بشرية جديدة

 

ميخائيل نعيمة

 

تسير الأكوان سيرها الحثيث من الانغلاق إلى الانطلاق مدفوعة بقوة الحياة الكامنة في كل ذرة من ذراتها. وقوة الحياة هذه، وإن تنوعت مظاهرها المحسوسة إلى ما لا نهاية له، هي هي في كلِّ شيء وفي كلِّ مكان وزمان. نظامها واحد، وطريقها واحد، وهدفها واحد، وهي التي في اندفاعها إلى الانطلاق من السدود والحدود والقيود تُغيِّر ولا تتغيَّر، وتُجدد ولا تتجدد، وتجعل للأشياء بداية ونهاية ولا بداية لها ولا نهاية. وما دامت دون مستوى الوعي فهي الغريزة. ومتى بلغت الوعي فهي الفكر والخيال والإرادة. أما متى تجاوزت الوعي فهي الألوهة.

والإنسان، كما أراه، ما يزال على الحدود ما بين الغريزة وبين الفكر والخيال والإرادة. فبعضه حيوان وبعضه إنسان. فهو حيوان على قدر ما يحيا بغريزته. وهو إنسان على قدر ما يحيا بفكره وخياله وإرادته. وسيبقى بعضه حيوانًا وبعضه إنسانًا إلى أن ينفذ بفكره وخياله إلى نظام الحياة الشامل وغايتها الموحدة، وإلى أن تكون له الإرادة الواعية الفاهمة يسير بها مع النظام لا ضده، وإلى الغاية لا إلى غيرها. ويسير بخطى لا تردد فيها ولا إلتواء. وإذ ذاك فهو الإنسان الإنسان، وفي مستطاعه أن يخلق من نفسه لنفسه ذلك العالم الذي ما برح يحلم به منذ أن عرف العذاب والشقاء والموت.

أما والفكر فينا ما يزال نسمةً لا إعصارًا، والخيال تقابًا لا براقًا، والإرادة خيزرانة مرضوضة لا سنديانة عتيَّة فنحن لا نملك القدرة على تجديد أنفسنا وتغيير العوالم من حولنا حسبما نرتئي ونرغب. بل لا مناص لنا من مطاوعة المشيئة الكونية الشاملة التي ندعوها القدر. فحيثما طاوعناها عن فهم وعن رضا كان نصيبنا الهناء. وحيثما طاوعناها عن جهل وعن كراهية كان نصيبنا الشقاء. فهي الأم ونحن أطفالها. وهي المعلِّمة والمهذِّبة والمربِّية ونحن تلاميذها. وهي المعيلة ونحن عيالها. ومثلما تستعين الأم في تنمية أطفالها، والمعلمة والمربية والمهذبة في تهذيب تلاميذها، والمعيلة في إعالة عيالها بقوى كامنة فيهم على النمو والفهم والتعاون كذلك تستعين الإرادة الشاملة في توجيهها الإنسان إلى غايتها بما في الإنسان من إرادة ومن قدرة على التفكير والتخيُّل والفهم.

فنحن نعاون القدر في كل مآتيه ومظاهره عرفنا ذلك أم جهلناه. ومن حقنا أن نتطَّلع إلى اليوم الذي يصبح فيه القدر معاونًا لنا بدلاً من أن نكون معاونيه، بل خادمنا بدلاً من أن نكون خدامه.

حيث الفكر والخيال والإرادة هنالك المقدرة على الخلق. وما الفكر والخيال والإرادة غير سلاح الحياة المنغلقة في كفاحها ضد الانغلاق وفي اندفاعها نحو الانطلاق. وهذا الكفاح هو السبب الأولي لكل ما نحسه من تجدد في الكون، ومن تغيُّر مستمر في حياة البشرية التي ليست سوى جانب محدود من الكون الذي لا يحدُّ. والبشرية لن تعرف الاستقرار الكامل حتى تعرف الحرية الكاملة، وحتى تنطلق من كل حدٍّ وقيد.

نحن سائرون إلى الحرية. ما في ذلك شكٌّ. ولكننا نسير بخطى وئيدة إلى حد أن من يراقب حركاتنا عن كثب يكاد يحسبنا ندور على أنفسنا، ويكاد يجزم أننا ما نبرح مكاننا. ولا عجب، فسرعة القافلة تقاس بسرعة أبطأ بعير فيها، وقوة السلسلة تقاس بقوة أضعف حلقة من حلقاتها. كذلك سرعة البشرية وقوتها. وأبطأ الناس وأضعفهم ما يزال أقرب إلى الحيوان منه إلى الإنسان. فكيف نرجو للبشرية تقدمًا خاطفًا ونموًا باهرًا؟ بل العجب العجاب أن تنجب البشرية أفرادًا استطاعوا الانفلات من قيودها وراحوا يدلونها على الطريق فما تصدقهم وإن هي صدقتهم فلا تجد من فكرها وخيالها وإرادتها القوة الكافية للحاق بهم. ومن الخير لها لو هي صدقتهم، ولو هي راحت تعمل يدًا واحدة وبكل ما فيها من قوة زاخرة على الالتحاق بهم.

إذن لجعلنا غاية البشرية غاية الحياة وهي الانطلاق من كل انغلاق. وإذن لحملنا حملة شعواء على كل ما من شأنه أن يفصل الإنسان عن الإنسان وعن سائر الأكوان. فمحونا من قواميسنا كلمة "الوطني" ونقيضها "الأجنبي".

إذ كيف يكون "أجنبيًا" عني من جهزته الحياة بمثل ما جهزتني، وجعلته شريكًا لي في الكفاح، وبسطت الأرض والسماء ميدانًا لي وله؟ كيف يكون "أجنبيًا"، في أية بقعة من بقاع الأرض، من ليس أجنبيًا عن التراب وعن الهواء وعن الشمس وعن نسمة الحياة التي بها يحيا كل ما في السماء وفي الأرض؟

وعندما لا يبقى في الأرض "أجنبي" بل يصبح الكل "وطنيين" فقد زالت الحدود والسدود. فلا جوازات سفر، ولا جمارك، ولا قيود على تبادل الأفكار والبضائع، ولا شرائع تجعل من الأرض زرائب محصّنة ومن البشر بهائم تساق بالسوط والعصا، وتدرب على النباح والنطاح، وتحقن بالكره لكل زريبة غير زريبتها وبالحذر من كل بهيمة لا تتسم بسمة كسماتها. أليس من الخزي الذي ما بعده خزي والعار الذي ما فوقه عار أن يعامل الإنسان معاملة البعير والحصان والحمار والكبش والتيس، فيوسم هذا القطيع من البشر بهذه السمة وهذاك بهاتيك مثلما توسم قطعان الماشية سواء بسواء؟ أما كفى الإنسان سمة أنه إنسان، وأنه بتركيبه الجسداني والنفساني يتميَّز أبدًا عن أخيه الإنسان وعن كل ما احتواه الكون من الأشكال والألوان؟

ومتى أتيح للناس أن يتخالطوا ويتعارفوا بغير حاجب أو رقيب ومن غير أن تكون فوق رؤوسهم سيوف مسلطة سهل عليهم أن يخلقوا لغة يتفاهمون بها. فبشرية خلقت مئات اللغات على مرِّ العصور لا يصعب عليها أن تخلق لغة واحدة في جيل واحد. وإذا ذاك فما أقرب الإنسان من الإنسان، وما أجمل هذه الأرض مسرحًا نمثل عليه جميعنا رواية الجهاد البشري، بل ما أبدع الزمان رقًّا نسجل فيه فتوحات الفكر والخيال والإرادة في دنيا التعاون والتآخي للحظوة بغبطة الخير والحق والحرية!

أما الديانات البشرية فإن عزَّ توحيدها من حيث الطقس والعقيدة فلن يعز على الإنسان الطامح إلى الحرية الخلاقة أن ينبذ منه كل ما من شأنه أن يفصل الإنسان عن الإنسان وعن سائر الأكوان وأن يعرقل خطاه نحو هدفه الأسمى.

فكل دين لا يساعد الإنسان في حربه مع الغريزة الحيوانية ليس جديرًا بالإنسان. وكل دين يعمل على انغلاق الإنسان لا على انطلاقه ليس بالدين الذي يليق بنا أن نتخذه نبراسًا لنا ودليلاً إلى الحرية. ومن كانت الحرية الخلاقة هدفه من حياته شقَّ عليه أن يدين بإله يذكي في قلوب عابديه نار الحقد على كل من حالفهم في طريقة عبادته.

إنه لمن الشنار علينا أن تدعونا الحياة في كل نبرة من نبراتها وفي كل نبضة من نبضاتها إلى الانعتاق من القيود والسدود وأن ترانا لا نحطم قيدًا حتى نخلق لأنفسنا قيودًا، ولا ندكُّ سدًا حتى نقيم بأيدينا سدودًا. وحسبك أن تفكِّر في عالم نحن فيه اليوم وأن تحصي ما خلقناه فيه من قيود وسدود لتعرف أن الإنسان يكبِّل نفسه بنفسه ثم يصيح بأعلى صوته: واحريتاه! وكيف للحرية أن تسكن عالمًا مدجَّجًا بكل أصناف السلاح ضدَّ الحرية؟ أليس من المضحك المبكي أن يطلب الحرية بلسانه من أوصد قلبه وفكره وبيته وجيبه ضد كل ما من شأنه أن يقوده إلى الحرية؟

والأغرب من ذلك أن تسمع إنسانية اليوم تطلب السلم بصوت واحد. كأن السلم كان يومًا من الأيام هدفًا يرتجى لذاته وفي ذاته. فمتى يدرك الناس أن السلم ظلٌّ لا جسد، ونتيجة لا سبب. فحيثما الجسد هنالك الظل، وحيثما السبب هنالك النتيجة. والسلم، كالعافية، نتيجة لازمة لحياة جسدية وفكرية وعاطفية صالحة. والسلم ظلٌّ لجسد هو البشرية المنطلقة من قيود الغريزة الحيوانية، ومن حدود العرق والجنس ومن سدود اللغات والأوطان والأديان.

تلك هي البشرية الحديثة الجديدة التي تتمخض عنها بشرية اليوم، والتي لن يدركها هذا الجيل ولا الذي بعده إلا بالخيال. ولكنها آتية من غير شك. وهي حقيقة راهنة في ضمير الحياة التي دأبها التجدد، والتي تأبى الانحباس في أي سجن مهما يكن فسيحًا وبديع الهندسة.

وإني لتعروني قشعريرة إذا ما حاولت أن أصور أوجاع المخاض التي ستعرفها بشرية نحن منها قبل أن تلد البشرية العتيدة. مثلما تعروني رهبة إذا ما حاولت أن أتخيل البشرية الجديدة وما ستخلفه من العجائب والغرائب. فليس من حدٍّ لما يستطيع الإنسان خلقه إذا هو انصب بكل فكره أو هدف من الأهداف، وما من هدف يليق بالإنسانية الموحدة أسمى من التغلب على غرائزها الحيوانية والانعتاق من القيود والحدود التي يفرضها عليها جهل الطفولة والحداثة وتأباها كرامة الشباب والرجولة.

*** *** ***

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 إضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود