الـنُّـور والـفَـراشَـة

الحـبر السِّـرِّي بين الشَّـرق والغـرب

 

شـوقـي نـجـم

 

يؤكِّد بعض النقَّاد أن الشاعر الألماني يوهان فولفغانغ فون غوته يُعدُّ رابع عظماء الأدب العالمي – إلى جانب مؤلِّف الإلياذة هوميروس ومؤلِّف الكوميديا الإلهية دانتي أليجييري ووليم شكسپير. على أن غوته – وهو من أوائل المستشرقين وأشهرهم – أدهشتْه الحضارتان العربية والفارسية وأثَّرتا فيه كثيرًا، فنشأتْ بينه وبين أدب الشرق علاقةٌ حميمة؛ ثم تأثر بما تحصَّل له من ترجمات لآيات القرآن الكريم، برزتْ علاماتُها في أشعاره التي قرأناها مترجمةً إلى العربية عن "دار الجمل" بعنوان مختارات شعرية ونثرية. وقد سبق لعبد الرحمن بدوي أن ترجم لغوته بمصر، فضلاً عن فاوست، كتابَه الديوان الشرقي الغربي الذي يزخر بالحديث عن الرموز العربية والشرقية، مما جعل بعض المثقفين العرب "يغرقون" في الثناء عليه، ومنهم الدكتور عبد الغفار مكاوي الذي قدَّم في العربية لكتاب النور والفراشة: رؤية غوته للإسلام والأدبين الفارسي والعربي مع النص الكامل للديوان الشرقي، الذي صدر عن "دار الجمل" (2006) مع تعليقات وشروح.

الفراشة لا تحترق بالضوء في شعر غوته، بل تشتعل بالحبِّ والمعاني والأشواق وتحاكي الشرق والغرب من خلال الحبر السِّري المستَلِّ من القلب!

يسأل عبد الغفار مكاوي: متى بدأ غوته بكتابة الديوان الشرقي الغربي؟ ما الذي حرَّك قلبه وجعل يده تمتد إلى أساطير الشرق وأغانيه وحِكَمِه وصوره وحكاياته للتعبير عن أشواقه وآلامه؟ بل متى بدأ لقاؤه مع الشرق؟ في رأي مكاوي أن عالم الشرق لم يكن غريبًا عن روح غوته في يوم من الأيام، مضيفًا أن منابع التراثَين الإغريقي والروماني ظلَّت دائمًا مصدرَ وحيه وثقافته، لكن منابع الشرق لم تنقطع قط عن جذب عينيه إلى بريقها وغموضها. فعندما قرأ غوته حافظ الشيرازي اعتبره "توأم روحه". وإذا لم يُقدَّر له أن يقرأ المشرقيين بلغتهم، إلاَّ أنه التقى بهم بما تيسَّر له من ترجمات في لغته أو في لغات أوروبية أخرى.

كتاب النور والفراشة يتضمن أشعارًا من أجمل ما كتب غوته وأعذبه. شاء من خلاله أن يتقمَّص شخصية الباحث التاريخي، فعقَّب على أشعاره بهوامش وافية، وأضاف إليها عددًا من البحوث والتعليقات التي تُعين قارئَه الغربي على تفهُّم عالم الشرق والإسلام. ومع أن غوته قَصَرَ كلامَه عن العرب على الحديث عن المعلَّقات وشعرائها وعلى ترجمة قصيدة مشهورة لشاعر جاهلي هو تأبَّط شرًّا، فقد وجد أنه لا يختلف في روحه اختلافًا كبيرًا عن أولئك الشعراء الكبار؛ إذ إن أوراقه ودراساته التي مهدت للـ"ديوان" تشهد بأن معلوماته عن الأدب العربي كانت تفوق ذلك بكثير: فهو، مثلاً، قد عرف بعض المجموعات الشعرية العربية، منها ديوان الحماسة لأبي تمام، كما عرف مجموعةً واسعة من الحِكَم والأمثال العربية؛ وقد وَرَدَ ذكرُ مجنون بني عامر في أشعاره. ولعل أكثر ما جَذَبَه إلى الشرق وحبَّبه فيه بعض رباعيات حافظ الشيرازي الذي يتقمَّص فيها شخصيةَ المجنون، حيث يقول: "أنا المجنون الذي لم يستبدل كلَّ بلاد العرب وفارس."

"الديوان الشرقي الغربي"

قرأ غوته جزءًا من ألف ليلة وليلة، إلى جانب كونه أتى على ذكر اسم المتنبي ذكرًا عابرًا في معرض كلامه على الرسول. وعلى هامش ذكر المتنبي، نلفت إلى أن الباحثة كاترينا مومزن، التي أصدرت كتاب غوته والعالم العربي، توصلت إلى نتيجة مُفادها أنه ما كان لغوته أن يكون غوته من دون المشرق! وهي ترى أن المتنبي حَظِيَ باهتمام غوته الخاص؛ إذ إن جرأته في إعلان نبوَّته كانت محلَّ إعجاب الشاعر الألماني الذي رأى فيه "شاهدًا تاريخيًّا عظيم القدر، على ما بين الشعراء والرسل من تنافُس".

يوهان فولفغانغ فون غوته (1749-1832)

بين دفَّتَي النور والفراشة، إذن، نقرأ من أهم ما أبدع غوته – إلى جانب فاوست طبعًا. ميِّزته، بحسب مكاوي، أن صاحبه لم يتغنَّ فيه بآلهة الأولمپ ولم يلهث وراء آثار هوميروس، بل استلهم تراث الشرق وتجول بين شعوبه وحضاراته المختلفة على مرِّ العصور، ومع ذلك، لم يضيِّع نفسه في الغربة، ولم ينسَ ذاته في الفيافي ومضارب النجوم. سجَّل يوميات رحلته الشرقية شعرًا في الديوان الشرقي، الذي بقي ديوانًا لشاعر غربي تتغنَّى قصائدُه الخالدة بالمدن والحانات التي زارها، والخمور التي ذاقها، ونعمة الحبِّ أو مرارة الهَجْر والفراق اللتين جربهما. فكما أن كلمة "ديوان"، الفارسية الأصل، تدل على الجمع والمجموع، كذلك تؤلِّف أشعار الديوان بين الشرق والغرب، بين العام والخاص، بين أقدار الطغاة الجبابرة والشعوب والحضارات الغاربة – كأنها "مرايا" تعكس هذا الحوار العابس–الجاد في اثنَي عشر كتابًا أشبه باثني عشر وترًا تتوافق لعزف لحنٍ واحد ينبعث من آلة واحدة! لهذا لم يخطئ بعض النقَّاد عندما وصفوا الديوان بأنه "سمفونية شعرية ترتبط فيها البدايةُ بالنهاية، يظهر فيها اللحنُ ليختفي، ثم يتكرر ظهورُه". يقول المترجم إن الديوان أشبه بمجموعة مرايا: كلُّ قصيدة فيها تعكس القصيدة الأخرى وتتحاور معها، بحيث تنمو نموًّا عضويًّا لتشكيل كلٍّ متكامل نُدهَش لتجانُسه وجمعه بين الأضواء والأقطاب.

كذا فإن الديوان دائرة كبرى تشتمل على دوائر صغرى عديدة، كأن التضاد الذي يحرِّكه ويبعث الحياةَ فيه هو التضاد بين قطبَي الحبِّ والدين اللذين يجتذبان عناصر أخرى تدخل جميعًا في هذا المجال المفعم بالسحر والحياة. في داخل الدورة الكونية يتصارع الحب والدين، فالحنين الديني أو الصوفي، كما تتكرر تنويعاتُه المختلفة في الديوان كلِّه، سواء كان يعبِّر عن عاطفة شخصية، أم تاريخية، أم كونية، أم عن غزل بين "الشاعر" و"الحورية" في الفردوس!

يتغلغل الحب في قصائد غوته وحِكَمِه وأمثاله. فما يعبِّر تارةً عن القلب تعبيرًا طبيعيًّا مباشرًا يعبِّر طورًا عن الأشياء من طريق التأمل العقلي المتَّزن. وفي الأحوال كلِّها، تتفتح شخصيةُ الشاعر وتمتد في كلِّ اتجاه، كأنها أصبحت دائرةً كبرى. ويكشف مضمون الديوان الشرقي الغربي ولغته عن شخصية صاحبه وينفذ إلى صميم وجدانه. ويستخدم الشاعر الموضوعاتِ الشرقيةَ أقنعةً يُخفي وراءها نفسَه كما يكشف عنها في وقت واحد، ويأخذ المضمون لكي يتصرف فيه بحريته الفنية وقدرته على التشكيل.

على أن الرغبة في اللعب الحر والميل إلى الخفة والمرح هما اللذان يسيطران على الروح العامة للديوان لأنه يكشف، في قصائده كلِّها، عن "الاستقطاب" الكامن في كلِّ حياة، عن ديالكتيكا الحبِّ الذي يقوم على الوجود وعدم الوجود، وعن ديالكتيكا العقل الذي يقوم على المعرفة والعلم بحدود هذه المعرفة. فكأنما هي جميعًا أبعاد من قوس الأنا الشاعرة التي تحيط بكلِّ شيء إحاطةَ قبة الفلك بالأرض وما عليها!

غوته والإسلام

عُرِفَ غوته بعلاقة عاطفية خاصة مع الدين الإسلامي. فهو قد ألَّف، وهو بعدُ في الثالثة والعشرين من عمره، أغنيةً تمجِّد الرسول وتصوِّره في صورة نهر رائع دافق. وقد اعترف، وهو في السبعين من عمره، بأنه كان يفكِّر منذ زمن طويل بأن يحتفي بـ"ليلة القدر" التي نزل فيها القرآنُ على النبي. من هنا يتجلَّى عمقُ علاقته بالإسلام في الديوان الشرقي الغربي الذي يترجمه مكاوي بعنوان النور والفراشة.

ليس مرجع هذه العلاقة الحميمة بالإسلام ونبيِّه أن غوته درس القرآن، بل إنه حاول أن يتعلم اللغة العربية ويجرِّب الكتابةَ فيها. وعندما درس القرآن، فكَّر في كتابة تراجيديا عن النبي، لم تبقَ منها إلا أغنية "محمد" التي كانت فاتحةَ الفصل الأول. على أن علاقته بالإسلام كانت موضع خلاف بين المفكرين والمهتمين: فإحدى الجماعات الإسلامية التي تطلق على نفسها تسمية "مجموعة فايمر" (نسبةً إلى مدينة فايمَر) تصر على اعتناقه الإسلام، في حين يرى أحدُ المهتمين بأدب غوته أن ذلك ضرب من المبالغة وأن إعجاب الشاعر الشديد بالإسلام لا يعني أنه اعتنقه.

مهما يكن من أمر ذلك، فإن كتابات غوته تجسِّد التفاعل الحيَّ بين ثقافتين – شرقية وغربية – الذي توَّجَهُ الشاعرُ من خلال معرفة إنسانية وإيمانية. يُدهِشنا النور والفراشة برقَّته ومعانيه وعذوبة عباراته، ويلخِّصه المقطعُ الآتي: "الشيء الرائع لا تُسبَر أغوارُه؛ فليفهمْه كلٌّ منَّا كيفما شاء."

ليس الديوان في حقيقته سوى طريق شعري إلى العالم الخفي الرحب الذي نسمِّيه عالم الروح. ولأنه طريق يتجه، في الوقت نفسه، إلى الأعمق والأعلى، فقد حيَّر القرَّاء والشرَّاح منذ صدوره.

*** *** ***

عن النهار، الثلثاء 3 تشرين الأول 2006

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

Editorial

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود