إدراج العـالم في الفلسـفة

 

عصام عبد الله

 

"والحق لا يضاد الحقَّ، بل يوافقه ويشهد له."

– ابن رشد

 

في القرن السابع عشر، أراد لويس الرابع عشر توطيدَ العلاقات التجارية مع بلاد سيام ليبشر بالدين المسيحي هناك، بحسب رواية پول هازار في كتابة أزمة الضمير الأوروبي، وعرض على ملك سيام أن يتقبل الدين الجديد، فأجابه الملك:

لو شاءت العنايةُ الإلهية أن يسود العالمَ دينٌ واحد، فما كان أيسر من تنفيذ ذلك الغرض! ولكن حيث إن الله يسمح بوجود أديان مختلفة، فينبغي أن يُستنتَج أنه يؤثِر أن يسبِّح بحمده عددٌ لا يُحصى من المخلوقات – كل يمجِّده طبقًا لأصوله الخاصة.

دُهِشَ الفرنسيون عندما سمعوا هذه الكلمات؛ إذ إن ملك سيام، الذي لم يكن يعرف شيئًا عن علوم أوروبا، قد شرح، على الرغم من ذلك، في قوة ووضوح، ما تدين به الفلسفة. إن السياميين يتقبلون في أرضهم أنواع الأديان كافة، وملكهم يسمح للبعثات المسيحية أن تمارس التبشير في بلاده بكلِّ حرية؛ فهل الأوروبيون في مثل تسامُحه؟ – هكذا تساءل پول هازار.

إن أي حديث عن قيمة التسامح لا يكون إلا بقدر ما تمثل هذه القيمة من ثقافة، أي بقدر ما تمثل نسقًا من المقومات التي تتكامل وتتناغم من أجل تحقيق تلك القيمة. وبمعنى ما، فإن "الثقافة" المقصودة هي أقرب ما تكون إلى الحالة العقلية أو الذهنية التي تصدر عنها الأفعالُ الاجتماعية المختلفة، فتنسجم في صدورها عن تلك العقلية انسجامَ الأفعال الصادرة عن الشخص الواحد، مهما اختلفتْ هوياتُها ومَواطُنها، بحيث تؤلف ضربًا من "الأسلوب" أو من الوحدة التي هي شأن كل سلوك متعقل.

إن الثقافة، بحسب تعريف جودنف، ليست ظاهرة مادية؛ إذ هي ليست جملة أشياء أو بشر أو سلوك أو عواطف، وإنما هي ذلك كله جملةً. إنها صور الأشياء التي في عقول البشر، وهي أنماطهم في إدراك الأشياء وعلاقاتها، وتأويلاتهم لهذه الأشياء. وهكذا فإن قيمة التسامح لا تكون "ثقافة" إلا بقدر رسوخها كأخلاقية عامة تسوس الناس وتصدر عنها الأفعال. وهذا يندرج في إطار تصور فلسفي خاص لا يعتبر الأخلاق في خدمة السياسة، وإنما يرى أن السياسة يجب أن تخدم مُثلاً عليا أخلاقية تتجاوز بها معطياتِ العادة والفطرة والطبيعة؛ أو قُلْ إنه لا تُدرَج الفلسفةُ في العالم بقدر ما يُعَمَّد العالمُ بالفلسفة.

فإذا كان الناس "مدنيين" بالطبع – وهو ما يعني تعارفهم وتواصلهم – فإن العلاقة التي يقوم عليها حوارُهم اليومي كحوار تسامح ليست طبيعية، أو ليست من المعطيات الملازمة لخلق الإنسان وفطرته، وإنما هي، على العكس، علاقة تتفاعل ضمنها الإراداتُ تفاعل اختيار. فليست المدنية الطبيعية كافية – إن صحَّتْ – لتأسيس الأخلاق، لأن الطبيعة لا تدفع الناس إلا إلى غير العلاقة "الضرورية" التي وصفها أرسطو، ومن بعده ابن خلدون وهوبز، بحاجة الفرد إلى الآخرين لتكتمل بذلك حياتُه، ليتمكن من سدِّ الحاجات التي تعرض له.

لكن تفاعل الضرورة هذا هو أيضًا أرضية الصراع والحروب التي تنشب بين الأفراد والشعوب من أجل البقاء أو الغلبة أو المال بقدر تعارُض تلك الحاجات، بحسب محمد محجوب. ومن هنا فإن التفاعل المقصود ضمن مدنية التسامح هو فضيلة أخلاقية، لا ضرورة طبيعية. لقد كتب الكندي في الفلسفة الأولى أن المعرفة – وهي تراث الإنسانية – في تراكُم مستمر من عصر إلى عصر، الأمر الذي يُلزِمنا أن نتعلم من مكتشفات الشعوب الأخرى. فكأنه بذلك عبَّد الطريق لابن رشد وفولتير وكانط، وصولاً إلى كارل پوپر وألفرد نورث وايتهد وپول ريكور وغيرهم؛ إذ إنه دشَّن أهم مقوِّم للتسامح: قبول الآخر.

ووفقًا لابن رشد، فإن هناك حقيقةً واحدة ودروبًا مختلفة إليها. وتعدُّد الطرق التي تفضي إلى الحقيقة هو أساس حرية الفكر والتسامح الفكري؛ فالأديان والفلسفات والعلوم دروبٌ مختلفة إلى هذه الحقيقة الواحدة: "والحق لا يضاد الحقَّ، بل يوافقه ويشهد له." وهو ما يعني احترام الآخر وقبوله كما هو، سواء كان وثنيًّا أو يدين بأيِّ دين آخر. فالمعيار هو صحة المعرفة. بذلك فإن "الرشدي" الحقيقي يمارس التسامح إلى أقصى درجة. يُروى أن ابن رشد أتاه خبرُ رجل من أهل الصلاح يشفي المرضى من الرجال والنساء بأن يجعلهم ينفقون من المال ما يساوي ثمن العضو المريض كما يقدِّره. وبدلاً من أن يسارع ابن رشد (الفقيه وقاضي قضاة قرطبة) إلى التنديد بالشعوذة، قال: "هذا رجل يعتقد أن الوجود ينفعل بالجود." هكذا كان ابن رشد متسامحًا إلى أقصى درجة!

واليوم... يحق لنا أن نتساءل: هل نحن أقرب إلى تسامح ابن رشد أم إلى تعصب الذين كفَّروه؟! هل تجاوزْنا الانقسام، أم أن التعصب مسَّنا جميعًا؟ وفي اختصار: هل التسامح هو أحد مقومات الثقافة العربية المعاصرة؟ ولِمَ؟

يقول سمير الخليل في بحثه المعنون "التسامح في اللغة العربية" بأن التسامح هو الفضيلة الغائبة عن معظم الإيديولوجيات التي بهرتْ مخيلةَ الشعوب في الشرق الأوسط خلال القرن العشرين. إن التسامح الذي يُعتبَر فكرةً معاصرة في أذهاننا يبدو غائبًا عن اللغة العربية، وبالتالي، غائبًا غيابًا طبيعيًّا عن أنماط التفكير كافة التي تعمل عِبْرَ هذه اللغة. لا يوجد فصلٌ بين اللغة وبين الفكر والتاريخ، أو لنقل إن هذه العلاقة الثلاثية دائرية تفاعلية، لا خطِّية أو سببية. الفرق يكمن في تحول الدلالات الاصطلاحية إلى دلالات إجرائية مغايرة للأولى؛ ومن هنا يجب أن تُقرأ المفاهيم قراءة تزامُنية. ويترتب على ذلك سؤالٌ آخر هو: هل يمكن الحصول على تكافؤ دلالي خارج حقل ثقافي معيَّن؟ – حتى وإن كانت الإشكالية الأساسية في مفهوم "التسامح" هي القدرة على التباين.

*** *** ***

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

Editorial

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود