فلسطين والعراق واللاعنف

المطران جورج خضر

 تنزف فلسطين فيَّ. أبكي العراق، وليس من فكر واضح أو غامض في شأنه عندنا هنا، ولا نستطيع أن نملي أيَّ أمر على شعوب يذبحونها في العبث المطلق! ومع ذلك، يجب أن نستنطق عقولنا وقلوبنا مجتمعة، خدمةً للبشر المعرَّضين للموت في قسوة ليس مثلها قسوة.

من نافل القول أن نقول إن شارون يريد سَحْقَ المقاومة وابتلاع الأراضي والتنكر الفعلي لإنشاء دولة فلسطينية ورفض عودة اللاجئين، ليس فقط إلى إسرائيل ولكن إلى الأراضي. نحن في الـ"لا" المطلقة، المعزَّزة بجيش قوي وترسانة نووية – ولا ينفع في هذا دعاةُ السلام في إسرائيل. نحن في آلة حربية تأبى الفكر وتمارس اغتيال الدولة لقيادات الفصائل. ماذا بعد؟

المشهد العراقي لا يقل حدةً من حيث منطق الدم، وهو مفتوح على كلِّ الخيارات – وأشنعُها اللَّبْنَنَة. الأمر الجميل أن يظل الشيعة والسنَّة العرب على وئام في انتظار ترتيب ما للحضور الكردي والتركماني. وهنا يبدو لي أن الإسلام الحي، المعطاء، المسالم، المدني، العصري، هو الحل، مع الحرية الكاملة للمسيحيين. ولكن كيف يُهيَّأ لهذا باستمرارِ انسكاب الدم؟!

طبعًا، لا يتوقع العراقيون أن تكون أمريكا جمعية خيرية! – وهي التي اصطنعت هذه الحرب بأكذوبة سلاح الدمار الشامل. ولكن ينبغي أن يتعقل أشقاؤنا العراقيون كثيرًا قبل أن يعتقدوا أن الولايات المتحدة ستنسحب في سهولة. المقارنة مع فيتنام غير واردة؛ إذ إن العراق كان أقوى دولة في الشرق العربي والأغزر في إنتاج العلماء، وهو مطلٌّ على بلدان حساسة جدًّا في هذه المنطقة. إن المصالح العليا الاقتصادية والإستراتيجية على هذا القدر من الأهمية حتى تتغلب على شعور الأمهات والزوجات إذا اضطربن من خسارة العسكر. لا يُعقَل الانسحابُ قبل تأمين السيطرة الكاملة على أرض العراق بفاعليات عسكرية قد تصغر عددًا وبفاعلية الولاء السياسي للولايات المتحدة.

لا أحد يعلم إنْ كان للـ"مقاومة" العراقية رأسٌ مدبِّر أو هي مجموعة حركات تتناسق أو تتعاون؛ ولا أحد يعلم إن كان لهذه "المقاومة" برنامج في زمان السِّلم. إن مجرد التقدير أن الجنود الأمريكيين سيرحلون تحت وطأة المقاومة فكرٌ مغامر أو مقامر. إن احتلال العراق قرارٌ متخَذ قبل 11 أيلول. ثَبَتَ ذلك في النصوص. فالاحتلال لم يكن ردة فعل على انهيار البرجين في نيويورك وما قد تأذتْ منه بنايةُ الپنتاغون في واشنطن – ما يدل على مقاصد البقاء في العراق.

المقاومة لا يجوز أن تكون انتفاضةَ شعورٍ قويٍّ بلا حساب. القلوب لا تصنع حربًا! الحرب موضوع حسابي، لأنه موضوع دم. لا يكفي أن نقول: نحن نسكب دماءنا، وبعد هذا نرى! فالحرب ليست انتحارًا جماعيًّا. أنا حيَّيتُ "انتفاضةَ الحجارة" لأنها كانت تعبيرًا عن الرفض. كانت عندي أقرب إلى الشهادة الروحية لأنها لم تقتل أحدًا، وكانت فرحًا لنا بحماسة الفتيان لبلدهم المعذَّب.

***

لست أجهل أنه مستحيل عليَّ أن أقول لِمَنْ تدمَّر بيوتُه وتُتْلَف مزارعُه في فلسطين ويُقتَل أبناؤه وشيوخه والنساء أن كُفَّ عن المقاومة المسلحة؛ إذ يقول لي: ماذا تفعل لو كنت مكاني؟! لكني معجب بالفكر الفلسطيني النيِّر الذي يعبَّر عنه بما يصل إلينا على الشاشة من هذا الموقع أو ذاك. هل خيار اللاعنف إلى هذا الحدِّ غير واقعي؟! أجل، اللاعنف ليس من التراث العربي، أو ليست له أصولٌ في تربيتنا. غير أنه استطاع مع غاندي أن يحرر الهند، وإنْ لم يَطُلْ كثيرًا بعده. كان فيه من السموِّ الخُلُقي ما أعتق الناس من البغضاء. اللهجة الفلسطينية غير ملوثة بالبغض، وفيها عقل كثير. السؤال الحقيقي هو: كيف يبقى الشعب الفلسطيني في بلده ولا يضطر إلى الرحيل بمشروع transfer أو غيره؟ هل من إمكان تهيئةٍ للدولة المستقلة، بما فيها القدس؟ هل من حرية للعراق بالمعطيات الحاضرة؟

في حسباني أن العرب، إذا اجتمعوا، ينبغي أن يصلوا إلى خطة متكاملةِ المعالم، تدخل في الواقع السياسي الدولي ولا تبقى إنشائية. هذه فرصة الجِّد. ما هي الضغوط المعقولة على أمريكا وإسرائيل، بحيث يقف الاغتيال للزعماء الفلسطينيين ويتم تحرير الأراضي ويُزال الجدار العازل؟ إن العرب يبذلون جهدًا كبيرًا لمكافحة الإرهاب. ولكن لا معنى للكلام الأمريكي على الديموقراطية وحقوق الإنسان في وسط بحيرة الدم! يجب أن يكون عقلك هادئًا حتى تواجه هذه الأمور.

في احتسابي أيضًا أن الأمم المتحدة مطلوب منها دورٌ أفعل، ولو كان موازيًا للاحتلال الأمريكي في العراق مؤقتًا. أنا خوفي ليس فقط على أهلنا في العراق، ولكن على العسكر الأمريكي – the Boys، كما يسمونهم في بلادهم – لأنهم يموتون عبثًا، إذ يلحظون أن كلَّ هذه "الهمروجة" لم تحرِّر أحدًا من أحد! صدام لم يكن بعيدًا عنهم حتى يجهِّزوا عليه حملةً بهذا الحجم. [...] عندما تقرأ لائحة الذين يقبضون معاشًا من الاستخبارات الأمريكية CIA في الكتاب الذي لا تستحي هذه الاستخبارات عن إصداره يذهلك ورودُ أسماء لقادة عرب كبار.[1] مع ذلك، أريد أن أعتقد أن هناك من زعمائنا مَن كان قابلاً للتوبة. ليس معنى ذلك أنه لا ينبغي أن نعتمد على الصفِّ العربي الطاهر الذي له أن يواجه الولايات المتحدة بطريقة نافعة. ولعل كلَّ بلد من بلداننا يقرر طريقتَه في التعاطي.

صعوبة الوقوف في وجه الأمريكيين – وأنا أتابعهم منذ السنة الـ1948 – أن مواقفهم تجاه إسرائيل شبه ثابتة على تعاقُب الإدارات، مع تباينات قليلة. فهل نستطيع أن نهزَّ هذا الثابت الأمريكي؟ ماذا نقدر أن نعطي الأمريكيين، بحيث لا نخسر هويتَنا وحرصَنا الآن على فلسطين والعراق؟ إن استمرار المقاومة نفسه يفسح في المجال للتلاقي على بعض من النقاط. خذوا مثلاً من المقاومة السودانية لحكومة الخرطوم: الفريقان يلتقيان من زمان طويل، ولا يزالان على اختلاف. أليس هناك موقف وسط بين العداء السافر وبين أن نكون زبائن للولايات المتحدة؟!

***

جماعةٌ ما يجب أن تصحِّح مسيرة الأمريكيين. لا يمكن أن نُبقي هؤلاء على شهوة السيطرة التي يعيشونها الآن وأن يحسبوا أن مَن ليس معهم هو عليهم! هذه عزلة فرضوها هم على أنفسهم، وهي تُميتهم روحيًّا. ونحن في غاية الفرح إذا تواضعت الإدارةُ الحالية عندهم ورأت أنها مثل باقي الناس. محبةً بالشعب الأمريكي، نحن نأسف أن يخسر هذا الشعبُ التواضعَ الذي كنَّا نعرفه عليه. ولهذا لا بدَّ لنا، نحن العرب، أن نلتقي الشعوبَ الراقية ودولَها المتقدمة، لندفع أمريكا إلى خطاب دولي معقول. نرجو أن يمكِّننا الله من أن نقنع أمريكا أن القوة ليست لغة.

ثم على الرغم من أنك تعالج الحضور الأمريكي في العالم بالمقولات السياسية الواقعية، إلا أنك، إنسانًا عربيًّا، لا تستطيع أن تنسلخ ثقافيًّا عن أوروبا، لأننا صنعناها جزئيًّا في قرونها الوسطى، وصنعتْنا جزئيًّا في العصور الحديثة. نحن وإياها على ضفاف المتوسط. أضف إلى هذا أن روسيا – وفي الكثير من قلبها هي شرقية – سوف تتلاحم وأوروبا في وقت قد لا يكون بعيدًا. ونحن لا نتمنى مواجهةً بين أوروبا الكاملة والولايات المحتدة، ولكننا نرجو اعتدالاً أمريكيًّا، تلعب أوروبا دورًا لظهوره، ونفيد منه إنصافًا لشعوبنا وديمومةً لها.

عند هدوئنا، لا بدَّ أن نتدارس عربًا عيوبَنا الثقافية والروحية، وأن نعيد النظر في كثير من المسلَّمات التي نعيش عليها، لنكتسب ديناميةً تعوزنا ورؤيةً لا تجعلنا نرزح تحت وطأة الأمم الغارقة في استكبارها. قد يكشف لنا هذا أن الحياة لا تقوم على مجرد الرفض، ولا على التباهي الذي هو بحدِّ نفسه كبرياء. هناك نقدٌ جذري للشعوب العربية لم نقم نحن به واكتفينا بتفاصيل. هناك قراءة جديدة لتاريخ شعوبنا، مجتمعةً أو متفرقة. ولكن هذا يسبقه حلولُ السلام في العراق وفلسطين.

قبل ذلك، لا بدَّ من كشف العلاقة بين وسيلتنا والغاية. السؤال الكبير هو: هل يمكن للقتال أن يكون سبيلاً إلى السلام؟ كان الجنرال الألماني كلاوزفيتس يقول بأن "السلام طريقة أخرى للحرب"، لاعتقاده أن الحرب هي أصل الوجود. أنا أعرف أن الإله الذي يؤمن به العرب اسم من أسمائه "السلام"، وأن هذا الاسم ينعكس على علاقات الشعوب فيما بينها. أنا لا أقترح هذا عقيدةً مطلقة في واقع تاريخنا، ولكني أقترحه سبيلاً إلى وضع حدٍّ للموت. الحياة هي أصل، والناسُ وضعتْهم أمهاتُهم ليحيَوا!

*** *** ***

عن النهار، السبت 24 نيسان 2004


 

horizontal rule

[1] مراجعتي لهذه اللائحة تعود إلى أكثر من عشر سنين فاتت، وما اقتنيت الإصدارات الحديثة.

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

Editorial

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود