قـصـائـد كـونـيَّـة

مـنـيـر مـزيـد[*]

 

قـطـع مـن البـلـور

1

واقفةً على أهداب اللَّيل
تستمع لشدو طائر حزين
فَقَدَ أنثاه
وفي لحظة ما
يتراءى لها شدوُ الطائر
أنثى
يطيران معًا
وتبقى هي واقفة
وحيدةً
على أهداب اللَّيل
تحدِّق في السَّماء

2

عصفوران عاشقان
مازالا يبحثان عن عشٍّ
لم يجداه
طارا في السماء بعيدًا بعيدًا
فوجدا يَدَ الله ممدودة

3

مازلت أذكر يوم ولدت
كيف قبَّلني الله بِفَمٍ لانهائي
وهمس في أذني قائلاً:
"إنِّي أسكن هنا" –
وأشار بإصبعه إلى قلبي

4

قمرٌ ينسج قصائد
على صفحة مياه خرافية
حوريةٌ ترقص
في خيوط أشعة السَّحَر
تتعرَّى
والنَّهدُ يرضعُ الكونَ رحيقًا
يثمل إلهُ الأحلام
وكثيرًا ما يسحرني

5

على حين غفلة
أيقظتْني الملائكة
جاءت تهرول مسرعة
تبحث عن قصيدة
خبأتُها تحت الوسادة

6

تأتي من الروح
بكامل سحرها وجمالها
وسرعان ما تختفي
تاركتْني مسحورًا

7

كم من مرة
صحوتُ من منامي
ورأيتُ القصيدة طائرًا
يشدو على شبَّاكي

8

مع كلِّ هذه الأحزان
والدموع
يأبى الشِّعر إلا أن يغزل
قصائده
لسوسنة سوداء
غارقة في حزنها الأبدي

9

للشِّعر سماءٌ واحدة
ولشعري سماواتٌ عديدات
لا تُحصى
تعج بكلِّ ما هو فاتن
وسحري

 

قصـائـد كـونـيَّـة

1

في البدء
بذرةُ الخلق
انفلقتْ
صارتْ سُدُمًا وكواكب

2

في الغابة الخرساء
روحُ الظبي الوديع
طريدة
النمر
مخالب الجوع المفترسة
تنهشُ وداعةَ الحياة

3

أفتحُ نافذةَ الأحلام
وأُطِلُّ على شرفات الكون
أتأمَّل
أرى ما لا يُبصرُه أحدٌ غيري:
كلُّ ما في الكون من آلام
آلامُ ولادة

4

ما بيني وبين هذا الفضاء الشاسع
لغزٌ غنيٌّ بالأسرار
يفتحُ بوابةَ الحلم
يُطلُّ الحلمُ حاملاً شَغَفَ الغيب
يلمع، يرتعش أمام عيني
وسرعان ما يختفي
عازلاً نفسه وراء الأبدية
نورًا صامتًا

5

أبَتْ روحُ الشَّمس
إلا أن تخرج عن ذاتها
هامتْ، تبحث عن مستقَر
فدارت حول جسدها

6

قاربُ الروح
يُبحِرُ في هدوء إلى المرفأ
الشاطئ
رمالُ الروح الثائرة
على الغَمْر

7

حفنةٌ رطيبة
من ماء الغَمْر
تنداحُ على شاطئ
تدبُّ فيها الروح

8

يا للعناء!
تمر في خيالي
خيولُ الرغبة
تعدو مسرعةً إلى ألماء –
ولا ماء

 

أفُـولُ أوثَـان الجـهْـل

1

وحيدًا أصارع الظلام
والعدم
وهذا الفراغَ اللانهائيَّ البارد
الممتدَّ من حبل رؤوسهم
إلى السَّماء

2

في مُدُن الصحراء
الملوثة بالفساد
والاستبداد
بالملح والدخان والدموع
أراقبُ هذا البؤس
أتجرَّع عَرَقَ الموت
فأسمع صيحاتِ المُضطهَدين
في قيثارات الريح
في أوراق الشجر
في بكاء العصافير
في دوَّامات الماء
في الصحون والأواني
تشنق أنفاسي
وتغتال أحلامي

3

في مُدُنِنا
الخبزُ كاڤيارُ الفقراء
معجونٌ بالدَّم والعرق
الحب خطيئة
الحلم جريمة
خيانة
والشِّعر كفر

4

أنا لست ابنًا لأحد منكم
أنا ابنُ السَّماء والأرض
الحب ديني
والشِّعر لغتي
وما بيني وبين الله
يخصُّني –
فإلهي يتفهَّم عذاباتي –
فبئس ما تدعونني إليه!

5

العصافير التي تستحم بالغناء
والزنابق التي تنمو على وجنات الإله
الجداول الحالمة التي تراقص أوجاعي
والليالي الثملة بالحب
أصدقائي

6

أفيقي يا ربَّة الشِّعر
من سهاد دمي
وانثريني
انثريني حباتِ ضوء
في غياهب رؤوسهم
– فعفنُ الظلمة
قد غلَّف عقولهم
مهووسون بالجهل
بالحقد والغضب –
ودعيني
دعيني أحطِّم أصنامهم
صنمًا
صنمًا
وأحرق صوامع شرورهم
صومعًا
صومعًا
وأزرع في مدن الصحراء
رياحين الشِّعر
وأزهار السَّماء
وأغنِّي!

* * *

 

قراءة في قصيدة "أفول أوثان الجهل"

نجـاة الزبـيـر[†]

 

ذكَّرني الشاعرُ في قصيدته بالفرسان الذين ينازلون الظلام، بكلِّ أشكاله الإيحائية، حيث تتساقط أعضاؤه بالنجوى والشكوى. فلم يكن دون كيخوتي ثربانتس، بل شَهَرَ سلاحَ الشِّعر ليقول ذاته المتشظِّية في كهف الحرف المُحْرِق.

إن الشاعر الحقيقي هو الذي لا يجلس بعيدًا، منعزلاً عن الأحداث التي تحيط به. فهو يكرع من كأس التماهي مع الآخر قطراتِ تواجُده فوق محفَّة التواصل الرؤيوي مع الأشياء. والشاعر منير مزيد، في هذا النص الغنِّي بالعتبات، يُسمِعُنا تأوهاتِه ودمعَه الخفي–الظاهر، الساري في أوصال لغة شفافة صَنَعَ منها صيحةً اهتزتْ لها جنباتُ النص.

فحين تُلغى الإشاراتُ ويصمت الكونُ في جوف الشاعر، نراه لا يسمع غير إيقاعات ذابحة تحت قدمَي ريح عاتية، يعلو صفيرُها على الروح النحيلة من كثرة الصراخ الذي ينشر قصاصاتِه في هذا المدى.

لقد تنقَّل الشاعر في تفاصيل جد دقيقة لرصد ذبذبات الراهن المعجون بالمآسي. هكذا نجد مفرداتٍ لا تحتاج للتأويلات ولا لقراءات مختلفة عما أوردها الشاعر:

-       الخبز: مملَّح بدم الفقراء

-       الحب: خطيئة

-       الحلم: جريمة، خيانة

-       الشِّعر: كفر

هذه ثيمات تنزف جراحاتُها في زمن يراه الشاعرُ بعيدًا عن قبضة الحلم الذي يراود كلَّ نفس عطشى لتجاوُز المسخ الذي أضحى لبوسًا للكثير من الأماني. ولكن لِمَ الشِّعر، في عرف الشاعر، أضحى "كفرًا"؟! أية ديانة هذه التي أسقطتْ حكمَها الجائرَ عليه؟! وأية أعراف هاته التي نصبتْه في ساحة العار تمثالاً؟! وأي قلم هذا الذي رَسَمَه ريحًا هوجاء تقتلع السَّلام الروحي من بين جوانب الكَلَم؟!

هذا كله ما هو إلا تعبير مجازي عن ثورة الشاعر التي تنتعل حذاء المساءات المكسور نورها. فهو يرفع شعار نبذ كلِّ شيء لا تستوطنه قناعاتُه التي يصنع منها خمرتَه الأزلية، في مساحات تطوف بها أَنَاهُ التي لا تعترف بغير إيقاعاته الروحية، المنثورة مِسْكًا في علاقاته بالدِّين والشِّعر والحب، بوصفها أسمى معانٍ للوجود.

لهذه القصيدة، إذن، وَقْعٌ خاص في المسار الشعري الذي دأب عليه الشاعر، حيث تحبل الحروفُ بالموت والحياة، وتصنع من البياض كفنًا وضوءًا. فالشاعر المتميز منير مزيد يتجاوز المعنى الاستعاري الإيحائي الذي اختزل، في صور شفافة، أوضاع الإنسان المنكسرة بالخيبة والظلم والانكماش المعتم المظلم.

فهل يسمح الشاعر أن أقول: إن ما قرأتُه هذيانٌ للحكمة التي أينعت سنابلُها في هذا النصِّ الجميل، الذي مزج فيه بين كيمياء إحساسه المرهق بالواقع الهمجي، الذي عبَّر عنه بكلمات تغوص في أحداق الليل، وبين ربَّة الشِّعر التي استنجد بها لتخلِّصه بِشَعْرِها الغجري، الذي يقطر نبوَّة وخلاصًا، من احتراقات الأسئلة فوق شفتَي التصورات التي حلَّقت خارج الأسوار، حيث أُخْضِعَتِ الذاتُ الشَّاعرة لوعيٍ ذكيٍّ بالأشياء المحيطة بها، كي يبقى صوتُه صادحًا بالغناء السرمدي، محلقًا في سماء الحرية.

إنه وعيٌ بالكتابة ومُساءلةٌ لزحزحة الكثير من الأوتاد... لأن الشعر سؤال كوني عن وجود الإنسان، وبحث عن المغامرة في متاهات اللغة، لتفجير المسكوت عنه، مخترقًا الحدود لصنع اللامحدود، حيث تنشر أنفاسُ الشاعر دلالاتِها في تدفقاتٍ تردم المنفى الداخليَّ وتفكِّكه لتصنع من البياض سريرًا للانعتاق، محطمةً المرايا كلَّها من أجل ولادة جديدة بعيدة عن التزييف.

ويبقى الشاعر منير مزيد اسمًا شعريًّا عربيًّا لامعًا، حيث يُغني الساحة الشعرية بتجربته الغنية بأقانيم عدة، جاثمًا فوق جسد الحاضر لاستشراف الآتي الذي نتمنَّاه نخلاً كونيًّا يتساقط علينا بثمار السَّلام الروحي.

*** *** ***


[*] شاعر وروائي ومترجم فلسطيني مقيم في رومانيا؛ موقعه: http://munirmezyed.tripod.com.

[†] ناقدة مغربية؛ إيميلها: najat_zoubair@hotmail.com.

  

 

 

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود