طيور شاردة

 

ثناء درويش

 

أولئك الذين لديهم كل شيء سواك، إلهي، يسخرون ممَّن ليس لديهم سواك.

ر. طاغور

 

طاغور، يا شاعري الحبيب،

كيف أعدتَني، بسحر ساحر، على أجنحة "طيورك الشاردة"*، ربع قرن إلى الوراء، يوم كنتُ أُقبِلُ على قراءة أشعارك باستغراق، حيث لا صوت سوى وجيب قلبي المتسارع مع نبض كلماتك، وتَسارُع أنفاسي على وَقْع موسيقاك – يوم كان التوق إلى احتضان العالم والتوحُّد فيه ومعه سيِّد الرغبات؟!

كيف أعدتَني – برشاقة – لأحيا تألُّق تلك اللحظات، ونشوة الولوج في رحم الكلمة البكر، لتبرهن لي على أن القلب لا يهرم، وعلى أن المشاعر لا تعنيها حسابات الزمان؟!

هذه الأفكار الهائمة، الشاردة من قلبك إلى قلوبنا، لَتَفي بوصيتك:

كلمة واحدة احفظها لي في صمتك، أيها العالم، حين أموت: "لقد أحببت." (277)

ما أجمل الحكمة التي تأتينا في كلمات معدودات، نستعيض بها عن المقالات الطوال! فكيف إذا ما جاءت تلك الحكمة شعرًا من إنسان لم أستطع أن أمنح غيره لقب "شاعر"؟ – بكلِّ أبعاد الكلمة.

إذا أردت أن تعرف طاغور، اذهب إلى الغابة وفتِّشْ عنه... ستراه هناك، مرة بين أكمام الزَّهر، وأخرى يصاحب النحل والفراش، حينًا يحاور الريح، وحينًا آخر يجالس البحر، متلاشيًا حتى حدود الغيم، حاضرًا حتى دوام اللحظة، لائذًا بالصمت، "يغتسل به من غبار الكلمات الميتة الملتصقة به" (147)، متعبدًا في الظلام، مستشعرًا وَهْم التعددية في النهار:

هو التوق إلى الواحد نشعر به في الظلام، ولا نراه في وَضَح النهار (87) و

إن الواحد يبدو متماثلاً في الظلمة، وفي النور يبدو عديدًا (90)،

لينتقل في خفة إلى فضيلة النور، وكأنه، عِبْر تفاعُله مع الأضداد، يصل إلى سكينة سلامه الداخلي. وهو، باتحاده مع الطبيعة، ليس غائبًا عن البشرية، لأنه يمسُّ أعمق بُعْد فيها.

وعلى الرغم من تفاوُت أبياته في جماليَّتها، لاعتمادها حينًا على المباشرة وحينًا على الترميز الشفاف، إلا أنك، لكي تقرأ طاغور، تحتاج إلى عيني طفل ممتلئ بالدهشة وهو يطالع صور الحياة لأول مرة:

إن وجودي دهشة متواصلة هي الحياة. (22)

أشعاره القصيرة – أو "طيوره الشاردة"، كما يسميها– رسائل عاجلة إلينا تقول:

تعلَّموا، أيها الكبار، كيف تُبقوا قلوبكم أطفالاً.

تلمَّسوا ما حولكم بأنامل غضَّة وعيون تتسع دهشة.

أصغوا إلى الحياة، حاضرين في شفافية اللحظة وصدقها، تهمس لكم بأسرارها اللامتناهية.

سيدي طاغور،

أحني هامتي أمام الله المتجلِّي فيك، رقةً ومحبةً وحكمة، وأثني على مَن ترجم هذه الأشعار، وأقول صادقة: إن تذوُّق الكلمة لا يقل أهمية عن كتابتها. فبوركت جهود المترجم في نقل كلِّ فكر راقٍ، على اختلاف أشكاله، إلى اللغة العربية.

*** *** ***


* رابندرانات طاغور، طيور شاردة، بترجمة وتقديم ديمتري أفييرينوس، سلسلة "الحكمة" 1، دار مكتبة إيزيس، دمشق 1998.

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

Editorial

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال يوسف وديمة عبّود