الرواية التاريخية العربية: زمن الازدهار٭

 

قاسم عبده قاسم٭٭

 

وهكذا كانت الرواية، في نشأتها، تجسيدًا لعقلانية الاستنارة التي انبنى عليها مشروع النهضة في محاولة تأصيل الوعي المدني وإشاعته بين أبناء الأمة، وفي سعيه إلى استبدال وعي المدينة الحديثة، متعددة الجنسيات والثقافات والاتجاهات، بوعي المدينة القديمة المنغلقة على نفسها في نفورها من الآخر. وبالقدر نفسه كانت الرواية مقترنة بالتسامح الذي يواجه التعصب، والعقل الذي يواجه النقل، والابتداع الذي يواجه الإتباع، والمستقبل الواعد الذي يواجه ثوابت الحاضر، فكانت دعوة إلى التغيير وتمثيلاً له.

بحثًا عن سر التقدم وتأكيدًا له، وكشفًا عن عناصر التخلف القمعية ومواجهة لها في مستوياتها المتعددة وتجلياتها المتباينة. ولذلك بدت منذ اللحظة الأولى لنقطة بدايتها كما لو كانت تمرد العقل على جمود النقل، ومواجهة جذرية لأساليب القمع التي لم يكف الإتباع عن ممارستها. (جابر عصفور، زمن الرواية).

هذا النوع الأدبي المدهش الذي يجسد أقدم ممارسات الإنسان الثقافية "الحكي"، والذي يستمد اسمه من الحكي "الرواية"، كان ولا يزال الأجمل والأقوى والأكثر انتشارًا بين الأنواع الأدبية. ولعل هذا ما جعل ناقدًا كبيرًا في وزن جابر عصفور، وكثيرين غيره، يلقون على عاتق الرواية مسؤولية رئيسية في محاولات النهضة العربية. فقد كانت الرواية منذ الحرب العالمية الثانية وحتى الآن الأداة الرئيسية في محاولة تغيير الواقع العربي نحو الأفضل؛ فهي "تجسيد لعقلانية الاستنارة"، وهي رمز "التسامح في مواجهة التعصب"، وهي "دعوة إلى التغيير"، وهي "مواجهة جذرية لأساليب القمع" على حد تعبير جابر عصفور.

وربما تكون الرواية قادرة على أداء هذه المهمة؛ فقد اعتلت عرش الإبداع الأدبي، وصار جمهور الرواية في العالم العربي الأكثر عددًا والأفضل نوعًا بين جمهور القراء بشكل عام. لقد أزاحت الرواية العربية الشعر عن عرشه الذي تربع عليه على مدى قرون عديدة لأسباب تاريخية وسياسية وثقافية كثيرة.

ومن ناحية أخرى، لم يكن الاحتفاء بالرواية مقصورًا على الثقافة العربية وحدها بطبيعة الحال؛ وإنما كان في الحقيقة جزءًا من ظاهرة الاهتمام العالمي بالرواية، وهو أمر تشهد به حركة نشر الروايات بمختلف اللغات، وأعداد الطبعات، وتكاثر الترجمات للروايات الصادرة في شتى أنحاء العالم المعاصر، وعلى مستوى القراء وعلى مستوى النقاد وعلى مستوى الجوائز العالمية.

ويمكن تفسير ذلك، جزئيًا، في ضوء الحقيقة القائلة إن الرواية تمثل الشكل النهائي، حتى الآن، لأقدم ممارسة ثقافية عرفها الانسان في تاريخه: أي الحكي. لقد كان الحكي الوسيلة المثلى في عصور الشفاهية قبل معرفة الكتابة، وبقيت الشفاهية تؤدي دورها بعد ظهور الكتابة وتطورها، وبعد اختراع الطباعة وظهور الكتاب، وحتى بعد ظهور الوسائط الالكترونية. وفي أثناء هذه التطورات كلها ظل الحكي ممارسة تحظى بالقبول والترحيب، بل إن الشفاهية (والحكي قرينها) بقيت الوسيلة الأقوى والأكثر انتشارًا لنقل المعارف والأفكار والمشاعر والأخبار. ولأن الحكي يمثل القاعدة التي تنطلق منها الرواية، ولأنه يمثل أيضًا القاعدة التي يقوم عليها السرد التاريخي في أشكاله المختلفة، فإننا نجد أنفسنا بالضرورة أمام سؤال يطرح نفسه عن طبيعة العلاقة بين التاريخ والرواية من ناحية، وطبيعة الرواية التاريخية ودورها من ناحية أخرى.

السرد

وإذا كان السرد التاريخي والحكي الروائي ينبعان من نبع واحد، فإنهما يؤديان الوظيفة الاجتماعية–الثقافية نفسها أيضًا. فالرغبة في المعرفة رغبة إنسانية تكاد أن تكون رغبة غريزية لدى البشر. وإذا كان السرد التاريخي يلبي رغبة الإنسان على مستوى الفرد وعلى مستوى النوع في معرفة ما جرى في الماضي، ومعرفة أصول الأشياء والظواهر والجماعات البشرية، فإن الحكي الروائي يحقق المطالب الإنسانية في المتعة والمعرفة معًا. ولعل هذا مما يجعلنا نقول إن التاريخ يحمل في بنيته جزءًا روائيًا مهمًا وحيًّا مهما حاول المؤرخون حجبه وراء أستار الأكاديمية والتحليلات والمقارنات والهوامش وكل أشكال البحث العلمي وقوالبه. كما أن الرواية تحمل عناصر تاريخية واضحة في بنائها. فإذا كان المؤرخ مضطرًا إلى أن يحكى الحدث التاريخي، حتى وهو يحاول تحليل عناصره وفهمها وفقًا لقوانين السببية، فإن الروائي مجبر على أن "يرصد" و"يسجل" الوقائع التاريخية في البيئة التي تدور بها أحداث روايته، حتى وهو ينشيء بنيانه الروائي وفقًا لقدراته الإبداعية وخياله الفني.

وفي تصوري أن هذه كانت الأرضية التي بني عليها الروائيون "الرواية التاريخية" التي جمعت بين حقائق التاريخ وإبداعات الرواية في إطار واحد. وإذا كانت الرواية عمومًا، بكل أشكالها ومسمياتها التي اصطلح عليها النقاد، عملاً يتناول واقع الحياة الإنسانية ويسجلها بشكل أو بآخر، وإذا كانت الرواية تدور حول فرد أو جماعة، أو حدث ما، أو ظاهرة إنسانية، فإن الروائي يتناول هذا الواقع من زاويته الخاصة تناولاً فنيًا، ومن موقعه الاجتماعي، ومن موقفه الفكري. ومن الطبيعي أن يستخدم كل وسائله وأدواته الفنية وقدراته الإبداعية لتقديم رؤيته؛ من خلال الحوار، ومن خلال الرمز، ومن خلال اللغة نفسها، لكي يتواصل مع الجماعة التي يوجه إليها خطابه. بيد أن الروائي قد يجد نفسه مضطرًا إلى مخاطبة الحاضر من خلال الماضي، وهنا يجد في التاريخ مجالاً رحبًا للتعبير عن نفسه عن طريق الرواية التاريخية. ولا بد من القول إن التاريخ ثروة روائية هائلة ومتنوعة تتمثل في التجارب الإنسانية الغنية التي تفوق أي قدرة خيالية فردية على الإبداع في كل الأحوال. وإذا كان الروائي الذي يتعامل مع الحاضر يعيش هذا الحاضر، فانه بالضرورة لا يستطيع أن يرى هذا الحاضر من منظور شامل، وسوف تكون رؤيته بالضرورة أيضًا جزئية بسبب القصور الفردي البشري. صحيح أن الفنان يرى من منظور موهبته التي لا تتوافر للإنسان العادي، ولكن الرواية عادة ما تكون متمركزة حول الجزئي لتكون بمنزلة الشرفة التي يطل منها الروائي على الكل. ولكن الروائي الذي يتخذ من التاريخ مجالاً لعمله الفني يجد في متناوله ما يشبه المخزن الهائل الذي يحوي تجارب إنسانية لامتناهية في تنوعها وثرائها. فالتاريخ، بوصفه سجل النشاط الإنساني متنوع الوجوه والاتجاهات، وبوصفه رصدًا لحركة الإنسان في الكون بأبعادها الثلاثية (الإنسان، والزمان، والمكان) يشبه رواية هائلة لكنها تخلو من الخيال الفني، كما أن الرواية من ناحية أخرى ترصد التفاعلات داخل المنظومة الثلاثية نفسها لكنها تستعين بالخيال الفني لكي تضفي على التجربة الإنسانية تلك الحيوية التي تفتقر إليها الكتابات التاريخية. والتاريخ في التحليل الأخير يحمل تجربة الإنسان في سياقها الاجتماعي المحكوم بإطار الزمن وحدود المكان، وكذلك الرواية في التحليل الأخير تحمل جزءًا من تجربة الإنسان في سياقها الاجتماعي المحكوم بإطار الزمان وحدود المكان.

بيد أن التاريخ يحمل ذلك التنوع المثير الذي ميز التجربة الإنسانية في رحلة الإنسان التي لم تتم بعد عبر الزمان. ومن ناحية أخرى، تجد الرواية التاريخية في هذا التنوع المثير في التاريخ مادتها الخام التي ينسج منها الروائي روايته بحسب رؤيته الفنية وقدرته الإبداعية. فالتجارب التاريخية التي يوفرها التاريخ للروائي تجارب ناضجة ومكتملة ونهائية من ناحية، وأسبابها ونتائجها معروفة من ناحية أخرى. كما أن الشخصيات والأحداث والمواقف التي يتحدث عنها التاريخ تمثل معينًا لا ينضب أمام كاتب الرواية التاريخية؛ مهما كانت الدوافع والأسباب وراء اختياره الرواية التاريخية.

الشخصيات

كذلك يوفر التاريخ، بما فيه من عناصر روائية وسردية ذاتية، إطارًا سرديًا جاهزًا أو شبه جاهز يمكن للروائي أن يفيد منه بالشكل الذي يراه لبناء عمله الفني. وبقدر ما تتنوع الشخصيات الساكنة في التجارب التاريخية المختلفة على مر العصور، وبقدر ما تتنوع مواقفها الإنسانية والعاطفية والوجدانية والأخلاقية والبطولية والثقافية والدينية... وغيرها، بقدر ما تتسع حرية كاتب الرواية التاريخية في الاختيار والتوظيف الفني للشخصيات في الرواية، كما أن الأحداث التاريخية الحقيقية حبلى بالإمكانات الدرامية والروائية التي تتحظى خيال أي مؤلف فرد، ويمكن للروائي أن يفيد من هذه الأحداث التاريخية بقدر استفادته من الشخصيات التاريخية؛ فإذا توج عمله بالنجاح في الموازنة بين الصدق الفني والصدق التاريخي، على نحو ما فعله جمال الغيطاني في الزيني بركات مثلاً، تجسد النموذج الأمثل للرواية التاريخية.

وهنا يواجهنا السؤال المتعلق بطبيعة العلاقة بين الأدب والتاريخ. وعلى الرغم من أن السطور السابقة قد تناولت بعض جوانب هذه العلاقة في الحديث عن العلاقة بين الرواية والتاريخ، باعتبار أن الرواية نوع من الأنواع الأدبية الكثيرة، فإن هناك نوعًا من الربطة العضوية التي تجمع بين الأدب والتاريخ؛ فمنذ بداية تاريخ التاريخ، وتاريخ الأدب، كانت تلك الرابطة العضوية قائمة. ومنذ تلك البدايات الأولى قامت بين التاريخ والأدب أيضًا علاقة جدلية بحيث يعتمد كل منهما على الآخر ويؤثر فيه ويتأثر به. فقد كانت التسجيلات التاريخية الأولى نوعًا من الأدب الذي اتخذ شكل الملاحم والأساطير لدى كل الأمم، وكان هذا ضروريًا لترقيع النقص في ذاكرة البشرية قبل معرفة الكتابة، ومن ناحية أخرى حملت الإبداعات البشرية الكبرى قدرًا كبيرًا من التاريخ في طياتها. ومن يبحث عن التاريخ فيها سيجد الكثير من الأدب ومن يبحث عن الأدب فيها سيجد الكثير من التاريخ، وفي عصور الكتابة لم تخل كتب التاريخ من المادة الأدبية: نثرًا أو شعرًا، كما أن كتب الأدب لم تخل من الإشارات التاريخية، والمادة التاريخية الخالصة والدلالات التاريخية الضمنية. لقد ظلت العلاقة بين الأدب والتاريخ على امتداد تاريخ الثقافة الإنسانية علاقة عضوية. وفي المجالات الدراسية بقي الأدب والتاريخ متصلين غير منفصلين، ولم يحدث الفصل بينهما باعتبارهما نظامين دراسيين مستقلين إلا في وقت قريب نسبيًا.

بيد أن هذا الفصل المصطنع بينهما لم يترجم إلى قطيعة كاملة ولم يكن ممكنًا أن يحدث هذا بطبيعة الحال. فالتاريخ يبقى مصدر الإلهام للأدباء والفنانين، كما أنه معين لا ينضب للشعراء والأدباء على اختلاف مشاربهم وميادين عملهم: شعرًا ونثرًا، مسرحًا وقصة ورواية لسبب بسيط هو أن التاريخ يحمل التجربة الإنسانية في الكون بثرائها وتنوعها وحيويتها. وعلى الجانب الآخر لا تزال الإبداعات الأدبية بأشكالها وفنونها المختلفة من المصادر التاريخية المهمة التي لا يمكن للمؤرخين تجاهلها، لأن هذه الإبداعات جزء عضوي من التجربة الإنسانية في الكون، وهي مجال الدراسة التاريخية. وليس بوسعنا أن نتصور كيف يمكن فهم تاريخ أي جماعة إنسانية، في أي زمان، وفي أي مكان، من دون التعرف على فنونها وآدابها التي تعبر عن روحها، وتحمل آمالها وتطلعاتها، وتعبر عن نجاحها وإخفاقاتها، كما تكشف عن رؤيتها لذاتها وللآخر، وللعالم الذي تعيش في رحابه، ودورها في هذا العالم.

هذه العلاقة العضوية بين الأدب والتاريخ تتجلى بأوضح صورها وتتجسد في الرواية التاريخية؛ لأنها ببساطة شكل أدبي موضوعه تاريخي. ولسنا هنا بصدد تعريف الرواية التاريخية وإنما نحاول رصد وظيفتها الثقافية الاجتماعية من ناحية، ومدى تعبيرها عن المجتمع من ناحية أخرى. وعلى الرغم من أن كثيرًا من الباحثين يربطون الرواية في شكلها الحديث بالتراث الأدبي الأوروبي، فلا فيجب ألا ننسى حقيقة أن فن الحكي فن عريق في تاريخ الثقافة العربية التي أنتجت أجمل السرديات في تاريخ الإنسانية، ومن ثم فإن الأصول العربية تقف وراء ازدهار الرواية العربية الحديثة.

وقد أنتج الأدب العربي الحديث عددًا كبيرًا من الروايات التاريخية اعتمادًا على تراثه التاريخي الممتد والثري. ومنذ البداية احتلت الرواية التاريخية العربية مكانة ممتازة بين فنون الإبداع الأدبي. وبطبيعة الحال كانت وظيفتها الثقافية الاجتماعية آنذاك تختلف عن وظيفتها الحالية، فقد أشار جورجي زيدان إلى أن عامة القراء لا يقبلون على قراءة التاريخ إلا إذا كان ممزوجًا بالخيال، أي أنه وظف الفن الروائي في خدمة المعرفة التاريخية، وقد سار على نهجه كثير من الروائيين الأوائل.

المؤرخ والروائي

وعلى الرغم من أن وظيفة الرواية التاريخية العربية قد تطورت، وتغيرت، منذ ذلك الحين، فإنه يبدو من الضروري أن نتوقف لنلقي نظرة على الفرق بين دور المؤرخ ودور الروائي، مع تسليمنا بداية بأن الشكل الروائي للتاريخ يلقى استجابة أوسع ويحظى بانتشار أكبر من الكتابة التاريخية التقليدية. حقيقة أن كلاً منهما يعمل في إطار المنظومة الثلاثية نفسها (الإنسان الزمان المكان)، ولكن نظرة كل منهما إلى هذه المنظومة وتعامله معها تختلف عن الآخر: فالزمان هو الذي يضفي على الحادثة التاريخية "تاريخيتها" ومن هنا لا يمكن تصور التاريخ خارج الزمن، وعلى المؤرخ أن يراعي التحديد الزمني الدقيق في دراسته، ولكن الروائي يتمتع بحرية نسبية في الحركة داخل الإطار الزمني لخدمة غرضه الفني، بيد أنه لا يستطيع التحرر تمامًا من السياق الزمني العام لروايته ما دام قد اختار التاريخ مجالاً لعمله. وهو لا يستطيع، مثلاً، أن يجعل الحملة الفرنسية في العصر الروماني أو الفرعوني.

أما المكان، فهو مسرح التاريخ الذي تجرى عليه أحداثه ووقائعه، ولذلك يهتم المؤرخ بدراسة البيئة وتأثيرها على الظاهرة التاريخية، وبينما يمكن للروائي أن يمارس حرية الخيال والإبداع بالشكل الذي يخدم البناء الفني لعمله، فإنه لا يستطيع "اختراع" المكان أو استبداله، لأنه ألزم نفسه بنوع أدبي محدد هو الرواية التاريخية.

وإذا كان الإنسان صاحب الفعل التاريخي والفاعل في الرواية التاريخية أيضًا، فإن موقف المؤرخ يختلف عن موقف الروائي منه. فالمؤرخ يدرس الإنسان في سياقه الاجتماعي التاريخي من حيث الفعل التاريخي وحده، ونتائج هذا الفعل على المستوى المادي الملموس الذي يمكن البرهنة عليه بالأدلة التاريخية. ولا يمكن للمؤرخ أن يعرف الدوافع النفسية والوجدانية بأي قدر من التأكيد: وهنا يشكِّل الإنسان مشكلة للمؤرخ الذي يطرح السؤال الذي يبدأ بكلمة "لماذا؟".

ولكن الروائي في تعامله مع الإنسان لا يواجه هذه المشكلة، فالإنسان أمامه أطوع بنانًا. ذلك أن الروائي "لا يدرس" الإنسان في روايته، ولكنه يجعله يحمل أفكاره ورؤيته، ويعيد صياغته عاطفيًا من خلال الحوار والمواقف الفرعية التي يبتدعها ليحمل رسالته الفنية، بل إنه يبتدع الشخصيات الروائية لكي يسد النقص الذي يعتور التاريخ عادة في هذه النواحي. وهو بذلك يقدم البعد الغائب في الكتابة التاريخية وهو البعد العاطفي والوجداني الذي تسكت عنه المصادر التاريخية عادة.

وقد أدى ذلك بالضرورة إلى استمرار الجدل في الدراسات التاريخية حول دور الإنسان في التاريخ. وبينما اختلف المؤرخون حول هذه المسألة وتعالى ضجيجهم، استغل الروائيون حرية الفن والإبداع ليقدموا الإنسان في الرواية التاريخية بالصورة التي يريدونها.

هذا التداخل بين الأدب والتاريخ على صفحات الرواية التاريخية يستوجب المصالحة بين "الصدق الفني" و"الصدق التاريخي"، وكلما نجحت هذه المصالحة زاد نجاح الرواية التاريخية. وهذا هو الفضل المشكور للرواية التاريخية، كما جسدته الروايات التاريخية الحقيقية، وكما تجسده ظاهرة ازدهار الرواية التاريخية العربية الآن. فالرواية التاريخية تقدم التاريخ من خلال صورة فنية كلية تبث روحًا في الجسد الذي يصوره التاريخ جامدًا باردًا بفضل العناصر الفنية المتنوعة التي يستخدمها الروائي، ومن خلال السرد والحوار وغيرها من الأدوات الروائية. وهو ما يختلف عن الصرامة التي تتسم بها الدراسة التاريخية الأكاديمية. وإذا كانت وظيفة المؤرخ قد تحولت من "رواية ما حدث" إلى محاولة فهم السبب وراء ما حدث ومحاولة الإجابة عن السؤال الذي يقول لماذا حدث ما حدث؟ فإن الروائي لم يكن مضطرًا إلى التفسير أو الإجابة عن أي أسئلة. وقد أدى تحول وظيفة المؤرخ على هذا النحو إلى النيل من "روائية التاريخ"، على حين بقيت للروائي ميزة الإفادة من التاريخ في بنيته الروائية.

وفي وسعنا أن نقدم نموذجين لـ"الرواية التاريخية" التي تتخذ من التاريخ مادتها الخام التي يشكل منها الروائي روايته التاريخية: وقد اخترت الأولى لمحمد فريد أبو حديد الذي يمثل مفهوم عصره للرواية التاريخية، والرواية الثانية كتبت بالفرنسية، وترجمت إلى العربية، لتمثل مفهوم الرواية التاريخية في ثقافة مغايرة، ولأنها تتناول موضوعًا من تاريخنا. والنموذج الأول رواية ابنة المملوك لمحمد فريد أبو حديد، التي نجد فيها الكثير من شروط الرواية التاريخية التي يتضافر فيها الصدق التاريخي مع الصدق الفني. ومن ناحية أخرى، تعكس صفحاتها هذا القدر الكبير من المعلومات التاريخية التي تشي بقدرة المؤلف العلمية (وهو أمر ضروري لمن يكتب الرواية التاريخية على أي حال). فقد اختار محمد فريد أبو حديد فترة حرجة من التاريخ المصري في مطلع القرن التاسع عشر، وهي الفترة التي شهدت صعود نجم محمد علي باشا، بعد أن اختاره المصريون حاكمًا بعد الفوضى السياسية التي أعقبت هزيمة الحملة الفرنسية وخروجها من مصر سنة 1081 م.. وقد اختار المؤلف أن يصف روايته بأنها "رواية تاريخية مصرية تمثل فجر نهضة مصر أيام محمد علي بين سنتي 1804 م. و1807 م..." وقد ألزم نفسه بهذا الوصف، فقد مزج بين الحقائق التاريخية والصياغة الفنية الروائية.

إذ تبدأ الرواية بالإشارة إلى حروب الدولة السعودية الأولى عندما يتحدث عن بداية قصة الحب التي تتمحور حولها الرواية، بين الفتى العربي الذي هرب من تلك الحروب وابنة الملوك التي أنقذته، وبذلك يبدأ التفاعل بين الإبداع الروائي والإطار التاريخي منذ الصفحات الأولى لكي يستمر على امتداد الرواية كلها. وفي ثنايا الرواية نجد عددًا من الشخصيات التاريخية الحقيقية التي سجلتها أقلام المؤرخين وقد أضفي عليها قلم الروائي الحيوية بفضل اللمسات الفنية التي وضعها على الشخصيات التاريخية الخارجة من بين سطور المصادر التاريخية. ومن ناحية أخرى، نجحت الرواية في تصوير حقائق الحياة السياسية وما اعتراها من صراعات لملء الفراغ السياسي قبل تعيين محمد علي، بعد عزل خورشيد باشا، ليكون أول حاكم يختاره الشعب بشكل مباشر في التاريخ الحديث. لقد حققت رواية ابنة المملوك المعادلة الجميلة التي تجمع بين عناصر الإبداع الأدبي وحقائق التاريخ عندما عالجت قصة حب مأساوية داخل الخيوط المتشابكة لأحداث فترة تاريخية حاسمة.

والنموذج الثاني رواية فرنسية كتبتها جنفياف شوفل صدرت بالفرنسية وترجمت للعربية بعنوان: صلاح الدين بطل الإسلام (بيروت، 1991 م.) ترجمة جورج أبي صالح.

وهذه الرواية عبارة عن سيرة ذاتية تخيلتها المؤلفة على لسان البطل نفسه. وربما يكون هذا أبرز الجوانب الخيالية التي ابتدعتها المؤلفة في الرواية كلها، فقد تخيلت أن صلاح الدين الأيوبي يحكي قصة حياته منذ يوم ولادته، ثم يعرض لما مر بحياته من أحداث كبيرة وصغيرة حتى يصل إلى سن الشباب ليجد نفسه في خضم نظام التربية والتعليم والتدريب الصارم الذي كان أمراء ذلك الزمان يخضعون له قبل توليهم مسؤوليات الحكم والإدارة والحرب. وربما يكون من الأفضل والأنسب أن نصف ما كتبته المؤلفة بأنه نوع من "رواية التاريخ" أكثر من كونه "رواية تاريخية" فقد كشفت الروائية عن معرفة واسعة بالتاريخ والجغرافيا في المنطقة العربية من ناحية، كما كشفت عن قدرة روائية فذة في استخدام هذه المعرفة التاريخية الجغرافية في سياق روائي من ناحية أخرى. فقد وظفت خيالها الروائي لمصلحة التاريخ على عكس ما يحدث في "الرواية التاريخية" عادة.

تبدو فصول الرواية بعناوينها المثيرة وهي تتصاعد في أحداثها بالشكل الذي جمع بين حبكة السرد الروائي وحقائق التاريخ، ثم تكتسي جمالاً تاريخيًا وفنيًا عندما تتبع صلاح الدين فارسًا في جيش عمه أسد الدين شيركوه، الذي أرسله نور الدين محمود لكي يتصدى للصليبيين على الأرض المصرية، حيث بزغ نجمه، وتبلورت شخصيته القيادية على المستوى السياسي والعسكري. وكشفت المؤلفة، مرة أخرى، عن قدراتها الفنية الكبيرة وعن حيادها العلمي، إذ أنها أوضحت تمامًا من خلال الفن والتاريخ، أبعاد الصراع بين الفرنج الصليبيين الذين جاءوا من مناطق بعيدة وغريبة لكي يستوطنوا أرض غيرهم، والعرب الذين دافعوا عن أرضهم التي وقع عليها عدوان الصليبيين.

هذه الطريقة الجديدة والجميلة لكتابة الرواية التاريخية، أو لرواية التاريخ في قالب روائي، هي التي ميزت هذه الرواية البديعة التي تذكرنا على الفور بروايات جمال الغيطاني التاريخية وخاصة الزيني بركات، ولأنها طريقة جميلة وجديدة فإن نتيجتها جاءت مدهشة تثير الإعجاب وتثري المعرفة في آن معًا. وربما كان من أسباب اختيارها هنا أنه قد لفت نظري بشدة أن الروايات التاريخية العربية لم تتناول فترة الحروب الصليبية على الرغم من أن هناك تشابهًا مثيرًا بين الحركة الصليبية في العصور الوسطى والحركة الصهيونية في العصر الحديث، سواء من حيث الطبيعة العدوانية لكل منهما، أو من حيث استغلالهما للدين، أو من حيث أهدافهما التوسعية، ومساندة الغرب الأوروبي لكل منهما.

سؤال

وهنا نجد أنفسنا في مواجهة سؤال، أو أسئلة، تطرح نفسها علينا بإلحاح عن سبب هذا الازدهار الحاصل في مجال الرواية التاريخية العربية، وهل يمكن أن نعزو هذا الازدهار إلى الظروف السياسية الداخلية في بلدان العالم العربي التي تتعثر فيها حرية الرأي والتعبير وغيرها من الحريات الأساسية للإنسان العربي؟ أم يمكن أن ننسبها إلى حالة "الجوع إلى التاريخ" الناجمة عن تدني مستوى الدرس التاريخي في المدارس والجامعات العربية من جهة، وعن التضليل والضلال الذي تمارسه أجهزة إعلامية كثيرة حول التاريخ العربي والإسلامي من جهة أخرى؟ أم أننا يمكن أن نفسر ازدهار الرواية التاريخية العربية في ضوء عجز الكتابة التاريخية التقليدية عن تلبية حاجات الناس المعرفية؟ وهل يمكن أن نفسر هذا الازدهار في ضوء نجاح الدراما التاريخية في التلفزيون واجتذابها عددًا كبيرًا من المشاهدين، لا سيما تلك المسلسلات التي التزمت بحقائق التاريخ ودقائقه مثل مسلسل الظاهر بيبرس الذي عرضه التلفزيون السوري؟ وهل انصرف الناس عن المؤرخين إلى الدراما التاريخية، والمسرح التاريخي، والفيلم التاريخي والكتاب التاريخي المسموع... فضلاً عن الرواية التاريخية، لأنها تقدم له ما يريده حقًا؟ وهل يمكن أن نربط بين ازدهار الرواية التاريخية حاليًا والرغبة في معرفة الذات، والبحث عن الهوية الوطنية أو القومية من خلال معرفة حقائق تاريخنا الذي تاهت معالمه في ضباب القراءات المنحازة والمتضاربة التي تخرج علينا من صفحات الصحف والمجلات والكتب والمذكرات، أو تطل علينا من شاشات التلفزيون التي يتصدرها بعض الذين يتصورون أن بوسعهم سرقة التاريخ؟

أتصور أن الإجابة عن هذه الأسئلة وما يتفرع عنها بالضرورة من أسئلة بالإيجاب لن تجافي الحقيقة أو تبعد عن الصواب. ذلك أن الرواية التاريخية في التحليل الأخير ممارسة ثقافية اجتماعية يحتاج إليها المجتمع ويطلبها ولا يمكن لأي ممارسة ثقافية أن تزدهر ما لم يكن المجتمع بحاجة إليها، ومن ناحية أخرى لا يمكن أن تكون ظاهرة ازدهار الرواية التاريخية نتاج سبب واحد فقط، وإنما تتعدد الأسباب التي أدت إلى هذا. ومن هنا تبدو جميع الأسباب المطروحة فاعلة، كما تبدو الإجابات إيجابية أيضًا: وإن كانت بعض الأسباب والعوامل أقوى تأثيرًا من البعض الآخر بطبيعة الحال.

فإذا تحدثنا عن الظروف السياسية الداخلية في البلاد العربية، وما يتصل منها بحرية الفكر والتعبير على نحو خاص وجدنا الصورة سلبية إلى حد بعيد تتكاثر فيها الألوان القاتمة على حساب الألوان المشرقة الزاهية. وهو ما يجعل التاريخ إغراء للروائي بسبب ثرائه وغناه وكثرة التجارب والنماذج الإنسانية التي يحملها، أو بسبب إمكان استخدامه لمخاطبة الحاضر من خلاله. فالرواية التاريخية ترتبط بالحاضر وتتطلع إلى المستقبل بطبيعة الحال، ولا يشكل الماضي (التاريخ) سوى المادة الخام فيها. ويستطيع الروائي تطويع المادة التاريخية بالشكل الذي يمكنه من تجنب مخاطر القيود المفروضة على حريته وعلى حرية التعبير بشكل عام.

ولا شك عندي في أن الدرس التاريخي على مستوى المدرسة والجامعة في العالم العربي يعاني فقرًا شديدًا يبعث على الأسى، من حيث الشكل الذي يقدم به ومن حيث المحتوى الذي يدرسه الطلاب ومن حيث الساعات الدراسية المتخصصة للدرس التاريخي في المدارس. وفيما عدا أقسام التاريخ في الجامعات العربية، ربما يتخرج الشباب بعد نهاية دراستهم الجامعية دون درس تاريخي واحد. ومن الطبيعي في هذه الحال أن يشعر الناس في حياتهم العامة بهذا "الجوع إلى التاريخ" ولعل هذا يفسر لنا الإقبال على الدراما التاريخية والسينما التاريخية والبرامج الحوارية أو الوثائقية التاريخية التي يقدمها التلفزيون، فضلاً عن الإقبال على الرواية التاريخية.

وربما يكون مناسبًا أن نتذكر هنا أن ازدهار الرواية التاريخية العربية أمر يمكن تفسيره في ضوء حزمتين من العوامل والأسباب إحداهما تتعلق بالروائي نفسه والثانية ترتبط بالجمهور القارىء للرواية التاريخية. وترتبط بالمجموعة الأولى الأسباب والعوامل السياسية والاجتماعية التي يعيش الروائي في رحابها، والتي أشرنا إليها إجمالاً في السطور السابقة، إلى جانب عوامل البنية الفكرية والثقافية للروائي نفسه ومدى وعيه بأهمية دوره والوظيفة الثقافية الاجتماعية للرواية. وربما كان الموقف السياسي أو الأيديولوجي للروائي من بين الأسباب التي تدفعه إلى اختيار الرواية التاريخية، كما ترتبط بالرغبة في مواجهة ذلك الهجوم الظالم المتواصل على الهوية العربية: تاريخًا ولغة وحضارة، وترتبط بالشعور المحير المربك الذي يمسك بتلابيب عامة المثقفين حول قضايا حياتهم الجوهرية، وعلاقتهم بالغرب.

خلاصة القول: إن ظاهرة ازدهار الرواية التاريخية في الأدب العربي الحديث نتاج لعدد من الأسباب والعوامل التي تطرح هذه الورقة تساؤلات عامة حولها، لكنها لا تزعم أنها يمكن أن تقدم الإجابات الدقيقة عليها، وإنما هي تحاول أن تثير مناقشة عامة بشأنها، أما الإجابات الشافية الوافية فإنها تستدعي بحثًا تفصيليًا على المستوى النقدي وعلى المستوى الاجتماعي والسياسي والفكري.

بيد أن السؤال الذي يبقى مطروحًا من دون إجابة مهما كان شكلها أو مستواها فهو السؤال عن السبب في غياب فترات مهمة من تاريخنا عن صفحات الرواية التاريخية.

*** *** ***

المستقبل، الثلاثاء 27 تموز 2010، العدد 3723، ثقافة وفنون، صفحة 20


 

horizontal rule

٭ قدمت هذه الورقة في ندوة مجلة "العربي" في الكويت.

٭٭ أكاديمي مصري.

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 إضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود