أميركا والعالم: إغراء القوَّة ومداها

 

بـوصـلـة للسِّـجـال

 

خالد غزال

 

تشكِّل الولايات المتحدة الأمريكية اليوم محور العالم. فقد أدى انهيار المعسكر الاشتراكي ونهاية الحرب الباردة إلى تغير في موقعها وفي سياستها الداخلية والخارجية. يعاني المجتمع الدولي وجميع الشعوب من التوجهات الأمريكية، بسلبياتها و/أو إيجابياتها. تنشر مظلتها على عالمنا العربي وتتحكم بمسالك تطوره. تظل محور الدراسات والسجالات والتحليلات في كلِّ مكان. ينخرط غسان سلامة في هذا السجال عبر كتابه أميركا والعالم: إغراء القوة ومداها، وذلك من موقعه الثقافي والفكري والسياسي في أعماق الحياة الأمريكية، ليقدم أوسع التفاصيل عن رجال السياسة والمثقفين ورجال الأعمال والعسكريين الأمريكيين: كيف يصنعون القرار وكيف يديرون البلاد. يساجل الكثير من الأطروحات الأمريكية ويفنِّدها.

يتناول الإستراتيجية الأمريكية بعد انتهاء الحرب الباردة. فقد وجدت أمريكا نفسَها في العام 1989 أمام وضع عالميٍّ جديد لم تألفه سابقًا. أجبر انتهاءُ العدو الشيوعي أمريكا على تعيين معالم مرحلة تاريخية وإيديولوجية سيرتكز عليها الفردُ الأمريكي، ومعه السياسة الأمريكية. أطلق بوش الأب في العام 1991 شعار "ولادة النظام العالمي الجديد". تكاملت الرؤيا بعد هجمات 11 أيلول في العام 2001، فتحددت بموجبها الإستراتيجيةُ الأمريكية في جميع المجالات. أعلنت السياسة الأمريكية هدفها الأساسي المتمثل في إرساء "نظام عالمي" متكامل، قائم على المبادئ الرأسمالية والديموقراطية، وأكملت ذلك باعتبار الولايات المتحدة ضمانةً لهذا النظام ولاحترام قواعده. شكلت هجمات أيلول فرصةً ذهبيةً لإعادة صياغة النظام العالمي الوحيد القطب، فاستند إلى إيديولوجيا عمادها التفوق القومي الأمريكي، بكلِّ ما يعنيه من منع أية دولة من تعديل هذا النظام.

أتت الأحادية القطبية نتيجة طبيعية لإيمان الأمة الأمريكية بدورها المتميز الذي يمكِّنها من التصرف وحيدة ضد الجميع، ولقومية متصلبة، ولقدرات ذاتية تسمح لها بالقيام بمهمات فردية في كلِّ مكان من العالم. وجدت النخبةُ الحاكمةُ أن المعطيات الأمريكية تسمح للولايات المتحدة بأن تتحول إلى نيوإمبراطورية، فحددت مبادئها القائمة على تأمين القوة العسكرية والمراجعة الدائمة للتهديدات انطلاقًا من أخطار محتملة، بما يسمح بقيام عمليات "استباقية" و"وقائية" في أيِّ مكان من العالم. كما تهدف هذه المبادئ إلى مراجعة المعايير الدولية لجهة خفض سقفها، بما لا يعوق التدخلَ الأمريكي الأحادي الجانب، وأخيرًا اعتماد مبدأ "المهمة هي التي تملي التحالفات، وليس العكس".

كان لا بدَّ لهذه التوجهات الاستراتيجية الأمريكية من أن تتواجه مع الغرب الأوروبي. استند المنطق الأمريكي إلى مقولة مُفادها أن الأوروبيين لن يسلِّموا بالهيمنة الأمريكية وبأمريكا قوية، مما جعل أمريكا تنظر إلى أوروبا في حذر، فلم تكن مرتاحة إلى استكمال الوحدة الأوروبية ولا إلى الموقع المالي لليورو، واعتبرت أوروبا مصدر تهديد للمصالح الأمريكية. تصاعدت موجةُ العداء الأمريكي تصاعدًا خاصًّا بعد الموقف الأوروبي الرافض غزو العراق. ومقابل موقف أوروبي مشكِّك في وظيفة حلف الناتو بعد انتهاء الحرب الباردة، عمدت أمريكا إلى توسيعه بإدخال بلدان أوروبا الشرقية إليه.

من أجل وضع هذه الإستراتيجية موضع التنفيذ، يدخل غسان سلامة إلى أفكار القوى السياسية الأمريكية التي يقع على عاتقها تطبيق هذه المبادئ وعقولها. إنهم نخبة المحافظين الجدد، المتربعين على عرش الإدارة الأمريكية منذ مجيء بوش الابن إلى السلطة في العام 2000. تتكون هذه النخبة من مجموعة مثقفين وأصحاب نفوذ ورجال أعمال وبعض القادة العسكريين، تجمعهم إيديولوجيا التعصب القومي الأمريكي. يؤمنون بأحادية القطب الأمريكي وبحقِّ أمريكا وحريتها في التدخل المنفرد في كلِّ مكان من العالم. تنتسب غالبية المحافظين الجُدد إلى الطائفة اليهودية، فيرون أنفسهم أقرب إلى الليكود الإسرائيلي وأطروحاته. يجمعهم الإيمان بضرورة القوة العسكرية من أجل إزاحة العدو والتخلص من الديكتاتوريات وإقامة الديموقراطيات وفقًا للمفهوم الأمريكي. يعيش المحافظون هواجس "الأخطار" المتوقعة ضد الولايات المتحدة، فتدفعهم رغبةٌ عارمة في اجتثاثها قبل أن تطأ الأرض الأمريكية. لذا تحتل مقولة "الحرب الوقائية" موقعًا مركزيًّا في إيديولوجيتهم، وقد جرت ترجمةٌ مباشرة لها في غزو العراق.

تستوجب إيديولوجيا المحافظين الجُدد إيلاء المجال العسكري أهميةً استثنائية. لذلك تشكل موازنة وزارة الدفاع الأمريكية بمفردها من 45 إلى 50% من مجمل الإنفاق العسكري في العالم كلِّه! لم تعد الأهداف السياسية هي التي تحدِّد عمل العسكريين في عهد بوش الابن، بل بات العسكريون أصحاب النفوذ الأول في السياسة والدبلوماسية الأمريكيتين. توقف المحافظون الجُدد عن الإصغاء إلى إنجازات وزارة الخارجية وخبراتها، وأهملوا تقارير مراكز الأبحاث والاستخبارات. بات الپنتاغون يمسك بالقرار على حساب الوزارات الأخرى في الحكومة والدبلوماسية. تحتاج الولايات المتحدة إلى هذه القوة لحراسة العولمة في كلِّ مكان. ومن أجل تمكين هذه القوة من الجهوزية الدائمة، ينبغي تأمين قواعد انتشار لها في العالم لتكون على مسافة أقرب من المسارح المحتملة للأحداث. في المقابل، يجب أن توضع أحدث منتجات التكنولوجيا في مجالات الاتصالات والتجسس والأقمار الاصطناعية في خدمة هذه القوة.

ولا تتوافق إيديولوجيا التوسع الإمبراطوري مع الاحتكام إلى قواعد القانون الدولي. يرصد غسان سلامة الصراع الدائم بين الاندفاع الأمريكي إلى تهميش مؤسَّسات المجتمع الدولي وبين سعي هذا المجتمع إلى وضع حدٍّ للتفرد الأمريكي. يرى مؤيدو القومية المتصلبة في الإدارة الأمريكية أن السيادة الأمريكية تتعرض للتآكل بفعل تطور القانون الدولي: فالقوى العاملة من خلال الأمم المتحدة والمنظمات الدولية تضم مدافعين عن حقوق الإنسان، وهي تدَّعي وجوب فرض قواعد القانون الدولي على الدول ومنعها من اللجوء إلى القوة من دون موافقة الأمم المتحدة. يعتبر المحافظون الجُدد أن هذا القانون يشكل تحديًا مباشرًا للمصلحة الأمريكية ولآمال التحول إلى الديموقراطية عبر العالم. يؤدي المنطق الأمريكي إلى بروز مسألة حقيقية تواجه العالم، تتعلق بالتعارض بين الميول الأحادية للقوة العظمى وبين علة وجود المنظمة الدولية التي يقوم أحدُ مبادئها على مفهوم التعاون الدولي. لذلك ترجمت السياسة الأمريكية موقفَها احتقارًا لقرارات الجمعية العمومية واعتبارها مسيئة لسيادة الولايات المتحدة وحرية حركتها في الحرب الوقائية. جسدت أمريكا هذا الاحتقار في قرارها المنفرد باجتياح العراق واحتلاله.

تنجم عن هذه الإيديولوجيا نظرةٌ أمريكية خاصة إلى العولمة: أصبحت العولمة نوعًا من "العقيدة" مع بوش الابن، تمثلت في آلة حربية تطوف العالم لمحاربة الإرهابيين والقضاء عليهم، ووسيلةً لسيادة التبادل الحر ونشر الديموقراطية في العالم. ولأن العولمة هي حقيقة عصرنا المركزية، لا مناص من اقترانها بانفتاح لا تمنعه عوائق أمام الأسواق في قدرتها على الاستيراد والاستثمارات. كما تستوجب أيضًا رفض الضوابط على المنتجين، محليين أكانوا أم أجانب، وتكريس الخصخصة والتخفيف من دور الدولة وتدخُّلها. لكن منطق العولمة يتراجع عندما يتعلق الأمر بالمصالح الأمريكية الخاصة. فبعد العام 2001، بدت أمريكا مدفوعة بمصالحها القومية، فركزت على الاتفاقات الثنائية، وحددت سياسةً خاصة للبترول، ووضعت استراتيجية بعيدة المدى تضمن لها السيطرةَ على منابع النفط في الخليج العربي والقفقاس وآسيا الوسطى.

يولي غسان سلامة حيزًا مهمًّا للتحول الأمريكي في تصنيف العدو. خلال التسعينيات من القرن الماضي، فقدت أمريكا عدوها التاريخي المتمثل في الاتحاد السوفييتي؛ وقد سبَّب هذا الفقدان أزمةً في الهوية الأمريكية المحتاجة دائمًا إلى عدو. ملأت هجمات أيلول هذا الفراغ عبر عدوٍّ جديد أصاب أمريكا في عقر دارها ووضع حدًّا لمفهوم ساد طويلاً حول استقواء أمريكا على أعدائها. صار الإرهاب هو العدو المركزي، ووجبت محاربتُه على أرضه كيلا تُرغَم أمريكا على تحمل وزره على أرضها. منذ اليوم الأول بعد الهجمات، جرى استحضار نظرية هنتنغتون في "صِدام الحضارات"، ونُصِّبتْ عنوانًا للمعركة التي تواجه أمريكا، بما هي معركة بين حضارتين يمثل فيها "الجهاديون" المسلمون الإسلامَ، فيما تمثل الولايات المتحدة قيم الغرب.

تصاعد الشرح والتحليل لهذه النظرية عبر الاسترشاد بمعلِّمها الأساسي برنارد لويس وبعض مريديه من دعاة الحرب على العراق ومعاداة القومية العربية والإسلام. تشدِّد هذه الأفكار الجديدة على أن المسلمين، أو القسم الأكبر منهم على الأقل، بعيدون عن المقاربة العقلانية والسياسية للعالم؛ لذلك فهم مصابون بنوع من "الحنق" العضوي ضد الغرب. ينبع هذا الحنق من تراثهم الخاص، ومن فشلهم التاريخي في السيطرة، ومن شعورهم بالدونية تجاه الغرب. كما يتغذى هذا العداء الإسلامي من المرتكزات الدينية الإسلامية ومن المجابهات القديمة بين الحضارة الإسلامية وبين الحضارتين المسيحية واليهودية. يخلص برنارد لويس من ذلك إلى التفتيش عن العداء للسياسة الأمريكية، ليس في طبيعة ممارسات هذه السياسة، بل في نظرة الإسلام المعادية للقيم الأمريكية. مما يعني أن إرهابيي 11 أيلول كانوا مدفوعين بالحقد على الحرية والديموقراطية التي تمثل أمريكا موقع الريادة في حملها وسعيها لأن تسود سائر المجتمعات.

يميِّز برنارد لويس تركيا عن سائر المسلمين: فهو مفتون بالكمالية العَلمانية المعادية للأصولية والمنفتحة على إسرائيل؛ كما يعتنق نظريةً تقول بأن "الشرق الأوسط هو، على العموم، منطقة محبطة لا يمكن أن تتغير إلا بفعل ثلاثة عوامل: إسرائيل، تركيا، والنساء." ترتبت عن نظريته استنتاجاتٌ تنفي وجود رأي عام في هذه البلدان، وتؤكد أن الأنظمة القائمة في الشرق الأوسط لا تفهم سوى لغة القوة وأنها، تاليًا، عاجزة عن إحلال السلام، مما يوجب العمل على استبدال أخرى بها.

يتساءل الأمريكيون: "لماذا يكرهوننا؟" يحوي كتاب غسان سلامة فيضًا واسعًا من الأجوبة عن هذا السؤال، فيعيد أسباب هذا الكره إلى السياسة الأمريكية الاستعمارية المتسلطة على الشعوب العربية، وإلى تاريخ طويل من الانحياز إلى إسرائيل وأنظمة الاستبداد العربية، وإلى نموذج الممارسات الأمريكية في العراق وفي سجون أبو غريب وغوانتانامو.

يشكل كتاب غسان سلامة بحق مرجعًا لا غنى عنه في قراءة التحولات الأمريكية منذ انتهاء الحرب البادرة حتى اليوم – مساهمةً تحتاجها المكتبة العربية، كما يحتاجها رجالُ السياسة والثقافة في العالم العربي.

*** *** ***

عن ملحق النهار، العدد 724، الأحد 22 كانون الثاني 2006

 

قراءة للقيم المتصادمة داخل أمريكا والغرب

 

طارق متري[1]

 

في الظاهر، لم يكتب غسان سلامة أميركا والعالم: إغراء القوة ومداها للبنانيين، لكنه، في اعتقادي، كتبه للبنانيين أيضًا، فيما يدرك أنهم مشغولون بتفسير آخر كلمة قالها السفير الأمريكي في بيروت، أو لم يقلها، عن التفكر في أصل القوة وفصل ممارستها التي تؤثر في مصيرهم، على الرغم من أنهم، كسواهم، يدركون عِظَمَ القوة التي تربط المصائر على شكل غير مسبوق، اللهم ما خلا عصر الإمبراطوريات، والتي يتساءل المؤلِّف، من غير أن يقطع، في أمر تجدد أنموذجها اليوم.

يبحث غسان سلامة في خصائص "الاستثناء الأمريكي"، القديمة والمستجدة، التي صنعها التاريخ – تاريخ علاقات القوى، بصفة خاصة – التي تشكِّلها اللغة الإيديولوجية، صور الذات في مرآة الذات وأحيانًا في مرآة الآخر. وهو يحاذر القول، بعد تأكيده أنه لا يمكن العيش دون أمريكا أو ضدها، بأن الولايات المتحدة "أمة ضرورية" أو "لا غنى عنها" (بحسب ما جاء على لسان مادلين أولبرايت) على النحو الذي يقول به مبشروها المسيانيون من المحافظين الجُدد أو المحدثين ومن يحذو حذوهم من القوميين القدامى. ذلك أن الافتراض المذكور والقول الرسالي الذي يحمله يكاد يُثبِت، عوضًا عن أن ينفي، قدرةَ القومية في الولايات المتحدة على صنع الأمة وإعادة اختراعها. فلا غرو، إذن، أن تزداد، بازدياد القوة الصلبة واتساع نطاقها، حصةُ الإيديولوجيا في صنع السياسة! ولعل ذلك أيضًا ما دفع المؤلِّف إلى تجاوُز القسط المحدود الذي يُفرَد عادة لحركة الأفكار والمشاعر عند الكتابة من منظار العلوم السياسية والدراسات الاستراتيجية والعلاقات الدولية.

تصعب الإحاطة بكتاب بهذا الحجم والنوعية في آنٍ واحد في مداخلة وجيزة. حسبي أن أتوقف عند ما أظن أنه طُلِبَ إليَّ أن أقف عنده حين دُعيت للمشاركة في هذه الندوة[2]، أي التباسات العلاقة بين المحافظين الجُدد وسواهم.

يكشف الكتاب بالتفصيل عن الثقة بالنفس عند النخب الأمريكية النافذة التي تُغنيها هيمنةُ أمريكا على العالم عن المعرفة الجدية للمجتمعات الأخرى. إنها ثقة النخب الخارجة من الليبرالية، التائبة عن ترددها في أمر العلاقة بين السياسي والأخلاقي وعن ميلها إلى النسبية والتعددية وعن ارتضائها التنوع الثقافي وإعلاء شأنه، الذي باتت تتطيَّر منه على النحو الذي يدفع صموئيل هنتنغتون، في خطاب الهوية الذي يسكنه، إلى ترسيم الحدود لا بين الحضارات فحسب، بل داخل الولايات المتحدة نفسها!

هذه الثقة بالنفس تقوم، أولاً، على قوة أمريكا الصلبة، ولا يؤرقها كثيرًا، كما هي حال مفكر ليبرالي كجوزف ناي، أن قوتها "الناعمة"، أي قوة جذب الآخرين إلى الاقتداء بها، باتت في تراجُع. بل تبدو عاجزة عن التخيل أنه يوجد كثيرون في العالم ممَّن لا يريدون أبدًا أن يشبهوا الأمريكيين، وأن غضبهم حيالهم ليس من باب حسد الحاسدين الذين يتعذر إرضاؤهم، أكان ذلك بسبب عمق الجرح النرجسي الذي أصابهم أو بسبب انتمائهم لثقافة مغايرة أو دين بعينه.

في التاريخ المعاصر، تعود الثقة بالنفس المتضخمة داخل النخبة السياسية خلال العقود الثلاثة الماضية إلى نموذج رونالد ريغان، الذي كانت أولى خصاله، أو آخرها، إيمانه بفضائل أمريكا إلى حدٍّ لا يحتمل التردد ولا الأسئلة ولا التفاصيل، ولا يقبل أن تشوش المعرفةُ الدقيقةُ للعالم ولأمريكا نفسها على نظرته الثنائية المطمئنة. بالطبع، لا يشارك المحافظون الجُدد ريغان في كسله الفكري، لكن الكثيرين منهم "ريغانيون" في مسيانيتهم وإيمانهم بصلاح أمريكا وتفوقها الأخلاقي؛ إنهم "ريغانيون" أكثر مما هم على مذهب بوش الابن الذي، وإنْ أتاح لهم أن يمارسوا نفوذًا غير مسبوق في الإدارة الأمريكية، يختلف عنهم بتدينه وبأفكاره الاجتماعية المحافظة حينًا وبجمهوريته التقليدية حينًا آخر. إذ لا يبدي الرئيس بوش، ومعه وزيرة الخارجية، الاقتناع الراسخ نفسه بأن الديموقراطيات يمكن لها أن تنبت في كلِّ مكان بفعل إرادة الولايات المتحدة السياسية. فهو يميل، كالكثيرين من القوميين القدامى، إلى تشجيع الحرية من غير إصرار كبير على تصدير الديموقراطية. ثم إنه يؤمن بأن كره الآخرين لأمريكا ليس بسبب ما تفعله، بل بسبب ما هي عليه.

لقد اختار المحافظون الجُدد – وهم مجموعة قليلة العدد – ألا يُكثروا من الحديث إبان الحملة الانتخابية الأخيرة بين بوش الابن وجون كيري بسبب التباين هذا. ولعلكم تتذكرون أن المرشح كيري سعى سعيًا مستمرًّا لأن يدور النقاش حول ما تفعله أمريكا، وكان بوش يردُّه دائمًا إلى سؤال الهوية: مَن نحن؟ بدا المحافظون الجُدد مربَكين ومحجِمين عن إرباك بوش الابن لدى اضطرارهم إلى المشاركة في سجالات الانتخابات التي دارت، فضلاً عن سؤال الهوية بالعلاقة مع الخارج، حول مسائل داخلية غالبًا ما نوقشت من منظار قيمي وقانوني. لا يرى معظم المحافظين الجُدد أنفسهم في طليعة المدافعين عن نظام اجتماعي تقليدي، قائم على التراتبية واحترام التقاليد والنظرة التشاؤمية إلى الطبيعة البشرية، أي إلى "النفس الأمَّارة بالسوء"! إنهم، فيما يمجدون قوة أمريكا ويؤمنون بضرورة الحفاظ عليها وتعزيزها من طريق استخدامها، على قدر كبير من التفاؤل والمثالية في تدينهم بدين النموذج الأمريكي الصالح لكلِّ الناس، في كلِّ مكان وزمان.

يحدثنا غسان سلامة، في براعة شديدة، عن أهم تلامذة ليو شتراوس، الأب الفلسفي للمحافظين الجُدد: عنيت به بول وولفوفيتس. يقول إنه، كمعلِّمه، لا يحب الإعلان بصوت عالٍ عن اقتناعات عميقة لا يمكن للجمهور أن يفهمها ويجب ألاَّ يطَّلع عليها أصلاً. وهذا ما يمثل تناقضًا كبيرًا لدى العامل في حماسة على نشر الديموقراطية في جميع أقطار العالم. فالديموقراطية تستقوي بأفكار عصر "الأنوار" المؤمنة بالتقدم. لم يقبل شتراوس العَلمانية، وكان شديد الارتياب في مسيرة التقدم البشرية، ويخشى الليبرالية التي لا تقيم أيَّ تراتب بين الأفكار والثقافات، فتؤدي إلى النسبوية، وفي النهاية، إلى العدمية التي تنسف ركائز المجتمع الأمريكي.

على الرغم من ذلك كلِّه، يظهر وولفوفيتس، اليوم أكثر من أمس، بعدما أصبح رئيسًا للبنك الدولي، متفائلاً بالطبيعة البشرية وبحظوظ الديموقراطية وفرص التقدم المتاحة أمام الشعوب كلِّها، أية كانت ثقافاتُها. في المقابل، يبدو بالغ القلق حيال ما يهدِّد أمريكا. يصل به ذلك إلى القول بـ"الحرب الوقائية"، ويسوِّغها، قبل 11 أيلول والحرب على العراق، باسم مبدأ بسيط أو يبدو كذلك. غير أنه يلوي ذراع أحد معايير "الحرب العادلة" عند القديس أغسطينوس، الذي قال بنسبية الشر الذي يتجنب شرًّا أكبر. يختصر وولفوفيتس مسوِّغه بالعبارة الآتية: "لا يجدر تقويم الحروب اعتمادًا على ما تحقِّقه، بل بمقدار ما تتيح تجنبَها." إن هذا المبدأ يضفي على حرب كحرب العراق، وعلى استراتيجية الخروج منها أيضًا، مشروعيةً لا يحدُّها معيارٌ آخر ولا قانون ولا تساؤل أو إعادة نظر.

يقودني هذا كله إلى فكرة ناظمة في كتاب غسان سلامة تتعلق بالقيم المتصادمة داخل الغرب وداخل الولايات المتحدة. إن قراءة الاختلافات السياسية بين أمريكا وأوروبا وداخل الولايات المتحدة، من هذا المنظار، تقينا شرَّ الوقوع في تعميم وتبسيط واختزال وسياسوية، كثيرًا ما نقع فيها في بلادنا وتستغلق على الكثير من تحليلاتنا في ثنائية قوامها اعتبار الغرب جوهرًا ثابتًا وكلاًّ متجانسًا واللجوء إلى الافتراضات عن خطط "تآمرية" خفيَّة حين يظهر التنوع أو التناقض داخل هذا الغرب.

يذكِّرنا سلامة أن لمصطلح "الغرب" مضامين مختلفة ومتبدلة بحسب "هوية" الذي يستخدمه. ومن جراء استعراضه لما أصاب هذه المرجعية المفهومية من اهتزاز بعد تفكيك أوصال الكتلة الشرقية، من جهة أولى، والتباين في غير مسألة بين أوروبا ("القديمة"، كما سمَّاها رامسفيلد) وبين الولايات المتحدة، من جهة ثانية، يلفتنا نحن، العرب والمسلمين، إلى سذاجة النفوس البريئة، ومن ورائها بعض النفوس الخبيثة، في إصرارها على ثنائية عقيمة تضعنا نحن في إزاء الغرب وفي مواجهته من دون تمييز.

لا يجد سلامة أيَّ حرج في الحديث المباشر بالفرنسية عن القيم المتعارضة، بل المتصادمة، بين أوروبا والولايات المتحدة وداخل الولايات المتحدة نفسها – ومنها ما يتصل بنبذ الحرب عضويًّا، والتشبث بفضِّ النزاعات سلميًّا، ورفض ثقافة الموت، وتجاوز منطق القوة، واحترام القوانين الوطنية والدولية، ومعها المؤسَّسات ما فوق الوطنية. ولا يلغي تعارُض هذه القيم، ومعها السياسات التي تقوم عليها، تغييرًا في المواقف من هنا ومراجعة حسابات ظرفية من هناك. تكفي الإشارة إلى مساعي الدبلوماسية الأمريكية بعد انتخاب بوش لولاية ثانية لفتح مجالات جديدة للتفاهم مع الأوروبيين، كان أبرزها هذا الاندفاع، المتردِّد في أوله، من جانب واشنطن لتبنِّي المسألة اللبنانية كمجال تلتقي فيه مع باريس، ناهيك عن عودة مستوى أفضل من التشاور في مسائل البرامج النووية الإيرانية أو "خريطة الطريق" التي ساهم عدمُ تطبيقها في تفاقم شعور الفلسطينيين بالظلم وبأنهم أمام طريق مسدود. ولعل هذه التغييرات وسواها، هنا وثمة، لن تستقر على حال ولن تستقر معها علاقةُ الولايات المتحدة بأوروبا في السياسة العالمية.

إن أسئلة الكتاب حول هذا التصادم ضمن المشروع الإمبراطوري وحول مدى تطابق السياسة الواقعية و"السياسة الأخلاقية" في ظلِّ المسيانية القومية العالية النبرة، لا تستغني، ولا حتى مرة، عن التذكير بافتقار الولايات المتحدة إلى توجهات جليَّة لطموحها ولاستخدام منسجم لقوتها ولترتيب واضح لأولوياتها. وهي تضعنا في سباق زمني حين تذكِّرنا بانتخابات الكونغرس التي ستجري في نهاية 2006، ومن خلالها، بأن سياسة الولايات المتحدة في العالم تتحكم فيها، في حقيقة الأمر، انتخابات (كونغرسية في 2006 أو رئاسية في 2008)، ليست السياسة الخارجية موضوعها الأول، مهما كان من أمر التحولات التي أحدثها 11 أيلول.

أخيرًا، لا يحتاج كتاب غسان سلامة إلى تقريظ إضافي. لقد كتب هذا المثقف اللبناني والعربي والصديق العزيز كتابًا لا يستطيع باحثٌ أو قارئ جاد الالتفاف حوله، وإذا ما أمسك به تمسَّك به إلى حدٍّ لا يقوى على الإفلات منه!

*** *** ***

عن النهار، الخميس 30 آذار 2006


[1] مؤلِّف كتاب مدينة على جبل حول موقع الدين والجماعات الدينية في الحياة العامة الأمريكية، وزير الثقافة اللبناني حاليًّا.

[2] ندوة انطلياس (8 آذار 2006) حول كتاب د. غسان سلامة أمريكا والعالم: إغراء القوة ومداها الصادر عن "دار النهار".

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

Editorial

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود