استدراج ذاكرة العامل الأميركي من دائرة الصمت إلى دائرة العلن

 

جهاد الترك

 

شاعر للطبقة العاملة في الولايات المتحدة من دون منازع. ولعلَّ التزامه بالتعبير عن اغتراب البروليتاريا الأميركية وانكفائها إلى هواجسها وتطلعاتها المنكسرة إلى ذاتها المقهورة، تحديدًا في خمسينات القرن الماضي، وضعه في مكانة متقدمة متجاوزًا المفاهيم الأيديولوجية المغلقة إلى اللغة المنفتحة على تحولات الذاكرة. لم تشهد الثقافة الأميركية قبل فيليب ليفاين شاعرًا بوزنه الثقيل اعتبر أنه يتعذَّر على الشخصية الأميركية أن تتصالح مع ذاتها ما لم تجر تسوية "تاريخية" مع العمال على مختلف شرائحهم وفئاتهم وانتماءاتهم. قرَّر، بدءًا من منتصف القرن الماضي، أن يأخذ هذه المهمة على عاتقه. أن يصنع لهم نمطًا من اللغة في نصوصه الشعرية تعيد إنتاجهم من جديد على نحو غير مألوف. مهمة بدت في بواكيره الشعرية صعبة للغاية، معقدة وأحيانًا مستحيلة. ومع ذلك، دأب ليفاين، خلال العقود الخمسة المنصرمة على محاولة اكتشاف ماهية العامل في المصنع حيث كان يعمل هو نفسه وجهًا لوجه مع الآلات الصماء. نجح بمرور السنوات في أن يستدرج البروليتاريا من متاهة الانسحاق في مصانعهم إلى متاهة اللغة المشرعة على احتمالات مغايرة للوجود الإنساني. رويدًا رويدًا استقطب أنظار الأميركيين ونخبهم السياسية والثقافية إلى ضرب من اللغة الشعرية بدا مستهجنًا في البداية، ثم أصبح شائعًا، ثم تحوَّل "مدرسة" في الكشف عن ذلك العالم السفلي الذي يستوطنه العامل طوال حياته. استطاع بنصوصه الشعرية شديدة البساطة كثيرة الإيحاء والدلالات والرموز أن ينتقل بالعامل من أجواء الصمت المريب إلى آفاق غير مستكشفة في اللغة. بدا العامل، في هذه التجربة المشوقة، معادلاً حقيقيًا ورؤيويًا للغة في تفجراتها الداخلية. وأيضًا في احتمالاتها وتصوراتها التي تحيل العالم هشيمًا كما هي حال العامل في المصنع. ومع ذلك، يخرج العامل من هذه المتاهة شخصًا آخر. إنسانًا مختلفًا بصياغة لغوية مغايرة. يقال إنه كوفئ على ذلك بتنصيبه منذ أيام شاعرًا للولايات المتحدة. والأرجح أنه شاعر للغة قبل أي شيء آخر.

لعله لم يكن يحتاج إلى لقب آخر هو الشاعر الأهم المكرَّس في الألفية الثالثة الأميركية. بدت الولايات المتحدة، في أزماتها العصيبة وإدمانها على أحزانها وقلقها، أكثر حاجة إليه وهو المستغني عن أي شيء آخر. تتوازن هي به، ويتوازن هو بشعره. ومع ذلك، مدهشة هذه "الإمبراطورية" المتهاوية وهي تضفي على فيليب ليفاين لقبه الجديد. وكأنها تعزوه إليها في أزمنة الانهيار والخوف على المصير.

وكانت مكتبة الكونغرس في الولايات المتحدة، أضخم الصروح العلمية والثقافية في العالم أجمع، قد نصبت فيليب ليفاين في العاشر من آب أغسطس الجاري شاعرًا للولايات المتحدة هو الثامن عشر من نوعه في سجلات هذا اللقب الاستثنائي. وهو يخلف بذلك شاعرًا كبيرًا آخر هو و.س.ميروين. لم يكن اختياره أمرًا سهلاً. بدا صعبًا للغاية ومربكًا ومحيرًا على نحو مماثل. فقد انطوت قائمة المرشحين على أسماء كثر جلَّها من الأوزان الشعرية الثقيلة التي ساهمت في صنع التاريخ الثقافي المعاصر لأعظم دولة في الزمن القديم والحديث. لم يتردَّد القيِّمون على لجنة الاختيار في تبرير هذا التنصيب بالقول إن إنتاجه الشعري شكَّل كشفًا جديدًا لقراءة مختلفة لعالم مغاير قائم في الرؤية واللغة والذاكرة الإنسانية. وأضاف هؤلاء أنه يمثل القلب الإنساني النابض للعمال الصناعيين. علاوة على ذلك، فهو صوت أميركي محض أمضى سنوات عمره في استخراج الدلالات والرموز والمشاهد المتعثرة في شخصية العامل الأميركي. أطلقها من مخابئها، من الظلمة الداكنة إلى نور اللغة في تجلياتها المتعددة. بدوره، علَّق ليفاين على هذا التنصيب بالقول، وهو المعروف بلهجته المتهكِّمة والبسيطة أسوة بعمال المصانع: لست أدري ما إذا كنت اليوم في أحسن أحوالي الشعرية.

جاء ذلك في رسالة إلكترونية مقتضبة دوَّنها في موقعه على شبكة الإنترنت. وأضاف: الحق أقول إنني أتلمس طاقة أكبر في أعمالي السابقة. أرى فيها شحنة أقوى من العنف والغضب. كان الغضب الحافز الملح الذي جعلني أنصرف إلى الكتابة الشعرية بكل ما أوتيت من عزم. اليوم استبدلته بالتهكم وبالحب أيضًا. والأغلب أنه مصيب في ما ذهب إليه، فالنصوص الشعرية التي وضعها، وهو يمارس أعمالاً يدوية خشنة في شركتي الكاديلاك والشيفروليه، بدت حادة متمرِّدة ومتأففة. استقاها مباشرة من معايشته اليومية لزملائه العمال التائهين بين الآلات الخرساء الصماء من جهة، ومتاهات الحياة اليومية وعذاباتها وانكشافها على المجهول، من جهة ثانية. لم يكترث ليفاين في أن يدخل على معادلته الشعرية، في السنوات اللاحقة، أي تغيير يذكر. ظلَّ وفيًا لشخصيته التي ترعرعت في أزقة المدينة ودهاليزها وخباياها ومصانعها. غير أنه بدا، في تلك الأثناء، أكثر انحيازًا للصورة الشعرية الملطفة، الهادئة في شكلها الخارجي، العميقة والمستاءة في بنيتها الداخلية. راح يغلِّب في نصوصه الطابع السردي، حكاية وقصة وأمثولة، ليس لأفضلية فيها على ما عداها، ولكن ليكسب الصورة بعدًا أكثر واقعية وانجذابًا إلى ذلك العالم المنسي من حياة العمال التي تبدأ في المصنع وتنتهي فيه. يفنى العامل وتبقى الآلة شاهدة زور على أنين وضيق وقهر وحشرجات أيضًا.

تميَّزت نصوصه الشعرية المبكرة بشيء كثير من الجدية والرصانة والبلاغة في التعبير. لا غرو في ذلك، فقد تأثر وقتئذٍ بأساليب شعراء كبار من أمثال: روبرت لويل، جون باريمان وإيفور ونترز. أراد أن يحاكي هؤلاء في إنتاجهم المعقَّد إلى حد كبير. ولعلَّه أراد أن يتجاوز نفسه، أن يتقدم على زمنه ولو بخطوة واحدة ليحرق المراحل. اليوم، يقول إنه عازم على تعويض اللغة الصارمة التي كان يلجأ إليها أيام الشباب بلغة أخرى أكثر مساسًا بالحرية والمرونة. يقول في أحد تعليقاته المتداولة في هذا الإطار: لماذا لا تتوافر نعومة أكثر في كتاباتي؟ والأرجح أنه بات أكثر استعدادًا لنقلة نوعية كهذه منذ أن تقاعد عن العمل اليدوي العنيف. المهنة الشاقة التي لازمته سنين طويلة طبعت شعره بطابعها. صحبة الآلات المعدنية أورثته طبعًا حادًا ولغة لا رحمة فيها ورؤية شعرية ملتزمة بالأحوال الرثة للعمال. لم يكن مهيأ في بداياته ليستقر على لغة أخرى تتَّسع للسكينة التي راح ينشدها منذ أن انسحب، في الشكل، من العمل في المصانع، وبقي في المضمون عاملاً مياومًا وإن ابتعد في المسافة عن ملامسة الآلة ناعمة الملمس خشنة الطباع.

اليوم، بعد سنوات طويلة من الإقلاع عن العمل اليدوي، والتورُّط حتى حدود القلق العميق في كتابة الشعر، يسلخ ليفاين جزءًا عزيزًا من وقته الثمين في الترويج للشعر والشعراء، خصوصًا الوجوه الجديدة التي تخوض مغامرة الكتابة أيًا تكن الأسباب والتداعيات والأثمان التي ينبغي تسديدها بالكامل. وهو يشارك حاليًا في برنامج أو أكثر لدعوة الشعراء الشبان إلى الإفصاح عن تجربتهم في الكتابة الشعرية في أمسيات وحلقات أُعدت خصيصًا من أجل ذلك. ومن طرائف هذا الرجل الثمانيني أنه يعكف فعلاً على إقامة حلقات من هذا النوع يطلب فيها من الحضور أن يعلنوا بالاسم القصيدة الأسوأ التي قرأوها واستقرت في ذاكرتهم. يعلِّق ليفاين على هذه الفكرة بالقول أنها ضرب من المزاح الفجِّ، غير أنها من شأنها أن تستفزَّ الشعراء الجدد والمتذوِّقين أيضًا لمناقشة ما يجول في خاطرهم. كما أنها تحثهم على القراءة والكتابة والتفكير بصوت عال. والأرجح أن هذا الشاعر الكبير لا يزال، كما كان منذ عقود، منهمكًا حتى العظم في قضية الشعر، من جوانبها المختلفة. الشاعر الفذُّ هو من يفتح آفاقًا جديدة لغيره ليعقبوه يومًا ما.

الانعتاق من ذاكرة المصنع

قرابة الخمسة عشر اصدارًا شعريًا هي حصيلة عقود ستة على الأرجح، من إعادة اكتشاف اللغة في بعدها المهمش. وأيضًا في فضائها المنتشر كالضباب في المصانع الأميركية المكتظة بالعمال المنسيين، بذاكرة هؤلاء، التي بدت في منتصف القرن الماضي، من نسيج ذلك العالم السفلي الذي يتكون وحيدًا خلف الرؤية. خلف اللغة المتداولة، خلف المعاناة، وأيضًا خلف الإنسانية التي كان يروج لها في تلك الأثناء.

وبعيدًا عن المفاهيم الطبقية والأيديولوجية التي كانت سائدة، بشكل أو بآخر وقتئذ بين الفئات العمالية في الولايات المتحدة، راح ليفاين يعيد قراءة الإنسان الأميركي من وراء ستار المصانع والآلات الخرساء والمناوبات الليلية القاسية. صحيح أنه كان يقبل على الكتابة في أوقات الفراغ، في تلك الفواصل الضئيلة التي تبعده لبرهة عن العمل اليدوي الشاق. غير أنه، في قرارة نفسه، أحال المصنع وقاطنيه الدائمين، مشهدًا شعريًا حقيقيًا ومشوقًا وتراجيديًا أيضًا إذا جاز التعبير. من وراء الجدران السميكة لمشاهد الآلات المعدنية، والآلات البشرية التي أصبحت كذلك، أخذ يستشرف باللغة المأزق الذي يطبق على العمال في حياتهم اليومية. لم يكن متيقنًا البتة بأن التشبه بالآلة في تلك السنوات من الرأسمالية الصناعية المتوحشة هو القدر المحتوم لهذه الفئة التي حشرتها ظروفها الغامضة جنبًا إلى جنب مع الماكينات الصماء. سعى إلى الخروج مبكرًا من هذه الحالة "القدرية"، وإن بقي وفيًا لمبدأ العمل في حد ذاته. كانت وسيلته إلى هذا الانعتاق الإرادي، اللغة في متاهاتها الشعرية المدهشة.

من ذلك العالم السفلي حيث كانت تتكدس أرتال من العمال والآلات، اكتشف ليفاين دور الشعر في إعادة إنتاج الانسان والمجتمع والعالم. ولعله أراد بذلك أن يعيد إنتاج الإنسان-العامل على نحو يفسح له المجال واسعًا ليدرك أن حاجته ماسة للانفكاك عن تلك الصيرورة التي دأبت الآلة على إعادة انتاجه بدورها. من هنا، ذلك المنحى الذي تسلكه صوره الشعرية التي تنطلق، كما يلاحظ في مجموعاته قاطبة، من الواقع الصارخ كما هو، لتذهب بعيدًا، بعد ذلك، في الذاكرة الصامتة على مضض. في تلك المشاهد القاحلة المنتشرة في صحراء من الجحيم الإنساني المروع يستحضر ليفاين إلى نصوصه الظلال الهاربة من الذاكرة إلى الذاكرة، من ذاكرة العمال بأشكالها التلقائية إلى ذاكرتهم الأخرى الأعمق وهم يكابدون في عراء إنساني مضطرب. الذاكرة الأولى مستودع للأحداث، للامتثال المرير لمشيئة المصنع وجبروت الآلة. الذاكرة الثانية مستودع متحول لما يفيض عن الأولى من الإحساس بالقهر والمذلة والانصياع المطلق لأوامر الآخر. والأغلب أن النقلة النوعية التي حققها ليفاين في رؤيته الشعرية، وجعلته واحدًا من أكبر الشعراء الاحياء في الولايات المتحدة، تتمثل، بالدرجة الأولى، في قدرته على استكشاف الذاكرة الثانية وإظهارها في العلن أمام المجتمع الأميركي بشرائحه كافة. ومع ذلك، فإن نجاحًا أكثر خطورة، على الأرجح، حققه في معظم اصداراته الشعرية، يتجلى في موهبته الفذة في استدراج ذاكرة العامل المهمش من دائرة الصمت إلى دائرة العلن، في تحولاتها اللغوية المفتوحة على ظلال الصورة الشعرية. الصمت المطبق على المصنع، المخيم على أولئك الهاربين من جحيم الحياة إلى جحيم الآلة، يحوله ليفاين، على نحو نادر في أميركا، مادة غنية مدهشة أخاذة ومشوقة لكتابة قصائد من نوع ثان آخر. اللغة في نصوصه هي الوجه الآخر المرتقب للعامل المغرق من صمته. الصمت لم يعد كذلك، أصبح مدعاة لرؤية شعرية تستهدف تغيير الشخصية الأميركية.

على الحافة باكورة النصوص

ولد فيليب ليفاين في ولاية دتيرويت - متشيغان في العاشر من كانون الثاني "يناير" 1928. تلقى تعليمه في إحدى مدارسها الحكومية. وبعد ذلك تخرج من جامعة "واين" التي أصبحت في ما بعد مؤسسة حكومية أيضًا. انصرف إلى العمل مباشرة في عدد من الوظائف الصناعية، من بينها دوام ليلي في شركة شيفروليه ومصنع "اكسي".

داوم على كتابة الشعر في أوقات الفراغ. وحظيت القراءة على هامش واسع من اهتماماته في تلك الأثناء. في العام 1953، انتسب إلى جامعة ايوا وحصل على شهادة الماجستير في الفنون الجميلة، تحديدًا في مجال الكتابة الأدبية. ولحسن حظه، كان من زملائه على مقاعد الدراسة الشاعران روبرت لويل وجون باريمن اللذان أصبحا من أشهر الكتاب في الولايات المتحدة. ويكن ليفاين لهذا الأخير احترامًا وتقديرًا كبيرين، إذ كان يعتبره واحدًا من أهم الأدباء الذين تتلمذ عليهم.

في العام 1957 انتقل إلى ولاية كاليفورنيا، بعد أن أمضى فترة ملحوظة في تدريس الكتابة التقنية في جامعة ايوا. سعى إلى الاستقرار هناك مع زوجته وطفليه. استقبل بالترحاب من قبل شاعر كبير آخر هو ايفور ونترزالذي استضافه في منزله ريثما يجد مسكنًا خاصًا به. واختاره ليشغل موقعًا أكاديميًا في جامعة ستانفورد الشهيرة. نشر أولى قصائده بعنوان على الحافة في العام 1963. ألحقها بمجموعة ثانية في العام 1968 بعنوان ليس هذا الخنزير. ومنذ ذلك التاريخ، داب ليفاني على اصدار إنتاجه الشعري: أخبار العالم 2010، نفس 2004، الرحمة 1999، الحقيقة البسيطة 1994، ونال وقتئذ جائزة "بوليتنر" للإبداع الأدبي. وتنطوي هذه على أهمية استثنائية في الولايات المتحدة. وكان أصدر في العام 1991 مجموعة بعنوان ما هو العمل، أودع فيها تجربته الطويلة والمريرة موظفًا دؤوبًا في عدد من المصانع الأميركية. نال عن هذا الكتاب "جائزة الكتاب الوطني" التي لا تمنح في العادة إلا للمبرزين الكبار في الكتابة الإبداعية. وصدر له قبل ذلك قصائد مختارة 1991، والرماد 1979، وهو الكتاب الذي حمل "دائرة نقاد الكتاب الوطني"، وهي مؤسة مرموقة في الولايات المتحدة، على منحه جائزتها الدورية عن الكتابة الشعرية. في العام 1979، صدر له أيضًا مجموعة شعرية بعنوان سبع سنوات من مكان ما، أسماء المفقودين، 1975، ونال عنها بعد سنتين جائزة لينور مارشل من أكاديمية الشعراء الأميركيين.

نشر ليفاين أيضًا مقالات مختلفة في الثقافة والشعر وسواهما وأودعها كتابًا بعنوان خبز الزمن 1994. وكان نشر كتابًا آخر في المجال عينه بعنوان لا تسأل 1981، اتبعه بكتاب آخر من النمط ذاته في العام 2002 بعنوان إذًا اسال. كما ترجم كتابين إلى الإنكليزية هما: خارج الخريطة... قصائد مختارة للشاعرة غلوريا فورتيس، وآخر بعنوان تارومبا... قصائد مختارة للشاعر جايمي سابينز.

اختير ليفاين في العام 2000 مستشارًا في أكاديمية الشعراء الأميركيين، تزامن ذلك مع تقاعده من العمل. ويوزع وقته حاليًا بين بروكلين، نيويورك، فريسنو وكاليفورنيا.

***

نصوص مختارة

خوف وشهرة

نصف ساعة لارتداء الملابس، حذاء عصري عالي الساق من المطاط العريض
قفاز يطاول المرفق، خوذة بلاستيكية كفارس ولكن بنافذة
زجاجية صغيرة تعبق بالبخار،
وجهاز للتهوئة لأحمي رئتي الملطختين بالدخان.
انزل درجة بدرجة بطيئة إلى داخل
العالم القاتم للصهريج المخلَّل وهناك
أُعِّد الحلول الجديدة من القرب الكبيرة
الملأى بالأسيد وقد تدلت نحوي على حبال
كلها من تركيبة لم أشارك بها أحدًا
وتعلمتها من فرانك أوميرا
قبل أن يرحل إلى سياج
الطريق السريع في فيرنر ليُشرب نفسه حتى الموت.
غالون من حمض اليهدروكلوريك
يرشح بخاره من الفم الزجاجي العريض
رشة من حمض النيترك الشاحب
لتتدفق الفقاقيع، وحمض السلفوريك لتهدئة الخليط،
مواد للتحلية، منظفات للملح،
حتى أتيقن من أن المزيج
قد بلغ حدَّ الاحتراق.
وبعد ذلك أصعد بخطوة حذرة،
يعود المغامر إلى الأضواء الاعتيادية الطارفة
لمناوبته في منطقة فاينبرغ كسمكري من الطراز الأول
وفي حوزته صفيحة معدنية خطت عليها
رسالة من مملكة النار... وللغرابة.
لم يرحب بي أحد بعد أن عدت أدراجي
وأنا أقف مدرعًا بالصفائح المعدنية
بينما يسقط عليَّ مطر بارد
وتغرق قدماي بآثار الأدخنة
كخليط وفير من الحليب والثلج الذائب
ثم انزع سروال العمل والقميص وحذاء الشارع الأسود
والجوارب القطنية، لاستعيد كنيتي،
وأبرم خاتم الزواج من جديد في أصبعي
واتغرغر بماء الحنفية لأزيل طعم المرارة بأقصى ما أستطيع
خمس عشرة دقيقة أو أكثر أجلس بهدوء
على حافة العالم بينما تقوم النسوة
بتلميع المكعبات والموجودات إلى حد النقاء
وهي متدلية بثبات كزينة الميلاد
نحو الصهاريج التي عملت فيها.
أمامي تجثم السيجارة الثانية
أمسكها بيد مرتجفة وأنا أدخل في نفسي
الحرارة المقززة لأهدئ الحرارة،
غداء مكون من سندويش من لحم السلامي من جنوا
مع الجبن السويسري محشوة في خبز قروي ثقيل
خبزته عمتي تسيبي، وسيجارة ثالثة
لقتل طعم الأخريين.
ثم انهض لأرتدي ثانية زي مهنتي
للمرة الثانية تلك الليلة، وأنا أتصلب
لعلمي أن النزول إلى العالم الآخر والصعود منه
مرة كل ثماني ساعات هما نصف ما يتطلبه الأمر
ليصبح المرء معروفًا بين الرجال والنساء.

(نص مقتبس من مجموعة بعنوان ما هو العمل، من إصدارات "نوبف" 1991.)

*

الملح والزيت

ثلاثة شبان في ثياب العمل المتسخة
في طريقهم إلى المنزل أو البار
في صباح متأخر. ليست هذه
صورة فوتوغرافية. إنها لحظة
من الحياة اليومية للعالم، لحظة سوف تتسلل
إلى السيرة غير المكتوبة
لمدينتك أو مدينتي
ما لم تتجمد في الطباعة الفاخرة
لأعيننا. استدير
لأقرأ صحيفة الصباح وأضيع الكلمات
أمضي إلى الشوارع
لساعة أو أكثر، أسير الهوينا
لرجل في سني. ابتاع
تفاحة ولكن لا آكلها
المرأة العجوز التي تبيعها تعلِّق
على ملمسها ومذاقها، تضحك
وتغمق شرايين خديها.
أحدِّق في النهر بينما يرفض الزمن
أن يتحرك. في هذه الأثناء
يبدأ الثلاثة بالاضمحلال يتخلون
عن أسمائهم وأصواتهم
عن نفثات دخانهم وبقع الزيت، ورائحتهم اللاذعة.
سنطلق على أحدهم اسم الملح، ذلك الطويل الأشقر
الذي يؤلمه معصماه، يكبح شيئًا!
لعنات أو دموعًا، ويهزُّه التعب، عيناه الزرقاوان
متورمتان بالأرق، كلماته تهب من بوق تنفسه.
بمقدورنا أن ندخل إلى كاتدرائية صباه ونقبض من جديد
على الأصوات التي كانت أصواته. بمقدورنا
أن نسترجعه من حافة النار، ولكن عندئذ قد نخسر الآخر،
ذلك الذي نسميه الزيت، وذلك لأن الزيت
يُستولد في التصدعات الدقيقة
بين الفينة والأخرى، يعيش الزيت
في الأرشيفات المقفلة لساعة الحائط
رسالته الوحيدة تعلن: "عزيزي
الرئيس، أفضل ألاَّ...".
ذراع واحدة متدلية على ظهر الملح،
فم عريض بالقهقهة،
الشعر الأسود يغطي الجبهة،
يمدُّ يده اليمنى، مفتوحة وقذرة
ليتناول السلسلة الصدئة
الوقفة الجامدة، الأيدي المندَّبة للغرباء،
ليس هناك شيء لن يأخذه،
هذان الاثنان ليسا شقيقين،
الطويل والمهيب، الأنف السلافي المستقيم،
العينان الشاحبتان الفم المنتفخ المغتاظ
بازدحام السير بينما يغتبط التوأمان لكونهما معنا
هذا الصباح المتأخر في الجنة، إذا سألته،
"هل تهدئ المياه العكرة؟"
قد يبتسم ويهز رأسه الضخم.
غير واثق مما تعنيه. إذا سألت
عن مصدر مرحه يهز كتفيه السميكتين
ويقلب عينيه إلى الأعلى إلى حيث
تلتقط الأوراق المستديرة الريح، وتصوِّب
طيور المدينة الرمادية نحو طرائدها،
وترسم الغيوم المسطحة مواثيقها الغامضة
على الهواء. للحظة فإن الطاقة التي تجعلهما
ما هما عليه تبعثر ضوء الظهيرة في أعيننا،
وبعد ذلك نرى من جديد أنهما قد اختفيا
وأن الشارع هادئ، النهار يعبر إلى المساء،
وهذا هو الخريف في السنة الحالية.
"الرجل الثالث" تسأل "من كان الرجل الثالث
في الصورة"؟ لا صورة لا غموض،
فقط الملح والزيت
في الدوران اليومي للعالم،
ثلاثة شبان في ثياب العمل المتسخة
في طريقهم تحت هالة الغيوم الممزقة
وطيور المدينة الجائعة
هناك دخان وشحم وتعب المعصم
هناك الضحكة، هناك الرسالة المحتجزة في ساعة الحائط
ونكهة التفاحة، النهر المنزلق على ضفافه، أكثر اكفهرارًا الآن
من السماء المنحدرة لمرة أخيرة لتبعثر مأساتها
في هذه المياه السوداء التي تحتضن
اليوم الذي مضى، الليل الذي سيخيِّم.

(نص مقتطف من مجموعة للشاعر بعنوان الرحمة، صادرة عن منشورات نوبوف، 1999).

*

الانتظار

نقف صفًا طويلاً تحت المطر
ننتظر في حديقة فورد هايلاند
لأن العمل، وما أدراك ما العمل،
إذا كان عمرك يسمح لك
بقراءة هذه الأسطر ستعرف ما هو العمل،
ورغم ذلك فإنك قد لا تفعل ذلك.
انس أمرك. إن المغزى هنا يتعلق بالانتظار.
الانتقال من قدم إلى أخرى.
الإحساس بالمطر الخفيف المتساقط كالضباب
في ثنايا شعرك، مشوشًا رؤيتك
حتى تظن أنك ترى شقيقك أمامك،
في عشرة أمكنة ربما. تمسح نظارتيك بأصابعك
طبعًا إنه شقيق شخص آخر
ذي كتفين أضيق من كتفيك
ولكن بالترهل الحزين عينه،
الابتسامة العريضة التي لا تخفي العناد،
الرفض الحزين للاستسلام للمطر،
للساعات المهدورة بالانتظار،
للعلم بأنه في مكان ما إلى الأمام
رجل ينتظر سوف يقول
"لا، لسنا في وارد العمل اليوم"،
لأي سبب يريده، أنت تحب أخاك،
الآن فجأة ستحتمل بصعوبة الحب
الذي ينهمر عليك من أخيك كالطوفان
وهو ليس إلى جانبك أو وراءك أو أمامك
لأنه قابع في المنزل يحاول أن ينسى بالنوم
مناوبة ليلية بائسة في شركة الكاديلاك
ليتمكن من النهوض قبل الظهر لينكب على دراسة الألمانية.
يعمل ثماني ساعات في الليل ليتمكن من غناء فاغنر
وهي الأوبرا التي أكثر ما تكرهها،
الموسيقى الأسوأ التي ابتكرت.
كم من وقت طويل مضى منذ أن قلت له
أنك تحبه، وحضنت كتفيه العريضتين
وفتحت عينيك واسعتين وتلفظت بهذه الكلمات،
وربما قبلت وجنتيه؟
لم تقم البتة بعمل بسيط كهذا، واضح جدًا،
ليس لأنك صغير السن أكثر ممَّا ينبغي، أو غبي جدًا،
ليس لأنك حسود أو حتى دنيء،
أو غير قادر على البكاء بحضور شخص آخر، لا.
فقط لأنك لا تعلم ما هو العمل.

(نص من مجموعة ما هو العمل).

تعريب: جهاد الترك

*** *** ***

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 إضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود