إنه يستطيع أن يعبِّر عن حبِّه لزيد على غير نحو ما يعبِّر عن حبِّه لعمرو كان كاذبًا أيضًا، لأنه ينتظر أن يردَّ له زيدٌ محبةً على غير نحو ما ينتظر أن يردَّ له عمرو.

يشبه الواحدُ منَّا مصباحًا كهربائيًّا عجيبًا، يمكن له أن يشعَّ كمائة شمعة أو كمائتين أو كألف، ويمكن له أن يشعَّ بلا نهاية، ويمكن له ألا يشعَّ أبدًا. فالحبُّ – وهو الله – هو النور الذي يشعُّ به هذا المصباح.

لا يمكن لي أن أكون مصباحًا مشعًّا وغير مشعٍّ في آنٍ: مشعًّا لزوجي، وغير مشعٍّ لعدوِّي.

لا يمكن لي أن أكون مصباحًا يشعُّ مائتي شمعة ومائة شمعة في آنٍ.

لا يمكن لي أن أشعَّ مائتي شمعة لأخي ومائة لابن عمِّي.

لا يمكن لي أن أكون مصباحًا أحمرَ وأزرقَ في آنٍ: أحمرَ لزيد وأزرقَ لعمرو.

فأنا المصباح نفسه، والحبُّ يشعُّ فيَّ بمقدار أو بآخر، يزيد أو ينقص مع الوقت، على قَدْرِ ما أكون مستعدًّا أو غير مستعدٍّ لقبول الألم، لأن قوة الإشعاع تتطلَّب مصباحًا يقدر على احتمال الحرارة دون أن يحترق أو ينكسر: فالحبُّ هو أن يرتضي المرءُ ألمَه لكي يشعَّ أكثر فأكثر على الآخرين، أو على نحو ما يقول رهين المحبسين إذ يتأمَّل الشمعة:

وصفراء لـون التبرِ مثلي جليدةٌ * على نُـوَب الأيامِ والعيشـةِ الضَّنكِ

تُريـكَ ابتسـامًا دائـمًا وتجلُّـدًا * وصبرًا على ما نالَها وهي في الهَلَكِ

ولـو نطقَتْ يومًـا لقالَتْ: أظنُّكم * تخالونَ أني من حَذارِ الرَّدى أبكـي

فلا تحسبوا دمعي لِوَجْـدٍ وجدتُهُ * فقد تدمعُ الأحداقُ من كثرةِ الضَّحِكِ

من الأكيد أن إشعاع المصباح، أيًّا كان، يصل بكلِّ قوَّته لزوجي التي تعيش معي في نفس الغرفة، ويصل ضعيفًا جدًّا لشخص "عدوٍّ" أتجنَّبه وأهرب من إقامة علاقة معه. لكنني، إن لم يظهر النور الذي فيَّ لهذا العدوِّ إمَّا اجتمعتُ به مرة كما يظهر لزوجي، فعليَّ أن أشكَّ إذًا في حبِّي لزوجي. أما استعدادي لتقديم هذا النور للغريب فيبقى كذبة كبرى إن لم أذهب وأبحث عنه وأزيل عنه صفة العداوة!

من الأكيد أنني على نحو طبيعيٍّ أشعُّ نوري – وما هو "نوري"؟ فما أنا إلا المصباح، وما النور غير الله – لأخي أكثر من ابن عمِّي، وذلك لسبب بسيط واحد: هو أن أخي أقرب مسافةً إليَّ من ابن عمِّي. ولكن من هو أخي ومن هو ابن عمِّي في حقيقة الأمر؟ عندما سُئِلَ يسوع عن ذلك أعطى مثل السامري الرحيم.

من الأكيد أن زيدًا حرٌّ في أن يلبس نظارة حمراء، وأن عمرًا حرٌّ بأن يلبس نظارة زرقاء. أما أنا فعليَّ أن أفهم أن حبِّي لهما حبٌّ واحد، وأنه لا ينتظر – إن كان حقيقيًّا – أجرًا أحمر أو أزرق أو أصفر!

"إن قال أحدٌ إني أحبُّ الله وهو يبغض أخاه فهو كاذب. فمن لا يحبُّ أخاه وهو يراه لا يستطيع أن يحبَّ الله وهو لا يراه." (1 يوحنا 3: 20)

"فإنكم إن أحببتم الذين يحبونكم فأيُّ أجر لكم؟ ألا يفعل الخطأةُ ذلك؟" (متَّى 5: 46)

فإن قال أحدٌ إنه يحبُّ أباه أو أمَّه أو زوجه وهو يبغض "أخاه" فهو كاذب، لأن هذا "الأخ" الذي لا يستطيع أن يحبَّه هو الله نفسه! إنه الله في الإنسان البائس، في الإنسان المتروك، في الإنسان الذي يحتاج إلى الحب.

والذي يحب أباه أو أمَّه أو زوجه، أو أيَّ شخص يبادله حبًّا بطبيعة الحال، فلا فضل له. فهذا يعني أن حبَّه كاذبٌ لأنه مصلحة وليس حبًّا، لأنه تجارة وليس عطاءً، لأنه تبادُل وليس مجَّانية.

 

3. والزواج؟

أما حبُّ الزوج لزوجه – وهو التعبير الأقوى والأكثر شهادةً لحبِّ الله فينا – فهو

ليس عواطف وأشواق،

ولا أمانًا وأحلامًا،

ولا بحثًا عن الهناء،

ولا طلبًا لراحةٍ قرب الحبيب،

ولا أنانيةً من خلال الآخر،

ولا مظاهرَ اجتماعية،

ولا لهاثًا وراء "تحسين الحياة"

...

إنه تكريسٌ مشترك،

إنه بذلُ نفسين صارتا نفسًا واحدة من أجل الآخرين،

إنه عطاءُ الواحد للآخر، وعطاءُ الزوج ذاتَه لله،

إنه السموُّ بالعواطف وتصعيدُها،

إنه التضحيةُ المشتركة،

إنه اللقاءُ في رسالة مشتركة،

إنه الاجتماعُ في مسيرة مشتركة،

إنه التقاءُ جرحين يريدان أن يصيرا ينبوعين...

بل ينبوعٌ واحد!

*** *** ***

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

Editorial

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال يوسف وديمة عبّود