الخوف من الحداثة، الإسلام والديموقراطية لفاطمة المرنيسي
كم نحتاج إلى المعتزلة الجدد

خالد غزال

 

لا تزال مقولة إن الاسلام يستعصي على الحداثة والتقدم الحضاري منتشرة في الغرب، وليست بعيدة عن الفكر العربي العلماني المتصلب أيضًا. يأتي الوصف من واقع ما تسجله المجتمعات العربية والإسلامية من احتضان للتنظيمات الأصولية والإرهابية، ومن رفض الفقه الإسلامي للكثير من أفكار التعددية والديموقراطية. لا يمكن انكار ما تحويه الاتهامات من صحة في هذا المجال، لكن لا يجوز أيضًا تغييب نظرات ضيقة وأحادية الجانب إلى هذه المجتمعات التي شهدت سابقًا في تاريخها القديم صراعات فكرية ضد السائد والمتحجر من الأيديولوجيا الإسلامية، وهي تحاول اليوم الإفادة من التقدم والحداثة، في ظلِّ صعوبات موضوعية ناجمة عن هيمنة الفكر الديني الغيبي في الكثير من مناحي الحياة. تتخذ عملية الصراع "الحضاري" شكل التناقض مع الغرب وأن ثمَّة صراعًا حضاريا يقوم بين الغرب والإسلام، يرى فيه بعض المنظِّرين في الغرب أن الإسلام يشكل خطرًا على حضارته، فيما يرى مسلمون أن الغرب لا يزال أسير نظرته الاستعمارية تجاه المجتمعات الإسلامية، وساعيًا إلى ابقاء هذه المجتمعات تحت سيطرته عبر نهب مواردها والقضاء على خصوصياتها الثقافية. تستمر المناقشة دائرة بقوة حول الإسلام والحداثة، والإسلام والديموقراطية، وليس مقدرًا لها أن تنتهي سريعًا. يقدم كتاب فاطمة المرنيسي الخوف من الحداثة، الإسلام والديموقراطية، الصادر في ترجمته العربية (محمد دربيات) لدى "دار الجندي" في دمشق، مساهمة في هذه المناقشة، أقرب إلى وجهة نظر الغرب في قراءة معضلة علاقة الإسلام بالديموقراطية والحداثة.

تنطلق المرنيسي من تعيين قوة الغرب وسرِّ تفوقه وتقدمه ومقدرته على السيطرة، فلا ترى ذلك في القوة العسكرية التي يمتلكها، على أهميتها، بمقدار كونها ناجمة عن التقدم التكنولوجي والثورة الفكرية والعقلية النابعة منه، وما نتج من ذلك من نظريات سياسية أساسها الديموقراطية وحقوق الإنسان. تنطلق من هذا التقديم لتقدم تفسيرًا لعلاقة العرب بالغرب، وتعيين أسباب خوف العرب والمسلمين من هذا الغرب. فالعربي والمسلم لا يزالان أسيري نظرة إلى الغرب تحوي في داخلها انفصامًا بين الواقع والمتخيَّل. لم يستطع العربي الخروج من نرجسية تستند إلى ماض يعود إلى ألف سنة حيث عرفت الحضارة العربية والاسلامية ازدهارًا وكان لها تأثير كبير في النهضة الأوروبية لاحقًا. يردد العربي مقولة "أفضال" العرب على الغرب بما يوحي بموقع حضاري أرقى في الأصل، من دون أن يرى ما تجاوزه الزمن، وما تكرس من فوارق كبيرة بين الواقع الراهن للعالم العربي وإقامته في التخلف المديد، وما حققه الغرب من تقدم حضاري على جميع المستويات. في مقابل هذه النظرة النرجسية العربية، يعاني العربي عقدة نقص تجاه هذا الغربي، ويحمِّله مسؤولية تأخره وتخلفه، بسبب استعماره العالم العربي واستمراره في نهب ثرواته.

تلقي المرنيسي الضوء بقوة على العوامل التي تراها فعلية في خوف العربي والمسلم من الحداثة ومن الديموقراطية، التي تطرح تحدي القراءة العقلانية لجميع الأمور السياسية والعلمية والأخلاقية. وهذا أمر يتنافى مع فكر ماورائي لا يزال يسلط الغيبيات والأساطير والخرافات أحيانًا في قراءة أمور الطبيعة والحياة. تشهد العقلانية حربًا شعواء ضد تكريسها منهجًا في التفكير، ويقود الفكر الديني هذه الحملة، ويعتبر العقلانية استيرادًا غربيًا، وهو أمر يضع حواجز ضخمة ضد مواكبة الإسلام للحداثة، لكون هذه العقلانية من المنتجات الرئيسية للحداثة. وفي استعادة للتاريخ العربي والإسلامي، يمكن استذكار ما عاناه الفكر العقلاني منذ أيام المعتزلة التي طرحت العقل مقياسًا للحكم على الأمور الدينية والدنيوية، وجرى التنكيل بها وبأفكارها ومعتنقيها، بحيث بات الفكر المعتزلي من "غير المسموح التفكير فيه" وفق تعبير لمحمد أركون.

ويأتي الخوف من الحداثة كونها تُخضع النصوص الدينية والتراثية للنقد والتمحيص والاجتهاد، وتموضع هذا التراث ضمن التاريخ الذي صدرت فيه والمكان الذي فعلت ضمنه، وهو منهج ينفي صلاحية هذا التراث لكل زمان ومكان، ويرفض اسقاطه على الحاضر والعمل به كأنّ الزمن لا يزال إياه كما كان قبل ألف وخمسمئة عام. ويتبدى الخوف أيضًا مما تطرحه الديموقراطية من حكم للشعب واخضاع الحاكم لهذه السيادة عبر التمثيل الانتخابي ودورية السلطة، وذلك لأن التراث الإسلامي ينبض اليوم بقوة نحو مقولات تنطلق من أنه "لا حكم إلا لله"، وهذا الحكم الإلهي يجسده الحاكم الذي يستمد سلطته من الله وليس من الشعب. خاض الغرب معارك دامية من أجل فصل السلطتين الدينية والزمنية الواحدة عن الأخرى، ويرى كثيرون أن الحداثة بمعناها الفعلي قد تحققت عند إعادة البابا والكنيسة إلى موقعهما الديني، وتكريس سيادة الشعب عبر مؤسساته الديموقراطية في النظام السياسي. يتجلى التناقض بين الغرب والعالم العربي والإسلامي من خلال ما نشهده لمقولة إن ولي الفقيه في النظام الإيراني يستمد سلطته من الله، وهو الإمام الذي يمثل الله على الأرض، كما نشهد ما يماثله في طرح الحركات الإسلامية الأصولية من هدف مركزي لاستعادة نظام الخلافة وإقامة الدولة الإسلامية التي يمثل فيها الخليفة ظلَّ الله على الأرض.

طرحت الحداثة مسألة حرية الإنسان وحقه في خياراته ومسؤوليته عن أعماله، في مقابل فكر ديني يعيد كل شيء إلى الله المسيّر أمور البشر. شكلت مقولة الجبرية والقدرية في التاريخ اللاهوتي الإسلامي مدار صراع بين القوى الاجتماعية والسياسية، حيث كان الحكام يشددون على مقولة الجبر وأن كل شيء مرسوم سلفًا من الله، وما على الإنسان سوى الخضوع لما شاءه الله، بما يمنع على الإنسان السعي إلى تغيير واقعه أو تعديل ما يصيبه من عمل الحاكم. تمكنت الحداثة في الغرب من قلب هذه المعادلة لمصلحة تحرير الفرد من ربقة هذه الجبرية واعتباره المسؤول الأول عن مصيره وخياراته، فيما لا تزال هذه المسألة في قلب الصراع الفكري والسياسي للمسلم إجمالاً والعربي خصوصًا.

يحفل كتاب فاطمة المرنيسي بأمثلة عديدة أخرى حول العوامل التي تجعل المسلمين يخافون من الحداثة، وترى أن تواصل هذا الخوف سيمنع العالم العربي والإسلامي من الدخول في العصر، والعجز عن مواجهة التخلف المديد الذي يضع هذه المجتمعات خارج التاريخ. لا مفر من علاقة مع الغرب تفيد من انجازاته الحضارية، في وقت يمكن فيه المحافظة على الاستقلالية والخصوصية الثقافية والقومية.

*** *** ***

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 إضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود