اعترافان في منحنى الإبداع

أدونيس: الفنَّان الكبير يقول الشيء مرَّة واحدة، لكنَّه يقوله بتنويع كبير إلى ما لانهاية

فاتح المدرِّس: أقوم بتطويع الشرِّ في خدمة "خير" اللَّوحة

 

فاتح المدرِّس

 أدونيس

 

أدونيس: بعد خبرتك الطويلة، حين تسأل – وأنا أسألك الآن: أين تجد "هويتك" بالمعنى العميق للكلمة؟ – في إنتاجك الفنِّي، أم في انتمائك إلى بلد أو شعب ما.

فاتح المدرس: كلمة إيجاد "الهوية" أو الحصول عليها كلمة ليست دقيقة في نظري. أنا أفضل أن يصاغ السؤال: كيف صنعتَ هويتك؟ لأن الهوية – كالحرية – تُصنَع صنعًا؛ وإذا لم نصنعها نظل عبيدًا لمعارفنا وثقافتنا السابقة والقديمة. "صُنْع" الهوية الفكرية، في نظري، يحتاج أولاً إلى التخلِّي كليًّا عن الأخلاقيات لإفساح المجال للنباتات الذاتية كي تنمو، وللأفكار – إن كانت تشكيلية أو أدبية – كي تتشكل في حرية. فهذه الأفكار، مثل الأعشاب، تنمو؛ والحفاظ على ثبات نموِّها يحتاج إلى أمور عدة: هي أن نفلسف الواقع، أو نخضع له، أو نموت لأجله.

والواقع كما هو، أو القبول به كما هو، يسبِّب للإنسان مرضًا عضالاً هو القهر – القهر الداخلي. وقد ثبت لي من تجربتي الشخصية أن القهر يولِّد لدى الإنسان... أو يدفع الإنسان إلى "الحَرَد": يعني أن يحرد الإنسان من العالم المحيط به، خاصة في السياسة. فإذا حَرَدت سياسيًّا فقد قُتلت أدبيًّا! إذن، "القهر" و"الحَرَد"، إضافة إلى التكوينة الاجتماعية والسياسية المليئة بالمفارقات، – ذلك كله يقف عائقًا أمام صون الهوية الذاتية. أضف إلى ذلك ما يمكن أن أسمِّيه بـ"الغربة القومية"، الذي يمكن أن أفسِّره في أن تجد نفسك دون شعب ما متطور ومتقدم: فأن يكون الشعب هو دون الشعب المتقدم عليه، هذا شيء أرفضه نهائيًّا.

تكشَّف لي، منذ كنت شابًّا في أثناء دراستي في روما، ومن خلال الأشخاص الذين قابلتهم، من فنانين وأدباء، سواء كانوا طليانًا أو ألمانًا أو من جنسيات أخرى، بمَن فيهم العرب، ومن خلال متابعاتي لأعمال هؤلاء الفنية والأدبية، – طرحت على نفسي السؤال التالي: هل تلك الأعمال الفنية والأدبية هي أعمال "تراكمية"؟ أهي نتيجة تراكم المعرفة، أم هي أعمال ذاتية؟ وقد ظل هذا السؤال يؤرقني زمنًا طويلاً. وقد توصلت إلى جواب، ملخَّصه أن التراكمات المعرفية هي من أخطر العوامل التي تسلب الإنسانَ هويتَه وذاتيتَه؛ أي أنها تحرمه هويتَه دون أن يشعر. إن وصولي إلى هذه الحقيقة – وأنا أعتبرها حقيقة! – دفعني إلى التساؤل: هل المعرفة واستخدامها، بعد النضج نوعًا ما، يُعتبَر خطرًا على الإنسان؟ وكيف يمكن له التخلص من هذه المعرفة؟ أية مكنسة سحرية تكنس له دهاليز الذاكرة من تراكم غبار المعرفة الذي بدأ يتراكم منذ القرن السادس قبل الميلاد؟!

هناك ميكانيكية ذاتية في العمل الفني أعاني منها، – وأعتقد أن غيري من الفنانين والأدباء يعانون منها، – وهي أنه قبل بدء العملية الإبداعية عند الفنان، – وهي رحلة صعبة قليلاً؛ وأقصد بـ"الرحلة" ذلك الدخول إلى الذات والوقوف في خوف أو شجاعة، لا أدري؛ ربما كان في خوف، ربما في شجاعة! – ذلك الدخول إلى الذات، وتناوُل المادة التي سبق أن هيأها الفنان للبحث فيها، وتناوُل ما يلزم من المواد الأولية للعمل الفني، يتم كما لو أن الفنان يدخل كهف الذاكرة في أثناء إقدامه على عمل فني أو إبداعي جديد. أقول لك هذا لأنني كثيرًا ما فكرت في هذا الموضوع بيني وبين نفسي: هل أدخل في أثناء العمل الإبداعي إلى كهف أنيق أم مشوش؟ لا أعرف! السؤال موجَّه لك الآن: كيف تدخل كهف الذاكرة أو "المعمل الداخلي"؟ وكيف تخرج منه؟ ما هي الظروف النفسية التي تحيط بك؟ وما هي الطاقة الانتقائية لك؟ – أنت بالذات.

أدونيس [ضاحكًا]: يا نبَّاش، أنت، يا نباش! هذا برأيي سؤال الأسئلة! وأود أن أسمع إجابتك عنه بعد أن أنتهي من محاولتي في الإجابة عليه. أقول "أحاول"، لأنه سؤال الأسئلة على المستوى الإبداعي. والارتجال هنا صعب. لذلك أرجو ممَّن سيقرؤون الإجابة أن يكونوا رؤوفين بنا!

أولاً، مَن أنا، بوصفي أمارس العملية الإبداعية؟ أنا موجود ضمن ثقافة معينة. تربيتُ من خلال ثقافة لا تقول نظريًّا ما يجب أن يقال أو ما يجب عليها أن تقول، لا تطرح الأسئلة التي يجب أن تُطرَح. إذن، أنا مقموع ثقافيًّا داخل هذه الثقافة...

فاتح: هذا قبل دخولك الكهف!

أدونيس: طبعًا! أنا أصف نفسي أولاً خارج الكهف... ثم هنالك عالم لانهائي، مقموع ومهمَّش في ثقافتي، هو عالم الجسد وما يتصل به، من مثل اللاوعي والعواطف والأحلام والتطلعات والشهوات إلخ – وهو المادة الحقيقية للذاكرة الإبداعية. هكذا أدخل العملية الإبداعية، أو الكهف الإبداعي، بوصفي كيانًا نصف مبتور؛ أدخله ومعي جيش هائل من الشرطة ترافقني وتأمرني: قل هذا ولا تقل ذلك، هذا لا يجوز، هذا ضد الدين، هذا ضد السياسة! يعني أدخل فعلاً وكأني مطوَّق – ليس من الخارج، بل من الداخل – بجيش هائل من الرقباء! ثم أبدأ العملية الكتابية.

وحين أبدأ، تقنيًّا، لا أكتب القصيدة مباشرة. حين تأتيني فكرة القصيدة أتركها تختمر في جسدي، في ذهني. وفيما هي تختمر، تمتد جذورُها في جميع الاتجاهات، بحيث إن القصيدة يمكن لها أن تقول أشياء كثيرة قيلت في الماضي في تنويعات أخرى. وفي أثناء ذلك الاختمار الطويل، يشارك الجسد، ويشارك العقل، وتشارك الثقافة، والمؤثرات الخارجية أيضًا. وفي أثناء الاختمار، تخلق القصيدة إيقاعها أيضًا. وعليَّ أن أنتظر "الشرارة"، لأنني لا أستطيع أن أكتب شيئًا إلا إذا جاءت الإشارة – والإشارة هي "شرارة" ما، لا أظن أن أحدًا يقدر على تفسيرها: يمكن لها أن تأتي في لحظة لا تنتظرها؛ يمكن لها أن تأتي وأنتَ داخل في النوم؛ يمكن لها أن تأتي وأنت تحلم، فتستيقظ وتبدأ... وحين أبدأ، أكتب مباشرة ودون انقطاع. يعني أن القصيدة يمكن لها أن تكون عشرين صفحة، أكتبها دفعة واحدة، لأنها تكون موجودة في عقلي. وبعد أن أنتهي من كتابة القصيدة، أطويها، أضعها بعيدًا عني وأنفصل عنها... أتركها فترة، – أسبوعًا، عشرة أيام، بحسب الحالة، – ثم أعود إلى قراءتها وكأنني أقرأها للمرة الأولى!

أحيانًا، تمر معي أشياء لا أتذكرها، ولا أتذكر كيف كتبتها! ثم أمارس "رقابتي الفنية" عليها، وأرتِّبها في شكلها النهائي. يمكن أن يصبح أولُها آخرَها، ويمكن لي أن أبدل بعض الكلمات، كلون تمحوه وتأتي ببديل مكانه. هذه العملية الفنية دقيقة، لا تحدث في المطلق، ولا تحدث إلا في القصيدة ذاتها.

من "دفاتر" أدونيس

قال ريلكه مرة: يجب أن تكون لديك معارف عن الفيزياء والأشجار والأنهار والكون لتستطيع الكتابة عن زهرة أو عن شيء بسيط في هذا الكون. وعمل الفنان الكبير يتضمن الكون كلَّه! – من زاوية هذا العمل طبعًا. لذلك تكون هناك استعادات، عناصر يستعيدها الفنان. ولكن لا يمكن أن تكون هناك أية استعادة تشبه الأخرى، دائمًا هناك تنويع. لكن القراء السطحيين والعاديين، بمجرد أن يقرؤوا كلمة "حب" مرة واحدة في قصيدة، أو بمجرد أن يروا لونًا مكررًا، يقولون إن أدونيس أو فاتح يكرِّران نفسيهما! ولكن الفنان الحقيقي لا يكرِّر نفسه. أم كلثوم تقول الجملة الغنائية أحيانًا عشر مرات، وفي كلِّ مرة تقولها بشكل مختلف – ولكن لا يكشف هذا الاختلاف إلا الفنانون. وهذا ما يصح قوله في جميع الفنانين الكبار. الفنان الكبير يقول الشيء مرة واحدة، لكنه يقوله بتنويع كبير إلى ما لانهاية. وليس هناك فنان قال بشكل جمعي: شيء + شيء + شيء. الفنان كالشجرة ينزل عموديًّا، ثم يشع في جميع الاتجاهات.

وأنتقل إلى النقطة الثالثة: ما فعلتُه، هل أنا صادق فيه أم كاذب؟ أنا أقول إن لدي كذبًا مزدوجًا فيما كتبت: الكذبة الأولى أنني لم أستطع أن أقول مما أردت قوله إلا الشيء الذي سمح به ذلك الجيش من الرقباء – مع أنني، نسبيًّا، من بين "أجرأ" مَن يكتب باللغة العربية! وأنا لدي رقابة أخرى هي رقابة جسدي. أنا لا أستطيع أن أكون صادقًا مع نفسي مئة في المئة، لأن هذا النوع من الصدق هو الموت نفسه! إذن، هناك كذب مفروض عليك، وهناك كذب اضطراري ذاتي. وهناك نوع آخر ثالث من الكذب – كذب لغوي: فمن المستحيل على الكلمة، مهما كانت محيطة وعميقة، أن تفصح إفصاحًا كاملاً عن الشيء – كما هو اللون. وإذن، هناك ما أسميه "كذب المسافة": تظل هناك "مسافة" بينك وبين الشيء الذي تريد قوله ولم تستطع أن تلتقطه. بهذا المعنى، الفن صادق فقط على مستوى الإخلاص للمحاولة: أنت صادق بوصفك أخلصت وبذلت نفسك لهذه المحاولة...

سحبان السواح: أنا أود أن أتدخل هنا... فاتح قال إن دخول عالم الإبداع – "كهف الذاكرة"، كما سمَّاه – قد ترافقه حالةُ خوف. هل أدونيس مازال يشعر بالخوف في أثناء كتابة القصيدة، أم أنه تحرر من هذا الخوف؟

أدونيس: أنا أخاف فقط من عدم قدرتي على قول ما يلتهب في نفسي. بهذا المعنى يمكن لي أن أخاف. ولكن لا، أنا لا أخاف من الاقتحام ومن الجرأة في طرح الأسئلة، ولكني أخاف من أن أعجز أو أكون مقصِّرًا. خوفي خوفٌ "فني"!

سحبان: أعتقد أن هذا الخوف هو الذي قصده فاتح.

أدونيس: والآن، يا فاتح، أحب أن أسمعك تحكي لنا عن خبرتك حول الموضوع نفسه.

فاتح: لا شك أن هناك مشاركة في الأحاسيس التقنية بين الأديب الذي هو أنت وبين الرسام الذي هو أنا. تختلف التقنية، كما حدثتك في أول اللقاء، لأن المادة التي يستخدمها الفنان محدودة: المجردات محدودة، حيوانية؛ بينما المجردات عند الكاتب ذات طيف أوسع: كل كلمة لها طيف واسع، بينما طيف المادة اللونية سنتيمترات صغيرة. لكن هذا لا يمنع من معاناة الخوف.

بالنسبة لي، أنا أمر بمرحلتين في رسم اللوحة: الأولى تبدأ كما لو أنني بستاني يلقي بذرة في أرض فارغة قدر الإمكان، صالحة للإنبات، وأنسى الموضوع، أنسى بأنني ألقيت ببذرة هذه الفكرة أو هذا التكوين. والغريب، يا أدونيس، أنه في لحظة ما معينة، في زمن معين ومكان محدد مسبقًا، وفي وضع پسيكولوجي مسبق، أتوجه إلى اللوحة وأبدأ، كما لو أن عفريتًا قبض عليَّ من كتفي وساقني أمامه إلى هذه البذرة التي بدأ اخضرارُها الصغير بالنتوء! هذه حالة أكيدة أشعر بها.

إذن، أنا لا أقول: أنا ذاهب إلى المرسم لأرسم لوحة. ولكن إذا كانت البذرة ملقاة سابقًا – أسبوع، شهر، أو حتى ساعتين؛ فالأمر يختلف في كلِّ مرة – أجد الآن نفسي أمام اللوحة، أمام المساحة البيضاء، فأتمنى أن "يتوسخ" اللون الأبيض. أنا أكره اللون الأبيض الفارغ، لأنه في الحقيقة أسود وليس أبيض! أمام اللوحة، أشعر تمامًا كما شعرت أنت: أشعر بذلك الجيش الذي سَكَنَكَ يسكنني. أمام باب "الكهف"، كما أسميناه، أشعر كما لو أن مجموعة من الزلاقط [الدبابير] تدور حولي! – وأنا أسمي ذلك "غبار المعرفة"، غبار الثقافة. إذن، كيف سأصل إلى الجديد والصادق، وحولي تسبح سحابات من الأشياء والمواد؟! أشعر أنه لا بدَّ من وجود مكنسة سحرية وهمية أكنس بها غبار المعرفة، لأبلغ مرحلة جسدية ترى النور بشكل خاص، فأتمتع بالصمت – صمت يخلِّف وراءه ما كان يئز ويتدخل.

ويتراجع الخوف بعد ذلك. أدخل دهليزًا من نوع آخر، مختلفًا عنك. في هذا "الدهليز" أواجه معركة الخير والشر. أنا إنسان خيِّر، وعليَّ أن أقول كلمتي في الشر. ولكن الشر لا يتدخل في اللوحة، لأنه ليس عنصرًا محاوِرًا. الشر له وجه واحد، موجود ومعروف ومرفوض، لا يقبل الحوار. إذن، بما أن معركتي بين الخير والشر، ولأنني أعتبر نفسي فنانًا "ملتزمًا"، ولست فنانًا جماليًّا، فمن هذا المنطلق، أنا أقوم بتطويع الشر في خدمة ما يمكن أن نسمِّيه "خير" اللوحة. لماذا؟ لكي أعطي اللوحة عمرًا زمنيًّا أطول. فأنا لست رسامًا إعلاميًّا. أنا أخلق حوارًا، وأبذل جهدي لكي تكون اللوحة ذات عمر أطول عند المتلقِّي. وهذا يحدث حين أستطيع أن أحصل على تلك المادة الثمينة، التي أسميناها في حوار سابق بـ"الشرارة"، والتي ذكرتها أنت منذ قليل، لأن في هذه الشرارة سرَّ العمل الفني.

لوحة لفاتح المدرس

هذه هي التقنية بشكل مختصر: التركيز، ثم الخوف، ثم الثقة والإيمان بأنني أسير في الاتجاه الصحيح، ثم هذا الفرح الكبير الذي لم يستطع أن يعبِّر عنه تعبيرًا ناجحًا إلا أصحاب السيمفونيات، وخاصة بيتهوفن وتشايكوفسكي. لقد استطاع هؤلاء أن يلتقطوا اللحظات الأخيرة من الفرح – تلك التي يسمِّيها الصوفيون "الإشراق".

هذه هي الميكانيكية التي أعمل من خلالها. هل يمر الفنانون الآخرون بها؟ هل يملكون تقنية أخرى؟ لست أدري! لكن الفن، في النهاية، ليس لعبًا!

*** *** ***

عن مجلة ألف، العدد 17-18، 1992

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

Editorial

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود