الأبعاد الصُّوفية في الإسلام وتاريخ التصوُّف

توقًا إلى الحبِّ المطلق وتوحُّدًا بالذات الإلهيَّة

 

خالد غزال

 

يمثِّل التصوف تيارًا روحيًّا عرفته جميع الأديان، يهدف، أولاً وأساسًا، إلى إدراك الحقيقة المطلقة في أشكالها المتعددة، حكمةً أكانت أم نورًا أم عشقًا أم عدمًا!

من ميزات هذه الحقيقة أنه يصعب إدراكُها بالأساليب العادية: فلا تجلوها سوى بصيرة القلب المفتوحة على خبرة روحانية تتطلب قدرًا كبيرًا من التطهُّر، فتمكِّن المتصوف من الوصول إلى درجة الكشف المطلق، حيث يتوافر له إدراكُ الحب والمعرفة الباطنية، وتاليًا، التماهي مع الذات الإلهية. من هنا الإجماع على تعريف التصوف بالحب المطلق، المختلف عن طقوس الزهد. وهو حب للإله يقترن بتحمل المريد الآلام والمصائب كلِّها في الحياة التي يبتليه الله بها اختبارًا لمدى تطهُّره. لذا يشرح الصوفية من جميع الأديان "خبرتهم" باعتبارها بحثًا متواصلاً عن الله، وترويضًا للنفس على الألم، إضافةً إلى لوعة المحب وشوقه إلى الاتحاد.

وكسائر الأديان، عرف الإسلام، منذ بداية تاريخه، حركةَ تصوفٍ متعددة الجانب والمشرب، كان لها ممثِّلوها في الأرجاء كلِّها التي وصلها الإسلام. ويشكِّل كتاب المستشرقة الألمانية العظيمة أنِّه ماري شيمِّل الأبعاد الصوفية في الإسلام وتاريخ التصوف، الصادر عن "منشورات الجمل" بألمانيا، مرجعًا أساسيًّا في دراسة الحركة الصوفية الإسلامية وفي تبيان أفكارها ومناهج عملها.

تَرافَق صعود التصوف الإسلامي مع نموِّ الحركات الأدبية والكلامية والعقلية في الإسلام منذ مراحله الأولى. ويعتبر الصوفية أن تعاليمهم تجد أصولها في آيات القرآن وأحاديث الرسول (ولاسيما الأحاديث القدسية). فالله، عند الصوفية، هو الحق المطلق، وهو أحكم الحاكمين وأرحم الراحمين والعليم الخبير بكلِّ شيء، كما أن القرآن يحدِّد الإسلام بوصفه التسليم الكامل والمطلق لإرادة الله.

للصوفية "قوانين وقواعد" لا بدَّ من التزامها شرطًا للانتماء إلى أهل السلوك: فهناك الطريقة ومناسك العبادة. تمثل الطريقة لدى الصوفية المراحل والخطوات الواجبة للتوجه نحو الله. والطريق الصوفي طويل وشاق، على المريد خلاله ممارسة الطاعة المستمرة والجهاد الداخلي، كما عليه تلاوة القرآن تلاوةً دائمة والانغماس بكيانه كلِّه في رحاب الله: "إن كنت باحثًا عن الله فالتمسْه في قلبك، فهو ليس في القدس أو مكة أو في حجِّك"، حيث يمثل هذا القول مفتاحًا للمريد.

تُعتبَر المقامات قواعد أساسية في التصوف. يتطلب مقام التوبة الإقلاع عن الذنوب وعن كلِّ ما يتعلق بالدنيا، فيما يشدد مقام التوكل على قدرة الله التي تشمل كلَّ شيء، مما يستوجب على الإنسان الثقةَ التامة في هذه القدرة. أما مقام الفقر فهو أساسي في حياة الصوفي، لأن الفقر (بالمعنى الروحي) هو انعدام السعي إلى الغنى ومجال يتساوى فيه مع الفناء الذي هو غاية الصوفي. يركز مقام الصبر على الثبات أمام سهام القدر ومصائبه؛ بينما يؤكد مقام الشكر على وجوب شكر الله على الابتلاء كما على نِعَمِه وأعطيته. يمثل مقاما المحبة والمعرفة آخر المقامات على الطريق الصوفي: فالحب وسيلة ترويض الغرائز، كما أن الحب من أهم الصفات الإنسانية، لأن الله جَبَلَ آدم من الحب، ولأن آدم يحمل صورة الله في نفسه.

تشغل مناسك العبادة موقعًا مهمًّا في الحياة الصوفية. تُعتبَر الصلاة موعدًا للوصال ولحظة للتقرب من الله، بينما يهدف الدعاء، الذي هو مفاجأة بين العبد وربه، إلى اتصال أعمق بالله والتماس الروحانية التامة كأول خطوة على طريق المحبة. ويُنظَر إلى السماع بوصفه من أشهر أشكال التعبير عن الحياة الصوفية في الإسلام، متجسدًا في الرقص والدوران.

وقد أنجبت الحركة الصوفية الإسلامية ممثليها وروادَها الذين طبقت شهرتُهم آفاق العالم الإسلامي وتركوا تراثًا غنيًّا لا يزال قسمٌ واسع منه قيد التداول والاعتماد حتى هذا يوم الناس هذا. يمثل ذو النون أروع الشخصيات الروحانية؛ وهو أول مَن وضع نظرية للمعرفة تُعارِض العلم الاستدلالي والمعرفة العقلية، ألا وهي نظرية المعرفة الفطرية لله، بما هو الكمال الأزلي الذي ليس لمخلوق أن يصل إليه. أما أبو يزيد البسطامي، فقد ترك أثرًا كبيرًا في التصوف الإيراني: فالله عنده مهيمن على كلِّ شيء، ومن شدة عظمته تعالى، يصبح الإنسان عدمًا بمجرَّد ذكر اسمه!

شكَّل الحلاج ظاهرةً قائمةً في تاريخ الحركة الصوفية، سواء في حياته أو في طريقة موته إعدامًا بشعًا. لُقِّبَ بـ"شهيد الحب الصوفي"، ومثَّلتْ عبارته "أنا الحق" أشهر عبارات الصوفية. وقف علماء المسلمين وساستهم ضده في قوة، معتبرين أنه يشكِّل خطرًا على سلطتهم، وخصوصًا بعدما شدد على ضرورة إحياء قلوب المسلمين وتعليمهم والارتقاء بأرواحهم بديلاً من العلم النقلي الأعمى السائد. احتلت علاقة الحب موقعًا مركزيًّا في أدعية الحلاج ومواعظه، إذ اعتبر أن الإنسان يتحد مع الإرادة الإلهية بمقدار قبوله المكابدة والسعي إليها. وقد شدد على العشق أساسًا للذات الإلهية وسرًّا للخلق في الآن نفسه.

يُعتبَر السهروردي "شيخ الإشراق" بلا منازع. لُقِّبَ بـ"المقتول" لأن صلاح الدين الأيوبي وافق على إعدامه. يلتقي مع الحلاج في تبنِّي آراء وأفكار متشابهة، كما يتساويان في طريقة الموت. تقوم نظريته على أن

جوهر النور الأول المطلق – الله – يهب إشراقًا متواصلاً، ليكون من خلاله أكثر تجليًا، فيوجِد جميع الأشياء، باعثًا فيها الحياة من خلال شعاعه. وكل شيء في العالم مشتق من نور ذاته، وكل الجمال والكمال من فضله، والسلامة من بلوغ هذا الإشراق.

والجدير بالذكر أن السهروردي تأثر بأفكار فلاسفة الشيعة، كما تأثر حتمًا بالحكمة الإيرانية القديمة وبالفلسفة اليونانية.

يلقَّبْ ابن عربي بـ"الشيخ الأكبر". فقد وضع نظامًا علميًّا للتصوف سارت عليه أجيال المتصوفة اللاحقين. تتطابق حقيقة الحب عنده مع الذات الإلهية. خلاصة قوله في ذلك:

نحن أنفسنا الصفات التي نصف بها الله. وجودنا هو عين وجوده. إن وجود الله لازم لوجودنا كما أننا نحن لازمين لوجوده، حتى يتجلَّى هو لنفسه.

تعرَّض ابن عربي لهجوم فقهاء السنَّة الذين رأوا فيه ممثلاً لمذهب وحدة الوجود (أو "التوحيد الوجودي") الذي حطَّم بأفكاره فكرةً أساسية في الإسلام، هي القائلة بأن الله حي وفعال. لذلك اعتبروه "مسؤولاً عن إسقاط تكاليف الحياة الدينية الحق في الإسلام".

يمثل جلال الدين الرومي حالةً خاصة بين رواد التصوف. لُقِّبَ بـ"مولانا"، وأنشأ طريقة الدراويش الراقصين. ويقال إن معظم أشعاره ولدت خلال الرقص الدائري الذي كان مستسلمًا له أو في حالات الوجد الكامل. شكَّل الرقص الصوفي عنده حركةً تهب الحياة وجزءًا من رقص السماء الذي تشارك فيه الملائكة والنجوم! تأثر كثيرًا بالحلاج، وخصوصًا بقوله "اقتلوني يا ثقاتي، إن في قتلي حياتي"، إذ هو قول اعتبره مولانا الرومي مفتاحًا لأفكاره المشدِّدة على موضوع الموت الذي يستقبل المرء من خلاله حياة جديدة.

لاقت حركة التصوف الإسلامي مؤيدين ومريدين لها في كلِّ مكان، وتعرضتْ، في المقابل، لرفضٍ واعتراضاتٍ وصلتْ إلى حدِّ اضطهاد الحركة ومنع مريديها من ممارسة شعائرهم، وتطورت إلى تعذيب العديد من ممثليها وقتلهم. ويظل كتاب المرحومة شيمِّل من أهم المراجع التي درست هذه الحركة في شمولية شبه كاملة ومن خيرتها لتبيان الجوانب المتعددة لأفكارها ومناهج عملها.

*** *** ***

عن النهار، الثلثاء 21 تشرين الثاني 2006

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

Editorial

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود