عشقانيَّات إبليس

 

أحمد شهاب الدين[1]

 

اخترتُ جبل ح من سلسلة جبال ق التي تحيط بالدنيا، وأخذتُ أتصعَّد وأجوز الشِّعاب. فلما نال منِّي الرهق، نظرتُ إلى خلفي، – أسفل مني، – فإذا السفح رعيَّة وراعٍ: الرعية كالمِسْخ بين الإنسان، والماشية يسيرون على أربع، وراعٍ يشير لهم فيتبعون عصاه أنَّى تشير. كرهتُهم!

ألعلَّها حكمة الله؟! – لا، بل حكمتنا! ما أغفلنا وما أغبانا!

تابعتُ العَنَتَ، إلى أن انتهيت أعلاها.

هناك تجلَّى ظلٌّ كبير لطائر السيمُرْغ، – ما أعظمه وما أجمله! –

ينشقُّ عنه ظلٌّ كبير، يقترب...

-       السلام عليك، أيها الإنسان!

شاركتْ أذني عيني الطَّربَ، فسرى السكْرُ في دمائي.

-       ألا تردُّ السلام، يا ابن التراب؟!

الروح التي تسري في شرايينكم هي ذاتها التي تستعر في دمانا، واهبةً لنا الحياة جميعًا.

-       مَن؟ أهو أنت؟!

وكأني أُصِبْتُ بإشراقة في داخلي أعمتْني عن نوره الباهر.

-       وعليكَ وعلى آلِكَ السلام والرحمة.

***

 

عشقانيَّة البراءة

نظرتُ إليه مليًّا...

-       لماذا؟!

-       ماذا؟

-       لِمَ فعلتَ؟!

-       تقصد لِمَ فُعِلَ بي!

-       كنتَ تملك خيارَك.

-       خياري خيارُه.

-       إن الله عادل.

-       لا، لم أشك...

مَن تُكشَف له الحقائقُ تَضْحَ شيئًا من ذاته.

-       لقد عصيت!

-       إن شعلة ضئيلة من النار لَتميل حين تشم رائحة الطين تبغي إحراقه.

-       الملائكة أطاعت.

-       إنها على ذلك فُطِرَتْ.

-       النارُ، حين أُمِرَتْ، كانتْ.

-       إن الله، حين يأمر مخلوقاتِه سليبةَ الروح، يأمرها كما يأمر السيد عبده، وحين يخاطب مَن أعطاهم شيئًا مقدسًا من ذاته، يخاطبهم كما يخاطب الصديقُ صديقَه والمحبُّ محبوبَه.

-       عصيت!

-       إن الله، حين يأمرنا، يكون الأمر مصاحبًا لعلَّته – ولا تختفي العلَّة إلا لعلَّة.

-       ... ... ... !

-       طلبتُ الحكمةَ، صمتُّ، ففهمت.

[حينئذٍ شرد إبليس بعينٍ تفصح عن حزن وعشق محروم.]

كنتُ تحت ظلِّ شجرة من أشجار الجنة،

أصلِّي،

أتأمل،

ينبض قلبي،

تدمع عيني،

يرقص جسدي...

الله!

فجأةً، سكت التسبيح عن الكون، وعنِّي...

وإذا بالله يجمع ملائكته الأولى، فعرفتُ أنه لأمرٍ عظيم لم يحدث من قبل.

-       إنِّي جاعلٌ في الأرض خليفة...

وسكتنا مبهوتين.

-       ... إنسانًا.

وقفتُ أتكلم عن الجموع:

-       إلهي!

أتفضِّل إنسانًا ينساك على مَلَكٍ نسَّاك؟!

... مَن يفضِّل الهوى على الهوى على مَن يفضِّل الهوى على الهوى؟!

إلهي!

أترغب عمَّن يُفني ذاتَه فيك إلى مَن يُفني غيرَه فيه؟!

-       إني أعلم ما لا تعلمون.

-       إلهي، ليس هذا خطابًا بين محبوبين!

هُمْتُ حين فهمت.

وحجبتْ ناري نارَه.

رأيتُه طينًا صلصالاً تسطع فيه الشمس.

-       أنت!

أنت الذي يجمعنا الله من أجلك، ويفضِّلك علينا، ويجعلنا خدمًا لك؟!

دخلتُ مِن فيه، شممتُ بداخله النتن، وخرجت من دُبُره.

-       والله لو سُلِّطتُّ عليك لأُهلِكَنَّك!

نُفِخَ فيه الروح – كم كان جميلاً، وبريئًا، ومقدسًا!

أُمِرْنا بالسجود.

خروا ساجدين، فأصبحوا له خادمين: منهم مَن يُنزِل له المطر، ومنهم مَن يرفع أعمالهم، ومنهم حفظة – إلا أنا!

-       اسجد!

وجَّهتُ وجهي وجهَه وسجدت.

-       استكبرت!

-       استنكرت.

-       أتعصاني؟!

-       عشقي معصيتي!

-       "اخرج منها، فإنك مهين!"[2]

-       "محبٌّ، والمحبُّ مُهَان."[3]

-       اخرج من جنتي!

-       كيف، وكل ما خلقتَ بيديك جنة؟!

-       ... من رحمتي.

-       هَبْني خرجتُ من رحمتك، فكيف أخرج من رحمانيَّتك؟!

-       ملعون أنت إلى يوم الدين!

-       إذن فاللعنة موقوتةٌ والطردة محدودة.

... ... ...

فهمتُ المُراد، فكنت ما أراد.

كتمتُ حبي بركانًا يكاد أن ينفجر كلَّ يوم، وتظاهرتُ بالعصيان، وعيني وكلماتي تكذِّبني.

... ... ...

حين أقسمتُ، أقسمتُ بعزَّته، وعاهدتُه لا أقرب أحبابَه – وما درى أني أول أحبابه!

-       والشر؟!

-       إني أترك مَن طَبَعَهُمُ الله على الخير. أما مَن طُبِعُوا على الشرِّ فقط، أساعدهم أن يكونوا أنفسهم...

صوفي لا ترى ذاتَها إلا في عيوني.

***

 

عشقانيَّة الذات

-       أتقبَلُني تلميذًا؟

-       بل أستاذ...

لا تجعل لِذاتك معلِّمًا، وخُذْ من كلِّ معلِّم ما يتفق وطبيعتَك، ولا تجعل إلا ذاتك معلِّمًا مطلقًا.

إني لا أعطيك حقائق، بل أفكارٌ تهتدي بها إلى الحقيقة.

-       الحقيقة...

[ردَّدتها في سحر.]

-       نعم، قد تقضي العمرَ كلَّه بحثًا عنها...

ولكن، حين تجدها، أتدري ما كَسِبْت؟

-       الحقيقة؟

-       ذاتَك...

كم تبدو جميلاً، وكاملاً، ومقدسًا حينذاك!

***

 

عشقانيَّة التأمل

-       ما الله؟

ما الإنسان؟

ما الآخرة؟

ما الدنيا؟

ما الإيمان؟

ما الإدراك؟

-       أنت تسألني؟!

-       من الأسئلة ما يبوح بأشياء لا تقدر الإجابةُ على البوح بها.

-       إذن، ما الإنسان؟ ما الدنيا؟ ما الإدراك؟

-       أنت كسول، لا تقوى على التأمل والتفكير. والكسالى هم أبعد الناس عن الحقيقة! لا يعتنقون إلا ما يتفق وكسلَهم ويبرِّر لهم تفاهتَهم وسطحيتَهم.

-       لا أفهم.

-       فقط تأمَّلْ...

فالحقائق لا جسد لها.

***

 

عشقانيَّة الحب

-       أتحب الله؟

-       ومَن لا يحبه؟!

-       مَن لا يحب ذاتَه في جمالها، وكمالها، وقدسيَّتها...

مَن لا يحب الحياةَ في صفائها، والعيشَ في كفافه...

مَن لا يحب الحبَّ ذاته، في تحرُّره من ذاته وصِفاته...

ومَن يقوى عن الصلاة حين يرى ثمرةً مدلاة،

وزهرةً منداة،

وحبيبةً ترنو إليَّ في حب...

***

 

عشقانيَّة الرحمة

-       إن كنتَ محبًّا، فكيف يعذِّب الله المحبَّ في النار؟

-       إني سأدخل الجنة!

-       ... ... ... ؟!

-       أنا الذي سأطلب من خزنتها أن تُدخِلَني النار.

-       هه... لماذا؟!

-       لأتألم وأتألم... علَّ صرخاتي تكبت ولهاتي، أو تخفف آلام الجسد من معاناة الروح.

-       إن الله عادل.

-       لا، إنه رحيم. والرحمة تمحو العدل كما تمحو الحسناتُ السيئات.

-       ولكنْ... ناره؟! غضبه؟!! انتقامه؟!!!

-       إن المسيح دعا لصالبيه، ومحمدًا عفا عمَّن ساموا المؤمنين ألوان العذاب، والحلاج اعتذر لله عن كفر قاتليه...

أليس الله – خالق الرحمة فيهم – أحنَّ عليهم من هؤلاء!

***

 

عشقانيَّة النار

-       ما الجنة وما النار؟

-       الجنة علَّة يعلَّل بها الغافلون المغفلون،

وجهنم نار ونور –

نار هوى ونور هدى.

الجنة لا يطلبها إلا غافل،

والنار لا ينشدها إلا عاشق.

***

 

عشقانيَّة الإسلام

-       ما الإسلام؟

-       أن تُسْلِمَ ذاتكَ لِذاتك.

***

 

عشقانيَّة الكفر

-       ما الكفر؟

-       ... إنك حين تصل إلى الحقيقة، تكون قد اجتزت أبوابًا ضيقة ودروبًا عسرة... تكون ذا جسد قويٍّ وروح تقوى عينُها على رؤية الله، ويَسَعُ قلبُها ذاتَه...

إن الذين يدعون الناس إلى الإيمان بها، دون أن يهيِّئوا أجسادَهم لوعورة الطريق، إنما يدعونهم إلى كسلهم ونومهم.

النفوس الضعيفة لا تقوى على استيعاب الحقائق، والقلوب الضيقة لا ينظر إليها الرحمن.

***

 

عشقانيَّة الخلود

-       أتدري ما أشد ما عاقَبَني الله به؟

-       ماذا؟

-       الخلود... أتعرف ما معنى الخلود؟

أن تظل تحت قيد الصورة وسلطان المادة...

آآآه، يا أولاد التراب الكافرين الجاحدين!

حين تهلك أرواحُكم لا تشعرون بها، وحين تُمَسُّ صورُكم تقيمون الدنيا دعاءً وضراعة!

لقد أمسى معناكم لا معنى له.

***

 

عشقانيَّة الكلمة الإلهية

-       إنك لا تستشهد في كلامك بالله أو بالرسول!

-       أنتم تقولون دائمًا "قال الله، قال الرسول"، حتى أصبحتم لا تقولون شيئًا!

إن الله لا يُتناقَل كلامُه كما تُتناقَل حكمةُ الحكماء وفكرةُ العلماء.

إن لم تكن الكلمة من ذاتك – من أعمق أعماق ذاتك – فهي ليست من الله!

***

 

عشقانيَّة الكينونة

-       ما الكون؟

-       الكون لا يكون إلا في كونك.

الفكرة عقل، والحقيقة قلب.

فلا تكن إلا لك.

***

 

عشقانيَّة صوفي

-       حدِّثْني عن الله!

-       الله لاه... والإنسان تاه...

الله هوْ... نادِه "يا هوْ" سيظل هو – والإنسان مؤمن.

الله آلَ ليملأنَّها منَّا أجمعين – والإنسان خائف.

صوفي = ح: حبٌّ ورحمةٌ وحكمة – والصوفي محبٌّ، رحيمٌ، حكيم.

***

 

عشقانيَّة الجنون

-       هل لي من نصيحة؟

-       عقْلُك عَقَلَك... فإياك إياك أن يُجَنَّ جنونك!

... بهذا تصل إليك،

وبكَ تصل إلى صوفي.

*** *** ***


 

horizontal rule

[1] كاتب وقاص من مصر.

[2] العبارة للحلاج.

[3] العبارة للحلاج.

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

Editorial

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود