فرويد مرَّ من هنا!٭

إدوارد هوفمان

 

لقد مرَّ أكثر من قرن على حدث هام في تاريخ علم النفس. إنه رحلة زيجموند فرويد وكارل جوستاف يونج إلى أمريكا. دامت الرحلة إلى العالم الجديد أربعين يوما فقط، غير أنَّ آثارها كانت هائلة. أصبح الرجلان معروفين عالميًا وبرز تأثير كلٍّ منهما ليتواصل إلى اليوم.

تبدأ حكايتنا في منتصف سنة 1908. كان "جران فيل ستانلي هال" يخطِّط بحماس للاحتفال بالذكرى العشرين لإنشاء جامعة كلارك، الجامعة الصغيرة والمرموقة قرب بوسطن. لم تشهد أيَّة مؤسَّسة جامعية أمريكية إلى ذلك الوقت تخرُّج عدد مماثل من حملة الدكتوراه في علم النفس، حيث يعدُّ من بين خرِّيجيها شخصيات مثل جيمس كاتل وأرنولد غزيل.

كان "هال" يطمح إلى دعوة كبار العلماء في العالم إلى تلك الاحتفالات. وكان هو نفسه شخصية مهيمنة في علم النفس الأمريكي بعد أن اشتهر خصوصًا من خلال أعماله حول المراهقة. كما أسَّس إلى جانب ذلك مجلاَّت عديدة وكان أول رئيس للجمعية الأمريكية لعلم النفس. قدَّم هال بشكل مبكِّر محاضرات حول الحياة الجنسية وأراد بأيِّ حال من الأحوال ملاقاة فرويد الذي يكنُّ له إعجابًا كبيرًا.

كان فرويد يبلغ من العمر اثنتين وخمسين سنة يومها. طوَّر قبل ذلك بأربعة عشر عامًا أسلوب "التحليل النفسي" ونشر مقالات عديدة بالمجلات العلمية ونصف "دزينة" من الكتب لم تجد جمهورًا واسعًا، فلم يتيسَّر طيلة ثمان سنين بيع أكثر من ستمائة نسخة من كتابه تأويل الأحلام الصادر سنة 1899. أسَّس سنة 1902 "جمعية الأربعاء للتحليل النفسي" وعقد لقاءات أسبوعية مع زملائه بغرفة عمله. وكان جدول مواعيد فرويد مليئًا بالجلسات مع المرضى. ومع ذلك فقد بقي غير معروف تقريبًا في الولايات المتحدة الأمريكية، وهو ما كان "هال" مصمِّمًا بقوَّة على تغييره.

وهكذا تمَّ إرسال الدعوة إلى فرويد للقيام بسلسلة محاضرات حول نشأة التحليل النفسي. اقترح عليه هال مقابل ذلك مكافأة مالية متواضعة، فرفض فرويد بسرعة لأسباب مادية ومهنية، قائلا إنَّه لا يستطيع التخلِّي عن ثلاثة أسابيع من ممارسة العلاج "فأمريكا ينبغي أن تجلب المال لا أن تكلِّف مالاً"، مثلما كتب فرويد في ردِّه بشكل ساخر. غير أنَّ هال لم يتخلَّ عن مشروعه وكرَّر دعوة فرويد إثر بضعة أسابيع. رفع من المكافأة ووعده بإسناد دكتوراه فخرية. استجاب فرويد هذه المرَّة في الحال وكتب لزميله السويسري الأصغر كارل جوستاف يونج : "أعترف أنَّ هذا الانطباع هو الأقوى لديَّ خلال السنوات الأخيرة... وأنَّه لم يستحوذ على اهتمامي شيء آخر منذ تلك اللحظة".

لماذا كان فرويد متحمِّسًا إلى ذلك الحد؟ من المؤكَّد أنَّه ليس بسبب فرصة زيارة العالم الجديد. فقد روى لأصدقاء أنَّ هناك شيئين فقط يثيران اهتمامه في أمريكا وهما مجموعة من الآثار القبرصية القديمة بمتحف نيويورك وشلالات نياجرا. ويعتقد معظم المؤرِّخين أنَّ الدكتوراه الفخرية من جامعة كلارك لعبت الدور الرئيسي. فقد تحصَّل فرويد فقط عندما بلغ الأربعين على درجة بروفيسور من جامعة فيينا وكان يتطلَّع إلى الاعتراف الفكري. وستكون تلك هي الدكتوراه الفخرية الوحيدة التي يحصل عليها في حياته.

تبقى ظروف دعوة يونج إلى أمريكا غير واضحة جزئيًا إلى يومنا هذا. كان عمره آنذاك ثلاثًا وثلاثين سنة ويعمل طبيبًا نفسانيًا ونائبًا لمدير المصحة النفسية "بورغهولزلي" ذات الصيت الكبير بزوريخ. ورغم أنَّ دراساته حول تداعي الكلمات ورسالته حول علم نفس الخرف المبكِّر Psychologie der Dementia praecox، الصادرة سنة 1907، معروفة بأوروبا وأمريكا، فقد كان يونج في مرحلة البداية من حياته المهنية وهو السبب في عدم وضعه ضمن القائمة "أ" لضيوف الاحتفالات المقرَّرة، بل كان تعويضًا في آخر لحظة لارنست نويمان، وهو عالم نفس متخصِّص في التربية كان يعمل بلايبتزيج تحت إشراف فيلهلم فوندت. ما بقي غير واضح هو لماذا قبل نويمان – الذي دخل اسمه طيَّ النسيان تقريبًا – الدعوة في البداية ثم اعتذر. قرَّر هال في النهاية اختيار يونج كمعوِّض، لأنه كان مقرَّبًا من فرويد ويلتقي مع هال في اهتمامه بالمسائل الجنسية.

طلب فرويد من صديقه المقرَّب وتلميذه ساندرو فيرنزي أن يرافقه في رحلته. فيرنزي الذي كان هو أيضًا من أصل يهودي ويدافع عن وجهة نظر مشابهة لفرويد في مجال علم النفس، وافق في الحال. ولمَّا علم فرويد أنَّ يونج بدوره سيقدِّم محاضرات بجامعة كلارك، دعاه هو أيضًا ليرافقه في سفره. رأى فرويد في يونج – أكثر من فيرنزي – "وليَّ العهد" والزعيم القادم لحركة التحليل النفسي في العالم.

في الحادي والعشرين من أغسطس انطلق الثلاثة على ظهر الباخرة "جورج واشنطن" من ميناء بريمن. كان فرويد خلال الرحلة يحرص على تدوين ملاحظات في يوميَّاته قبل كتابة رسائل مطوَّلة إلى زوجته. كتب تلميذه البريطاني ومؤلِّف سيرته ارنست جونز:

كان الثلاثة يتوَّلون تحليل أحلام كل واحد منهم خلال الرحلة البحرية، كمثال أول للتحليل الجماعي، وقال لي يونج فيما بعد إنَّ أحلام فرويد كانت متعلِّقة قبل كلِّ شيء بهموم تخصُّ عائلته وعمله.

وقد رفض فرويد مع ذلك الحديث عن حلم معين أو الاسترسال في "تداع حرٍّ" حسب يونج لأنَّ ذلك كان ربما سيكشف عن مشاعر إيروسية تجاه أخت زوجته. دافع فرويد عن نفسه قائلاً: "لا يمكن أن أعرض هيبتي للخطر". وهكذا انتهى التحليل المشترك للأحلام. كتب يونج لاحقًا أنَّ تقديره لعرَّابه قد تلاشى في تلك اللحظة بالذات.

رست الباخرة "جورج واشنطن" بميناء نيويورك في التاسع والعشرين من أغسطس. صحيفة واحدة بذلت جهد نشر تقرير حول وصول "البروفيسور فرويد من فيينا". نزل فرويد ورفاقه بفندق مانهاتن بتايميز سكوير وقضوا الأيام الستة الموالية في التجوال بالمكان. كان دليلهم السياحي الطبيب النفساني النمساوي المهاجر أبراهام أ. بريل الذي قاد بهم عربة تجرُّها الخيول عبر الحديقة المركزية والمدينة الصينية وحيِّ المهاجرين اليهود. تسلوا في حديقة الملاهي الجديدة "دريم لاند" بجزيرة كوني وحقَّق فرويد رغبته في زيارة مجموعة الآثار القبرصية القديمة بالمتحف الميتروبوليتاني للفنّ. كما شاهدوا إحدى حفلات برويدواي، وزاروا متاحف أخرى ودخلوا لأول مرَّة في حياتهم قاعة سينما. ورغم هذا البرنامج المكثَّف وجد فرويد ويونج الوقت للمشي مطوَّلاً عبر الحديقة المركزية عند الظهر والتحاور حول طبيعة الشخصية الإنسانية. كان يونج يعتقد أن الثقافة لها دور هامٌّ في تطوير الشخصية وتؤثر فيها بقوَّة، في حين لا يقرُّ فرويد إلا بالحدِّ الأدنى لذلك التأثير. دافع فرويد في تلك الفترة حسب يونج عن موقف بيولوجي صارم، يمكن للمرء تصوُّره. وقد زاد هذا الاختلاف الجوهري من رغبة يونج في التعريف باتجاه نفسي خاص به يعتمد على الثقافة.

في الرابع من سبتمبر غادر الثلاثي القادم من أوروبا نيويورك للسفر بالسفينة إلى بوسطن ثم مواصلة الرحلة بالقطار في اتجاه ورسستر مقر جامعة كلارك. كانت ورسستر في ذلك الوقت مدينة حيَّة اشتهرت بالصناعة، عدد سكَّانها مائة ألف. وقد أشاع المهاجرون الكثيرون بها من كندا وإيرلندا والسويد ثم إثر ذلك من أرمينيا واليونان وإيطاليا وسوريا جوًّا كوسموبوليتانيا.

وجد فرويد ويونج مبنى الجامعة حيث تسكن عائلة "هال" مثيرًا واستجابا لدعوة النزول ضيفين عليها في الأسبوع المتبقي. كتب فرويد لزوجته :"المنزل ممتع بشكل مثير، كلُّ شيء فيه واسع ومريح. ويحتوي على أستوديو رائع به آلاف الكتب والسيجار". تمَّت دعوة عالم النفس والفيلسوف وليام جيمس للتعرُّف على فرويد ويونج. كان جيمس يعاني من خرف شديد ولم تتبق له سوى سنة من حياته. وكما نعلم من خلال رسائله، فقد أثار يونج اهتمامه أكثر بكثير من فرويد الذي بدا له "مهووسًا بأفكار ثابتة" ومتعلقة بشكل مبالغ فيه بالجنس.

شارك تسعة وعشرون أستاذًا جامعيًّا متميِّزًا من شتَّى أنحاء العالم ومن اختصاصات علمية مختلفة، من علم الفلك والفيزياء إلى الأنثربولوجيا والتاريخ، في احتفالات جامعة كلارك، من بينهم ارنست روتفورد وألبرت أبراهام ميكلسون الحائزين على جائزة نوبل في الفيزياء. ورغم كلِّ شيء فقد حاول "هال" بحماس تبجيل ضيف واحد هو زيجموند فرويد. سعى هال إلى أن تكتب الصحافة عن محاضرات فرويد، وحرَّر ككاتب "شبح" مقالاً تقريظيًا في مجلة Nation وهي مجلَّة مؤثِّرة في أوساط المثقَّفين.

ألقى فرويد سلسلة محاضرات بمكتبة الفنون بالجامعة. تحدَّث بالألمانية دون مترجم ومع ذلك فقد كانت القاعة دائمًا تغصُّ بالحاضرين، وهو ما يبيِّن المستوى العالي لمعرفة اللغة الألمانية الذي كان مطلوبًا من الباحثين الأمريكيين آنذاك. كان فرويد يرتدي قميصًا أبيض ذي ياقة صلبة وبابيون مع جاكيت داكنة فوقها معطف أسود ذو ياقة عريضة. وكان من بين الحاضرين النسوية والفوضوية إيما غولدمان، التي روت فيما بعد خلال حفل التكريم: "وقف هناك متواضعًا، بلباس بسيط. بدا أقرب إلى الخجل، أمام العدد الكبير من الأساتذة المهمِّين جدًا بأزيائهم الجامعية. ومع ذلك فقد تميَّز عنهم مثل عملاق وسط أقزام".

قدَّم فرويد خلال محاضراته الثلاث الأولى إجابة مبسَّطة حول سؤال "ما التحليل النفسي؟" نبرته كانت متواضعة ومنفتحة. لم يوجِّه خطابه للأطباء وللمحلِّلين النفسانيين فقط بل أيضًا لعامة الناس من بين المستمعين. ومع ذلك فقد غيَّر أسلوبه بضربة واحدة. قدَّم في المحاضرة الرابعة فكرته المتمثِّلة في أنَّ جذور كلِّ أنواع العصاب تعود إلى أنَّ أصل انحراف النوازع الجنسية الفردية يمكن اكتشافه بالعودة إلى الطفولة. وأكَّد مدى صعوبة الأمر بالنسبة إليه لقبول أولوية الجنس، واعترف بأنَّ حتَّى المعجبين به كثيرًا ينتقدون إعطاءه هذا الجانب أهمية مبالغًا فيها. وفسَّر الأمر قائلاً: "تعوَّدت على ذلك عندما صارت تجاربي تدريجيًا أكثر ثراء وقادتني بشكل أكثر عمقًا في الموضوع". غير أنَّ توسيع معرفته حول الجنس لم يكن سهلاً، مثلما يؤكد فرويد، إذ أنَّ المرضى يحاولون إخفاء حياتهم الجنسية "بكلِّ الوسائل التي في مستطاعهم" و"كانوا يرتدون معطفًا سميكًا منسوجًا من الأكاذيب، لتغطية ذلك، كما لو كان الطقس رديئًا في عالم الجنس".

وتناولت محاضرته الخامسة والأخيرة التَّصعيد أي تحويل الغرائز الجنسية إلى مجهود روحي أو إلى سلوك مقبول ثقافيًا. وصف فرويد تصعيد الرغبات الإيروسية على أنها ضروري للقدرة على الإنتاج في المجتمع وهو ما يعني الوجود الكوني الشامل للاستيهامات الجنسية. ولكن مثل تلك الاستيهامات، يؤكد فرويد، ليست بالضرورة عصابية. ويشدِّد: "إنَّ الإنسان النشيط والناجح هو ذلك الذي يحقق رغباته واستيهاماته. وبالتالي فإنَّ الاستيهامات كونية، وهي تمثل ردَّنا الضروري على الواقع الاجتماعي". أرسل فرويد إثر اختتام سلسلة محاضراته برقية إلى زوجته تتضمن كلمة واحدة: "نجاح!".

وبعد خمسة عشر سنة من زيارته لجامعة كلارك، يتذكَّر فرويد محاضرته الأولى:

بدا الأمر كما لو كان تحقيقًا لحلم كبير. فالتحليل النفسي لم يعد يعتبر تصوُّرًا جنونيًا بل جزءًا ذا قيمة كبيرة من الواقع. أحسست نفسي وكأنني ملفوظ في أوروبا، في حين استقبلني هنا أفاضل الناس كواحد منهم.

قدَّم زميله كارل جوستاف يونج ثلاث محاضرات بجامعة كلارك. تعلَّقت الأولى والثانية باختبار تداعي الألفاظ، الذي طوَّره هو. ورغم أنَّه ذكر فرويد في كلا المحاضرتين، فقد سعى بوضوح إلى إظهار عمله الخاص مع التشديد على الأساس التجريبي الصلب لمنهجه. ومع أنَّ أمثلة الحالات التي اختارها عالجت مسائل جنسية فقد فسَّر:

إنَّ أحد أهم مبادىء التحليل النفسي يتمثل بما يلي: عندما يصاب شخص ما بعصاب، فإنَّ ذلك العصاب يتضمَّن الجوانب السلبية من علاقته بالشخص الذي ارتبط به.

تركيزه على الوظيفة التعويضية للعصاب وإشارته إلى النزاعات الراهنة في حياة المريض يعتبران مميِّزين لكتاباته اللاحقة.

غير أنَّ المحاضرة الأخيرة ليونج التي تحمل عنوان تجارب حول الحياة الجنسية للطفل experiences concerning the psychic life of the child تبقى الأهم من بين محاضراته. كانت متعلقة أساسًا بالحياة العاطفية لطفلة مجهولة الهوية في الرابعة من عمرها. ولكن المؤرخين يعتقدون أنَّ الطفلة المقصودة هي "أغاتلي" ابنة يونج. لاحظ يونج أن الطفلة ظهرت عليها علامات الغيرة من باب ردِّ الفعل إثر ولادة أختها الصغرى. أظهرت أيضًا فضولاً جنسيًا مكثَّفًا وبدأت في ممارسة العادة السرية. كان ذلك عند يونج تأكيدًا لوصف فرويد البارع للنوازع الجنسية لدى الطفل. وبعد أن ضمن يونج خلال المحاضرتين الأوليين موقفه كباحث مستقل، بدت نيَّته واضحة في إبراز مساندته لفرويد في محاضرته الأخيرة.

غادر الثلاثي القادم من أوروبا مدينة ورسستر في الثاني عشر من سبتمبر. كان يرافقهم دليل الرحلة بريل، سافروا بالقطار إلى "بوفالو" لمشاهدة شلالات نياجرا.

قضى الرجال الثلاثة الأيام الأخيرة من رحلتهم الأمريكية بمخيم بوتنام في جبال "أديرونداك" من ولاية نيويورك. لماذا أقاموا هناك تحديدًا يبقى أمرًا ليس عليه أدلة تاريخية واضحة ولكن ربما يكون قد استضافهم هناك طبيب الأعصاب الشهير جيمس جاكسون بوتنام من جامعة هارفارد. بوتنام الذي يملك ذلك المخيم مع زملاء من بينهم صديقه وليام جيمس، استمع إلى محاضرات فرويد وانبهر بها كثيرًا. وسيلعب دورًا هامًا في نشر أعمال فرويد بأمريكا. وفي ترجمة بريل لكتاب فرويد Drei Abhandlungen zur Sexualtherapie (Three contributions to the theory of sex) كتب بوتنام المقدمة مادحًا:

لقد وسَّع فرويد من معرفتنا بالحياة الجنسية البشرية بشكل كبير، وقام فوق ذلك بشيء أهم بكثير، حيث اكتشف بفضل طاقة غير معقولة من الإصرار، أي دور تلعبه الغريزة الجنسية خلال المراحل المختلفة من حياة الإنسان.

غادر فرويد وفيزنزي ويونج ميناء نيويورك في الحادي والعشرين من سبتمبر على متن الباخرة "القيصر فلهلم الكبير". قضوا وقتهم خلال الرحلة البحرية في نقاش حول تأسيس جمعية دولية للتحليل النفسي، وهو ما نفَّذوه بعد سنة من ذلك بمدينة نورنبارغ. وعاش يونج خلال رحلة العودة تجربة غير عادية، ستقوده فيما بعد إلى مفهومه واسع التأثير حول اللاوعي الجمعي الذي يصفه بأنَّه خزَّان التراث النفسي الإنساني. رأى في المنام منزلاً توجد تحت دهليزه مغارة حجرية مليئة بالعظام والجماجم والأواني الطينية. علَّق يونج لاحقًَا:

اعتقدت أنَّه (فرويد) سيأوِّل الدهليز تحت الدهليز على أنَّه ما تحت اللاوعي الذاتي... ولكن أحلامي كانت تهيئني لأمر آخر.

ما أهمية زيارة عالمي النفس إلى أمريكا؟ لقد بلغ فرويد مستوى جديدًا من الشهرة بفضل تلك الرحلة إلى حدٍّ كبير. إثر عودته إلى فيينا بخمسة أشهر نشرت مجلة الجمعية الأمريكية لعلم النفس التي يديرها هال سلسلة محاضرات فرويد تحت عنوان The origin and development of psychoanalysis أصل وتطوُّر التحليل النفسي. وتبقى سلسلة المحاضرات تلك التي ترجمتها زميلة "هال" هاري شيس إحدى أفضل المداخل لأعمال فرويد على الإطلاق. وقد جلب نجاح تلك الترجمة ترجمات أخرى لأعمال فرويد. وفي الأثناء، تمَّ تأسيس "جمعية نيويورك للتحليل النفسي" و"الجمعية الأمريكية للتحليل النفسي" التي نشرت أعمال فرويد بنجاح كبير.

إثر اندلاع الحرب العالمية الأولى انقطع التبادل العلمي بين ضفَّتي المحيط الأطلسي ثمَّ عاد العمل سنة 1920 ممَّا أثار ارتياح فرويد مع ظهور A general introduction to psychoanalysis مدخل عام للتحليل النفسي، وإثرها بسنتين ظهرت Beyond the pleasure principle ما وراء مبدأ اللذَّة، وكذلك Group psychology and the analysis of the ego علم نفس المجوعة وتحليل الأنا.

ولم تجد تلك الكتب المتخصِّصة رواجًا تجاريًا كبيرًا مثلما هي العادة، غير أنَّ قراءتها أثارت بالتدريج اهتمام المثقفين والصحفيين وغيرهم من الوجوه البارزة في المجتمع وخاصة خلال فترة العشرينات "المتوحشة". كان الاقتصاد الأمريكي في طور الازدهار، وحملت أفلام هوليود والرياضة المحترفة وصناعة الاسطوانات أشكالاً جديدة من التسلية.

وفي أكتوبر من سنة 1924 ظهر فرويد على صفحة غلاف مجلَّة التايم، وأصبح اسمه في الأثناء مندرجًا في الحياة اليومية. بل حتى نظريته في الأحلام التي اعتبرت غامضة في البداية، دخلت مجال الثقافة الشائعة، كما تكشف ذلك أغنية شعبية من تلك الفترة Don´t tell me what you dreamed last night, for I´ve been reading Freud "لا ترو لي ما حلمت به البارحة فقد قرأت فرويد".

يمكن للمرء أن يفترض أن مفكِّرًا ساعيًا إلى الاعتراف إلى ذلك الحدِّ مثل فرويد، سيكون متحمِّسًا لأمريكا، غير أنَّ العكس هو الصحيح. فرغم أنَّه عاش بعد رحلته إلى أمريكا ثلاثين سنة فهو لم يعد إلى البلد الذي منحه الدكتوراه الفخرية. وقد وثَّق المؤرِّخون بشكل ضاف كيف تحوَّل حماس فرويد في البداية إلى نفور لازمه طوال حياته ولم يستطع حتى أتباعه تفسيره. بل إنه حمَّل أمريكا مسؤولية تدهور خطِّه، ففي المنزل كان تعبيره "أمريكي صرف" مرادفًا لانعدام الذوق وللسطحية. قال فرويد لتلميذه ارنست جونز "أمريكا غلطة، غلطة كبيرة ولكنها تبقى غلطة مع ذلك". لقد كان يمكن لفرويد أن يندهش لو علم أنَّ البلد الذي ينظر إليه بدرجة كبيرة من الازدراء هو نفسه الذي حفظ مجموعة رسائله الخاصة ويومياته ومخطوطاته وآثارًا أخرى مختلفة للأجيال اللاحقة.

وقد تلَّقت درجة شهرة يونج على المستوى الدولي دفعًا بفضل الرحلة إلى أمريكا أيضًا. وإثر عودته، قام بطبع أوراق رسائل تحمل اللقب الجديد للدكتوراه الفخرية من جامعة كلارك. نظر يونج إلى العالم الجديد على أنَّه فرصة لتطوُّره الشخصي. وفي سنة 1912 ذهب للمرة الثانية إثر الرحلة المشتركة مع فرويد كأستاذ زائر بجامعة فوردهام بنيويورك هذه المرة. قام هناك بتقديم سلسلة محاضرات دامت ستة أسابيع، تساءل فيها عن مبالغة فرويد في دور الجنس. وإثر ذلك بقليل حصلت القطيعة النهائية بين الاثنين.

عاش يونج بعد فرويد ربع قرن تقريبًا. كان شاهدًا على صعود أمريكا كقوَّة مهيمنة في العالم الغربي. ورغم أنَّه كان منبهرًا أكثر من فرويد بكثير بديناميكية هذا البلد فقد بقي منتقدًا له. فالأمريكيون حسب رأيه يمنحون قيمة أكبر من اللزوم للحرية الفردية وللنجاح المهني على حساب المحبَّة وعلى حساب المجتمع. كتب يونج في كتابه Modern man in search of a soul:

في زمن الأمركة هذا، يبدو لي وكأننا على أبواب عصر روحي جديد.

ترجمة: محمد المهذّبي

*** *** ***

الأوان، الثلاثاء 30 تشرين الأول (أكتوبر) 2012


 

horizontal rule

٭ العنوان الأصلي للمقال: Freud was here. نشر في مجلة Psychologie heute الألمانية عدد يناير 2010.

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود