الخطُّ الفاصلُ بين التديُّن والتطرُّف

 

وجيه قانصو

 

هل يمكن لنا الحديثُ عن "إيمان" دينيٍّ خالٍ من التطرف؟ وهل يمكن لنا رسمُ خطٍّ فاصل بين الإيمان والتطرف يكون الفيصل بين حقيقة الإيمان وحقيقة التطرف؟

يبدو أن الحديث عن "خطوط فصل" بين الإيمان الديني والتطرف هو ضربٌ من الوهم والخيال، لأن التطرف ليس دخيلاً على الإيمان الديني، وليس شيئًا يُضاف إليه، بل هو في صميمه وبداخله. المتطرفون "متدينون" في عمق؛ وعندما يمارسون ما نسمِّيه "تطرفًا" فإنهم يمارسونه كفعل إيمانيٍّ يريد لمجريات الواقع أن تتطابق مع إرادة الله. بل يتباهى "المتطرف" بأنه يتماهى مع معتقده ويترجم ما يؤمن به إلى حقيقة وواقع، وبتعبير لاهوتي، إلى تطابُق بين إرادة الإنسان وإرادة الله. فما نراه مذمَّة هو عنده محمدة وفضيلة عالية؛ وليست تُهَمُ التطرف عنده سوى "تشويش" إلحاديٍّ أو عَلماني على أيِّ مسعى إيماني لتفعيل حضور الله في حياة البشر.

بل قد يجد مَن نسمِّيه "متطرفًا" أن لقب "متطرف" هو "تشريف" له، لأن "التطرف" – لغةً – هو الغلو في التموضُع على الطرف – و"الطرف" هو الحد النهائي والأقصى للأشياء. فيكون التطرف، بالتالي، هو وصول الأشياء إلى ذروتها وأقصاها. وهذا توصيف ينسجم مع تعريف "الإنسان الكامل" الذي يسعى إلى الوصول إلى غاية الأشياء وجوهرها وذروتها الباطنية والعميقة؛ وهي من صفات كلٍّ من القديس أو الولي الذي يسعى إلى الوصول إلى حدود الأشياء النهائية لكي يتحد بالله أو يذوب فيه.

والتطرف لا يُرى في داخل الشخص أو باطنه؛ بل إن هنالك علاماتٍ وآثارًا خارجية تصدر عنه أو منه تمكِّن المراقبَ الخارجي من الحكم على صاحبها بأنه تطرَّفَ. أي أن التطرف توصيف خارجي لسلوك أو اعتقاد أو موقف، لفرد أو جماعة، يراه مَن هو داخل الدين بأنه ليس من الدين في شيء، كأنْ يعتبره بدعةً أو هرطقة، أي تأويلاً وفهمًا وتطبيقًا منحرفًا يريد أخذ الدين إلى مواضع لا يقرُّها ولا يحتملها، ويراه مَن هو خارج الدين نقضًا للقيم الأخلاقية والإنسانية وتهديدًا لوجود الآخرين وامتهانًا لكرامتهم.

وإذا صحَّ أن التطرف عبارة عن سلوك نابع من التزام وتشدُّد دينيين معينين، إلا أن العنصر الديني لا يكفي وحده لصدور سلوك التطرف، بل لا بدَّ من استحضار الشروط الثقافية والسياسية والاجتماعية التي تخلق الأرضيةَ الموضوعية لتشكُّله وتوتُّره، خصوصًا تلك المناخات التي تولِّد الخوف على الهوية والوجود والمصير والأرض، أو الإحساس بالتهميش والاغتراب وسائر أوضاع القمع والظلم والاستبداد. هذه الأمور "السوية" من حيث المبدأ تولِّد في داخل الإنسان ارتداداتٍ سلبيةً تدفعه إلى اتخاذ مواقف متوترة وغير متوازنة أحيانًا، يكون التدينُ فيها وسيلةً للتعبير وملاذًا معنويًّا للتماسك النفسي وطريقة احتجاج فعالة على واقع مأزوم. فلا يعود التدين بذلك مقصودًا لذاته، أي بما هو علاقة مع الله، بل يُقصَد للتعويض النفسي والمعنوي، وكوسيلة تعبئة سياسية وأسلوب لخلق عصبية تضامُن قوية تدفع الأمورَ المأزومةَ في الاتجاه المطلوب. في عبارة أخرى، لا يعود التدين أو الإيمان يفكر بعقل من داخله، وفق الاستجابة والخبرة الإيمانية في العلاقة مع الله، بل يفكر بعقل من خارجه، يعيد به ترتيب نصوصه ويعيد تأويلها وتفسيرها بما ينسجم مع طبيعة المواجهة وشروط التغيير السياسي.

ونؤكد هنا أن التطرف ليست مشكلة "أخلاقية"، كما يظن بعضهم: فالمتطرف لا يحمل نياتٍ سيئةً، بمعنى أنه لا يقصد الشرَّ لذاته، ولا يحمل دواعي إجرامية، بمعنى رغبته في انتهاك المبادئ الأخلاقية. بل لو أخذنا بتعريف عمانويل كانط للأخلاق بأنها السلوك الذي يُمليه عليه الواجب، الذي هو بنظره الأمر الإلهي، لفهمنا لماذا لا يعتبر المتطرف نفسه معنيًّا بأيِّ لوم أخلاقي، لأنه يرى نفسه، على العكس من ذلك، في منطقة الترويج للقيم والواجب والالتزام "الصوفي" بما تستوجبه إرادةُ الله في حياة الناس.

كذلك فإن التطرف ليس معضلة معرفية، كأن يقال إن المتطرف "جاهل" أو "مشتبِه". فما نراه بدعةً أو امتهانًا لكرامة الإنسان هو، في نظره، مشروع إنساني أيضًا ومن صميم تعاليم الدين، يهدف إلى تطهير البشرية من ألواث الشِّرْك وإلى السلوك وفق إرادة الله. بهذا فإن الوضعية بين المتطرف وبين خصومه ليست وضعية جهل/معرفة أو وضعية خرافة/عقل، بل وضعيةُ اتهام/اتهام مضاد، ودليل عقلي ونقليٍّ في مقابل دليل عقليٍّ ونقلي آخر؛ إنها دائرة مغلقة من الحجج والردود المتقابلة التي تستمر إلى ما لا نهاية من دون أيِّ حسم لتلك المعركة المعرفية.

والذي يزيد الأمورَ تعقيدًا أن مسألة التطرف نسبية من ناحية الزمان والمكان: فما كان مقبولاً في تاريخ الأديان أصبح اليوم مرفوضًا وعملاً متطرفًا في زماننا هذا، كمحاكم التفتيش ومحاربة الملل الضالَّة وملاحقة أصحاب البدع وقتلهم وحرقهم؛ كذلك يمكن لسلوك دينيٍّ معين أن يكون عملاً فاضلاً وممدوحًا في مجتمع معاصر، بينما يكون في مجتمع آخر مرفوضًا ويصنَّف بأنه "تطرُّف".

المشكلة أنه لا توجد مرجعية مستقلة، تتمتع بقبول مشترك من الجميع، قادرةٌ على حسم النزاع والانتصار لأيٍّ من الطرفين. كما لا يمكن اعتبار النص الديني فيصلاً في هذا المجال؛ إذ إن النص الديني واحة خصبة للتأويل المعاكس، ولا تخلو أية حركة دينية في التاريخ، متطرفةً كانت أو معتدلة، من مهارة في توظيف النصوص لصالحها. ولعل هذا ما جعل الإمام علي يجانب مجادلة الخوارج بالقرآن لأنه، بحسب قوله، "حمَّال أوجُه". ولو كان الدليل الديني قادرًا على حسم الجدل لَما كان للتطرف من أثر يُذكَر في التاريخ الإنساني، ولَما كان النص الديني سلاحَ التطرف الرئيسي. بل إننا نجد أن للتطرف تمظهُراتٍ دائمة في التاريخ الإنساني، وحضورًا نوعيًّا عامًّا في الأديان كلها، مع الاختلاف في القوة والضعف من دين لآخر.

التطرف، إذن، ليس ضعفًا في الإيمان، ولا سوء نيات أخلاقية، ولا حالة جهل وخرق حتى. في عبارة أخرى، ليست مشكلة التطرف قضية ضلال أو هداية، سقوط أو سموٍّ أخلاقي، صواب أو خطأ، معرفة أو جهل، إدانة أو مدح. بل إن للتطرف رؤاه الخاصة في كلٍّ من ميادين الإيمان والأخلاق والمعرفة، تجعله داخل هذه الدوائر الثلاث في موضع المنافس للآخرين.

من هنا يمكن لنا القول إن توصيف سلوك معين بأنه "تطرُّف" يكون وفق منظومة قيم وقواعد تفكير معينة، واعتباره مقبولاً يكون بحسب منظومة أخرى. في عبارة أخرى، إنها مسألة طريقة في الفهم والتفكير، أفهم من خلالها ذاتي والعالم وأحدد موقفي من "الآخر" المختلف، ومسألة منهج في استيعاب الحقائق الدينية وتفسير النصوص المقدسة التي أستنبط منها حقائقي الدينية وأبني بها خبرتي مع الله. إنها مسألة ثقافية بامتياز.

والثقافة هنا ليست مجرد مقولة معرفية، بل هي ذلك الكل المعقد والمتشابك من رصيد التفاعلات الإنسانية المتضمنة لأساليب الحياة الإنسانية كافة، المادية والروحية، التي يكتسب الإنسانُ عِبْرَها طبيعتَه الثانية وتجعله يدرك الواقع ويحدد بها اتجاهاتِه وميولَه العقليةَ والروحية. فالاعتقاد بقيمةٍ وسلوك معينين، تطرفًا كان أم اعتدالاً، لا يُستمَد من الطبيعة التكوينية الأولى، أي ليس فطريًّا، بل هو نتاج ثقافات محددة ونُظُم علاقات اجتماعية خاضعةٍ لمركَّب متميز من الافتراضات الأولية المُضمَرة والضغوط الثقافية الراسخة.

بهذا لا يُعتبَر التطرفُ خَرْقًا لقيمة أخلاقية أو دينية أو عقلية، بل هو اختيار بين طريقة حياة وطريقة حياة أخرى، بين نمط قيم ونمط قيم آخر، بين ميزان ترجيحات وميزان آخر. أي أننا لسنا هنا أمام الخيار بين الهدى والضلال، بين الفضيلة والرذيلة، بين الخير والشر، بين الأفضل والأسوأ، بل نحن أمام التخيير بين أنماط وجود متعددة، يُنتِج كل نمط منها مستوى تفكير ومظهرَ سلوك وطريقةَ علاقة مع الإنسان ومع الحقيقة الأعلى، مع الله.

ظاهرة التطرف، إذن، هي نتاج لنمط تفكير معين وطريقة حياة خاصة، وفهمُها لا يقتصر على مراقبة التمظهُرات الخارجية لهذه الظاهرة، بل لا بدَّ من النظر إلى التكوين الداخلي لبنية الإيمان الديني الذي يغذيها أو يرعاها. وبالتالي، يتحول السؤال عن التطرف إلى السؤال عن المنظومة الدينية التي تنتجه وتحقق له فعاليته واستمراره.

وهنا أقترح أننا أمام منظومتَي إيمان، قد تتفقان في الشكل والمضمون، ولكنهما تختلفان في التكوين الداخلي، أي في الطبيعة، وفي أصل المسبقات a priori والبديهيات التي يقوم كلٌّ منها عليها، وفي مدى scope كلٍّ منهما ونشاطه، بل وفي الوجهة والغرض فيهما. والمنظومتان هنا ليستا دينًا مقابل دين، أو مذهبًا مقابل مذهب، بل إن كلتا المنظومتين حاضرتان داخل كلِّ دين، وتملكان أهليةَ أخذ أيِّ دين في العالم إما إلى منطقة التوتر والتطرف والتعدي والأنانية، وإما إلى منطقة التسامح والتعايش والمشاركة والعيش في كنف الحب الإلهي.

منظومة الإيمان الأولى – ولنسمِّها إيمان الحقيقة النهائية Ultimate Reality – تقوم على التماهي مع الحقيقة المنجزة داخل منقول دينيٍّ خاص، أي التكيف مع وضع ديني ناجز اكتملتْ فيه جميع تمظهُرات الحقيقة والحق. أما منظومة الإيمان الثانية – ولنسمِّها إيمان الحقيقة الكادحة – فتقوم على البحث الدائم عن الحقيقة وعدم الرضا بنهائيةِ أيِّ معنى أو كشف، بل هناك دائمًا مجالات خصبة جديدة قابلة لأن توفر شرطًا إنسانيًّا أرقى وحياة روحية أسمى.

ولا أبالغ في القول إذا اعتبرت أن طريقة تداول المعنى الديني وممارسته في الوضع الحالي للأديان السامية الثلاثة – اليهودية والمسيحية والإسلام – تندرج ضمن إيمان الحقائق النهائية، في حين يبقى إيمان الحقيقة الكادحة أفقًا مستقبليًّا واعدًا يسعى في صعوبة بالغة لأن يجد له مكانًا وموطئ قدم داخل هذه الأديان.

يتميز إيمان الحقائق النهائية بأنه يقوم على ادِّعاء جملة حقائق مؤكدة ومثبتة على نحو جازم، بعضها تاريخي وبعضها الآخر لاهوتي، بعضها سلبي، كنفي الخلاص أو النجاة عن أتباع الأديان الأخرى المختلفة، وبعضها إيجابي، كإثبات صفة أو مكانة لدين أو لمؤسِّس دين أو لله. إنه إيمان النهايات القصوى ودين الحقائق المكتملة، التي لم يعد وراءها أو فوقها أية حقيقة أو معنى.

هذا "الإيمان" لا يسلب المرءَ إرادةَ الاختيار بين المعاني أو حقَّ إنتاج حقيقته وحسب، بل ويحصر خيارَه في قبول الحقائق والتسليم بها. ويكون الإيمان عبارة عن سلوك التماهي مع نموذج واحد فريد والإقتداء به، لكونه القدوة والقائد والمعلم، ولكونه يمثل صورة "الإنسان الكامل". صحيح أن فكرة "القدوة" تجعل صورة الكمال الإنساني واقعيةً ومجسدةً في شخص بشريٍّ حقيقي، إلا أنها، في المقابل، تخلق في الإنسان الشعور الدائم بالتقصير في اتِّباع المثال الأعلى، وتسلبه روحَ الإبداع الخاص وحسَّ الاكتشاف والابتكار لخلق مجال روحيٍّ وإنساني خاص به؛ لا بل يتحول الإقتداء إلى تقليد آليٍّ وسلوك نمطي يصبح، مع تقدم الزمن وفي أكثر الحالات، عادةً شكلية وفعل تكرار مملاً.

إيمان الحقائق النهائية، أيضًا، يحدُّ من التفكير، حيث لم تعد هناك معانٍ مجهولة أو مناطق وعي مختبئة، بل يكون كل شيء معلومًا. ولا تعود المعرفة اكتشافًا وابتكارًا وإبداعًا، بل آليةٌ دفاعية وتهيئةُ مقدمات مقنعة لنتائج محسومة. ويصبح الإيمان فعل تسليم بالحقائق التي تم إنتاجها وتأسيسها بتأييد وإلهام غيبيين، وفي شروط استثنائية وفوق عقلية وخارقة للطبيعة. بهذا فأنت لست مقصرًا فقط، بل قاصرٌ أيضًا عن إدراك الحقائق النهائية التي استقر عليها المنقول الديني الخاص. بهذا الإيمان وصلتْ المعاني إلى نهاياتها، وتمددت فوق مساحة المعرفة المحقَّقة والممكنة، وقفزت إلى منطقة ما فوق العقل، بما يجعلها تتعالى عن المراجعة العقلية أو النقدية وترفض الاعتراف بأيِّ فضاء آخر للحقيقة.

إيمان الحقائق النهائية يخلق فيك شعورًا بالاستحواذ: أي أن الحقيقة صادَف وجودُها حصرًا – ولحكمة لا نعلمها! – بين عائلتك وعشيرتك وملَّتك؛ وخارج هذا المكان هنالك الخواء والفراغ، ووجود "الآخر" لا يتعدى وجوده الفيزيائي أو المكاني، أي وجود شيء، لا وجود مجال إنسانيٍّ وروحي آخر وذاكرة خبرات غنية، ليس فقط في العلاقة الأرضية، بل في العلاقة مع الله وخبرة الاستجابة له.

في اختصار، إيمان الحقائق النهائية يلغي ذاتك، لأنه يلغي حريتك في الاختيار وفي التعبير وفي تحديد مجال وجودك. وهو يلغي الآخر ويلغي حقيقته أيضًا. ليصبح بذلك هذا النوع من الإيمان منبع التطرف الذي ينمو في الداخل، في صمتٍ وخلف الوعي المباشر، وينتظر الشرط الاجتماعي والسياسي الذي يطلق شرارة انفجاره ويحرك توتره العالي. بهذا النوع من الإيمان، المتحكم حاليًّا ببيئتنا الدينية، يصبح كلُّ واحد منا، دونما استثناء، مشروع "متطرف"!

أما إيمان الحقيقة الكادحة فهو أشبه بثورة كوپرنيكوس الذي أبطل فكرة مركزية الأرض لمدارات الكواكب الشمسية وجعل الشمس مركزًا لتلك المدارات، فأصبحت الأرض بذلك، كغيرها من الكواكب، تدور في فلك خاص حول الشمس. فعلى نحو مماثل، لا تعود الحقيقة الخاصة داخل أيِّ دين أو مذهب مركزًا للحقائق والقيم الكونية أو محورًا لها، بل أحدُ تجلِّيات الحقيقة ومظهر من مظاهرها اللامتناهية، كما في باقي الحقائق والقيم الروحية الحاضرة في الأديان والمذاهب الأخرى. إنه انتقال من التمحور حول الحقيقة الذاتية الخاصة إلى التمحور حول الحقيقة الأوسع التي تكاد أن تتوزع على جميع المنقولات الدينية بالتساوي. بذلك تصبح الحقيقة فعل مشاركة مع الآخرين؛ وتكون هذه المشاركة في حقيقة الغير اكتشافًا لحقيقتي أيضًا. وكما يقول غابرييل مارسيل:

الوجود هو علاقة أو حضور خلاق يجمع بين الأنا والأنت، ومن خلال هذه العلاقة تستوعب الذاتُ الآخرَ كوجه ثانٍ لها، فيصبح ذلك الآخر أنت نفسك.

مشاركة الآخر في وجوده يعني أيضًا مشاركتَه في الحقيقة، الأمر الذي يدفعني إلى التواضع في إيماني وإلى تقليص شموليته وتخفيف ادعاءاته، لكي يُساكِن إيمانَ الآخرين ويتعايش معهم؛ بل يدفعني إلى توسعة إيماني والخروج من كهف اليقين وسلطة الاستحواذ، ليصبح إيمانًا ينتشي بالبحث الدائم عن الحقيقة ويعيش، مع كلِّ تنوير جديد، حالةَ ولادة جديدة.

بذلك لا يعود الإيمانُ شيئًا يُتلقى من الخارج، بل هو ميدان خبرة الوعي والباطن مع المتعالي. ويصير الإيمان عمليةَ إنتاج وابتكار وفعل كشف وجزءًا من السعي إلى تحقيق إمكانات وجود الذات في هذا العالم، بحيث تتولد من كلِّ خبرة خاصة صورةُ إيمان فريدة لا تقبل التكرار في الآخرين. فلا تعود العلاقة مع الله حقيقةً جاهزة نتربى عليها، بل حقيقةٌ نسعى ونكدح دائمًا للوصول إليها، ولا تعود معرفة الله فعل خضوع لكلمة "اعلم" أو "ينبغي"، بل يُعرف بالاختبار الذاتي والكشف والتنوير الباطني. بذلك يخرج الإيمان من منطقة الأمان الراكدة إلى منطقة الخطر الدائم والأثمان الغالية: "فاذهبْ وبِعْ أموالَك وأعطِها الفقراءَ [...] وتعال واتبعني" [إنجيل متى 19: 21]؛ "مَن أراد أن يتبعني فليزهدْ في نفسه ويحمل صليبَه كلَّ يوم ويتبعْني، لأن الذي يريد أن يخلِّص حياتَه يفقدها، وأما الذي يفقد حياتَه في سبيلي فإنه يَجِدُها" [إنجيل لوقا 9: 23-24]؛ "من لم يحمل صليبه ويتبعني فليس أهلاً لي" [إنجيل متى 10: 38]، و"لنبلونَّكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفُس والثمرات وبشِّر الصابرين" [البقرة 155]؛ "أحَسِبَ الناسُ أن يُترَكوا أن يقولوا آمنَّا وهم لا يُفتَنون" [العنكبوت 2]: بذلك لا يعود الإيمانُ دفاعًا عن "منجزات"، بل هو حال ترحال لا تستقر وسعي دائم لاكتشاف أو ابتكار صور جديدة في العلاقة مع الله.

بهذا الإيمان، يصبح الدين ميدانَ قراءة مستمرة ونصوصًا تفيض بمعانٍ جديدة، إلا أنها – أي النصوص – لا تفتح أقفالها إلا حين يفتح الإنسانُ أقفاله ويتسع مداه الكوني والإنساني والأخلاقي. جديد المعنى الديني هو أيضًا مشروع إنساني جديد نسعى لتحقيقه. فكما يقول كانط: "نحن ننتج بنسبة النصف مما نقرأ."

حس المشاركة مع الآخرين يلغي في داخلنا النزعة الطهرية Puritanism، ويزيل التفكير بقسمة العالم إلى "دار إيمان" و"دار كفر"، لأن مدار الحقيقة الإيمانية ليس خارج الإنسان، بل داخله، في باطنه. فلا يتموضَع الإيمان في معسكر مقابل معسكر آخر، أو في مجال قوة وسيطرة، بل تصبح معركته هي معركة الذات مع نفسها – بين نوازع تتمحور حول الأنانية والذاتية وبين نوازع تتمحور حول الحق والخير والحب، حول الله: "ليس ما يدخل الفم ينجِّس الإنسان، بل ما يخرج من الفم هو الذي ينجِّس الإنسان" [إنجيل متى 15: 11]؛ و"إن الله لا يغيِّر ما بقوم حتى يغيِّروا ما بأنفسهم" [الرعد 11].

من هنا لا يمكن محاربة التطرف بأدواته، لأنه بذلك يجرنا إلى اللعب في ملعبه، بل تكون بخلقِ مجالٍ إيمانيٍّ جديد، يجعل من الواقع الباطني المتنور مدخلاً إلى فهم العالم وتغييره. أي أن المعركةَ ليست معركةً مع "المتطرف"، معركة "إما أنا أو هو"، أي معركة إلغاء – فهذه مواجهة تجرني إلى دائرته لأصبح مثله –، بل معركتي الإيمانية هي نقل الصراع من مجال السلطة والقهر والإكراه والحشود العسكرية إلى المنطقة الباطنية للإنسان، التي تنصِّب الإنسانَ – مطلق الإنسان – مدخلاً إلى معرفة الله وإلى الوصول إليه: "إن السبت جُعِلَ للإنسان، وما جُعِلَ الإنسانُ للسبت" [إنجيل مرقس 2: 27]؛ "إذا كنت تقرِّب قربانك إلى المذبح وذكرتَ هناك أن لأخيك عليك شيئًا، فدَعْ قربانَك هناك عند المذبح، واذهبْ أولاً فصالِحْ أخاك، ثم عُدْ فقرِّب قربانَك" [إنجيل متى 5: 23-24]؛ و"خيرُكم عند الله أنفعُكم لعياله" [حديث شريف]؛ و"لا يؤمن أحدُكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه" [حديث شريف].

*** *** ***

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

Editorial

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود