فولتير: تاريخ طويل من المنافي والاعتقال والاضطهاد والجرأة

 

كوليت مرشليان

 

قد لا تكون التواريخ مهمة لاسترجاع حياة أو مؤلفات عظماء كبار مروا في التاريخ، لكنها هنا للذكرى وليس فقط للاحتفال. وفعل التذكر، حين يتعلق بمفكر وفيلسوف كبير طبع زمنه بمسيرة وبمؤلفات مثل الفرنسي فولتير، يكون على مستوى الإفادة الفعلية عبر الربط والفصل أو عبر المقارنة الضرورية ما بين ماضي وحاضر أو ما بين صراع حضارات وثقافات وأديان وأفكار على امتداد قرون ثلاثة. لم يكن فولتير مجرد روائي ترك وراءه كتبًا وشخصيات ولم يكن مجرد فيلسوف أو مفكر عمل على ترك بصماته في سجل المفكرين حبًا بالظهور أو بإرضاء غرور "الأنا"، بل إنه مضى في طريق الفلسفة التي تبدأ بعفوية انطلاقًا من مراقبة الواقع وتوصل إلى انجازات في هذا المضمار، وحرَّك الرأي العام ليس في فرنسا وحسب إنما في كل أقطار العالم، نظرًا إلى جرأته غير المعهودة في ضرب المفاهيم الثابتة وفي نسف التقاليد والأفكار الجاهزة.

وقد يكون استرجاع حياة فولتير للعبرة أيضًا في عصرنا هذا الذي يشهد إجحافًا في حق الكتاب والمفكرين والفلاسفة تمامًا كما حصل معه، هو الذي دخل السجن عشرات المرات وأمضى سنوات من عمره وراء القضبان الحديدية يتحضر في كل مرة لحين خروجه لمواجهات جديدة سلاحها القلم. نتذكر فصولاً من حياة فولتير، نتذكر الطفولة والحب والصداقة والوطن والسياسة، والأسفار والمواجهات والكتابات والاضطهاد، ومنع كتبه أو إحراقها ثم تمجيدها وإرسائها في المكتبات الوطنية بعد مرور قرن، كذلك نتذكر مؤلفاته وشخصياته ويبقى "كانديد" شخصيته النقية المثالية التي أطلق من خلالها مقولته الشهيرة: "فلنزرع حديقتنا" معلنًا بها تفاؤله من ناحية، ومن ناحية أخرى، وحين لم يكن فولتير يدرك الأمر، فإنه كتب لمفاهيم مستقبلية توازي إلى حد كبير ما اعتبره غوته من النتاج الفكري والأدبي الذي تكتب له الولادة من جديد بعد موت الكاتب، معلنًا بذلك الرؤيا اللاواعية لدى البعض التي تصبح في مثابة النبؤة أو الإحساس المسبق بالعصور القادمة.

عصر التنوير

ثمة قواسم مشتركة ربطت اسم فولتير بعصره، أي القرن الثامن عشر أو "عصر التنوير". كان عصر العلوم والاكتشافات والفلسفة والفكر، وكانت الأرضية الملائمة لتفتح مواهب الفتى فرانسوا-ماري آروي الذي أبدى تمايزًا في شخصيته منذ الطفولة، وعرف كيف يدخل عالم الإبداع من باب القصة والرواية والمسرح والفلسفة وهو في العشرينات باسم فولتير، وهو نتيجة لعب على أحرف اسم منطقة امتلكت فيها العائلة أرضًا زراعية شاسعة "ايرفولت" في بواتو. ومعروف أن فولتير امتلك جسدًا قويًا وعاش إلى ما فوق الثمانين عامًا، ومسيرته ارتبطت بتفوقه الجسدي والعقلي والنفسي. ومع أن بذور الرومنطيقية كانت بدأت مع معاصريه وخاصة مع جان-جاك روسو الذي اعتبر مريضًا "بالأنا"، فإن فولتير لم يهجس بتاتًا بحياته الشخصية، وترتكز كل مؤلفاته على تأثيرها بالأحداث المحيطة به من سياسة وحروب ومشكلات اجتماعية وأخلاقية ودينية. كان ديناميكيًا إلى حد لا يوصف، وقادرًا على تحمل الصعاب والتحديات. عاش تجارب متنوعة في السفر والترحال واختبر المنافي في كل أقطار العالم، كذلك العيش في السجن واستغلال وحدة السجن إلى أقصى حد، فكان يكتب ويصمم كل أفكار كتبه من وراء القضبان الحديدية، وما إن يخرج حتى ينهيها وينشرها. وفي الغالب كان يعود أدراجه إلى السجن، إذ عرفت أكثر كتبه المنع والحذف والمصادرة، وأنزلت به أشد العقوبات التي يمكن أن تطال كاتبًا، لكنه كان كثير الأصدقاء، كما كان أعداؤه كثرًا، وغالبًا ما عمل الأصدقاء على خروجه واستئنافه الحياة الطبيعية. كان واقعيًا إلى حد أنه فهم أن العزلة والوحدة اللتين تفرضهما الكتابة يؤديان إلى الفقر والعوز، فما كان منه إلا أن صمم لجمع الثروات وهذا ما حصل بالفعل معه في مراحل كثيرة من أسفاره حيث مارس التجارة وشغل مناسب سياسية كبيرة: كان مستشارًا سياسيًا وديبلوماسيًا رائعًا استغل مواهبه الملك فريديريك الثاني وأوكله مهمات في ألمانيا وبريطانيا، ثم عيِّن مسؤولاً عن العلاقات الخارجية. وأصبح شاعر البلاط الملكي بمساندة صديقة مدام دو بومبادور، ومنذ ذلك الحين وحتى مماته، استمر فوليتر في تأكيد مواهبه السياسية والديبلوماسية. لكن الغريب في فولتير قدرته الخارقة على المضي في كل الاتجاهات في آن، وحين كان يسطع نجمه في السياسة، كان ملتزمًا قضايا فكرية وفلسفية ودينية، فكتب وعارض وانتقد وواجه، ومعه عرفت الفلسفة بعدًا منهجيًا وعلميًا متطورًا في عصر "التنوير" والعلوم. وحين كتب للمسرح والرواية نقل فلسفته إلى رحاب شخصيات سرعان ما أصبحت عالمية في مواصفاتها: مسرحيته الأولى: أوديب تلاها بروتوس، موت القيصر، الابن البار، زوليم، محمد، ميروب. وفي القصة كتب الكثير غير أن قصة زاديغ كانت الأشهر. أما رواية كانديد فاختصرت كل فكره وقدمت عبر بطلها ما يشبه السيرة للكاتب. عرفت كانديد شهرة واسعة خاصة أن فولتير، وبعد أن تطرق للأزمنة الماضية وسرد أحداث التاريخ وتطوره البطيء في كتابه بحث في التقاليد، قدم في رواية كانديد العالم الجديد الذي انطلق بعد الحروب التي ضربت المنطقة في أوروبا ومات مئات الألوف فيها. وهذه الحروب وصفها فولتير في قول شهير له: "هذا القرن شبيه بحورية البحر، النصف الأول منها جميل مثل أسطورة والنصف الآخر قبيح ومخيف في شكل ذيل سمكة". هذا الواقع حرض على الثورات وعلى العصيان ورأى المثقفون والمفكرون في ثورة "التنوير" والعلم من يمكن أن يبني نفوسًا جديدة تطلع من فضائل السلم وتوسع أفق العلم والمعرفة. وفي تنقلات فولتير من منفى إلى آخر لم يلق المساندة لا في بريطانيا التي كانت معروفة بحبها للفلسفة والأدب ولا في جنيف التي كان يفترض أن تكون نقطة انطلاق من أجل تسامح ورأفة في السلطة الدينية، فنشر فولتير مؤلفاته في باريس وقرر المواجهة. وحين كتب كانديد قرر الابتعاد عن العالم الخارجي وعن صخب المجتمع الذي كان يستهويه، وعزل نفسه: "أريد أن أمتلك الأرض بكاملها أمام عيني في عزلتي". ومن هذه الازدواجية ولدت روايته، بين نداء الخارج وحدود الحديقة الصغيرة المسيجة. وفي حدود الستين من عمره، قرر أن يبحث عن فضائل السكينة والوحدة. وبطله كانديد، الذي من اسمه هو عنوان البراءة والطهارة، يعيش تجربة إنسانية قاسية. فبعد الحب الطاهر الذي جمعه مع ابنة البارون الذي اعتنى بتربيته وتدعى كونيغوند، يطرد الشاب من القصر ويجوب العالم هائمًا على وجهه مع اندلاع الحرب. ينتقل من بلد إلى آخر بحثًا عن كونيغوند. وفي ترحاله يلتقي أشخاصًا، يواجه مصاعب، يكون شاهدًا على فظائع الحرب وأهوالها. يلتقي حبيبته صدفة ثم تضيع ثانية ثم يعثر عليها بعد سنوات وقد تغيرت ملامحها، فانقلب جمالها قبحًا وفقدت نضارتها وجاذبيتها، لكنه يقرر الاستمرار معها ويرحلان نحو بيته المسيج بحديقة خاصة. ويترك فولتير عبرة عن نتيجة ترحال كانديد عنوانها: "فلنزرع حديقتنا".

سنوات الثورة

لكن بين سنوات الثورة والغضب وسنوات الاتزان بعد كانديد مرحلة صاخبة ترجمها فولتير كتابات فلسفية وفكرية دينية متطرفة. بدأت بذور الثورة لديه وهو شاب يافع حين قرر أن يبحث عن جذوره الأصلية إذ اعتبر – وحسب تفاصيل حصل عليها من محيطه – أنه ليس ابن كاتب العدل البسيط السيد آروي بل الابن الشرعي للسيد روشبرون الضابط الفارس في قصر الملك والشاعر البلاطي – وقد هنأ والدته على حسن اختيارها في لغة ما بين الجدية والسخرية. لم يخجل فولتير من هذا الواقع بل على عكس ذلك، كان مفخرة له أن ينتسب إلى طبقة ارستقراطية تسمح له باستخدام مرتبتها للوصول إلى عالم كان يحلم به. وكان فولتير من المعجبين بالقرن السابع عشر وبإنجازته على الصعيد الأدبي، فقلد كبار شعرائه وكتب بنفسه ملحمية لاهنرياد ومسريحة زائيير. ومع هذا، لم يكن تقليديًا في آرائه الاجتماعية والدينية. وكل ما كتبه تقريبًا تعرض للمصادرة من جهات دينية أو سلطات مقربة من الملك. لكنه في الفترة الأخيرة عرف كيف يربح صداقة القصر الملكي وكل من فيه إلى أن أصبح شاعر البلاط، ومن هناك انطلق في متابعة تمرده وبقوة أكبر.

أولى مقالاته، التي كانت تصدر تحت عنوانه رأيت وفيها آراء نقدية، بدأت من مرحلة الملك لويس الرابع عشر الأخيرة وصولاً إلى عصره. وبعد أن تأكدت السلطات من هوية الكاتب، قادته إلى السجن، إلى "الباستيل" حيث أمضى أكثر من سنة. كان السجن المكان المناسب لكتابة ملحمية تعوز النفس الطويل والانقطاع عن العالم. ثم خرج ونشر لاهنرياد التي اعتبرتها فرنسا ملحمة رائعة في موضوعها وفي تكوينها وكرست فولتير شاعرًا كبيرًا.

وإلى "الباستيل" مرة جديدة بعد كتابة وحركة تحررية متصاعدة. ساعده بعض الأصدقاء على الخروج، لكن كان المنفى بانتظاره. فمن "الباستيل" إلى انكلترا حيث استفاد في التعرف على الطبقة الارستقراطية الليبرالية، وعلى إثرها كتب ودون تجربته في رسائل فلسفية، درس فيها كل مقومات "فلسفة التغرير" الجديدة: الرأفة، وحرية التعبير والكتابة، وروحية المساواة والتنظيم. وهناك كتب بالانكليزية: بحث في الحروب المدنية، بحث في الشعر الملحمي، وأهدى ملكة انكلترا الطبعة الثانية المنقحة والمضافة من كتابه لاهنرياد.

الرسائل

في الرسائل الفلسفية، ويعتقد أنه أرسلها تدريجيًا إلى أحد أصدقائه وهو في انكلترا، كتب كل أفكاره ثم أحب أن ينشرها، وهي تفوق رواية ميكروميغاس في أهميتها ولو أنها لا تتمتع بروح الفكاهة التي نتلمسها في الرواية. في الرسائل يقابل فولتير بين حرية الشعب الانكليزي وعبودية الفرنسيين، ولكن كل أقواله جاءت مغلفة مبيتة بالضحك والظرف. إلا أنه، وعلى الرغم من إعجابه بالشعب الانكليزي، فقد فرح عندما ألغي قرار حكم نفيه وسمح له بالعودة إلى باريس ليمارس حياته الأدبية والمسرحية، فقدَّم بروتوس وكتب قصة شارل الثاني عشر. أما صدور الرسائل الفلسفية في باريس فقد أعقبه فضيحة كبيرة حين قرأ أحد رجال الشرطة بعض تفاصيلها ورأى فيها شحنة من ثورة ومتفجرات تهدد سلامة النظام الملكي، فصودر الكتاب وأحرق في الساحة العامة للقصر وصدر الأمر بالقبض على فولتير لكنه لاذ بالفرار ونجا من السجن ليرتمي في أحضان عشيقة هي المركيزة دو شاتيليه التي كانت شغوفة بالعلم والفلسفة والكيمياء والفيزياء والرياضيات.

ومع انهماك زوجها الماركيز في شؤون الحروب والمعارك وبعد خلافات حادة معه، أصبح فولتير الصديق سيد القصر وتحول قصرها في منطقة "سيري" الفرنسية محجة للفلاسفة ومقامًا للحفلات الفخمة واللقاءات الفكرية. ويقال إن مجالس "قصر سيري" في ذلك العصر بحضور فولتير قد ذاع صيتها إلى أن شبهها البعض بمجالس أفلاطون لما ضمت من نوابغ في العلم والفن والأدب. في تلك الفترة كتب فولتير أجمل مؤلفاته: كانديد، العالم كما يسير، ابن الطبيعة، أميرة بابل، وغيرها. ويقال، وهذا على لسان العديد ممن كتبوا مذكراتهم وعاصروا فولتير، إن هذا الأخير كان يكتب في تلك المرحلة بسهولة فائقة واتقاد ذهن هائل، فكتب كانديد في ثلاثة أيام وليال لم يذق خلالها طعم النوم إلا لفترة قصيرة متقطعة. كان قلمه "يجري ضاحكاً على الورق"، وعن كانديد كتابه الذي اعتبره يصور "أسوأ عالم يمكن أن نتصوره" ومصدرًا للشؤم إلا أنه وفي نظر الآخرين كان "إنجيل التشاؤم" ولكنه من "أبهج الكتب في تاريخ الأدب".

فولتير والله

لم يكن فولتير ملحدًا كما ساد الاعتقاد في عصره لكن كانت له آراء خاصة لم تكن الكنيسة لترضى بها لجرأتها: "أنا أؤمن بوجود إله واحد مبني على العقل"، وقال أيضًا: "لو لم يكن الله موجودًا لوجب علينا أن نوجده". وبحسب فولتير إن الله ليس وقفًا على دين معين إنما هو "الكائن الأسمى والعقل المدبر الذي يدير الكون". وكان له شعار يردده دائمًا: "اسحقوا الخرافة والتعصب الديني". وطوال حياته، عمل على أن ينزع صفة العنف عن الكنيسة لتحل محلها صفة الشفقة أو الرحمة.

لم يكتف فولتير بنقد الكنيسة بل انتقد المجتمع الفرنسي في كل كتاباته. ومع صدور كل كتاب من مؤلفاته كان يتعرض للمنع والمصادرة ما أضفى على حياته صفة المغامرة المتواصلة في حياة طويلة كرَّسها لقلم جريء وفاضح في مجتمع وصفه "بالضيِّق والمتزمِّت" وبأسلوب حياة متقدم على عصره، رافض وثوري.

ومع أنه عاش ظروفًا صعبة وكلفته جرأته وصراحته الكثير من التضحيات حتى أنه وصف حياته بالكلام التالي: "في فرنسا يجب أن تكون السندان أو المطرقة. أنا اخترت أن أكون سندانًا"، فهو صرَّح أيضًا بأنه يشعر بالامتنان والفخر بحياة تضج حركة وأحاسيس قوية: "كل من ليس حيويًا ومستعدًا للمواجهة فهو لا يستحق الحياة وأعتبره في عداد الموتى". ومن أقواله أيضًا: "بما أنني وقح للغاية فأنا أفرض الكثير من الإزعاج للآخرين خصوصًا المصابين بالبله!". عُرف فولتير بلهجته القاسية واللاذعة وبحسه الدعابي الممزوج دائمًا برغبة في التغيير، وشكَّل ظاهرة فريدة في المجتمع الباريسي انتقلت عدواها الى عواصم ثقافية أخرى فتأسس ما يشبه "المدرسة الفولتيرية الفلسفية" التي بدأت مظاهرها تنتقل إلى الصالونات الأدبية والأماكن الثقافية الخاصة والعامة، فصار هناك من يقلِّد فولتير في كتاباته أو في حديثه أو في هندامه وملامح وجهه التي تعلوها ابتسامة ماكرة سُجلت للتاريخ على أنها قمة السخرية اللاذعة والمحرِّضة. ومع أنه تقاسم نجومية ذلك الزمن مع نقيضه جان جاك روسو، صاحب الاعترافات الجريئة وأحلام المتنزه المستوحد، الذي أسس بكتاباته لرومنطيقية ستقلب نهايات القرن الثامن عشر رأسًا على عقب، فإن روسو كان مسالمًا ومحبوبًا من السلطات السياسية والدينية، ولم تصل ثورته أكثر من حدود "الأنا". ومقابل الحياة الهانئة لروسو في الريف متغنيًا بجماليات الطبيعة والخالق، كان فولتير صوتًا صادحًا في العاصمة منتقدًا كاسرًا على صنمية الأفكار الجاهزة، ضاربًا عرض الحائط المبادئ الأخلاقية وحدود الحرية المرسومة والمكتوبة بسلاسل حديدية. لم يكن حيِّز الحرية المعطى للكتَّاب كافيًا لفولتير في عصره، وحين كان روسو مثلاً يعيش سعادات كبيرة في نزهاته التاريخية التي خلفت فلسفة وأفكارًا عميقة، كان فولتير يعيش على صورة المقاوم في العاصمة؛ يتحدى، يكتب، ينشر، يتم توقيفه، يدخل السجن أو يرحل إلى منفى قسري ثم يعود بعد حين إلى مزاولة الكتابة أو العصيان. روسو وفولتير عاشا في عصر واحد وكتبا في عصر واحد وماتا في العام بفارق أسابيع قليلة مع أن فولتير كان يكبر روسو بعام، غير أن كل واحد منهما شكَّل ظاهرة بحد ذاتها. ومع أن فرنسا تميل إلى تكريم روسو بشكل لافت منذ ولادته فإن تكريم فولتير عرفته فترة أوائل القرن العشرين أي بعد توسُّع أفق الحرية هناك.

كانديد أو البراءة الأولى

شكَّلت بداية حرب السنوات السبع في أوروبا، كذلك الهزة الأرضية التي تعرَّضت لها مدينة لشبونة، المحرِّض لفكرة أن العالم يخضع لقوة الشر، ومنها انطلق فولتير في فلسفته المتشائمة التي بنى على أساسها روايته الرئيسية التي تختصر كل فكره كانديد. بطله الشاب اليافع "كانديد" يطلُّ ببراءته على العالم وعلى الحب والجمال ويصطدم بواقع مرير يجعله يتشرَّد في مدن الأرض ويذوق كل عذابات الحروب والمآسي والكوارث الطبيعية، وينتهي به الأمر بعد بحث طويل عن حبيبته التي يجدها متعبة مرهقة وفاقدة لجمالها أمام حقيقة واحدة ينطلق بها حين يجد نفسه أمام حديقته اليابسة المتعطشة إلى يديه، يدخلها ويقرر البدء من جديد مع مقولة: "فلنزرع حديقتنا".

لكن نضال فولتير جاء مجردًا من كل الأسلحة المعهودة أو كل الأدوات التقليدية الممكنة. تخلى عن دعم سلطة الدولة أو الدعم السياسي أو العسكري وتخلى عن سلطة الدين حين كانت الكنيسة في أوج انخراطها في تقرير شؤون المجتمعات وسياسات الدول. انتقد الجميع وامتنع عن التعاون مع أية قوة تقليدية معتبرًا أن السياسات القديمة متحدة مع سياسة الكنيسة الصارمة هي التي أوصلت واقع الحال إلى أماكن مسدودة في إطار سعادة الفرد. وحورب فولتير على أنه عنصر مشاغب وفوضوي وملحد متنكر للأعراف والتقاليد. نبذته فرنسا ونبذته الكنيسة وأصبح مثالاً للعصيان وصورة الساخر المتهكم والوقح! ثم ما لبثت أن خفتت حدة هذه الصورة لسببين: أولهما أن القسم الأخير من حياة فولتير، أي في نهايات القرن الثامن عشر، كان قد شهد بعض التطورات الاجتماعية والدينية والثقافية التي جعلت شخصية فولتير أكثر قبولاً في إطارها النافر؛ ومن ناحية ثانية، فإن الكاتب قد تحوَّل بنفسه إلى لهجة معتدلة جعلته في شيخوخته أقرب الى المسالمة من الحرب الدائمة. وفي واقع جديد في حياة فولتير التقى هذا الأخير قبل أشهر من رحيله، أي مع بداية إحساسه باقترابه من الموت، بعض رجال الدين، فتمَّ اعترافه وخضوعه لسلطة الكنيسة بقوله أنه لم يعد ملحدًا وبأنه مؤمن بالله وبتعاليم الكنيسة.

أثار هذا الأمر كل المتحمسين لثورة فولتير وكل أتباعه في الفلسفة واعتبروه خائنًا لهم ولنفسه. غير أن فولتير لم يمت إثر النوبة المرضية التي شهدت اعترافاته الجديدة، ثم انطلق في المجتمع الباريسي عبر إطلالات كثيرة له في شتاء ذاك العام حيث خطب وشارك في ندوات وصرَّح بما يبرر أقواله الأخيرة على أنها ليست تراجعًا عن مواقفه أو خيانة لها إنما هي عن محض قناعة شخصية في الإيمان لا تتعارض مع مواقفه من كل الشؤون الأخرى من سياسة ومجتمع إنساني.

في آذار من العام دخل فولتير "الأكاديمية الفرنسية" التي سجلت فخرها بقبوله عضوًا فيها عبر رسالة تاريخية موجهة إليه، وتكرَّس فارسًا من فرسان "الكوميدي فرانسيز" مع حضوره العرض الأخير لمسرحيته الأخيرة من توقيعه وهي من نوع التراجيديا وبعنوان ايرين.

رحيل

رحل فولتير في أيار ولفظ أنفاسه الأخيرة أمام بعض الأصدقاء المقرَّبين وقال بالكلمة الواحدة:

أموت في هذه اللحظة وأنا أشعر بعبادتي الله، وبحبي لأصدقائي، وبعدم كرهي لأعدائي، وبرفضي المطلق للمعتقدات الباطلة.

هل كان ارتداد فولتير إلى الإيمان عن محض قناعة أم أنه كان نتيجة ضعف أو خوف أو رغبة في اجتذاب فئة المؤمنين الطاغية على المجتمعات في ذلك الحين؟ هل اعترافه بالله وخضوعه إلى مشيئته كانت مسألة شخصية وإيمانية خاصة من متاع اللحظات الأخيرة التي تسبق الموت أم أن فولتير كان واعيًا في تلك اللحظات الأخيرة للغضب العارم من حوله إزاء مواقفه المتطرفة وأغلق باب العصيان ليفتح مكانه بابًا واسعًا على الشهرة والانتشار السريع؟ كلها تساؤلات رافقت موت الفيلسوف والمفكر الفرنسي الكبير الذي انتهى في مقبرة البانثيون الخاصة بالعظماء بعد أن نقلت رفاته عام إليها.

وكُتب في اللافتة التي تعلو قبره:

حارب الملحدين والمتزمتين. أوحى بكتاباته بروحية التسامح، طالب بحقوق الإنسان ضد العبودية ونظام الإقطاع. شاعر، مؤرخ، وفيلسوف جعل آفاق النفس البشرية تتسع وتتعلم معنى الحرية.

*** *** ***

المستقبل، الخميس 26 أيار 2011، العدد 2396، ثقافة وفنون، صفحة 11

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 إضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود