انتفاضة أوروك في عهد جلجامش:
أول انتفاضة ضد الظلم والاستبداد في التاريخ

 

باسم محمد حبيب

 

يعد الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، الذي أصدرته الأمم المتحدة  في 10 كانون أول 1948، أحدث إعلان يتناول حقوق الإنسان في التاريخ، حيث تضمَّن نصوصًا وموادًا قانونية غاية في الأهمية وذات قيمة إنسانية كبيرة، الأمر الذي أكد نجاح المجتمع البشري في بلوغ الحالة التي تؤمن للإنسان قدرًا عاليًا من حقوقه ومستوى لائقًا من الحرية والكرامة.

إنَّ ما يجب أن ندركه أن هذا الإعلان المهم لم يكن ليظهر لولا تلك المسيرة من الكفاح الطويل ضد الظلم والاستبداد، الذي شاركت فيه حضارات إنسانية مختلفة منذ أقدم العصور وإلى الآن، بحيث يمكن القول إنه كان نتاجًا لجهود كل تلك الحضارات وليس هبة من هبات التطور الأوربي الحديث كما يحبذ البعض أن يقول، لأن الحضارة الأوربية ما هي إلا عنوان لهذا التطور وليست صانعة أو منشئة له.

وبالتالي، هناك مثابات عديدة لهذا التطور لا يمكن حصرها بزمان أو مكان معين، إلا أن أهم تلك المثابات ما يرتبط بالمساهمة العراقية التي تعد الأقدم من بين تلك المساهمات، حيث لا ينحصر ذلك في التشريعات القانونية وحسب بل وفي الثورات والانتفاضات أيضًا، ولذلك وبالبحث عن جذور ذلك الإعلان العالمي لا بدَّ أن نصل ببحثنا إلى المساهمة العراقية بكل عمقها وروعتها، والتي ستشعرنا بعظمة الأجداد وما قدموه من جهود في هذا الجانب المهم من جوانب المسيرة الإنسانية.

أن بحثنا هذا مخصص لدراسة جانب من جوانب هذه المساهمة العراقية المهمة، حيث سنتناول من خلاله واحدة من أقدم الثورات التي قام بها الناس ضد الظلم والاستعباد ألا وهي ثورة شعب أوروك ضد استبداد جلجامش وظلمه.

وللإلمام بجميع جوانب هذه الثورة لا بدَّ أن نقسم بحثنا إلى ثلاثة أقسام: نتعرف في الأول على جلجامش وحقيقة الثورة التي قامت ضده، ونحاول في الثاني تناول الأسباب التي دعت الناس إلى الثورة قبل أن نعرج في المبحث الثالث على الثورة وفق ما لدينا من مصادر هي شحيحة على أي حال.

عهد جلجامش ومصادرنا عن الانتفاضة

رغم أن سومر قد شهدت أولى بذور الحضارة الإنسانية وأهم إشراقاتها المادية والروحية، إلا أن الواقع السياسي بقي يراوح في مكانه لأسباب لها علاقة بالتنوع البيئي للبلاد وحجم التحديات التي تواجهها من حين إلى آخر من الطبيعة والمحيط. ورغم أن سومر شهدت أقدم أشكال الديمقراطية – اسماها ثاركيلد جاكوبسن الديمقراطية البدائية، حيث النظام البرلماني الأقدم في التاريخ، وبمجلسيه، الذي يشابه النموذج الحديث[1] – إلا أن هذا النوع من الديمقراطية لم يكن قادرًا، على ما يبدو، على الحد من سلطات الحكام ومن هيمنتهم السياسية الكبيرة، فكان لزامًا على الشعب أن يواجه هؤلاء الحكام المستبدين للمطالبة بحقوقه وصونًا لحريته وكرامته. وأقدم مطالبة تذكرها النصوص المسمارية هي تلك التي أشارت إليها ملحمة جلجامش في معرض تناولها لحالة الوركاء أثناء حكم جلجامش، ما يتيح عدها أقدم انتفاضة من نوعها في العالم لأنها حدثت قبل منتصف الألف الثالث قبل الميلاد، وهي أقدم من ثورة أوروانمكينا في لكش[2]، والثورة الاجتماعية في مصر[3]، بما لا يقل عن ثلاثة قرون. فهل بإمكاننا أن نعيد كتابة تاريخ الكفاح من أجل حقوق الإنسان لنمد به إلى عهد جلجامش؟ هذا ما نحاول فعله في السطور التالية.

قبل أن نتناول هذه الانتفاضة المهمة لا بدَّ أن نشير إلى أننا لا نملك أي وثيقة تاريخية تتناول هذه الثورة، وليست لدينا معلومات عنها عدا تلك المدونة في ملحمة جلجامش[4]، الملحمة التي يغلب عليها الطابع الأسطوري، ما يجعلها دون درجة الوثيقة، ليس لاحتوائها على عنصر المبالغة واتصافها بالطابع الأسطوري وحسب، بل لأنها دونت في مرحلة لاحقة لعهد جلجامش، حدود أواخر الألف الثالث قبل الميلاد أوائل الألف الثاني قبل الميلاد، وهي فترة بعيدة نسبيًا عن فترة حكم جلجامش التي يحددها المختصون بحدود 2650 قبل الميلاد. لكن بإمكاننا التفريق بين الأحداث الملفقة أو الأسطورية والأحداث الحقيقية استنادًا إلى علاقة تلك الأحداث بحبكة الملحمة أو مضمونها العام، فقد أثبتت الحقائق أن الكثير من الأساطير والملاحم تحمل قدرًا من الحقيقة، وأن الكثير من تفاصيلها يمكن ردها إلى أحداث حقيقية، كما هو الحال مع الملاحم العالمية الشهيرة كملحمتي المَهابهارتا والرامايانا الهنديتين وملحمتي الإلياذة والأوديسة الإغريقيتين، حيث ترتبط تلك الملاحم بأحداث حقيقية تم التأكد من بعضها بالاعتماد على معطيات الآثار والبحث العلمي، وملحمة جلجامش ليست مستثناة من ذلك بدليل ما طرحته عن بناء جلجامش لسور الوركاء والذي أثبتت التحريات الأثرية صحته بعد العثور على بقيا سور الوركاء، وهو مبني باللبن "المستوي – المحدب" الذي يميز أبنية عصر فجر السلالات السومرية، لا سيما مباني الطورين الثاني والثالث منه[5]، أي في الفترة التي حكم فيها جلجامش. ولدينا نص يعود إلى الملك "أنام"، ملك الوركاء، في مستهل الألف الثاني قبل الميلاد يؤكد بناء جلجامش لسور الوركاء[6]، هذا بالإضافة إلى أطروحة الديمقراطية البدائية[7] التي طرحها الباحث ثوركليد جاكوبسن عن الواقع السياسي لبلاد سومر في عصر فجر السلالات، والتي تعرض الملحمة صورة عنها خلال النزاع بين "اكا" حاكم كيش و"جلجامش" حاكم الوركاء[8]. عدا ذلك أصبحت حقيقة جلجامش بعيدة عن الشك بفضل حصيلة المعلومات التي تجمعت لدى المؤرخين عن شخصيته، ومنها إشارة إثبات الملوك السومرية عنه بكونه خامس ملوك سلالة الوركاء الأولى، على الرغم من المبالغة في سنوات حكمه التي بلغت بحسب الإثبات 126[9] سنة، والتي لم تقتصر عليه بل شملت عهود كل الملوك الذين سبقوه، ما يعكس اعتقادًا لدى الأقدمين بأن الناس في السابق كانوا يعيشون أعمارًا طويلة. كذلك نلحظ اختلافًا في اسم والد جلجامش بين الإثبات والملحمة؛ ففيما أشارت الملحمة إلى أن اسم والد جلجامش هو لوكال بندا، الذي هو ثالث ملوك سلالة الوركاء الأولى وزوج ننسون التي أشارت الملحمة إلى كونها أم جلجامش[10]، يذكر الإثبات أن والد جلجامش هو (للا)، الأمر الذي أثار بعض الشكوك عن شخصية جلجامش واحتمال أن لا يكون الشخص المذكور بالإثبات هو نفسه جلجامش بطل الملحمة، فقد يكونا ملكين مختلفين وإن حكما نفس المدينة. لكن هذا الأمر يمكن حله بالتأكيد على أن (للا) هو صيغة أخرى لاسم والد جلجامش وليس بالضرورة شخصًا آخر، أو أنه أُقرن بجلجامش عن طريق الخطأ. فإذا كان لجلجامش صلة دم بملوك السلالة الآخرين فلا بد أن نصدق صلته بلوكال بندا، أحد أسلافه في حكم الوركاء، لا سيما مع ورود اسم "أور – ننكال" في الإثبات والملحمة كابن لجلجامش، والذي تم تأكيده من نص تمال ذو الأهمية التاريخية، حيث أشار النص إلى أن جلجامش وابنه شاركا في تجديد معبد الآلهة ننليل في نفر[11].

أسباب انتفاضة أهل أوروك ضد جلجامش

رغم الدراسات العديدة التي تناولت نص ملحمة جلجامش فإن الملحمة ما زالت تغري على البحث والدراسة، لأنها كل يوم تقدم لنا درسًا جديدًا من دروس التاريخ وتطرح بعدًا آخر من أبعاده الخفية، حيث أصبحت إحدى المصادر المهمة لدراسة الواقع الاجتماعي لذلك العصر، بما حفلت به من معلومات تناولت مختلف أوجه حياة القوم وظروفهم وتعاملاتهم، كما أسهمت في إثراء معلوماتنا الاقتصادية والدينية والسياسية عن ذلك العصر. ولعل مما يعطي للملحمة قيمة خاصة وفريدة، ويجعلها في عداد الملاحم التي تحمل ثيمة إصلاحية، تناولها حالة الجدل بين مطالب الناس ورغبات الحاكم، في ظل التحول الكبير في الواقع السياسي، والذي أعطى للحكام سلطات أكبر مما كان لدى أسلافهم في عصور السلالات الأولى، والذي نجم، على ما يبدو، من تعرض الدويلات السومرية للمخاطر ونشوب النزاعات فيما بينها أو ضد القبائل المجاورة، ما فرض تركيز بعض السلطات في شخص يكلف من قبل مجلس المدينة ليقوم بمهام الحكم ومواجهة المخاطر بقوة وشجاعة[12]. وبالتالي تحوَّل هؤلاء الحكام بمرور الوقت إلى سلطة متعالية تنظر إلى الناس من منظار مصالحها وأهوائها، وليس من منظار المصلحة العامة وحقوق الناس، انطلاقًا من الطبيعة البشرية الضعيفة والميالة إلى الأثرة وحب الذات، وفي ظل مغريات السلطة والنفوذ لا يردع الحاكم عن ركوب طيشه وغروره سوى ضميره وأخلاقه، لذا لا غرابة أن يظهر نموذج من الحكام يشبه نموذج جلجامش في الملحمة حيث وصفت الملحمة أفعال جلجامش بقولها:

على ضربات الطبل تستيقظ رعيته
لازم أبطال أوروك حجراتهم ناقمين مكفهرين
لم يترك جلجامش ابنًا طليقًا لأبيه
لم تنقطع مظالمه عن الناس ليل نهار
أهذا جلجامش راعي أوروك المسورة
أهو راعينا القوي الكامل الجمال والحكمة.
لم يترك جلجامش عذراء طليقة لأمها
ولا ابنة المقاتل وخطيبة البطل[13].

وفي ترجمة أخرى:

كان يسوق شباب أوروك [إلى العمل] دون مسوغ
لم يدع كلكامش ابنًا طليق لأبيه
ويوما بعد يوم كان طغيانه يزداد قسوة
كلكامش القائد لشعبه المحتشد
ولكن كلكامش لم يدع ابنة طليقة لأمها
... لم يدع أي عروس تذهب بحرية إلى عريسها
ولا ابنة المقاتل ولا عروس الشاب[14].

ومن خلال تحليل هذا النص نجد أن أفعال جلجامش اتسمت بالنزق والطيش والاستهانة بحقوق الناس بحيث فرض على أهل الوركاء نظامًا من الحياة خاضعًا لمشيئته ورغباته، فعلى ضربات الطبل تستيقظ الرعية المغلوبة على أمرها على الطريقة العسكرية من أجل تلبية رغبات الحاكم وتنفيذ طلباته وأداء بعض الأعمال العامة أو الخاصة بالحاكم، كبناء المعابد والقصور أو سور المدينة الذي يحتاج إلى أيدي عاملة كثيرة، والذي قلنا إنه من عمل جلجامش، وفق ما لدينا من أدلة، حيث فرض جلجامش على سكان الوركاء، كبارًا وصغارًا، نساءً ورجالاً، المشاركة في بناء السور بأسلوب السخرة (أي دون مقابل) على غرار ما كان يفعل الفراعنة مع رعاياهم عند بناءهم للأهرامات[15]، وهو أمر لم يعتده السكان من قبل، الأمر الذي أثار غضبهم ودفعهم إلى التذمر والثورة. وإذا استرسلنا مع النص واعتبرنا أفعال جلجامش الأخرى حقيقية وليس مجرد إضافة من الراوي غرضها التشويق أو إعطاء جدوى أكبر للثورة، فإن جلجامش قد تجاوز الكثير من الحدود وحطَّم الكثير من القيم، لا سيما عندما سلب العوائل أبنائها من أجل أن يمارسوا الخدمة في القصر أو يدأبوا على تلبية رغباته الخاصة، أو ما كان يفعله مع الفتيات العذراوات عندما يقوم بانتهاك شرفهن وسلب عذريتهن بطريقة تنم عن الغطرسة والاستهانة بمشاعر الناس. فلو كان جلجامش يمارس أمرًا مألوفًا اعتاد عليه الناس لما تذمروا أو غضبوا. لكن ما كان يفعله جلجامش كان بلا شك أمرًا جديدًا ولم يألفه الناس بعد، لأن الاستبداد لم يبرز بغتة بل تطور بالتدريج مع توسع السلطات وتصاعد النفوذ، حيث بلغ جلجامش في قسوته وجبروته حدًا جعل الناس يخرجون عن صمتهم ويبدأوا عملهم لمواجهة هذا الجبروت والطغيان بالأفعال لا بالأقوال.

لكن إلى أي مدى تجاوز جلجامش أخلاق العصر وقيم الناس؟ وهل يمكن للحاكم في ذلك العصر أن ينتهك الحرمات ويستبيح الشرف بهذا الشكل المشين المثير للمشاعر؟ لا شك أن الملحمة أجابت عن ذلك عندما بينت غضب الشعب من سلوك جلجامش وتذمرهم من أفعاله. فلو كان الناس معتادين على هذا السلوك وهذه الأفعال لسكتوا ولما بحثوا عن سبيل للتخلص منه كما هو الحال مع شعوب أخرى ليست بعيدة عنهم، إلا أن شعب الوركاء المتمدن المعتز بحريته وكرامته كان يأبى هذا الضيم ويرفض هذا الإذلال، وهذا دليل على حيوية الشعب واعتزازه بقيمه. لكن هل كان لطبقة الأبطال "المقاتلين"[16] دور في إحداث شرخ بين الشعب وجلجامش؟ بعد أن أمعن جلجامش في إذلالهم، أولاً عندما أشركهم في أعمال البناء التي تتنافى مع منزلتهم كحماة لأوروك، وأيضًا عندما خاض في شرفهم وعفة بناتهم ونسائهم لكي يرضي غروره ويشبع غرائزه، وبالتأكيد فإن لهذه الطبقة قدرة تتجاوز ما لدى سواها من قدرات نظرًا لمعرفتها بفنون القتال وطرق المواجهة، على الرغم من أنها ربما لم تصل درجة احتراف الجندية التي لم تبرز بشكلها الواضح إلا في الطور الثالث من عصر فجر السلالات.

مظاهر الانتفاضة

بعد أن تطرقنا لدواعي الثورة ضد جلجامش لا بدَّ أن نتناول مظاهر الثورة وطبيعتها، بمعنى هل حملت طابع العنف المسلح؟ أم اعتمدت النموذج السلمي الذي يرتبط بطابع الحياة السياسية القائمة آنذاك والمبنية على صيغة الديمقراطية البدائية؟ ومن خلال معاينتنا لملحمة جلجامش، نجد أن الانتفاضة قد تبنت المظاهر التالية وفق تسلسل مخطط له، وهي:

1.                التذمر والشكوى.

2.                التضرع إلى الآلهة واستمالة السلطة الدينية.

3.                استمالة البرلمان البدائي.

4.                البحث عن منقذ.

إن أول موقف اتخذه الشعب من جلجامش هو تشكيكه بمكانة جلجامش كوكيل للآلهة، وفي شرعية إعماله التي تتناقض مع طبيعة المهام الموكلة إليه، سواء من الآلهة أو من مجلس الشعب. فقد بدأ الناس يتسألون: هل هذا هو راعي أوروك المسورة؟ أهو راعينا الذي يتصف بالجمال والحكمة[17]؟ أم أن هذه الأوصاف لا تنطبق عليه؟ ثم بدأ الناس بالتذمر والشكوى والتكلم عن مظالم جلجامش بغية فضحها وتأليب الناس عليه، مما يندرج ضمن نطاق العمل الدعائي أو الإعلامي. وقد لمسنا كيف أصبح الناس يجهرون بتذمرهم ولا يحسبون لغضب جلجامش حساب، بدليل تحولهم إلى صيغة أخرى من صيغ المواجهة وهي التضرع للإلهة[18]، واستمالة السلطة الدينية طلبًا للخلاص من ظلم جلجامش وجوره. وهو تقليد دأب الناس عليه منذ قديم الزمان وإلى الآن. لكن، هل تجدي هذه الأمور نفعًا؟ أم لا بد من عمل قوي يهز عرش جلجامش ويضرب سلطته في الصميم؟ يبدو أن الثورة وصلت إلى البرلمان مع أننا لا نملك إشارة واضحة عن ذلك، لكن يمكننا الاستدلال على ذلك من أمرين: الأول الوفد الذي التقى بأنكيدو ونقل إليه معاناة المدينة[19]، والثاني حدوث المواجهة بين جلجامش وأنكيدو التي لم تكن لتحصل لولا وجود سلطة ما سمحت بذلك، وإلا بإمكان أي شخص قتل الحاكم وانتزاع حكمه متى يشاء. فصعود أنكيدو كمنافس لجلجامش أو متحدٍ له، جاء بإيعاز من مجلس المدينة الذي نقل لأنكيدو معاناة الناس وحفَّزه على مواجهة جلجامش مقابل توليه الحكم بدلاً عنه. لكن لماذا أصبح النزال هو الفيصل في تحديد هوية الحاكم؟ هل كان هذا تقليدًا عامًا في بلاد سومر، أم هو أمر اختص بجلجامش وحده لكونه يدعي القوة والصلابة؟ وللإجابة على ذلك نقول إن تلك المواجهة كانت نوعًا من التحدي لكسر غرور جلجامش، وإسقاط هيبته بين الناس. فليس جلجامش وحده من يستطيع حماية المدينة أو يدَّعي أنه الأقوى بين الناس، بل هناك من يبزه قوة وصلابة. ولذلك وجد رجال المدينة في أنكيدو الشخص الذي يمكنه تحقيق هذه الغاية انطلاقًا من قواه العضلية ومؤهلاته البدنية. يبقى أن يقبل بالمهمة ويساهم في جهد المدينة للإطاحة بجلجامش. لقد صورت السلطة الدينية أنكيدو على أنه هبة الآلهة إلى الناس، وأعطت لظهوره صفة قدرية انسجامًا مع نسقها الديني[20]، أما أنكيدو فلم يظهر بمظهر المغفل أو المغرر به لأنه كان مستعدًا ومتحفزًا للمواجهة، انطلاقًا من إمكانياته البدنية ومواهبه القتالية، ناهيك عن تعاطفه مع قضية الناس ورغبته في وضع حد لشرور جلجامش وطيشه. حيث كان أنكيدو واعيًا بطبيعة المهمة مدركًا تبعاتها التي قد تصل حد الموت، وليس أدل على نزاهته وابتعاده عن الشعور الأناني من نجاحه في تغيير جلجامش وتحويله من شخص طاغ ومستبد إلى راع يهتم بشؤون الشعب ويسهر على راحته. فتغيُّر جلجامش إلى الأحسن هو الدليل الأكبر على حسن نية أنكيدو من النزال مع جلجامش، فلو كان هذا الهدف أنانيًا أو نابعًا من مصلحة خاصة لما شهدنا هذا التغيير في نفسية جلجامش وفي تصرفاته بحيث استوى حاكمًا عادلاً ومتزنًا بخلاف ما كان عليه في السابق، كذلك لمسنا التغيير في أنكيدو نفسه عندما لم تستهوه مغريات السلطة ومباهجها.

لقد عرضت الملحمة وقائع النزال بين البطلين عرضًا بديعًا ومشوقًا عندما قالت:

سد أنكيدو الطريق إلى باب بيت الحمي
ولم يسمح لجلجامش بالدخول
فاشتبكا عند باب بيت الحمي
وتصارعا في الشارع وفي الساحة العامة
حتى اهتز الباب وارتج الجدار
لقد كان جلجامش الأقوى في شد الذراعين في البلاد كلها
فقوته كانت تضاهي قوة صاعقة السماء
[21].

وعلى الرغم من أن نتيجة المعركة كانت لصالح جلجامش بحسب ما أشارت إليه الملحمة إلا أن أمرًا غريبًا حصل بعد ذلك، فبدلاً من أن ينتقم جلجامش من عدوه وينكل به لتحديه إياه أمام الناس أبدى إعجابه بشجاعته وقوته وعرض عليه أن يكونا صديقين[22]. وربما أدرك جلجامش خطأه فأراد أن يكفر عنه بهذه الصداقة، التي تعني من بين ما تعنيه قبول جلجامش بطلبات أهل المدينة ونزوله عند رغباتهم. فتحوَّل منذ تلك اللحظة من حاكم ظالم مستبد إلى حاكم عادل يحرص على حقوق الناس وحريتهم، ما يعني أن الانتفاضة قد حققت أهدافها وبلغت ما كانت تأمله من هذه المواجهة الكبيرة.

وأخيرا ماذا نستطيع أن نستنتج من هذا البحث؟ هذا هو السؤال المهم الآن، والذي تتوقف عليه أهمية هذا البحث وقيمته. فهل نستطيع القول إن البحث أضاف شيئًا جديدًا إلى معرفتنا بجلجامش، وقدَّم لنا فحوى كانت خافيةً علينا لنص الملحمة، الذي يبدو أنه حمل أكثر من ثيمة وعالج أكثر من قضية لأنه مرتبط بعصره الذي هو عصر التحولات الكبيرة في حياة البشر. فلأول مرة يبرز كفاح الإنسان من أجل الحقوق ضمن حيز الجماعة لا خارجها، ولأول مرة يجد الفرد أنه بحاجة لأن يفرز حقوقه عن حقوق الجماعة أو السلطة، فينزع ذلك الوهم الذي يجعل الحقوق – قبل أن تفهم على هذه الشاكلة – هبة لا حق، فالصراع مع الخارج الذي شهده الإنسان في السابق كان صراعًا من أجل الحياة والمصير، وهو صراع يؤسس الحقوق ولا ينتزعها. لكن في ظلِّ الجماعة أصبح الصراع موجهًا نحو تلك الحقوق التي تمنح الإنسان وضعًا أفضل، فهو من جهة نتاج الجماعة ومخلصها، لكنه من جهة أخرى يزعزع الجماعة ويحملها على مواجهة نفسها، بعد أن كادت أن تكون آمنة مطمئنة بما لديها من حقوق اعتقدت أنها أعلى ما يمكن أن تتأمله من هذه الحياة.

*** *** ***

المصادر

1.    صوموئيل كريمر، من ألواح سومر، ترجمة: طه باقر، مراجعة وتقديم: أحمد فخري، مؤسسة فرانكلين للطباعة والنشر.

2.     فوزي رشيد، القوانين في العراق القديم، بغداد، دار الشؤون الثقافية العامة، 1988.

3.    رمضان عبدة علي السيد، معالم تاريخ مصر القديم، القاهرة، مكتبة نهضة الشرق، 1986.

4.    طه باقر، ملحمة جلجامش، الطبعة الخامسة، بغداد، دار الشؤون الثقافية العامة، 1986.

5.    طه باقر، مقدمة في تاريخ الحضارات القديمة، الجزء الأول، الطبعة الثانية، بغداد، دار الشؤون الثقافية العامة، 1986.

6.    طه باقر، مقدمة في أدب العراق القديم، بغداد، دار الحرية للطباعة.

7.    ثاركيلد جاكوبسن وآخرون، ما قبل الفلسفة، ترجمة: جبرا إبراهيم جبرا، مراجعة: محمود الأمين، بغداد، 1960.

8.    سمير ديب، تاريخ وحضارة مصر القديمة، الإسكندرية، 1997.

9.    دياكونوف، ظهور الدولة الاستبدادية في العراق القديم، من كتاب العراق القديم، مجموعة من الباحثين الروس، ترجمة: سليم طه التكريتي، بغداد، دار الشؤون الثقافية، 1986.

10.                       فاضل عبد الواحد علي، سومر أسطورة وملحمة، بغداد، دار الشؤون الثقافية، 2000.

11.                       فؤاد يوسف قزانجي، ملحمة جلجامش: النص الكامل الجديد، مجلة آفاق عربية، العدد 7- 8، 2001.


 

horizontal rule

[1] صوموئيل كريمر، من ألواح سومر، ترجمة: طه باقر، مراجعة وتقديم: أحمد فخري، مؤسسة فرانكلين للطباعة والنشر، ص 81 – 88.

[2] لقراءة نص أوروانمكينا حول إصلاحاته في لكش انظر: فوزي رشيد، القوانين في العراق القديم، بغداد، دار الشؤون الثقافية العامة، 1988، ص 10 – 33.

[3] للاطلاع على بعض المعلومات حول الثورة الاجتماعية في مصر انظر: رمضان عبدة علي السيد، معالم تاريخ مصر القديم، القاهرة، مكتبة نهضة الشرق، 1986، ص 709- 215.

[4] هي ملحمة سومرية مهمة تتناول مغامرات جلجامش ملك الوركاء خلال عصر فجر السلالات السومرية، النصف الأول من الألف الثالث قبل الميلاد، وهي من أقدم الملاحم التي أنتجتها الحضارات القديمة. للاطلاع على الملحمة ومعرفة تفاصيل عنها يمكن الاطلاع على المصدر التالي: طه باقر، ملحمة جلجامش، الطبعة الخامسة، بغداد، دار الشؤون الثقافية العامة، 1986.

[5] طه باقر، مقدمة في تاريخ الحضارات القديمة، الجزء الأول، الطبعة الثانية، بغداد، دار الشؤون الثقافية العامة، 1986، ص 309.

[6] طه باقر، مقدمة في أدب العراق القديم، بغداد، دار الحرية للطباعة، ص 102.

[7] ثاركيلد جاكوبسن وآخرون، ما قبل الفلسفة، ترجمة: جبرا ابراهيم جبرا، مراجعة: محمود الأمين، بغداد، 1960، ص 175.

[8] طه باقر، ملحمة جلجامش، ص 191- 195.

[9] طه باقر، مقدمة في تاريخ الحضارات القديمة، ص 293.

[10] طه باقر، ملحمة جلجامش، ص 76.

[11] طه باقر، مقدمة في تاريخ الحضارات، ص 306.

[12] خير ما يؤكد هذا التحول تغيُّر الألقاب السياسية للحكام حيث كان يطلق على الحاكم لقب "أن" الذي يعني السيد، وهو لقب له علاقة بالوظائف الدينية، ثم تحول اللقب إلى "إنسي"، أي الأمير، والذي قد يعني انفصال السلطتين الدينية والدنيوية. وأخيرًا ظهر لقب "اللوكال" الذي يعطي معنى الملك بالإشارة إلى تزايد السلطات وامتداد النفوذ السياسي، حيث عاش جلجامش في فترة الانتقال بين لقب "الإنسي" ولقب "اللوكال" الأمر الذي يفسر تلقب بعض الحكام بلقب إنسي وتلقب آخرين بلقب لوكال.

[13] طه باقر، ملحمة جلجامش، ص 77.

[14] فؤاد يوسف قزانجي، ملحمة جلجامش: النص الكامل الجديد، مجلة آفاق عربية، العدد 7- 8، 2001، ص 70 – 71.

[15] يمكننا أن نقرن تسخير الناس في بناء سور الوركاء بتسخير الناس من قبل الفراعنة في بناء الأهرامات، لكن وجه الاختلاف هو أن المصريين كانوا يفعلون ذلك على أساس من العقيدة والإيمان على عكس السومريين الذي يجدونه أمرًا مسيئًا لحريتهم وكرامتهم. للمزيد عن تسخير الناس في مصر القديمة انظر:  سمير ديب، تاريخ وحضارة مصر القديمة، الإسكندرية، 1997، ص 74 – 75.

[16] على ما يبدو لم تبرز في العصور السومرية المبكرة طبقة عسكرية خاصة، فجميع سكان المدينة القادرين على حمل السلاح كانوا يجندون في أوقات النزاعات، ولذلك لم يملك الحاكم أو من يقوم مقامه أي وسيلة تمكنه في التحكم برقاب الناس. لكن الأمر تغير في عصر فجر السلالات الثالث أو ربما قبله بقليل عندما حتمت الظروف إنشاء جيش للدفاع عن المدينة، حيث أصبح هذا الجيش وسيلة الحكام في الهيمنة والتسلط. حول هذا الموضوع انظر: دياكونوف، ظهور الدولة الاستبدادية في العراق القديم، من كتاب العراق القديم، مجموعة من الباحثين الروس، ترجمة: سليم طه التكريتي، بغداد، دار الشؤون الثقافية، 1986، ص 263 – 310.

[17] طه باقر، ملحمة جلجامش، ص 77.

[18] طه باقر، ملحمة جلجامش، ص 78.

[19] طه باقر، ملحمة جلجامش، ص 91.

[20] طه باقر، ملحمة جلجامش، ص 78.

[21] فاضل عبد الواحد علي، سومر أسطورة وملحمة، بغداد، دار الشؤون الثقافية، 2000، ص 196.

[22] هناك تفسير آخر لتصرف جلجامش أثناء المعركة، إذ ربما نجم عن تهاون أنكيدو معه حفاظًا على كرامة الحاكم، فأراد جلجامش أن يرد له الجميل ويقبل بما جاء من أجله. (رأي شخصي).

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود