الاتِّفاق والاختلاف فوق أرض واحدة

مدخل إلى مراجعة نقديَّة للماديَّة التاريخيَّة

 

صريح البنِّي

 

في حواره مع عبد الإله بلقزيز[1]، كما في حواره مع صقر أبو فخر الذي ضمَّه كتابُ ما يشبه السيرة الذاتية، يحاول كريم مروة، من خلال تجربة نضالية فكرية وسياسية ممتدة عِبْرَ عقود طويلة، تقديمَ إجابة على

[...] السؤال الكبير والمحيِّر الذي يطرحه المواطنُ العربي على نفسه اليوم، مثلما طَرَحَه على نفسه قبل نصف قرن: لماذا نحن العرب محكومون بهذا القَدْر الكبير، المتواصل والمتمادي، من الهزائم؟ وإلى متى؟ ومن هم المسئولون عن كلِّ ما جرى ويجري لبلداننا خلال هذه العقود الطويلة من الزمن؟[2]

لم نكن في حاجة إلى الكارثة المتجددة باحتلال بغداد في 09/04/2003 لنشعر بأن السؤال/الصرخة ينبِّه إلى الآتي الأعظم! فمسلسل الهزائم مفتوح على حلقات أخرى من الكوارث الوطنية والقومية، بل والعالمية، مادمنا لم نعثر على أجوبة موضوعية، مسئولة وشاملة، تطلق حالةَ وعي بديل، كأساسٍ لفعلٍ جديد.

في حالات الشدة النفسية (وهي ليست قليلة، كما أن نتائجها ليست سلبيةًً كلَّها)، يتساءل المرءُ في مرارة: هل نحن العرب، بعد قرن من الثورات التحررية والانتفاضات الشعبية وتجارب بناء دول (أو ما يشبهها) من أنماط مختلفة، بما فيها الدول ذات "الأنظمة الوطنية التقدمية" – هل نحن مهددون بالانقراض، كما حصل للهنود الأمريكيين منذ نهاية القرن الخامس عشر وما بعده؟! ولكي أخفف من وطأة التساؤل المفزع، سأحتمي بقول لماركس: "يجب أن نجبر الشعب على الفزع من نفسه لكي ننفث فيه روح البسالة"!

تكمن القيمة الفاعلة للحوار الذي يحض عليه ويباشرُه كريم مروة وآخرون من المثقفين في طموحه إلى تأسيس مشروع جديد للتغيير، شرطه أن نتغير نحن، معه ومن خلاله. فما هي قيمة حوار نكتفي فيه بتأكيد صواب خطتنا السياسية وفكرنا النظري، معيدين إنتاج اكتشافاتنا السابقة؟ تتعمق حالةُ السكون في مواجهة عالم ديناميٍّ فوار يغلي بالأحداث، ونكسب رضًا ذاتيًّا، خادعًا ومخدِّرًا: فنحن نقبض على جمر المبادئ الثابتة، مستنسخين أفكارَنا وذواتِنا من جديد، ممعنين في إغلاق الآذان والعيون!

ما فائدة تأكيد "همجية الإمبريالية" إذا كنا غير جادين في البحث، محليًّا وعالميًّا، عن أسباب عجزنا عن مجابهتها بالنجاح الذي كنَّا نريده ونتوقعه؟ أترانا نحصر مسؤوليةَ الفشل في أخطاء "الآخرين" أو تآمر "الأعداء"؟! وما هي الشروط الذاتية، النظرية والتطبيقية، التي أعاقت ذلك؟ هل نكتفي بتشريح الرأسمالية العالمية في مراحلها وأزمانها المختلفة أو نتباهى بأننا "اكتشفنا" معالم برجوازية جديدة تتأسس في بلادنا، دون أن نعكف على تفسير علمي دقيق لما حصل من هزائم، على الصعيدين المحلِّي والعالمي؟ وأين تكمن مسؤوليتنا نحن في هذا كلِّه؟ هل ثمة طريق أخرى لممارسة نشاط سياسيٍّ وفكريٍّ مسؤول ومبدع، دون التعامل النقدي الصارم مع التجربة المحققة؟ – تجربتنا وتجربة الآخرين.

إذا كان صحيحًا عدمُ جواز اشتقاق الحقيقة والخطأ من الانتصار والهزيمة[3]، يصح أيضًا أن الانتصار أو الهزيمة لا يأتيان بإرادة قوى "غيبية"، بل لهما أسبابهما الواقعية التي يشكِّل وعيُنا ونشاطُنا جزءًا أساسيًّا منها، إلى جانب قوة الخصم وكفاءاته. وعندما يقع النصر أو الهزيمة فإنما يحثَّان، لا محالة، على مراجعة ناضجة للتجربة التاريخية التي كان سلوكُنا جزءًا من مكوناتها، لا للتنصل من مسؤوليتها، بل لمتابعتها بنجاح في الزمن اللاحق. فعلى سبيل المثال، لم يكتفِ ماركس بالدفاع عن "كومونة باريس" بعد فشلها[4]، بل أعاد دراستَها دراسةً ملموسة، موظِّفًا هذه التجربة العظيمة، بجميع فصولها، الناجحة منها والفاشلة، في الكفاح الإنساني المستمر من أجل الحرية.

حوار بأجنحة طليقة

لا شي يعفينا من دخول حوار تأخر كثيرًا – حوار سننجح فيه بقدر ما ننصت فيه إلى الرأي المختلف، دون أن نتهمه وندينه أو نُعلي الصوت لنصبح "أكثر إقناعًا"، حوار ليس قطعًا جزءًا من حلقات برنامج "الاتجاه المعاكس"، بل يستوحي روح الأغنية الشعبية التشيكية:

لكي ينصتوا إليك: تكلَّمْ بصوتٍ خفيض

لكي تنصت إليهم: تكلَّمْ بصوتٍ خفيض

ربما نلعب دورًا طليعيًّا، فعليًّا، فيما إذا اعتدنا توسيع الرؤية النقدية الجسورة، لتتناول ليس فقط تجربتنا التطبيقية، بل أسسها النظرية أيضًا، مكتشفين أخطاءنا وقصورنا والعوامل الأساسية التي تقف وراءها، بما في ذلك أسلوب تعامُلِنا مع النظرية: مدى استجابتها، كنظرية، للراهن، بكلِّ أبعاده وألوانه. فسيكون في هذا تشجيع للآخرين على سلوك النهج ذاته، بحيث يغدو نقدًا ذاتيًّا جريئًا، حقيقيًّا، شاملاً ومتجددًا، يعيد الثقة بـ"يوطوپيانا النضالية" ويوسِّع ساحة العاملين من أجلها. فهل نتجمل بالصبر وبالروية عندما نقوِّم هؤلاء الذين يجابهوننا، بل ويزعجوننا، بآراء غير متسقة مع المألوف في بنية تفكيرنا؟ هذا هو بالضبط ما نحتاج إليه في مجتمع تحكمه تقاليد راسخة، ليس للسلوك وحسب، بل ولآلية التفكير أيضًا!

لم تحفِّز المبادئ اللينينية للمركزية الديموقراطية خلق بيئةٍ لا تتسامح مع "الرأي الآخر" وحسب – وكان عليها أن تستنبت بيئة متسامحة وتغذيها وترعاها، بوصفها وسيلةً أساسية في خلق ذهنية جدلية، محاوِرة، تبني علاقة مرنة، سليمة، بين النظرية والواقع – بل حاصرت تلك المبادئُ الرأيَ الآخر وخَصَتْه: فقد وجدت وراءه، دائمًا، "عدوًّا" ينبغي تطهير الحزب منه، ليقوى ويقوى... لقد شُرِّعت المركزية الديموقراطية لإخضاع الأقلية للأكثرية (في البداية، كانت الرؤية التطويرية، الخارجة عن المألوف، هي دائمًا رؤية الأقلية) والهيئات الدنيا للهيئات الأعلى. بحث مطبِّقوها المخلصون عن التأييد الإجماعي الاستعراضي للقرارات المتخَذة من فوق بدلاً من الترحيب بذوي الرؤى الخاصة، الذين ينظرون إلى الأبعد، ويحركون، بشغبهم، المياه الراكدة. فرضوا ما يشبه الانضباط العسكري في حزبٍ جاءه أعضاؤه، بمحض إرادتهم، ليسهموا إسهامًا حرًّا في تغيير شروط حياتهم، فجعلت منهم أدوات استبداد بالطريقة ذاتها التي مورس هذا الاستبداد عليهم هم، في ظروف مثلى لنشوء الجمود والانعزالية وعبادة الفرد، أي شروط التقهقر، ثم الانهيار!

أقف اليوم، دون تردد، إلى جانب كريم مروة في مطالبته بحزب تعدديٍّ بكلِّ معنى الكلمة، يمارس اختلافاتِه العلنية في وضح النهار أمام أعين الناس وعقولهم، – الناس الذين نختلف من أجلهم، معهم، وحول تطلعاتهم؛ أو على الأقل، هذا ما نعلنه، – حزب ينشط في سياق كتلة تاريخية واسعة، على مستوى وطني ومحلِّي وأممي.

لا يقدِّم كريم مروة استنتاجاتٍ نهائيةً تستند إلى الرؤى الثابتة ذاتها التي شكَّلتْ خلفيته (وخلفيتنا) الفكرية على امتداد زمن الهزائم الطويل، بل يترك الباب مشرَّعًا أمام استنتاجات أخرى، مختلفة بالتأكيد عما طَرَحَه بالأمس، وقد تكون مختلفة عما يطرحه اليوم:

فعلينا أن نضع أمامنا مهماتٍ من نوع مختلف عن السابق. فأنا، كاشتراكي، لا أضع أمامي اليوم مهماتٍ "اشتراكية" بالمعنى الدقيق للمفهوم، لأن ذلك سيكون من قبيل الصراع مع المستحيل، أي الصراع خارج الوقائع.[5]

كذلك:

الحزب الذي ورثناه، الحزب اللينيني، لم يعد صالحًا للمهمات الراهنة. وهذا الحزب اللينيني بالذات هو النموذج المعمَّم الذي تعتمده جميعُ الأحزاب في بلداننا، بما فيها القومية والدينية.[6]

يقول هذا، وغيره، دون أن تخشى، وأنت تقرأه، من أن يتخلَّى عن دوره كمناضل ومثقف ثوري وعن انتمائه إلى المشروع الذي آمن به وعمل من أجله سنوات العمر، ما مضى منها وما هو آت؛ بل هو يترك لك المجالَ واسعًا لتتفق معه أو تختلف، إذا شئت. فمثل هذا التسامح مطلوب "من أجل صياغة فكر ونظرية مناسبين للعصر وحركة جديدة للتغيير أكثر تطابقًا مع شروط العصر"[7]. فعلى الرغم من أن "الماركسية، مثل أية معرفة إنسانية، هي نسبية وتاريخية [...]، ولا يمكن لها أن تكون فكرًا ثابتًا ومكتملاً"[8]، لكنها " قادرة منهجيًّا أن تقدم الجواب، لكنْ في شروط احترام العصر والتعامل مع تحولاته"[9].

يدخل كريم مروة حوارًا مع الآخرين، ولكنْ مع ذاته أيضًا. فكثير من القلق ينتابه (وينتابنا) وهو يفكر بالذي حصل ويحصل؛ بيد أنه لا يردع الآخرين (ولا نفسه) عن الذهاب أبعد في هذا الحوار: "فالقضية لا تتعلق برغبة ذاتية في تغيير مفهوم ما، بل هي الحياة ذاتها التي تفرض ذلك."[10] إنه يرى أن

[...] الخلل موجود في كلٍّ من النظرية والممارسة. الخلل في النظرية ينتج عن عدم تجديدها وتطويرها، وعدم ملامستها لتكون مطابقةً للواقع القائم، في كلِّ بلد وعلى الصعيد الكوني. أما الخلل في الممارسة، أي في التجربة، فينتج عن عدم فهم النظرية أو عدم مراعاة الشروط التاريخية في البلدان التي تصدَّتْ لتجربة بناء الاشتراكية.[11]

يبدو أن الخلل هو ذاته، تقريبًا، في حالتَي النظرية والممارسة، بحسب رؤية كريم مروة، – خلل في تعامُل الناس مع النظرية: فهم إما لم يطوروها، وإما لم يفهموها، وإما لم يراعوا الشروط التاريخية في البلدان التي تصدتْ لتجربة بناء الاشتراكية[12]. ولكنه يذكر بعد ذلك:

[...] إذا أردنا أن نحاكم محاكمةً تاريخيةً فكرةَ ماركس عن الانتقال من الرأسمالية إلى الشيوعية، فإننا سنجد، دون كبير جهد، أن ما تصوَّره ماركس عن عملية التطور هذه كان طوباويًّا وغير واقعي.[13]

فهل فهم "المطبقون" فكرةَ ماركس تلك فهمًا مغلوطًا، أم أنها "طوباوية" في الأساس؟

تقديس النظرية ! تقزيم التجربة الإنسانية

أميل إلى تأييد كريم مروة في التعامل مع النظرية دون تقديس، حين "يتجاسر" على بعض مقولاتها بدعوتنا إلى أن نستلهم، بالإضافة إليها، الخبرة الإنسانية المتراكمة منذ ما يقرب من قرنين مليئين بتطورات أغنى بمدلولاتها من أية مقولات نظرية. فتلك التطورات أصوب وأدق، حتى بحسب منهج ماركس، من هذه المقولات. ولن يتضايق ماركس من سلوكٍ كهذا: فهو يستحسنه أكثر بكثير من الجمود عند معطيات أواسط القرن التاسع عشر؛ وهو لا ينتقص أبدًا من القيمة العظيمة لما قدَّمه في عصره ولعصره، بل يزيد منها. واحترامنا الكبير له، من وجهة تاريخية، يكمِّله ويعكسه تعامُلنا العقلاني مع أفكاره. إنه جزء من احترامنا لجميع هؤلاء الذين فحصوا في عمق عن وقائع زمانهم واجتهدوا في تقديم رؤى مخلصة للمستقبل، دون أن يكبِّلوا بها عقولَ الأجيال اللاحقة.

إلى أية آفاق يقودنا تقديسُ النظرية والتعاملُ مع أصحابها كـ"أئمة"[14]؟ قد تكون إحدى نتائجهما تقزيم التجربة الإنسانية الحية. أليست دروس التجربة "الاشتراكية"، المطبقة خلال أكثر من سبعين عامًا في أصقاع الأرض والممتدة حتى زماننا الراهن، أهم تاريخيًّا وأغنى للمعرفة وللمستقبل الإنسانيين من النظرية الماركسية ذاتها؟ لقد ساهم في تلك التجربة ملايين البشر من أجناس وألوان مختلفة وهم يمتحنون تلك النظرية على الأرض في بلدان ذات أنماط اجتماعية متنوعة؛ وكانت أغلبيتهم الساحقة مخلصة، وفيَّة، بل قدمت تضحياتٍ لا تحصى في سبيل إنجاح التجربة. وليس منصفًا من الناحية الواقعية إلقاء مسؤولية التعثر على خيبة الناس وقلة حيلتهم أو حصرها في انتهازية القيادات ورعونتها أو تآمر "العدو الطبقي"!

ولكن مفكرًا مرموقًا كالدكتور أحمد برقاوي، في حوار مع جريدة النور، يحذِّر من إلقاء تبعة الفشل على الأفكار؛ وكذلك عزيز عمرو يعدُّ "العلة في الحركة، لا في الفكر"[15]. فمن أين ينبع هذا التمسك بالنظرية والفكر، حتى عندما يهزُّ الواقعُ موثوقيتهما؟ هل هو امتداد لطريقة تفكير "غيبية"، "غريزية"، سكنتْنا طويلاً وما تزال أجزاء منها منغرسةًً في عقلنا الباطن؟ إننا نؤلِّه، بتقديسنا النظرية، أصحابَها (على الرغم من أنهم لم يرغبوا في ذلك أبدًا)، ونرفض، في حالة دفاع عن النفس، التسليمَ بأن أمورًا كبيرةً وكثيرةً حصلت، تضغط علينا وتطالبنا بإعادة نظر واسعة وشاملة. فهل هو الاطمئنان والاسترخاء وكل ما تشيعه حالةُ الإيمان وترقُّب الوعد في النفس الإنسانية؟

يغدو التفاعل الحي الحاصل بين النظرية والتطبيق، خلال ما يقرب من مئة عام، في حدِّ ذاته، ثروةً ثمينة للبشرية في بحثها الدائب والمستمر عن عدالة اجتماعية محتملة، ولكنها غير مؤكدة، على الرغم من كونها ملحَّةً لتستقيم الحياةُ فوق كوكبنا. بيد أن هذا التفاعل يدفع، في الوقت ذاته، إلى تساؤلات كثيرة ومعقدة، منها مثلاً: هل مما هو متاح، واقعيًّا، وضع أو استلهام نظرية كونية، علمية، ممتدة في الأزمنة نحو البعيد البعيد؟

يوافق بعضهم على أنه ليس من الصواب ادِّعاء امتلاك نظرية كهذه. فالمطلوب هو تطوير ما وضعه ماركس وإنجلز من منهج نظريٍّ ليواكب الحاجات الراهنة والمتغيرة. وهل خلت وثيقة حزبية، خلال سنوات الماضي كلِّها، من حديث مسهب عن "ضرورات تطوير النظرية"؟ ولكن كيف يتم تطوير النظرية؟ وأية أجزاء سيشملها التطوير؟

ها هو ذا وجه شيوعي بارز، هو رئيس الحزب الشيوعي السوفييتي ("اتحاد الأحزاب الشيوعية") الرفيق أوليغ شينين، يؤكد: "مرة أخرى، إن الأسُس النظرية الجذرية للماركسية–اللينينية غير قابلة للمراجعة."[16] عندما تتجسد أسُس النظرية وجوهرها في قوانين، على صعيد الماديتين الجدلية والتاريخية، هل يمكن تطوير تلك القوانين التي وُصِفَتْ بـ"المادية" و"العلمية" والتي قام ماركس وإنجلز باكتشاف فعلها في الحياة والتطور الاجتماعيين؟ يرى أمثال الرفيق شينين أن هذه القوانين، بوصفها "الأسُس الجذرية للنظرية"، لم تُخترَع، بل تم البرهان على وجودها الموضوعي؛ وهي، بالتالي، ليست، ولا يمكن أن تكون، موضع إعادة نظر!

علينا، إذن، التحقق من صحة هذا الاكتشاف عِبْرَ التطبيق. وإذ جزمنا، خلال السنوات التي سيطر فيها إحساسُنا بالنجاح، أن تجارب بناء المجتمع الاشتراكي أكَّدتْ صوابَ النظرية الماركسية، فإنه يصعب علينا، اليوم، التملص من الحاجة الماسة إلى تدقيق صواب استنتاجاتنا تلك على أشلاء التجربة، على الرغم من الأهمية القصوى لتلك التجربة، في سياق تاريخيٍّ يتكون فيه تصورٌ أدق عن سَيْر الحياة البشرية – وهو سَيْر ليس ضروريًّا ومحتمًا أن يتطابق مع مدلولات القوانين النظرية السابقة. عندما نلمس فشلاً ما في التجربة المحققة، فليس عقلانيًّا أن ننقِّب عن أسباب ذلك ونعثر عليها في ابتعادنا عن النظرية وتعثرنا في تطويرها. فلم لا نضع في جزء من الأسباب المحتملة لهذا الفشل أن تكون النظرية ذاتها قد أوقعتنا فيه؟ – أي فهمنا لها كما هي، وليس فهمنا الخاطئ لها.

السبب الحقيقي وراء حالة الالتباس هذه هو أننا سلَّمنا بالصواب المطلق للنظرية (أو على الأقل، "أسُسها الجذرية"، كما يقول شينين)، فجعلناها بذلك جزءًا من الواقع المادي مادامت تضم قوانين "موضوعية" لحركة المجتمع وتطوره: الإيديولوجيا الاشتراكية هي جزء من المقدمات لأسلوب الإنتاج الاشتراكي، – كما سيأتي لاحقًا، – وهي تتحول إلى قوة مادية عندما تمتلكها الجماهير! لقد غدت طروحُنا الفكرية "موضوعية" بالقدر الذي تتلاءم فيه مع القوانين والمقولات النظرية؛ لا بل أصبحنا نقيس "صواب" الواقع و"واقعيته" استنادًا إليها! فهل يمكن للنظرية أن تكون أكثر "مادية" من وقائع الحياة ذاتها، من نبضها الحي وطيف ألوانها اللامحدود؟!

من العبث البحث عن أسباب فشل هذه التجربة أو تلك في تحديد مدى مطابقة ما قمنا به لأفكار ماركس، أو مقدار انزياحه عنها، أو مناقضته لها حتى. المآل الوحيد لمثل هذا الجهد هو تبرئة النظرية، حفاظًا على قدسيتها، من مسؤولية الأخطاء البشرية. ولكن هذا العبث لا يحمل إضافةً مثمرةً للمعرفة الإنسانية. إنه يلتقي مع جهود أخرى تصب في إحياء أصول عقائد غيبية، جهود تهدف لخلاص الناس مما أصابهم لأنهم "ضلُّوا سواء السبيل" ولم يتمسكوا بأهداب تلك العقائد أو لم يفهموها – والله أعلم! يتعذر تطوير النظرية ونحن نضعها في هذه المنزلة المقدسة بالمقارنة مع نشاط الناس القاصرين عن فهمها وتطبيقها الناجح. فكيف سيطورونها، أصلاً، إذا تعاملوا معها بهذه القدسية؟ مثل هذه الحالة المرتبكة تحكم علاقة أنصار آخرين لـ"عقائد" أخرى؛ وهي تصعِّب تَعامُلهم مع الوقائع تعاملاً مرنًا وعقلانيًّا وتحشرهم في زوايا ضيقة قد تخنقهم.

عندما تتوفر لدينا هذه التجارب التاريخية الثرية كلها، بهزائمها وانتصاراتها معًا، فمن الأجدى أن نتوقف قليلاً عند ثغرات تَعامُلنا مع النظرية وهناتها، ثم نبحث، في الجزء الأكبر من الوقت المتاح، عن رؤى جديدة، غير مقيدة بإسار النظرية المقدسة وما تحفِّزه فينا من عناد لا يرأف بالمعرفة والعلم التاريخيين.

الحياة هي التي تصدر أحكام الخطأ والصواب على مشاريع الإنسان لجعل حياته أفضل – مشاريعه النظرية وتطبيقاتها الواقعية؛ وهي لن تفعل بالرجوع إلى نظرية ما، مهما كانت "عظيمة" وملهمةًً وسواء كانت دنيوية أو غير ذلك. وطبعًا فهي لن تنتظر لتتأكد مما إذا قرأ الجميع "المؤلفات الكاملة" واستوعبوها وأحسنوا تطبيقها! إننا، إذ نتخلَّى عن بعض رؤانا النظرية، فإنما لكي نعوضها بخبرة التجربة الإنسانية؛ وهي أثمن من النظرية ذاتها، وستخدمنا أكثر ونحن نتابع السعي إلى تحقيق الحلم. هل نبدأ، مرة أخرى، من حيث فعلنا قبل عشرات السنين، لنكرر الأخطاء ذاتها؟! هذا ما يدفع إليه تقديسُ النظرية والجمود العقائدي. لا بدَّ لنا من أن نبدأ من حيث انتهت التجربة الإنسانية، حتى ولو تطلَّب ذلك تعيينَ سَمْت انطلاق جديد.

ومع ذلك، فلنترك آفاق الحوار مشرَّعةًً، لنرى فيما إذا كانت ستؤدي بنا "من الماركسية... إلى الماركسية"، كما يراها كريم مروة وعبد الإله بلقزيز، في حالة حنين وجدانيٍّ مشروع، نسبيًّا وإلى حدٍّ بعيد، مادام حنينًا لا يوصد الأبواب أمام حوار بلا ضفاف.

أدرك، مع الكثيرين، أن طريقة التفكير الماركسية تغلغلت كثيرًا في خلايانا الدماغية: فمن مفرداتها ومصطلحاتها تشكَّلتْ لغتُنا، وسنبقى زمنًا طويلاً نناقش الماركسية على خلفيتها هي بالذات وفي إطار مقولاتها. وليس في هذا ما يضير مادام الخيالُ طليقًا!

* * *

ثمَّة الكثير من المسائل الفكرية التي يتناولها كريم مروة في دقة وتدفُّق أصحاب الخبرات النضالية الواسعة والعميقة. لقد طرحتْها الحياةُ عليه وعلينا دون مواربة ودون سماح لنا بالفكاك من مواجهتها. ولن ننجح في ذلك دون إعادة نظر شجاعة ومسئولة تشمل ممارساتنا وأسُسها الفكرية خلال العقود الطويلة المنصرمة.

في حوارات مع بعض الأصدقاء الذين يعزُّ عليهم، وعليَّ، تاريخ ومفاهيم ومواقف مشتركة، يرى بعضهم أن الوقت ليس مناسبًا للحوارات الفكرية على هذا الصعيد؛ فهي تنقلنا إلى مزيد من التمزق وتضعف من فاعلية نشاطنا. بيد أن التمزق الذي نعيشه، منذ أكثر من ثلاثين عامًا، والهزائم التي عصفت بمشروعنا الوطني والاجتماعي، منذ أكثر من خمسين عامًا، والتي تضيق فيها فسحةُ الأمل بتغيير ننشده منذ تفتح وعينا، هي التي تطالبنا بحوارات كهذه وتفرضها علينا، بل بحوارات أكثر عمقًا ومسؤولية. لم تقع انتكاساتنا وتراجعاتنا بسبب مثل هذه الحوارات، بل ربما كان الهروب منها أو التضييق عليها، وحتى منعها، هي بعض العوامل الذاتية لتلك التراجعات والانتكاسات.

يرى أصدقاء آخرون أن الهمَّ الوطني والاجتماعي، الذي نما في الفترة الأخيرة ليستولي على كامل تفاصيل حياتنا ونشاطاتنا الذهنية وانشغالاتنا اليومية، قد لا يفسح المجال لـ"ترف فكري" كهذا الذي نمارسه، ويجزمون أن البديل هو مجابهة مهماتٍ "ملموسة" قد لا نختلف عليها كثيرًا. وأعتقد أن حوارنا الفكري ينشِّط صياغةَ مهمات ملموسة لليوم والغد القريب ويدققها. ولا بدَّ أن يفتح تقويمُ تجارب الماضي الطريقَ أمام استفادة حقيقية للجيل القادم من تلك التجارب، بنجاحاتها وإخفاقاتها، في الآتي من الزمان.

وإذ أتفق مع كريم مروة في الهمِّ المشترك، فإن مساهمتي التي تتناول بعض ما يترتب على الاستمرار في تقديس النظرية ستحاول تقصِّي "راهنية المادية التاريخية وقوانين التطور الاجتماعي الماركسية"؛ وهي مساهمة قد تكمل، أو تعاكس، بعض ما طَرَحَه هو، آمِلاً، معه، في أجر الاجتهاد.

المشهد من شرفة الماديَّة التاريخيَّة

سوف يستمر مشروعُ العدالة الاجتماعية – مشروع الخلاص من الاستغلال الرأسمالي، كما جسَّدتْه الماركسية في نظر أجيال من المناضلين – في مأزقه الكبير، إذا لم نراجع بعض الأسُس المعروفة للمادية التاريخية (وهي أحد المكونات الثلاثة للنظرية الماركسية).

كيف نتخيل، اليوم، فعل "قانون التطابق بين علاقات الإنتاج وبين طابع تطور القوى المنتجة ومستواه" في ظلِّ التقدم التكنولوجي الهائل الذي أضحى السمة الأساس لزماننا؟ – بل في ظلِّ وقائع العقود الطويلة التي مضت منذ أن وُضِعَتْ مبادئُ المادية التاريخية:

فالتقدم التقني هو أساس تطور القوى المنتجة. ووجهة التقدم العامة يحدِّدها تطويرُ وترقية وسائل العمل قبل كلِّ شيء، بوصفها العنصر المحدِّد للقوى المنتجة.[17]

– وهذا على الرغم من أن "الشغيلة هم العنصر الرئيسي بين عناصر القوى المنتجة"[18]. وعليه،

كان التغير الكيفي لطابع القوى المنتجة، المرتبط بالانتقال من الأدوات الحرفية إلى الإنتاج الآلي، هو السبب الأخير والأساس لانتقال المجتمع من العلاقات القائمة على الملكية الخاصة إلى الملكية الاجتماعية العامة لوسائل الإنتاج.[19]

ترى المادية التاريخية أن

ظهور أسلوب الإنتاج الاشتراكي يتميِّز بخاصية قوامها أنه لا ينبثق في أحشاء النظام القديم، أي في ظلِّ الرأسمالية، غير المقدمات لأسلوب الإنتاج الاشتراكي: القوى المنتجة الاجتماعية من حيث طابعها، طبقة الپروليتاريين، الإيديولوجيا الاشتراكية، حزب الپروليتاريا، وما إلى ذلك.[20]

تؤشر الصورة المفصلة (وليس مجرد كروكي) للتطور الاجتماعي، كما رسمتْها المادية التاريخية، إلى أن علاقات الإنتاج الرأسمالية ستكبح، في مرحلة ما، تطورَ القوى المنتجة (أساس التقدم)، وبشكل خاص، تطورَ وسائل الإنتاج، وإنْ كانت لن توقف تطورها. وعلى أساس هذا التناقض المستفحل بين حاجة القوى المنتجة إلى الاستمرار في التطور وبين علاقات الإنتاج الرأسمالية الكابحة له، ستلعب مقدماتُ أسلوب الإنتاج الاشتراكي دورَها الثوري: ستقوم الثورة الاجتماعية.

لكن التشكيلة الرأسمالية لم تتطور وفقًا لهذا المسار: لم تحدث الثورات الاشتراكية بفعل المقدمات المنوَّه عنها (نوقش كثيرًا توقيت ثورة أكتوبر وهل كان ضمن الظروف التي اشترطتْها الماركسية أم لا)؛ وعندما حدثت لم تقدم المشهد المتوقع لتناغم القوى المنتجة (خصوصًا وسائل الإنتاج) مع إطارها الجديد: علاقات الإنتاج الاشتراكية.

من الممكن إيراد عوامل كثيرة تفسيرًا لما حصل؛ ولكن الأهم هو محاولة الإجابة على السؤال التالي: هل برهنت لوحةُ التطور الاجتماعي الماركسية على صحتها، بوصفها نتاج قوانين موضوعية، أم ظهرت أقرب إلى التصورات الذهنية؟ ومادمنا في ظلِّ التشكيلة الرأسمالية، فإن ما يشغل البال هو: هل يجدي التمسك بهذه اللوحة، اليوم، في معرفة الوجهة المستقبلية؟ – خصوصًا من حيث عمل "قانون التطابق"، أي استمرار توقعنا لنشوء شروط، في ظلِّ علاقات الإنتاج الرأسمالية، تكبح تطور وسائل الإنتاج؟

لا توحي حالةُ التقدم التكنولوجي العاصف في بلدان الغرب الرأسمالي بأننا نقترب من رؤية تلك العلاقات الرأسمالية الاستغلالية وهي تشكِّل بيئةً معيقةً لتطور وسائل الإنتاج. فدوافع الربح والتنافس على أسواق تصريف السلع بقيت حافزًا دائمًا ومتجددًا لتطويرها، مع تنامي تناقضات الرأسمالية، بحيث يبدو وكأن استمرار تطور وسائل الإنتاج، في ظل علاقات الإنتاج الرأسمالية، هو ظاهرة تعيش وتزدهر غير متأثرة بتلك التناقضات – بل لعل تلك التناقضات تشكِّل بعض ما يحفِّزها وينشِّطها! ولربما ينبغي البحث عن عوامل أفول الرأسمالية في ساحة أخرى، بعيدًا عن تلك التي تفعل فيها دوافعُها الدؤوبة والمتجددة لتطوير أدوات الإنتاج المذهل.

لم يتضح، حتى الآن، الجوابُ على سؤال جوهري: هل لعبت (أم ستلعب) الملكية الخاصة لأدوات الإنتاج دورَها في لجم تطور تلك الأدوات أو كبحه عندما دخل (ويدخل) طابعُها الفردي الخاص في تناقض مستمر وحادٍّ مع الطابع الاجتماعي للعملية الإنتاجية؟ إن سير هذا التناقض وفعله واتجاهه لم يؤكد تأثيره المحتمل على استمرار تطوير وسائل الإنتاج. ولا نتحدث هنا عن عدالة الملكية الخاصة لأدوات الإنتاج – وهي حتمًا ليست عادلة! – أو عن حاجة العملية الإنتاجية لوظيفة هذه الملكية في التقدم الاقتصادي–الاجتماعي. ولكنْ يمكن لنا الحديث عن تراجُع الطابع الاجتماعي للعملية الإنتاجية ذاتها في بعض أهم الفروع ارتباطًا بالتكنولوجيا الحديثة. وبينما جاءت الثورة الصناعية لتكرِّس زيادة هذا الطابع، في حينه، مما مهَّد للتنبؤ بضرورة الملكية الاجتماعية لوسائل الإنتاج، فإن مزيدًا من التقدم التكنولوجي قد لا يرسِّخ الحاجة الموضوعية إلى تلك الملكية ولا ينمِّيها إذا اكتفينا بترقُّبها من خلال الطابع الاجتماعي للقوى المنتجة.

تضغط التكنولوجيا الحديثة حاجةَ المؤسسة الصناعية إلى اليد العاملة، مسبِّبةً مشكلةً حقيقية على هذا الصعيد (سنعود إلى هذه النقطة بعد قليل)، فتتقلص كميةُ المواد الأولية المستخدَمة وكذلك حجم الرأسمال الموظف، بينما تزداد نسبة ربحه. ولكن هذه السمات تجعل الأمور ملتبسةًً بعض الشيء (إذا كنا نتطلع إليها بعين المقولة الماركسية): يحفِّز الرأسماليون تقدُّم وسائل العمل تحفيزًا دائمًا مادام يزيد من أرباحهم، بينما تتعامل الطبقةُ العاملة معه في حذر وتذبذُب (وقد فعلت ذلك مرارًا)؛ فهو يخلق شروط عمل أنسب، من حيث تخفيفُه الجهدَ العضلي المطلوب منها، ولكنه – وهو الأخطر – يهدِّد فرص عملها.

وإذا كنا نعد استمرارَ القدرة على تطوير وسائل الإنتاج، خصوصًا وقبل كلِّ شيء، معيارًا أساسيًّا لـ"تقدمية" أسلوب إنتاج معين، وبالتالي، لحقِّ هذا الأسلوب في الديمومة مادام يخلق الشروط الملائمة لهذا التقدم، فإننا قد نبشِّر (من حيث لا نريد) بأبدية التشكيلة الرأسمالية! ويمكن إيراد أرقام فلكية عما تنفقه المؤسَّسات الرأسمالية على مراكز ومخابر البحث العلمي والتكنولوجي الهادف إلى تطوير وسائل الإنتاج، وفي أحيان كثيرة، وسائل الفتك بالحياة البشرية!

يستعصي، أكثر فأكثر، برهانُ فرضية "عجز الرأسمالية القادم" عن تحقيق شروط هذا التطوير. فأزمات الرأسمالية ومجمل تناقضاتها وحروبها وجشعها لا تسد الطريق أمام تطوير مستمر ومتصاعد لأدوات الإنتاج، عبر تقدم تكنولوجي لانهائي؛ ولا يحد من شهية البشرية نحوه شيء سوى الخشية الواعية من أن ينفلت من عقاله ويخرج عن السيطرة الآدمية! فهل ينبغي البحث عن أسباب استمرار أدوات الإنتاج في التطور على أصعدة وفي مجالات أخرى لا تنحصر فقط في أسلوب الإنتاج الرأسمالي أو... الاشتراكي؟

فعلى الجهة المقابلة، توقع برنامجُ الحزب الشيوعي السوفييتي (1962) أن علاقات الإنتاج الاشتراكية أكثر توافقًا مع تكنولوجيا الأتمتة المنتشرة منذ ذلك الحين،

[و] أن مفعول قانون التطابق في ظلِّ الاشتراكية يتميز بخاصية رئيسية قوامها أنه تتوفر للمجتمع في ظلِّ الاشتراكية إمكانيةُ اتخاذ الإجراءات في الوقت المناسب لجعل علاقات الإنتاج تتطابق مع القوى المنتجة النامية، أي إمكانية حلِّ التناقضات الناشئة بينها حلاًّ واعيًا.[21]

للأسف، أحبطتْ التجربةُ الواقعية للاشتراكية المطبقة هذه النبوءةَ النظرية أيضًا! بل إن سلطة الدولة الاشتراكية، كبناء فوقيٍّ لعلاقات الإنتاج الاشتراكية، أظهرت عجزًا متزايدًا عن تلبية احتياجات الفروع الإنتاجية الحديثة المرتبطة بأعلى درجات التكنولوجيا. ومن العبث محاولة الإجابة على التساؤل التالي: هل عدم حصول هذا يعود إلى عدم فهم النظرية؟ أو للتآمر الإمبريالي؟ أو... أو... أما في الصين، فإن وتائر تطور الإنتاج غير المسبوقة تتحقق في تلك الفروع التي عادت لتسود فيها علاقاتُ الإنتاج الرأسمالية!

ثمة مَن يتبرأ من نتائج ما حصل ليبقى مخلصًا لمبادئ النظرية الأصلية، معلنًا أن التجربة السوفييتية ومثيلاتها لا ينبغي أن تُقرأ من خلال نصوص ماركس؛ إذ إن هذه التجربة استندت إلى النظرية اللينينية. ومقابل ذلك، هناك مَن يرى أن ما حصل هو، بالضبط، نتيجة الخروج عن التطبيق الستاليني للماركسية: فالانحراف بدأ وتعمَّق منذ أن حلَّ خروشوف على قمة هرم السلطة السوفييتية.

ولكن، ألسنا بهذه الصورة نغلِّب تأثيرَ العوامل الذاتية، في هذه الحالة أو تلك، على فعل القوانين الموضوعية، لنبلغ بها حدودًا لا تقبلها العلاقةُ الجدلية بين العوامل الذاتية والموضوعية؟ وتكون نتيجة ذلك كلِّه استمرار الهروب من كشف الأسباب الجوهرية لكلِّ ما جرى.

الديموقراطية وقوانين التطور الاجتماعي

قد يكون مفيدًا توسيعُ زاوية النظر والحوار حول المسألة التالية: هل لموقف الماركسية من نشاط الناس كقوة إنتاج، ضمن علاقات إنتاج معينة ومن خلال كشفها قوانين التطور الاجتماعي كقوانين "علمية" تشكِّل مضمون المادية التاريخية، علاقةٌ ما بتعاملها الملتبس مع المسألة الديموقراطية؟

فعندما ينشط الناس وفق قوانين "علمية"، لن يُفسَح في المجال لشلِّ عمل تلك القوانين بدوافع طبقية: ستبدو معارضتُها فعلاً عابثًا، بل جنوني، بينما يُعدُّ قمعُ هذه المعارضة فعلاً في صلب إدراك هذه القوانين وتمكينها من أن تتحقق موضوعيًّا. هل نشتغل في مجال الكيمياء أو الفيزياء أو غيرها من العلوم خارج إطار القوانين المكتشَفة لتلك العلوم؟ هكذا يغدو فهم تلك "القوانين" والعمل وفقًا لها سقفًا لوعي الناس وإرادتهم. فالحرية هي فهم الضرورة.

لقد تحوَّلتْ قوانينُ التطور الاجتماعي، المندغمة في قوانين المادية الجدلية (وحدة الأضداد وصراعها – والحاسم فيها هو الصراع – ونفي النفي، ضمن حتمية تاريخية قاسية)، إلى قاعدة صلبة لممارسة وصاية استبدادية على المجتمع في حالات معروفة ليست بالقليلة. لقد تأسَّست البنيةُ التوتاليتارية للفكر الماركسي استنادًا إلى قوانين التطور الاجتماعي تلك، على الرغم من التسليم بأن الوجهة الأساسية لمشروع ماركس كانت إنسانيةً ومفعمةًً بحلم العدالة الاجتماعية الأنبل!

وفي الجانب التطبيقي، استندت السلطةُ التوتاليتارية، في حكمها وممارساتها وعلاقاتها مع المجتمع من خلال "العقيدة الواحدة" و"الحزب الواحد" و"القائد الواحد"، إلى إيمانها بأن ما تقوم به هو تجسيد لفعل تلك القوانين الموضوعية التي لا تحتاج إلى أكثر من ذلك الحزب والعقيدة والقائد! وعبثًا سيجري البحث عن ضرورة ما للديموقراطية (التي تتضمن خياراتٍ متنوعة) للقبول بالاحتكام إلى صناديق الاقتراع، للتسليم بحقِّ الناس في الاختلاف وتعدد الرؤى، حقِّهم في خطاب إعلامي محايد، غير موجَّه في حدَّة لشرح سياسات أصحاب السلطة وتسويغها.

عندما تسير الحياة وفق قوانين موضوعية، علمية، محددة، يصبح دور الناس "واعيًا" و"تقدميًّا" فقط عندما يدركونها ويعملون وفق متطلباتها:

علاقات الإنتاج هي علاقات موضوعية، مادية، مستقلة عن إدراك الناس، علاقات تتكون بين الناس في سياق إنتاج المنتوج الاجتماعي وفي سياق حركة المنتوج اللاحقة، عبر التبادل والتوزيع حتى ميدان الاستهلاك الفردي.[22]

[إنها] لا تتكون تبعًا لإرادة الناس، بل تبعًا لمستوى القوى المنتجة وطابعه، أي في آخر المطاف، تبعًا لوسائل العمل.[23]

لنتأمل فعل "قوانين التطور الاجتماعي الموضوعية" التي،

[...] لكي تتحقق مقتضياتُها، ينبغي أن يعكسها الناسُ، بشكل أو بآخر، ينبغي أن تمرَّ عِبْرَ إدراكهم وتبرز في صورة بواعث مثالية لنشاطهم.[24]

لقد رسمت المادية التاريخية مسارًا محددًا لإدراك الناس، يكتسب دورَه، حصرًا، في تحقيق مقتضيات القوانين الموضوعية. وهذه القوانين تفعل فعلها لا تبعًا لإرادة الناس، مع أنه "ينبغي أن تمرَّ عبر إدراكهم". وربما تكون هذه توليفةً جدليةً مقنعة، لولا أنها أُسِّسَتْ على رؤى ذاتية، فيها الكثير من الاجتهاد الجريء، ولكن ليس الكثير من "العلمية"!

لم تظهر "قوانين التطور الاجتماعي" موضوعيةً كما توقعناها. فماذا يتبقى من دورٍ لإدراك الناس أو إرادتهم؟ أليس في هذا شيء من التعسف الجبري، ونحن نصمِّم مساراتٍ للتطور وننفذها وفقًا لقوانين لم تتأكد موضوعيتُها في التجربة التاريخية؟ وإذ ربطنا وعيَ الناس بإدراكهم لتلك القوانين كيما تتجسد في الحياة، فإن المحذور هو اقترابنا من رؤى غيبية ترسم، هي الأخرى، دورَ الناس ومستقبلَهم في سياق تحكمه قوانين "ماورائية": ففي الحالتين، تنتفي الحاجة إلى رأي الناس خارج إدراك تلك "القوانين الموضوعية" أو الإيمان بالرؤى الغيبية!

درست الماركسية تطور التاريخ الاجتماعي من خلال وقائع اقتصادية–اجتماعية؛ وفي ضوء ذلك، أعلن أصحابُها – في جسارةٍ، لكنْ بموثوقية علمية غير مؤكدة – اكتشافَ قوانين التقدم الاجتماعي التي تفسِّر ليس فقط تَعاقُب التشكيلات الاجتماعية من زمن المشاعية البدائية حتى المرحلة الرأسمالية، ولكنها، خصوصًا، تستشرف المستقبل الذي ستسود فيه علاقاتُ الإنتاج الشيوعية. (لا أدري إن كان مجزيًا، الآن، التمحيص في كون مقولة التعاقب هذه هي من صلب "ماركسية" ماركس، أم أنها دخيلة عليها من الزمن الستاليني، إلخ.)

قد نحتاج هنا للتوقف عند مسألة هامة: هل أدت قوانينُ التطور الاجتماعي التي اكتشفتْها الماركسية – تلك القوانين الفاعلة في سياق حتمية تاريخية صارمة – دورًا مؤكدًا في تأهيل الناس تأهيلاً كافيًا لفهم كلِّ جوانب الحياة البشرية المعقدة والمتغيرة والمرهونة بشروط متبدلة، بما فيها علاقتهم بالطبيعة، بل بالكون كلِّه. فلو اعتمدنا تلك القوانين في تفسير الأحداث التاريخية، لعجزنا عن فهم أسباب الانهيار الذي أودى بأجزاء أساسية في المنظومة الاشتراكية: ليس في المادية التاريخية ما يوحي باحتمال النكوص من علاقات إنتاج اشتراكية، أزالت استغلال الإنسان وتوافقتْ مع القوى المنتجة المتطورة، إلى علاقات إنتاج رأسمالية، بأشكالها الأكثر توحشًا وبدائية.

أليس مشروعًا التساؤلُ، اليوم، عن مدى قدرة الناس (ليس في زمن ماركس وإنجلز، وإنما في زماننا الراهن حتى) على وضع (أو اكتشاف) قوانين علمية شاملة لمراحل السير القادم للتاريخ وأشكاله؟ قد يكون متاحًا وضعُ فرضيات أو توقعات واحتمالات لتطور مجتمع ما في حقبة زمنية معينة. ولكي يستفاد من الجهد العلمي المبذول في هذا الاتجاه، ينبغي أن تكون هذه الفرضيات والتوقعات مجالاً لأوسع نقاش، في بيئة ديموقراطية حقيقية، بما يتيح تدقيقها المتواصل. أما يقيننا بأن تلك الافتراضات والتوقعات قوانينُ للتطور فقد لا ينسجم، من جهة، مع الصفة "العلمية" للقوانين، المبرهَن عليها في التجربة الحياتية أو المخبرية، ويضفي على تلك "القوانين" هالةَ القدسية، من جهة أخرى، إذ لا يعود الأمر اجتهادًا، بل فعل مادي موضوعي.

إننا نجدد، إذن، تقديس نتاج خيالنا، بتجلِّياته "الغيبية" و/أو "العلمية"، وكل ما تولِّده هذه الحالة من ارتباك وبلبلة في التعامل اللاحق مع مصداقية الفكر أمام التجربة. تمارس السلطة – وقد فعلت مرارًا – حكمَها بكلِّ أجزائه، بما فيها العنف، على هدي من تلك القوانين التي تحتكر سلطةُ الحزب الواحد تجسيدَها. ومن العسير، عند ذاك، تقرير هل لهذا التجسيد علاقة بقانون مادي أو أنه ليس أكثر من رؤية ذاتية لأصحاب تلك السلطة. ويزداد العسر أكثر عند مواجهة حقيقة وجود ذلك القانون أصلاً.

البديل هو دراسة الواقع المعين في زمن معين: رسم سياسات تستجيب (بقدر ما هو متاح) لحاجات البشر المادية والروحية في ذلك الواقع وتحدِّد العواملَ التي تجعل تلك الحاجات بعيدة المنال في حالات كثيرة، ثم العمل، مع الناس ومن خلالهم (دون ممارسة وصاية إيديولوجية عاتية عليهم)، لجعل حياتهم أكثر إنسانية، تستحق أن يعيشوا كلَّ لحظاتها – الخاطفة كومضة برق واللانهائية في آن معًا!

حقَّق حلمُ الإنسانية بالعدالة الاجتماعية تقدمًا باهرًا عندما دخلنا تجربةَ بناء نظام اجتماعي جديد في أعقاب ثورة أكتوبر؛ ولكنه ارتد فيما بعد (قبل الانهيار) إلى الوراء بسبب النموذج التوتاليتاري لذلك النظام، وقد بُنِيَ استنادًا إلى قوانين التطور الاجتماعي الماركسية، وليس سواها. وهو نظام بدا في مطلعه وكأنه "يقصف عمر" الرأسمالية، لكنه عاد وأمدَّ في أجَلها بجموده عند تلك "القوانين" و"الرؤى" التي لم تُدقَّق مصداقيتُها وعلميتُها في وقت مبكر.

لقد تبين أن جعل الإنسان، مع الآلة، مادةً أو وسطًا لفعل قوانين مادية صارمة تتحكم في العملية الإنتاجية لا يتسع كفايةً لجوانب الحياة البشرية كلِّها، لتنوعها وعلاقاتها المتشابكة بالطبيعة والكون، بل لا يحمل فهمًا عميقًا شاملاً لاحتياجات الإنسان المادية والروحية معًا، ولا يتيح له الفرصة لمواجهة ناجحة مع مستقبل لا تطبعه حتميةٌ تاريخية مؤكدة تُشيع فيه التفاؤل الثوري، بل يكتنفه عدمُ اليقين ويحكمه طيفٌ من احتمالات التطور، بما فيها اشتداد الاستغلال والظلم والتقهقر إلى الوراء، بل حتى فناء الحياة البشرية، أعظم ما أبدعه الكون الذي نعرف.

بيد أن مشروع العدالة الاجتماعية المرتبط بالمادية التاريخية الماركسية أدى دورًا مرموقًا في تنمية إحساس المنتجين بقيمتهم الاجتماعية وساعد في خلق حِراك سياسيٍّ تقدمي أثر تأثيرًا إيجابيًّا على نطاقات واسعة تاريخيًّا، لكنه يحتاج اليوم إلى "فك اشتباك" مع تلك الأجزاء التي تغالي في رؤية الناس كمجرد "قوة منتجة" تعمل في ظل علاقات إنتاجية تتحكم فيها، أساسًا، مستوياتُ وسائل الإنتاج أكثر مما تفعل إرادتُهم وإدراكُهم! ولعله يحتاج أيضًا إلى تدقيق لكامل الطيف الواسع من المسائل النظرية والتطبيقية المرتبطة بـ"قوانين التطور الاجتماعي" في ضوء التجربة الإنسانية المغتنية.

وعي الناس الاجتماعي أولاً

لم يعد المشهدُ المعقد والمتشابك للحياة الاجتماعية الراهنة يسمح بالركون إلى العلاقة الحاسمة والنمطية بين نشاط الناس – إرادتهم وإدراكهم الاجتماعي – وبين مكانهم في الإنتاج وعلاقتهم مع وسائل الإنتاج وفق طابع تطور القوى المنتجة ومستواه. فكثيرٌ مما جرى (ويجري) على صعيد العملية الإنتاجية – ما يتعلق بطبيعة القوى المنتجة الحالية ووسائل الإنتاج المؤتمتة وأبعاد الدور الذي يلعبه الناسُ في إدارتها (وهو دور ترتفع سويتُه الذهنية، أي محتواه المهني والعلمي، بينما تضيق مساحتُه في الآن نفسه) – يجعل من الضروري التأكد من أن

[...] قوةَ الماركسية تكمن في كونها أعطت الجواب العلمي، المادي، عن السؤال التالي: ما الذي يحدِّد نشاطَ الناس، ولاسيما الجماهير الكبيرة، الجماعات، الطبقات على وجه الضبط، في كلِّ زمن معني؟ يحدِّده مكانُهم في الإنتاج، وعلاقتهم مع وسائل الإنتاج، وبالتالي، مع منتوجات الإنتاج؛ أي تحدِّده علاقاتُ الإنتاج التي تتكون لا وفقًا لإرادة الناس وإدراكهم، بل وفقًا لطابع مستوى تطور القوى المنتجة وحالته.[25]

في مرحلة متقدمة من المعرفة والخبرة الإنسانية ومجالاتها التنظيمية والقانونية ومن التمرُّس على ديموقراطية ناضجة، يمكن افتراض أن إرادة الناس وإدراكهم الاجتماعي ونشاطهم قد تدير، موضوعيًّا، علاقاتِهم المادية والروحية بعضهم ببعض وبالطبيعة، بما في ذلك تحديد محتوى علاقات الإنتاج وأشكاله، ليس فقط من حيث كون هذه الأخيرة مازالت محفِّزة لتطور وسائل الإنتاج. يعود الدور، جلُّه، إلى وعي الناس الاجتماعي ونشاطهم في خلق علاقات إنسانية شاملة وعادلة، أبعد وأعمق من أن تكون مجرد علاقات إنتاج: علاقات على مستوى كلِّ بلد وعلى مستوى الأقاليم المختلفة والعالم كلِّه، علاقات تتيحُ لهم الاستمرار في العيش على سطح الكوكب. فهل في إعطاء الوعي الإنساني أولويةً كهذه اقترابٌ من الفكر المثالي؟

إن تدفُّق منجزات التكنولوجيا والعلوم وعطاءات العقل الإنساني كافة، بزخم متصاعد، يؤسِّس لأشكالٍ جديدة، غير متوقَّعة، للحياة الإنسانية. وقد بات من المؤكد أنه لن تكون هناك "مرافئ ختامية" ترسو فيها تلك المنجزات مادامت الحياةُ تنبض بالحياة. وبالتالي، يولِّد هذا التغير، المفتوح على اللانهاية، في الواقع المادي والروحي أساليبَ للتفكير قد لا تتسع لها النطاقاتُ الساكنة لفكرٍ انطلق من احتياجات الثورة الصناعية وآفاقها في زمانها.

وإن الدور المتزايد الذي يلعبه العلمُ بامتياز، ليس كقوة إنتاج فحسب، يفسح المجال لنموِّ دور العقل الإنساني إلى أبعد حدود، بحيث يصبح نتاجُه المبدع، بكلِّ أشكاله، أقدرَ على توجيه أنماط الفاعلية البشرية كلِّها، ومنها الفاعلية الإنتاجية. وعندما يصبح الميدان المباشر لعمل العقل الإنساني (صناعة البرمجيات وما يتعلق بها) هو النشاط الإنتاجي الأهم، كيف سينعكس هذا التغير الكيفي الجديد للقوى المنتجة على علاقات الإنتاج وعلى نوعية الدور الذي يلعبه وعيُ الناس وإدراكُهم وحدوده؟

يحتاج الناس خلال نشاطهم العقلاني إلى ضبط علاقة التناقض المستمرة بين بعض مصالح المنتجين والمجتمع كلِّه، من جهة، وبين تطور تكنولوجيٍّ يخلق جموحُه مزيجًا من الأمل والرعب في القلوب، من جهةٍ أخرى. وإذ لن يستطيع أحدٌ إيقاف هذا التطور، فإنما ينبغي إدارته بمسؤولية إنسانية رفيعة.

إننا مضطرون للحكم على "تقدمية" أسلوب إنتاج معين، بل وعلى البنية السياسية والاقتصادية والاجتماعية والروحية لحياة مجتمع ما كلِّها، ليس من خلال طاقته المتجددة في تطوير أدوات الإنتاج حصرًا، ولكن، قبل ذلك، من خلال قيم العدالة والديموقراطية وإتاحة الفرص الحقيقية أمام تطور الإنسان ماديًّا وثقافيًّا، بل ومنح كوكبنا ذاته فرصة حياة أقل تلوثًا وتهديدًا لساكنيه.

بيد أن التربة الصحية لنموِّ وعي الناس وإدراكهم المسؤول، لا يوجِدُها وضعُهم في مجابهة شروط الحتمية التاريخية التي تصوغها القوانينُ الناجزة للتطور الاجتماعي المكتشَفة والمسلَّم بها منذ القرن التاسع عشر، بكلِّ التعسف الذي أوجده فهمُنا المطلق لها. ومن العسير ألا يؤدي الاتكاء عليها إلى ممارسات استبدادية. لن تستطيع أيةُ إيديولوجيا ناجزة حرمانَ الناس من دورهم في الاكتشاف المتجدد للأسباب التي تجعل حياتَهم تسير وتتطور كما هي اليوم – وهو اكتشاف ينبثق من الحوار المنفتح الذي يستطيع أن يسهم فيه كلُّ مَن تعزُّ عليه الحياةُ ويريدها أفضل له وللناس أجمعين.

لقد تبيَّن، في وقت متأخر، أن حماية الحياة البشرية وإغناءها يحتاجان إلى مشروع ديموقراطي للعدالة الاجتماعية، لا يكتفي بتوفير الخبز، على أهميته، بل يسمح للفرد بأن يتمتع بكامل حقوقه كمواطن وكإنسان أيضًا، بما في ذلك، خصوصًا، حقُّه في التعبير الحر عن آرائه – هذا التعبير الذي من دونه لا تنضج المعرفةُ الإنسانية.

هوية "طبقية" للتفكير، ولكن...

عدَّت الماركسية طريقةَ تفكير الناس، أي وعيهم الاجتماعي، انعكاسًا لواقع حياتهم المادي، لوجودهم الاجتماعي، أي لموقعهم الطبقي في العملية الإنتاجية. وإذا أبديتُ، فيما سبق، تحفظاتٍ على هذه المقولة، فإن جزءًا من هذه التحفظات يعود إلى الكيفية التي وُظِّفَتْ فيها هذه المقولةُ في الصراع الإيديولوجي، خارج الحزب والحركة وداخلهما أيضًا: غدت "طبقية" التفكير – أيِّ تفكير – هويتَه الفيصل، وصار واجبًا البحثُ عن "الدوافع الطبقية" وراء كلِّ فكرة أو جملة أو همسة! أمست حكاياتُ "توم وجيري" الكرتونية موضوعًا للتحليل الطبقي، بينما ضايقَنا غيابُ النظرة الطبقية عن دراسة د. صادق جلال العظم النقد الذاتي بعد الهزيمة.

توجد للفكر دوافع وأهداف طبقية، كما توجد له دوافع وأهداف إنسانية متنوعة. لكن المهم أن لا يقتصر تعاملُنا مع الفكر على التنقيب، قبل كلِّ شيء، عن هذه الدوافع الطبقية، لنستريح من عناء الإنصات إليه وإعمال الذهن فيما جاء به. ومرة أخرى، نجد حالةً شبيهةً بما لدى عقائد أخرى يعنيها، في تعامُلها مع الفكر الآخر، أن تصنِّف هويتَه "الإيمانية" أو "الإلحادية"!

على أرضية البحث عن الهوية الطبقية للفكر، أصبح في الإمكان وسمُ كلِّ فكر لا يلائمنا بصفات طبقية معادية: فهذا "رأي ينم عن فكر قومي برجوازي"، وذاك "ينضح فكرًا برجوازيًّا صغيرًا متأرجحًا"، إلخ. مارسنا هذا الأسلوب في القمع الفكري، خصوصًا داخل الحزب، قبل أن ننتقل، في المراحل المتقدمة للصراعات الحزبية، إلى إطلاق أوصاف أخرى تتهم صاحبَ الرأي الآخر، في الحزب أو حوله، بانتماءات مشبوهة لدوائر استخباراتية، أجنبية أو محلِّية. فيا لها من تربة تُنعِش البحثَ والحوارَ الهادف لتطوير النظرية!

ولكننا ندرك اليوم، من خلال الوقائع، أن الحوار الديموقراطي وثقافة القبول بالآخر هي التي تغرس بذور الوعي والمعرفة والإبداع ثم تُنبِتُها وترعاها لتزهر وتثمر. وحده وعيُ الناس المتفتح في بيئة ديموقراطية قادرٌ على حماية الأصيل في التجربة الإنسانية المتقدمة. أما القوالب مسبقة الصنع، الضاغطة على أدمغة الناس، فهي لا تطلق كفاءاتِهم الفكرية وخيالَهم الضروري للإبداع السياسي والثقافي والعلمي، بل تزرع فيهم سلبيةً مرتعدةً مدمِّرةً وعجزًا عن القيام بأيِّ دور فعال، حتى فيما يخص حياتهم! ولنقارن بين ردِّ فعل الشعوب السوفييتية وباقي بلدان المنظومة الاشتراكية يوم حصلت الانهياراتُ المأسوية وبين ردِّ فعل قوى واسعة شملت عشرات الملايين في أوروبا الغربية وغيرها من البلدان ضد العدوان الأمريكي على العراق.

"الرسالة التاريخية" للطبقة العاملة

من جانبٍ آخر، هل أثَّر حجمُ الپروليتاريا الصناعية ومجمل الطبقة العاملة ودورهُما في العملية الإنتاجية على طبيعة مشروع العدالة الاجتماعية الماركسي وأبعاده؟ لقد أعطت الماركسيةُ طبقةَ الپروليتاريا الدورَ الرئيس في التحول إلى علاقات الإنتاج الاشتراكية:

فالپروليتاريا مرتبطة بالشكل الأكثر تقدمًا من أشكال الإنتاج، أي بالصناعة الكبيرة. وهي محشودة كجماهير ضخمة في المعامل والمصانع؛ وظروف العمل الجماعي تعوِّدها على الطاعة والانضباط والتنظيم. وإن وضع الپروليتاريا في المجتمع الرأسمالي يجعلها قادرةً على النضال الدائب والحازم من أجل تحويل المجتمع تحويلاً اشتراكيًّا.[26]

من هنا سيتحقق المشروع الماركسي للعدالة الاجتماعية، كرسالة للطبقة العاملة، عِبْرَ النضال الطبقي الذي "يفضي بالضرورة إلى ديكتاتورية الپروليتاريا"[27]. ويرى إنجلز أنه

مثلما دخلت المشاغل اليدوية، في طور معين من التطور، في نزاع مع أسلوب الإنتاج الإقطاعي، هكذا نجد الآن الصناعةَ الكبيرة داخلةً في نزاع مع نظام الإنتاج البرجوازي الذي حلَّ محلَّ هذا الأخير. فإنها، إذ يعيقها هذا النظام والنطاقات الضيقة لأسلوب الإنتاج الرأسمالي، تخلق، من جهة، پلترة متعاظمة باطِّراد لجماهير الشعب الواسعة بأسرها، ومن جهة أخرى، تخلق كميةً متزايدةَ الضخامة من المنتجات غير الممكن تصريفها. فيض الإنتاج وبؤس الجماهير، كلٌّ منهما سببٌ للآخر: ذلك هو التناقض الأخرق الذي تؤدي إليه والذي يتطلب حتمًا تحريرًا للقوى المنتجة بتحويل أسلوب الإنتاج.[28]

لكننا، بدلاً من أن نشهد "پلترة متعاظمة باطِّراد لجماهير الشعب"، شاهدنا تقلصًا في أعداد الپروليتاريا في البلدان الأكثر تطورًا. وقد ذُكِرَ آنذاك أن "قوام الطبقة العاملة يتوسع ليشمل ليس فقط الطبقة العاملة والعمال الزراعيين، بل بعض فئات الكادحين القريبة منهم أيضًا"[29]، وجرت نقاشات حول مدى قرب أصحاب "الياقات البيضاء" من الطبقة العاملة. بيد أن اتساع نطاق الأتمتة يقلِّص أعداد العاملين في أغلب المواقع الإنتاجية، موضوعيًّا، بمن فيهم أصحاب الياقات البيضاء حتى، وتتكرس البطالة، كمشكلة في غاية الصعوبة يعاني منها المجتمع الرأسمالي، وتتفاقم مع تطوره؛ وهي مشكلة مرتبطة اليوم بحجم التطور التكنولوجي الهائل الذي نشهده وبعمقه. ويبدو وكأن التطور الجامح لوسائل الإنتاج يوجِد معضلةً حقيقيةً للجزء الآخر في القوى المنتجة: العنصر البشري. ولكن مشكلة البطالة ستظهر في ظل علاقات الإنتاج الاشتراكية أيضًا، ولو أن الإدارة البيروقراطية قد تحوِّلها إلى بطالة "مقنَّعة" لكي تبقى مخلصةً، في الظاهر، للمبادئ النظرية!

تنأى هذه الآلية الماركسية للتحول نحو علاقات الإنتاج الاشتراكية عن أن تكون متاحةً أو متوقعةً في ظروف المستوى الراهن للقوى المنتجة، من حيث نوعيةُ وسائل الإنتاج المؤتمتة وطبيعةُ القائمين باستخدامها – وهم ليسوا تلك الپروليتاريا الصناعية التي ألقى المشروعُ الماركسي على كاهلها مهمةَ القضاء على علاقات الإنتاج الرأسمالية الاستغلالية، بما هي الطبقة المتمتعة بصفات "تاريخية" تؤهلها لتكون "الحامل الاجتماعي" لمشروع العدالة الاجتماعية الماركسي: الارتباط بالشكل الأكثر تقدمًا من أشكال الإنتاج والعدد الكبير والتمركز والانضباط.

فهل انهيار التجربة الاشتراكية مرتبط بحدود الدور التاريخي للطبقة العاملة وآفاقه، أم بشكل سلطتها الذي استمر ديكتاتوريًّا، حتى في ظلِّ الديموقراطية الشعبية؟ أم أنه سيعود إلى شكل النموذج الاقتصادي الاجتماعي الذي بنتْه وكان عاجزًا عن تحقيق السبق في تطوير وسائل الإنتاج – جوهر التقدم الاجتماعي؟ أم أنه مرتبط بهذه الأسباب مجتمعةً وبغيرها؟

أما في بلداننا، فقد شكَّل إيماننا بـ"الدور الطليعي للطبقة العاملة" وتأثيرات ذلك في برامجنا وأشكال نشاطنا السياسي والاجتماعي حافزًا لرفع "الهمة النضالية" لجماهير كانت بعيدةً عن الفاعلية السياسية؛ بيد أنه سبَّب، في بعض الأحيان، ابتعادًا عن قوى أخرى فاعلة وتقدمية. بل إن اعتمادنا هذا المفهوم الماركسي عن الطبقة العاملة أوصلنا، ربما، إلى ممارسات مصطنعة، انعزالية، في زمن كانت الطبقةُ العاملة المحلِّية في حالتها الجنينية. وفي هذا السياق، يأتي اعتراف كريم مروة بخطأ "إسهامه في التنظير لدور الطبقة العاملة في النضال التحرري، في شكل مبالغ فيه"[30].

وفي التجربة المعيشة، فإن الوعي الفكري والسياسي لا يتكون تلقائيًّا في رحم الحسِّ الطبقي، مهما كان سليمًا؛ فهو يعتمد، أيضًا، على الثقافة والتجربة والعلم واتساع الأفق. كان جزء من نشاطنا باتجاه الطبقة العاملة، وفي المقابل تجاه المثقفين، نشاطًا مصطنعًا ومبلبَلاً، بل زائف حتى في بعض الأحيان؛ واستُخدِمَتْ عناوينُه، في أوقات كثيرة، كأداة في معارك حزبية ضيقة لم تعرف ثباتًا في المواقف، بل تبدلاتٌ دائمة في الهوى والأحكام.

ومن زاويةٍ ما، فقد رفضت الحياة دعوى الماركسية عن "رسالة" ما خاصة، دور قيادي، طليعي، لطبقة بذاتها، كما رفضت "رسائل تاريخية" مزعومة لقوميات بعينها أو لعقائد وإيديولوجيات، أرضية أو سماوية! وبهذه الصورة ربما وُضِعَتْ قاعدةٌ أصلب لنبذ التطرف والتعصب، بأنواعهما المختلفة.

قطاع الدولة: دخول في الجدار

ستستخدم الپروليتاريا سيادتَها السياسية لأجل انتزاع الرأسمال من البرجوازية شيئًا فشيئًا ومَرْكَزَة جميع أدوات الإنتاج في أيدي الدولة.[31]

و"في إطار التدابير التي يمكن تطبيقها، بصورة عامة تقريبًا في أكثر البلدان تقدمًا ورقيًّا"، يحدِّد البيان الشيوعي:

1.     نزع الملكية العقارية وتخصيص الريع العقاري لتغطية نفقات الدولة. [...]

5.     مَرْكَزَة التسليف كلِّه في أيدي الدولة بواسطة مصرف وطني رأسماله للدولة ويتمتع باحتكار تامٍّ مطلق.

6.     مَرْكَزَة جميع وسائط النقل في أيدي الدولة.

7.     تكثير المصانع التابعة للدولة وأدوات الإنتاج.[32]

مرة أخرى، نحن أمام صورة تفصيلية، دقيقة، لدور الدولة القادم في المجال الاقتصادي، دعا إليه ماركس وإنجلز في العام 1848 وهما يؤسِّسان لمجتمع آخر يزول فيه استغلالُ الإنسان للإنسان. وقد أصبح عمر هذا النموذج الاقتصادي القائم على ملكية الدولة عشرات السنين، وغدا ضروريًّا الانتقال به، من حيث هو مسألة إيديولوجية مازالت تفتننا، إلى نموذج اقتصادي–اجتماعي مرن، قادر على الحياة، أي معالجة تشويهاته القاتلة:

-       عجز عن تطوير أدوات الإنتاج عِبْرَ آليةٍ إداريةٍ مركزية خانقة للاقتصاد، لا تتعامل معه من خلال قوانينه.

-       نشوء بيروقراطية عقيمة وفاسدة، استطاعت نسفَ التجربة الاشتراكية كلِّها عندما أرادت وأعادت شرائحُها المافيوية بناءَ علاقات رأسمالية بدائية.

-       تكوين نموذج "اشتراكي" للدولة التوتاليتارية، بل، كما يقول بعضهم، تأسيس قاعدة اقتصادية للاستبداد (خصوصًا في ظلِّ فقدان الديموقراطية).

لقد تم الاعتراف بهذه النواقص، أو ببعضها، خلال فترة الاشتراكية، وجرت محاولاتٌ لإزالتها؛ ولكننا نعرف النتائج! واليوم تُستغَل هذه التجربة لقطاع الدولة في إمرار الخصخصة، على الرغم مما تحمله من مآسٍ للناس. ولكن كيف يمكن تبنِّي استمرار ملكية الدولة لمعمل لا ولن ينتج؟! وللأسف، فإن الدفاع عن قطاع الدولة يتم من خلال شعارات مشكوك في جدواها العملية، مثل "اختيار إدارات نظيفة ذات كفاءة لقيادة مؤسَّساته ومعامله"، وكأن الفشل يرجع فقط للإدارة ولا يتعداه إلى صُلب تجربة إدارة الدولة للاقتصاد الوطني وللعلاقة بين شقِّيها الاقتصادي والاجتماعي. وإذا كان ثمة مَن يدافع عن استمرار قطاع الدولة من مواقع فكرية وسياسية، أو لمجرد أنه مورد رزقه، فإن بين أشد المتحمسين لبقائه على صورته الراهنة هؤلاء الذين يستنزفونه في شراسة ودون رحمة.

لن أتوسع أكثر في هذا الملف الهام جدًّا، لكنني أنظر إليه كحالة رسمتْها لنا النظريةُ ولم نتقن التعاملَ معها بموضوعية وروح عملية تستفيد من التجربة، فتضخ فيها شيئًا من القدرة على الحياة.

* * *

بيد أن مصير الماركسية، بوصفها مشروعًا للعدالة الاجتماعية حقَّقَ نجاحًا وفشلاً نسبيين، لا يجوز أن يؤثر على بحثنا المستمر عن مشروع أنضج يستفيد مما حققته الماركسية، دون أن يتوقف عندها أو يعود إليها. ونحن، إذا حشرنا مشروعَ العدالة الاجتماعية في التجربة الماركسية وحدها، وكأنها غاية ما يمكن الوصول إليه، قد ندخل في نفق من اليأس، إذ نقيد رؤيتَنا المستقبلية بمسرب وحيد تعجز البشرية عن ابتكار ما هو أكمل منه. ومثل هذا الشغل على إنضاج مشروع أكمل للعدالة الاجتماعية، يؤسَّس على الخبرة المكتسَبة مع الماركسية وغيرها، لا يجوز أن نتعسف في تقويمه، فنراه انتقالاً إلى الجهة الأخرى: دعوة إلى الرأسمالية، بل أبعد من ذلك أحيانًا!

والسؤال المشروع هاهنا هو: ما البديل إذا لم تعدْ الماركسيةُ أساسًا كافيًا لصياغة مرحلة جديدة في مشروع التغيير، بكلِّ أجزائه الوطنية والاجتماعية المتضافرة، تصب فيه جميعُ خبرات السنين الماضية؟ هذا الحوار يطمح، بقسوته في تقويم المسيرة الماضية، إلى تأسيس مشروع نحميه من تكرار تلك الأخطاء الفادحة التي ارتكبناها، ويشترك في وضعه الطيفُ الواسع المتعدد من الفئات الغيورة على مستقبل بلادنا والعالم كلِّه – حوار لعلَّه يُبنى على أسُس قبول الآخر والتفاعل الإيجابي معه والقدرة على إدارة الاختلاف (الذي لن يتوقف) بروح التكامل والديموقراطية.

إني أغبط كريم مروة لأنه استطاع أن يترك انطباعًا، لدى أغلب مَن قرؤوه، بأنه نموذج الباحث الدؤوب عن تجديد المشروع الوطني وعن العدالة الاجتماعية التي دعا إليها الأنبياءُ منذ آلاف السنين، ومازال الناسُ يبحثون عنها – وسيستمرون!

*** *** ***


[1] الطريق، 1/2003.

[2] كريم مروة، "من المسؤول عما جرى ويجري في بلداننا منذ أكثر من نصف قرن؟"، الطريق، 3/2002، ص 4.

[3] فيصل دراج، الطريق، 1/2003، ص 53.

[4] المصدر نفسه، ص 54.

[5] كريم مروة، "من الماركسية إلى الماركسية..."، الطريق، 1/2003، ص 30.

[6] المصدر السابق، ص 31.

[7] المصدر السابق، ص 46.

[8] المصدر السابق، ص 18.

[9] المصدر السابق، ص 40.

[10] المصدر السابق، ص 29.

[11] المصدر السابق، ص 18.

[12] المصدر السابق، ص 18-19.

[13] المصدر السابق، ص 35.

[14] عبد الرزاق جفنون، "يأكل التمر وأرجم بالنوى"، النهج، 34، 2003، ص 83.

[15] النور، 05/01/2003.

[16] حديث مع جريدة نضال الشعب، العدد 687، 13/01/2000.

[17] كيلله، كوفالسون، المادية التاريخية، دار التقدم، موسكو، ص 108.

[18] المصدر السابق، ص 61.

[19] المصدر السابق، ص 111.

[20] المصدر السابق، ص 118.

[21] المصدر السابق، ص 120.

[22] المصدر السابق، ص 62.

[23] المصدر السابق، ص 65.

[24] المصدر السابق، ص 78.

[25] المادية التاريخية، ص 116.

[26] المصدر السابق، ص 202-203.

[27] كارل ماركس، رسالة إلى فيديمار.

[28] فريدريك إنجلز، نصوص مختارة، بترجمة وصفي البني، وزارة الثقافة، ص 90.

[29] المادية التاريخية، ص 197.

[30] كريم مروة يتذكر، ص 462.

[31] البيان الشيوعي، ص 77.

[32] نفس المصدر، ص 77-78.

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

Editorial

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود