زمن الشعر

هذه نفسي يقول الشاعر الناقد، فافهمها على حقيقتها!

 

جان نعوم طنوس

 

لا يزال النقد عندنا، في معظمه، يفتقر إلى إعادة النظر الجذرية: فهو إما نقدٌ يعيد إنتاج النص ويقوله في أسلوب مختلف، وإما نقد تمجيدي على طريقة المدَّاحين القدماء! فنحن مازلنا ننظر إلى الأثر الأدبي بعيون الماضي، بصفته خلقًا وإعادة تكوين للعالم. وأذكر، في هذه المناسبة، أني كنت في ندوة أدبية، فإذا بأحد المنتدين – وهو باحث مرموق – يندفع معظِّمًا أحمد شوقي، متغاضيًا عن كلِّ التحليلات النقدية التي تناولت هذا الشاعر، من ميخائيل نعيمه وعباس محمود العقاد وطه حسين، إلى إيليا حاوي وإدوار حنين وسواهم – مع أن شوقي لم يبدع إلا في قصائد قليلة، إذ اكتفى بوصف أو ملاحظة ما يستجد في الحياة الاجتماعية والسياسية، كتأسيس مصرف، أو مدح جمعية خيرية، أو رثاء زعيم، أو تمجيد الخلافة، وما إلى ذلك من قصائد "نَظْمية" لا يصح أن تُعَدَّ رؤيةً جديدة للإنسان والعالم.

من هنا يأتينا كتاب أدونيس زمن الشعر[*]، في طبعته الجديدة والمزيدة، علامةً فارقة في تاريخ النقد العربي الحديث، بدءًا بـغربال ميخائيل نعيمه وبعض مؤلَّفات العقاد والمازني، مرورًا بالنقد الپسيكولوجي الذي يمثله كتَّاب مُجلُّون، أمثال جورج طرابيشي وخريستو نجم وسواهما. ولست أغالي إذا قلت إن أدونيس أكبر شاعر عند العرب؛ إذ لست مجافيًا المعايير الأكاديمية النابذة للتطرف وإطلاق الأحكام، إنما هي حقيقة موضوعية نستنتجها استنتاجًا من خلال مطالعتنا لآثار الشعراء الكبار. وما افتتحه أدونيس – ولاسيما في مجال الشعر – يظل أعظم إنجاز ثقافي شعري–فلسفي في القرن العشرين. فهذا الرجل لا يستقر على حال، دأبُه إعادة النظر في كلِّ شيء وفق معايير دقيقة، وتبعًا لرؤية متكاملة، من ملامحها أن يحتل الإنسان مكانَه اللائق بوصفه خلاقًا للعالم، وليس تابعًا للماضي أو لمذهب أو لمدرسة أو لمعتقَد. أدونيس عاصفة من لهب، تعلِّم النقاء وطهارة الأعماق.

في زمن الشعر مواقف عديدة يصعب حصرُها في مقام ضيق كهذا. فعن الشعر الجماهيري الذي لطالما مجَّده دعاةُ "التقدمية" يقول:

الفلاح أو العامل العربي لا يعرف عروة بن الورد أو طرفة أو ذا الرمة أو أبا تمام أو أبا العلاء. وإن ثقافته مجموعة من الأوامر والنواهي موروثة بالتقليد على نحو سطحي – فمن أين له أن يفهم الشعر الثوري؟

ويستنتج أن الأصوات المتباهية بالثورية والعلم الدقيق والداعية إلى الشعر الجماهيري تشارك في ترسيخ لعبة الثقافة الإقطاعية–البرجوازية السائدة، وفي ترسيخ لعبة النظام السائد. فالقصيدة العظيمة، بنظر أدونيس، لا تُفهَم بسياستها المباشرة ولا تقوم من خلال فاعليتها السياسية الآنية؛ ذلك أن كتابة الشعر فن–علم، وعمل هذه الكتابة أن يقلب النظام الثقافي–الاجتماعي للمعاني والقيم والدلالات الموروثة. لكن ذلك يحتاج إلى عقول انقلبت هي أيضًا وثارت وتجاوزت هذا النظام.

وقد يستغرب القارئ الحدَّ الذي وصل إليه دعاةُ التقدمية، كالناقد الماركسي محمد دكروب الذي، بحكم إيديولوجيته المغلقة، قرأ خطأً ما كَتَبَه شاعر التحولات، فزعم أن أدونيس يفصل بين الشعر والثورة، وذهب إلى أن همَّه يُختصَر في تغيير بنية اللغة وإلى أن يجعل الفن الثوري موازيًا للثورة. ويرد أدونيس عليه، موضحًا كيف ينشأ هذا الفهم الخاطئ، على الرغم من وضوح العبارات وسُطوعها، مستنتجًا أن الشعر في البلدان الاشتراكية ارتبط بمقتضيات النظام، لا بمقتضيات الثورة؛ مما يفسر فشل الأدب في ذلك العهد وسقوطه، أي تبعيَّتَه الملتصقة بما هو راهن وبُعدَه عن حركة الواقع، عن الثورة.

وكم أتمنى في هذا المجال لو أن دعاة التقدمية، من أمثال دكروب وسواه، اعتذروا للأدباء الذين نَعَتُوهم بـ"البرجوازية" أو "العَمَالة" – كالتُّهم التي رمى بها حسين مروة شاعرًا كبيرًا مثل خليل حاوي. أليس من الأفضل أن نراجع تاريخنا الثقافي، بدلاً من ركوب الموجة؟ عندئذٍ يتضح لنا أن الذين احتُقروا هم خيرة الأدباء، وإن الذين مُجِّدوا لا يمتون إلى الأدب بِصِلة!

أما من حيث علاقة الشعر بالماضي، فالحق أن كثيرًا من التهم أُلْصِقَتْ بأدونيس، مع أنه أوضح هذه المسألة في معظم مؤلَّفاته الفكرية. فليس المقصود قَطْعُ الصلة بالقديم، بل التحرر من عُصاب الماضي. شاعرنا لا يرفض الشعر القديم بوصفه شعرًا، بل يرفض أن يبدع ضمن الأطُر الفنية والثقافية التي صدر عنها ذلك الشعر. ولعل هوميروس واحد من كبار الشعراء في العصور كلِّها، كما يرى أدونيس؛ ومع ذلك، ليس هناك شاعر أوروبي أو غير أوروبي واحد يكتب ضمن الأُطُر الفنية التي كتب بها هوميروس. ألا يصح أن ينطبق هذا الأمر على موقفنا من أسلافنا الأقدمين؟!

ولا مراء أن ثمة علاقة بين الشعر والمذهبية أو الإيديولوجيا. والحقيقة أن الإنسان لدى أدونيس أهم من المذهب: "الدين للإنسان، وليس الإنسان للدين." لكن المذهبية تقسم الناس اثنين: وفيٍّ أو خائن، مؤمن أو زنديق، مخلص أو مرتد. وليست قضية المذهبية كيف يبحث الإنسان أو كيف يبدع، بل كيف يُصنَّف وتُمارَس ضده الدينونة. ويرى أدونيس أن "الجماعية" – وهي إنتاج المذهبية – لم تنتج إلا أدب المدح والهجاء؛ وهي لذلك تقتل الخيال والرغبة والصبوة، وتعلِّم التبعية والامتثالية.

وفي موضوع الوزن، يرد أدونيس على سعيد عقل، الذي يراه يتحرك ضمن عقدتين: عقدة النقص وعقدة التفوق. ويوضح أن مجلة شعر، عندما حاربت الوزن، لم تحاربه من حيث إنه وزن حصرًا، بل من حيث رأتْه استعادةً نمطيةً ومؤالفةً نمطية. وهو يأخذ على عقل سطحيَّته المذهلة، ليس في فهم الحداثة فحسب، بل في فهم الشعر؛ إذ يعد أدونيس صاحبَ رندلى صائغًا بارعًا، لا خلاقًا فريدًا.

الشعر لدى أدونيس لا يَقبل بعالم مغلق، كما تريده الإيديولوجيا والمعتقد الجامع. فالشعر لا يقدر أن ينفتح ويزدهر إلا في مناخ الحرية الكاملة، حيث الإنسان مصدر القيم، وليس الآلة أو الطبيعة، وحيث الإنسان هو "الكلِّي على الإطلاق والحقيقة"، كما يعبِّر ابن عربي. فمهمة الشعر كانت في النظرة التقليدية أن يرصد العالم فيستعيده ويصفه؛ أما مهمة الشعر في النظرة الحديثة فأن يعيد النظر في هذا العالم، أن يبدِّله، أن يخلق ويرتاد ويجدد. والشعر العربي الحديث، كما يرى أدونيس، هو مغامرة في الكشف عن المعرفة ووعي شامل للحضور الإنساني.

أغلب الظن أن أدونيس يصف نفسَه وتجاربَه في الفصل الذي يحمل عنوان "السؤال الموت"، كأنه يقول للقارئ: هذه هي نفسي عارية، فافهمها على حقيقتها العميقة! يقول:

لا شيء حوله يخصه. نقي، ونقاوته غريبة ومرعبة. يحس ألا وجود له بغير الآخر. يحس أيضًا ألا وجود له بغير انفصاله عن الآخر. لكنه لا ينفصل شأن الغريب اليائس، بل شأن مَن يتحدى ويتخطَّى ويحتضن. إنه مقتلَع، لكنه ريح مزروعة في الأرض كلِّها. يتساءل ويسأل دائمًا. لا يترك لليقين أن يرهقه ويحدَّه ويغلق عليه الأبواب.

في اختصار، هذا الرجل من معدن نادر، وذو طبع ناريٍّ وهوائي. طموحه غير محدود، وصبوته مشتعلة دائمًا. لا يعرف البلادة والاستقرار. خلاَّق من الدرجة الأولى: يعيد خلق العالم بعدما سقطت حوله الإيديولوجيات والمعتقدات. لا يترك لرأي مسبَّق أن يسيِّره. لذلك ترى في شعره ونثره من عناصر القوة والجرأة ما لا تراه في سواه.

من حقِّ العرب أن يفخروا – إن شاءوا الفخر – بشاعر ومفكر كبير من هذا العيار؛ لكن من واجبهم أن يفكروا بعقولهم، لا بعقول سواهم، وأن يشعروا بشعورهم الذاتي – أو سيكون الليل العربي طويلاً جدًّا ومرعبًا جدًّا!

*** *** ***

عن النهار، الثلثاء 12 تموز 2005


 

horizontal rule

[*] صدر لدى "دار الساقي" في طبعة سادسة مزيدة ومنقحة، 2005.

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

Editorial

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود