جولة في معامل الحياة

 

حسين شاويش

 

منذ جلجامش، على الأقل، نعرف يقينًا أن السؤال عن طبيعة الحياة وما يتعلق به من فهم الموت أو سر الخلود كان يؤرق البشرية. نعرف بالدرجة نفسها أنه كان منبعًا خصبًا للتأملات ومصدرًا لا ينضب للشعر والكتابة، بل وربما للسعادة والبؤس أو لاستغلال المشعوذين وتخرُّصات الفلاسفة والكهنة والأطباء، المخلص منهم تمامًا كمن قتله الجشع. وقد قارب الفلاسفة مفهوم الحياة بالوسائل نفسها التي حاولوا فيها فهم المفاهيم الأخرى كالمقاربة الأنطولوجية، أي السؤال عن الوجود بأقدم معانيه وأكثرها حجرية، أو الفينومينولوجيا، أو الوجودية، على ما في هاتين الأخيرتين من علاقات قربى. الكتب مليئة بأخبار المعارك الفكرية والتحديات التي وجِّهت إلى الباحثين بأن يستطيعوا أن "يدخلوا الحياة إلى أنابيب اختبارهم" طالما أنها "ظاهرة مادية" كغيرها. في ما يأتي محاولة لطرح مسألة الحياة لا بمناهج الفلسفة الجامدة، ولكن بطرقها هي نفسها.

"إنه يحيا... إنه يحيا"، بهذه الكلمات علَّقت صحيفة ألمانية على إعلان عالم الجينات كريغ فنتر Craig Venter نجاحه في صنع أول سلسلة وراثية كاملة DNA من عناصر كيميائية أولية غير حية وفي جعل تلك السلسلة تتكاثر بمجرد "ارتدائها" معطفًا بروتينيًا.

الحياة كيمياء

من الواضح أن الصحيفة، والعالم أيضًا، اعتبرا أن تكاثر البكتيريا الحاوية للجينات الصناعية هو علامة الحياة. "دي تسايت"، كبرى صحف النخبة الألمانية، التي توزع اهتمامها بين ثقافة الكتب وثقافة الحياة بالتساوي، جعلت من ذلك الخبر عنوانها الرئيسي وصاغته على الشكل الآتي: ما هي الحياة؟ تحت ذلك السؤال التقليدي جاء التعليق بخط عريض: "لقد خلق الباحثون للمرة الأولى عضوية اصطناعية. الآن يستطيع الإنسان أن يلعب دور الخالق" (عدد الأسبوع الأخير من أيار الماضي). فنتر نفسه لم يكن أقل تواضعًا، فقد جعل من إنجازه في مقابلة مع مجلة ساينس SCIENCE انقلابًا ذا قيمة لا علمية فحسب، بل وفلسفية أيضًا. "المشكِّكون الجدِّيون" لم يطعنوا لا بمدى صدقية الدعوى ولا بأهمية الحدث، ولكنهم أبدوا "قلقًا أخلاقيًا" بالنظر إلى الإمكانات المخيفة لسوء استخدام هذا الاكتشاف.

لكن السؤال الذي لم يطرحه أحد، ربما بسبب هول الخبر، هو: إذا كان السؤال الأنطولوجي للحياة قد اقترب بهذه الطريقة من الحل فلماذا يتضاعف تعقيد "أسئلتها الأخرى"؟ أليس الوجود الملموس هو "مادة" الوجودات الأخرى؟

الحياة كرنفالاً

الحياة كرنفالاً

الشهر نفسه الذي أعلن فيه فنتر "انقلابه المتعدد الرؤوس"، هو شهر الكرنفالات البرلينية، يمينًا ويسارًا! أكبرها يستحق الذكر فعلاً، وخصوصًا لدى محاولة التعامل مع "مفهوم الحياة". اسمه الرسمي "كرنفال الثقافات"، وهو مخلص لاسمه فعلاً، فالمشاهد يسأل نفسه بعد كل عرض إن كانت قد بقيت ثقافة في الأرض لم تعرض هنا أزياءها ورقصاتها إلخ.

من كرنفال الثقافات في برلين: امرأة كرتونية هائلة تتصدر إحدى المركبات

فرق الكرنفال هي مجموعات متطوعة تسجِّل نفسها قبل فترة كافية لدى اللجنة التنظيمية. ويكاد يكون هذا التسجيل هو التزامها الرسمي الوحيد، فكل ما تبقى من عمل تنجزه بنفسها وبالطريقة التي تعجبها. وعلى رغم أن الكل يمارس عمليًا غريزة الاستعراض، إلا أن تأمل طريقة الاستعراض لدى كل مجموعة ثقافية هو درس في حد ذاته في علم الإنثروبولوجيا. وقد أردت مرة أن أعرف إحساس هؤلاء بطريقة تجريبية، فلبست جلابية شامية و"حطة" وعقالاً ودخلت في الجمع من دون تسجيل مسبق، وهو ما لم يسألني عنه أحد على كل حال. استسلمت تحت تأثير كاميرات المشاهدين إلى إحساس غريب فعلاً بـ"تخارج الذات" بحسب تعبير هيغل. إنه شعور يشبه الخروج المفاجئ من كهف مظلم إلى شمس ساطعة. سألت امرأة كولومبية ابتعدت عن فرقتها قليلاً لترتاح فأخبرتني أن هذا الكرنفال هو المناسبة السنوية الوحيدة التي تحس فيها "بأنه من الجميل أن تكون كولومبيًا حتى ولو كنت في ألمانيا". عندما اقتربت من عجوز ألماني كان جالسًا في مقهى على رصيف الشارع يشرب البيرة هتف بي "سالام ألايكم"، فسألته فورًا عن رأيه في ما يرى، فقال "هذه هي الحياة".

أخيرًا فلعل الكرنفال البرليني يعيد إلى مفهوم Elan vital أي القوة أو الدفق الحيوي البرغسوني، شيئًا من الكرامة الفلسفية بعدما رمى به عالم الجينات كريغ فنتر في سلة مهملات المختبر.

الحياة إضرابًا عن "وسائل الحياة"

فراس مراغي، فلسطيني مضرب عن الطعام أمام السفارة الإسرائيلية في برلين

السفارة الإسرائيلية في برلين هي مبنى هائل كما أنها قطعة نادرة من فن العمارة الحديثة بلا شك. غير أن ذلك لن يثير الفضول وحده، لو لم يكن المبنى محاطًا بعدد كبير من رجال الشرطة، ولو لم يجلس تحت شجرة مقابلة رجل في نهاية العقد الرابع من العمر وخلفه تنتصب لوحة تتضمن البند من إعلان حقوق الإنسان الذي يؤكد حق كل إنسان في مغادرة وطنه والعودة إليه كلما أراد. على الجانب الآخر من الشجرة تستند مظلَّتان مطويَّتان تلعبان دور الخيمة عندما تمطر السماء، كما تتدلى على جذعها قربة مليئة بالماء. وثمة كمية من عبوات الماء المعدني البلاستيكية متناثرة هنا وهناك.

قال لي فراس مراغي إنه مضرب عن الطعام منذ خمسة وعشرين يومًا لأن وزارة الداخلية الصهيونية ترفض منح طفلته زينب ذات السبعة أشهر أوراق الإقامة المقدسية التي يملكها هو. وهذا كما يعرف القاصي والداني، جزء من خطة التطهير العرقي للقدس لتخلو من الفلسطينيين. بعد أسبوعين من بدء إضرابه بدأت الصحافة الألمانية تهتم بالموضوع.

اليوم، الجمعة، عبَّر نواب من حزبين برلمانيين عن تضامنهم. فراس يحس أن هذا هو غذاؤه الحقيقي.

يجلس هناك مقابل كاميرا منصوبة على حائط السفارة ومصوَّبة في اتجاهه. "مجرَّد جلوسي هنا من دون طعام أمام هذه الكاميرا يوصل الرسالة". أتذكَّر معنى كلمة أغذية في الألمانية Lebensmittel وترجمتها الحرفية "وسائل الحياة". أسأله: "ألا تجد شيئًا من العلاقة بين الإضراب عن الطعام والإضراب عن الحياة؟" فيحدثني عن الشهر الذي سبق قراره الإضراب والذي كان لا يطاق بسبب الإحساس بالقهر والذل والاقتلاع النهائي من الوطن والعائلة. "كان ذلك هو الموت أما الآن فأنا أحيا حقًا". هذا كان جوابه.

الحياة صمغًا ومسامير

متحف الفن الحديث والمعاصر في ستراسبور، مقر البرلمان الأوربي، يستضيف هذه الأيام النحَّات الإنكليزي ريتشارد ديكن. وهو "يستضيفه كلَّه"، أي بمنحوتاته الجبَّارة ورسوماته وحتى رسائل أمه إليه. إن الفنان "يحيا" إذًا في المتحف. بل إنها تكاد تكون حياة عارية تذكِّر بالاستعراض الذي "تحياه" عارضات الكرنفال البرليني، مع الفرق أن كائنات ديكن تمارس "الإغواء" بطريقة أخرى تتمثَّل في عدم ستر عورات العمل منذ الخطوة الأولى لتنفيذه. يحرص النحَّات على إبراز المفاصل التي تصل القطع الخشبية بمساميرها وصمغها. أعماله كائنات بالغة تعرض عليك مراحل طفولتها، تماما كما هي. حتى في تعريفه للفن، لا يلجأ الرجل إلى أي عمليات تجميل: "الفن هو مهنة صنع أشياء غير مفيدة ولا وظيفة مادية لها".

ثمرة الشمال، لريتشارد ديكن

تعليقًا على منحوتة السيراميك "ثمرة الشمال"، يقول: "كل النحاتين يبدأون من كتلة غير متميزة من المادة فيقطعون منها ويضغطون أو ينشرون. غير أن المثير في تلك الكتلة قبل العمل عليها هو ذلك التناقض بين انغلاقها وصمتها المطلقين من ناحية، وتلك الإمكانات التشكيلية اللانهائية الكامنة فيها". ذكَّرتني "كتلته" تلك بالجنين البشري الذي يحمل "إمكانات الحياة" اللانهائية. في منحوتة "لاوكون" تتماثل الحيَّات والرجال الثلاثة الذين تتحدَّث عنهم الأسطورة اليونانية التي يحمل العمل اسمها. في الأسطورة تتصارع هذه الكائنات، وفي المنحوتة تتوحَّد، وكأن المطلوب هو رؤية الجوهر المشترك: الحياة. لنتذكر أن النسخة الإغريقية من أسطورة لاوكون تجعل الحيَّات مرسلة من الآلهة لتعاقبه بسبب مضاجعة امرأته في معبد أبولو، وذلك بقتل ابنيه. ديكن يعيد الحياة الى الجميع بطريقة تذكِّر بـ"الذنب": الأجساد كلها تتوحَّد في حيَّة جبارة.

الحياة والموت الرابض تحت أكمات الجلد

إذا كان ديكن يؤكِّد بكل الطرق رغبته بنزع كل الأقنعة عن حياة كائناته، فإن الأعمال الفنية في "البيرلينال" السنوي الحالي لا تحتاج إلى هذا التأكيد. فهي كلها تقريبًا مقتطعة مباشرة من الحياة، ومن دون تزويق. أعمال الخمسين فنانًا المشاركين في مهرجان برلين الفني الأكبر والموزَّعة على ستة معارض كبرى في المدينة، هي إنذار بهجوم جديد لواقعية يمكن أن نسمِّيها "المادية الحية" من دون المخاطرة بالابتعاد كثيرًا عن الموضوعية.

الحياة موتًا كامنًا، من أعمال برلينال، 2010

في الصورة المرفقة بهذا المقال يرى القارئ رجلاً يرقد في صندوق زجاجي وقد كتبت على جلده أسماء الأمراض التي تهاجم عادةً الأعضاء الواقعة تحت تلك المنطقة من الجلد. تتحوَّل هنا الحياة قناعًا هائلاً يتربَّص تحته ما لا يحصى من أشكال الموت. في صورة أخرى يرى القارئ غرفة ضخمة صفَّت فيها بشكل فوضوي أجهزة تلفزيون تعرض فيديوهات مختلفة وعديدة إلى درجة فقدان التركيز تمامًا. الشعور البدئي لدى دخول القاعة المظلمة هو الولوج إلى مجتمع صغير شديد الحيوية، لكنك لا تلبث أن ترى نفسك مطالبًا بالخيار ما بين الذوبان التام في هذه "الحياة المتلفزة" أو الهروب. غير أن عروضًا أخرى، وخصوصًا أعمال الفيديو، تعيدك إلى المواقف الحدية في الحياة وتبقيك هناك ثم لا تغادرك، حتى ولو غادرتها. حتى أمكنة العرض نفسها لم تكن بلا دلالة. فقد اختار المنظمون للبيرلينال الحالي لمعظم الأعمال الحي البرليني نفسه الذي تجري في شوارعه قافلة كرنفال الثقافات الذي تحدثنا عنه أعلاه. السبب هو أنه الحي "الأكثر حياة" لأنه الأكثر اكتظاظًا بالطبقات الدنيا من المجتمع وخصوصًا الأجانب، وهو "كرويتسبرغ".

أخيرًا فلعل "الحسم المخبري" للسؤال حول الأساس الأنطولوجي للحياة بنزعه القناع الميتافيزيقي عنها من شأنه أن يؤدي إلى دينامية تنزع أقنعة أخرى ليست أقل إضلالاً، من دون أن تتخلى الحياة في الضرورة عن كرنفاليتها.

حياة بخطوطها العريضة، متحف ستراسبور

*** *** ***

النهار

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 إضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود