حتى لا نخسر الشعب الأمريكي

 

محمد بن المختار الشنقيطي*

 

لا تخلو أعيُن المتتبِّعين لأخبار العالم اليوم من صور مروِّعة ومَشاهد مفزعة. ولنا معاشر العرب والمسلمين النصيب الأوفر والحظ الأكبر من هذه الصور والمَشاهد. فمن الإبادة الجماعية في سريبرنيتشة في البوسنة في منتصف التسعينيات، إلى المذابح الدموية اليومية في فلسطين، إلى استباحة أرض العراقيين وعِرضهم، إلى غير ذلك مما تشمئز منه النفوس وتدمى له القلوب.

لكن تعاليم الإسلام وعِبرة التاريخ يعلِّماننا أن الغلبة لا تُكتَسَب بالحقد على الخصم أو التشفِّي في الانتقام، وأن عدالة القضية، إذا امتزجتْ بالشجاعة وبالنبل، هي الطريق الأقصر إلى الغلبة والنصر. أما الحقد فهو سلاح العجزة والضعفاء، وهو غريزة تُعمي المُحارب، وتسلبه نبل رسالته ونقاء رايته، فيندفع بدافع الانتقام الأعمى إلى اقتراف أعمال قد تروي غليله، لكنها تسلبه إنسانيته وتضرُّ بقضيته.

أرأيت المجندة الأمريكية التي ترفع أصابعها في إشارة النصر على جثة معتقل عراقي عذَّبتْه هي وأصحابها حتى الموت؟! أرأيت تلك المجندة الأخرى التي تجر الأسير العراقي برباط كلبها، دون أن يرفَّ لها جفن أو تتحرك لها عاطفة؟! أرأيت الجند المبتسمين وهم يحيطون بشيخ أشيب عار، وكلبُهم الشرس ينهش لحمه، دون أن يحسوا بأن مَن يتعاملون معه بشر من لحم ودم؟! تلك أمثلة بليغة على القلوب الجامدة التي تجرَّدتْ من إنسانيتها، وعلى الحقد الأعمى الذي أضرَّ بمشروع الاحتلال واستراتيجية التدخل ولم ينفعهما بشيء.

ومن المَشاهد التي تركت في نفسي أثرًا لا يمَّحى مشهد ذبح الشاب الأمريكي الأسير نيكولاس بيرغ، وشخيره المروِّع، والشباب الملثَّمون يحزُّون حلقومه، ثم يرفعون رأسه المفصول عن جسمه أمام الكاميرا مجاهرة ومفاخرة!

لقد ظللت أيامًا عديدة وأنا أحاول التغلب على هول تلك الصورة، محاولاً فهم الدوافع التي جعلت أولئك الشباب يقترفون فعلاً كهذا، ويُخرِجونه في مشهد استعراضي يحيِّر مَن يحبون المقاومة المشروعة ويحدبون عليها، ويُنفِر مَن يعادونها ويشكِّكون فيها.

كنت أدرك تمامًا الشبهات المحيطة بحياة نيكولاس بيرغ وبموته. فهو شاب يهودي أمريكي مغامر، جاء إلى العراق دون غطاء من الجيش الأمريكي أو من سلطة الاحتلال، بدوافع غامضة، زادتْها المعلومات التي تكشَّفتْ بعد موته ريبة واشتباهًا. فقد تبيَّن أن نيكولاس بيرغ كان في إسرائيل قبيل ذهابه إلى العراق، يدرس اللغتين العربية والعبرية؛ كما تكشَّف أن الشركة التي ادَّعى تمثيلها في العراق شركة وهمية. فقد صرَّح مسؤول في ولاية بنسلفانيا أن لا وجود لتلك الشركة أصلاً! كما أن اعتقال الجيش الأمريكي له بسبب "أعماله المثيرة للريبة"، بحسب تفسير سلطة الاحتلال، أثارت مزيدًا من الشبهات حوله. ولم يكن نعي صحيفة Jerusalem Post الإسرائيلية له بأعطر الثناء بالذي يُعِينه أو يُعِين أسرته في دفع الشبهة عنه. لكن ما يهمنا هاهنا ليس تبرئة ذمة نيكولاس بيرغ، ولا إدانته، بل النظر إلى عملية ذبحه المروِّعة في إطار إنساني وسياسي أوسع.

كان نيكولاس بيرغ – على الرغم من كلِّ ما أحاط بحياته وبموته من شبهات – بشرًا من لحم ودم، وكان له أب حنون، يكره الحرب على العراق وينشط في سبيل وقفها. وقد رفض أبوه أن يساهم في الحملة الإعلامية ضد العرب والمسلمين التي تَلَتْ ذبح ابنه والتي تزعَّمتْها بعض وسائل الإعلام الأمريكية وبعض القادة الأمريكيين، وتمَّ فيها وصف العرب والمسلمين لعدة أيام بأنهم "برابرة" و"متوحشون" و"أعداء للحضارة وللإنسانية"! بل إن والد بيرغ وقف في وجه التيار، فأعلن، بحقٍّ وصدق، أن "بوش ورمسفيلد هما المسؤولان عن مقتل ولدي". وهو ما يدل على صلابة الوالد المفجوع وعلى قوة موقفه من العدوان على العراق.

ولم يكن ذبح نيكولاس بيرغ بتلك الطريقة الاستعراضية فاجعة لوالده الشجاع فحسب، بل كان أيضا حماقة سياسية، غطَّت على جرائم الاحتلال في سجن أبو غريب – وكانت الشغل الشاغل للإعلام والرأي العام الأمريكيين يومئذٍ. فوجد أمراء الحرب في واشنطن مَن يرفع عنهم الحرج، ويخفِّف العار، حينما ظهرت صورة بيرغ المسكين وهو يتشحط في دمه في أثناء فضيحة سجن أبو غريب. وسرعان ما التقط أمراء الحرب الصورة مسرورين، وقدَّموها إلى الرأي العام الساخط قائلين: "انظروا... هؤلاء هم نوع البشر الذين نتعامل معهم في العراق... فنحن لم نفعل لهم في أبو غريب أكثر مما يستحقون."

فهل يدرك الذين ذبحوا نيكولاس بيرغ أية خدمة جليلة قدَّموا للاحتلال؟! وهل يدركون أنهم أنقذوا قادة الحرب في واشنطن من فضيحة كادت أن تقوِّض عروشهم؟! وهل يدركون أنهم قدموا مبررًا أخلاقيًّا لفظائع سجن أبو غريب، التي كان من الممكن لها أن تقضي على مشروع الاحتلال برمَّته لو تمَّ تقديمُها إلى الرأي العام الأمريكي غير مشوبة بشائبة ذبح أسير أمريكي؟!

لقد لخَّص الأستاذ فهمي هويدي ببلاغة نقص الخبرة السياسية والإعلامية لدى بعض الجماعات "المجاهدة"، وذلك في عنوان كتابه طالبان: جند الله في المعركة الخطأ. فالشق الأول من عنوان الكتاب – "جند الله" – يعترف لطالبان بصدق المشاعر الإيمانية وعمق الحماس الإسلامي؛ لكن الشق الثاني منه يبيِّن أن ذلك الحماس غير متسلِّح بسلاح الخبرة بالجبهة وتضاريسها، والمعركة وأبعادها، وأنه حماس يغفل أهمية الكلمة والصورة – وهما اليوم أشد فتكًا ومضاءً من الطائرات والدبابات. وما يجعل كتاب الأستاذ هويدي ذا مصداقية أكثر من غيره هو أنه صَدَرَ قبل هجمات 11 سبتمبر، وقبل أن يصير التهجُّم على طالبان موضة مبتذلة يتبنَّاها الجميع، بدوافع وغايات شتى.

لقد نجح القس المسيحي الأسود مارتن لوثر كنغ في التأثير على الضمير الأمريكي في مطلع الستينيات، فقضى على التمييز العنصري في القوانين والإدارة الأمريكيين، دون ثمن يُذكَر من الدماء والأموال، وذلك بفضل رجاحة عقله، ورحابة خطابه، وقوة حجَّته؛ بينما فشل الكاتب المسلم الأسود مالكولم إكس في ذلك، على الرغم من بلاغة لسانه، وحماسه المتأجِّج. والسبب هو أن كنغ لم يقدِّم نضاله من أجل العدل والحرية في شكل صراع بين الإنسان الأبيض والإنسان الأسود، بل قدَّمه خطابًا إنسانيًّا، يهدف إلى تحرير السود، دون انتقام من البيض، وإلى إنصاف المظلومين دون حقد على الظالمين. وفي خطابه الشهير "أنا عندي حلم" I Have a Dream، الذي أصبح قطعة أدبية نادرة ووثيقة تاريخية ثمينة، بيَّن كنغ لأتباعه أن سيرهم إلى العدل يجب أن لا يتلطَّخ بارتكاب أيِّ ظلم: "فلا يجوز أن نطفئ ظمأنا للحرية بتجرع كأس الحقد والكراهية"، بحسب تعبيره.

وسرعان ما التفَّ الشعب الأمريكي، بيضًا وسودًا، حول القس الأسود، وحملوا رايته، فلم يجد المتشبِّثون بالقوانين العنصرية بدًّا من الإذعان لهزَّة أخلاقية وسياسية مسَّتْ شغاف القلوب في كلِّ مكان. أما مالكولم إكس، المسلم، فقد صاغ خطابه صياغة إقصائية حدِّية، وقدَّم جهده لتحرير السود الأمريكيين من العنصرية تقديمًا مبتورًا، في شكل صراع أبديٍّ بين البيض والسود، لا مجال فيه للصلح، ولا أمل في الحل، ورَفَضَ قبول العون من البيض الشرفاء الذين يرفضون التمييز العنصري ضد السود، فانتهى، وانتهتْ معه دعوتُه دون أن تحقق شيئًا.

والعبرة التاريخية من ذلك كلِّه هي أن الخطاب السياسي – حتى في ساعة الحرب – يجب أن يحافظ على مسحة إنسانية. فعدو اليوم صديق الغد، وغاية الحرب تحقيق السلم، وليست غاية السلم الإعداد للحرب، كما يؤمن المتعطِّشون للدماء. وتَرْكُ خط الرجعة سالكًا وباب الصلح مفتوحًا هو شأن العقلاء دائمًا، مهما يستعر أوارُ الحرب وتشتد نارُها.

أنا لست من الحالمين الذين يعتبرون أن المواعظ حول المشاعر الإنسانية والأخوَّة بين البشر تكفي وحدها لتغيير المعادلات الإستراتيجية أو لتحرير الأوطان؛ لكني ممَّن يؤمنون بأن الضمير الإنساني لم يمت، وأن المقاومة المشروعة تحتاج إلى خطاب ناضج أخلاقيًّا وسياسيًّا، وإلى صورة مشرقة تجمع بين الشجاعة والنبل، فتؤثر في العدو قبل الصديق، وتحقِّق أهدافها بأقل خسارة إنسانية ممكنة.

كما أؤمن بأن خوض حرب ضد سياسات أمريكا أو جيشها المحتل لا يعني خوضها ضد الشعب الأمريكي بأسره – وهو شعب يحمل بين جنبيه كلَّ أنواع التناقضات والمواقف المتباينة. بل إن مقاومة السياسات المتحيزة التي ينتهجها القادة الأمريكيون هي التي تقتضي مَدَّ يد الصلح والمودة إلى الشعب الأمريكي. فهو الحليف الأقوى للمقاومين، والأشد تأثيرًا على قادته، لو وصلتْه رسالة المظلومين الذين يعانون من سياسات قادته. أما ذبح أسير أمريكي في مشهد استعراضي، فهو عمل غير إنساني، وتصرُّف أخرق، ودعوة صريحة للشعب الأمريكي للاصطفاف خلف السياسات العدوانية الخرقاء التي ينتهجها قادتُه.

يذكر المستشرق اليهودي الفرنسي [المرحوم] مكسيم رودنسون في كتابه جاذبية الإسلام Fascination de l’Islam أن اسم صلاح الدين الأيوبي (أو Saladin، كما ينطقه الفرنسيون) أصبح اسمًا شائعًا في أوروبا بعيد الحروب الصليبية. وما ذلك إلا لأن صلاح الدين مَلَك قلوب الصليبيين، بشجاعته محاربًا وبنبله إنسانًا. فهو القائد الذي قارَعَهم بالسلاح حتى انهزموا، وهو القائد الذي عامَل أسراهم بشهامة وكرامة، وسمح لهم بالخروج إلى مأمنهم وبأخْذ أموالهم معهم، ثم ضَمِنَ الأمان والسِّلم لمن قرَّر منهم العيش بين المسلمين في فلسطين والشام. وكذلك فليكن المحارب العربي المسلم في كلِّ زمان ومكان.

لقد شدَّتْني المساعي الحميدة التي قامت بها "هيئة علماء المسلمين في العراق" من أجل إطلاق سراح الرهائن اليابانيين والفرنسيين وغيرهم، وما صاحَب ذلك من لمسة إنسانية كشفتْ للعالم نبل الشعب العراقي، في وقت تدور فيه رحى مذبحة الفلوجة. كما تابعتُ باعتزاز اعترافات مجندة أمريكية، من ضمن الجنود الذين أسَرَهم العراقيون في بداية الغزو، وإقرارها على شاشة قناة CNN بأن العراقيين عامَلوها بكلِّ رقة وعطف، وهي التي جاءت لاكتساح بلدهم واستعباد شعبهم. ثم عبَّرتْ المجندة الأمريكية عن اشمئزازها من معاملة الأمريكيين للمعتقلين العراقيين في سجن أبو غريب.

وأتمنى أن يكشف الذين يقاومون سطوة الاحتلال والعدوان، من العرب والمسلمين في كلِّ مكان، عن المزيد من رسائل العدل والنبل الإسلامي، وأن يفهموا دلالة الصورة ومغزاها في عالم الإعلام والمعلومات الذي نعيشه اليوم، شعارهم في ذلك الحديث: "والله لا يتحدث الناس أن محمدًا يقتل أصحابه."

لقد خسرت الحكوماتُ الأمريكية الشعوبَ العربية والإسلامية بإصرارها على الوقوف إلى جانب الظالم ومظاهرته، سواء كان ذلك الظالم هو الجندي الإسرائيلي الذي يحتل الأرض أو القائد العربي الذي يستعبد الشعب. وأخيرًا قطعت القيادة الأمريكية الحالية شوطًا أبعد، فتجاوزت مظاهرة المحتل والمستبد إلى ممارسة الاحتلال والاستبداد ممارسة مباشرة.

لكن الشعوب العربية والإسلامية ليس من مصلحتها أن تخسر الشعب الأمريكي، ولا من الحكمة أن تسعى في ذلك. بل من مصلحتها أن تُزاوِج مقاومة العدوان بمدِّ يد البرِّ والقسط إلى الشعب الأمريكي، سعيًا إلى عزل قيادته غير الحكيمة، داخل بلدها وخارجه، وفرض سياسات العدل والحوار والتعايش عليها.

إن واجبنا هو تغيير أمريكا، لا تدميرها؛ ومهمتنا أن نكسب الشعب الأمريكي، لا أن نغلبه؛ ومصلحتنا دَفْعُ الشعب الأمريكي إلى الصلح، لا جرُّه إلى الحرب – وإلا فسنتحول إلى حلفاء لقادته المتعطشين للحروب والغزو، من حيث أردنا أن نكبح جماحهم.

فالحكمةَ الحكمةَ، أيها المقاومون الشرفاء، حتى لا نخسر الشعب الأمريكي – فنحن الخاسرون بخسارته!

*** *** ***

عن الجزيرة نت


* كاتب موريتاني.

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

Editorial

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال يوسف وديمة عبّود