الثقافة والمقاومة
دولتان على أرض فلسطين أم دولة ثنائية القومية؟

 

حسن عبد العال

 

بعد كتابه الأول المتضمن حواراته الشائقة مع إدوارد سعيد بعنوان القلم والسيف (1994)، يطل علينا دايڤيد بارساميان [والأدق لفظًا "برصوميان"] بكتابه الحواري الثاني (والأخير) الذي يهدف، بدوره، مثل الكتاب الأول، إلى المساهمة ما أمكن في تقديم صورة شخصية تكون أكثر قربًا من إدوارد سعيد – الإنسان والمناضل والمفكر –، وذلك من خلال حوارات حميمية أراد لها بارساميان أن تفي بهذا الغرض من خلال الإحاطة الدقيقة والتفصيلية بالأبعاد الثلاثة سابقة الذكر التي شكلت جماع شخصية الپروفسور إدوارد سعيد، وبطريقة لا يمكن لأحد الحصول على نظير لها بالاقتصار على قراءة مؤلَّفاته ومتابعة محاضراته ومقالاته المنشورة في صحافة أمريكا وأوروبا.

يتضمن كتاب بارساميان عن إدوارد سعيد حوارات متفرقة مع صاحب الاستشراق والثقافة والإمپريالية الذي نذر نفسه، منذ ثمانينيات القرن المنصرم، للدفاع عن قضية شعبه الفلسطيني في البلد الأكثر رعايةً للصهيونية وإسرائيل (الولايات المتحدة). وهي حوارات تبدأ من العام 1998 وتنتهي بتاريخ 25 شباط من العام 2003، أي قبل وفاة المفكر الكبير بستة أشهر (توفي سعيد في أيلول 2003).

ومن خلال هذه المحاورات، التي اختار لها بارساميان عنوان الثقافة والمقاومة[*]، يطل علينا "الپروفسور"، الذي احتل منزلة رفيعة ولائقة في عالم الفكر والثقافة على المستوى العالمي، كنموذج، أو كمشخِّص ذاتي، عن الدور الذي سبق وارتآه للمثقف الحقيقي على المستوى الوطني والإنساني العام الذي يلتصق بقضايا أمَّته وشعبه وبمسائل التنوير، خاصة في زمن ما بعد الحداثة الذي، للأسف، كما يقول سعيد، أدخل معه مفاهيم جديدة أدت إلى انصراف غالبية الطبقة المثقفة المتعلقة بالتنوير والتطوير.

فبحسب سعيد، الذي تمسَّك بدور المثقف في الزمن الصعب – زمن ما بعد الحداثة – ونظَّر له، فإن المسألة المتعلقة بالدور المذكور أوسع وأشمل، بحيث لم تعد تقتصر على دور المثقف في حدِّ ذاته، كداعية ومناضل ورجل تنوير، بقدر ما تشكل أساسًا دور أجناس الثقافة وأشكالها كافة في حركة المقاومة وفي معارك الدفاع عن الشخصية الوطنية وحمايتها من خطر التبدد والطمس. فالثقافة هي شكل للذاكرة في مواجهة التبدد والطمس، كما هي الحال في الساحة الفلسطينية التي أشار إليها كنموذج بالغ الدلالة: فإلى جانب الخطاب السياسي والنقدي الفلسطيني، قامت السينما الفلسطينية والمسرح الفلسطيني والشعر الفلسطيني والفولكلور الفلسطيني والأدب الفلسطيني في شكل عام باحتلال دور لائق على جبهة الممانَعة الثقافية، كأشكال وسُبُل للكفاح في مواجهة الانقراض ووسائل طمس معالم الشخصية الوطنية.

لا يقتصر كتاب بارساميان عن إدوارد سعيد على محاولة إظهار الطاقة النضالية لهذا المفكر العنيد، الذي أعلن، أكثر من مرة، في مواجهة الحملات الدعائية المضادة التي أرادت إسكاته، بأن صمته لن يتحقق إلا في حالة اختطاف الموت له! فالكتاب المذكور يتضمن حزمةً من العناوين التي تبرز تحتها آراءُ سعيد في العديد من القضايا والمسائل الإشكالية التي مازالت تدور الآراءُ والمناقشاتُ حولها في الساحة السياسية الفلسطينية، مثل التسوية السياسية على المسار الفلسطيني–الإسرائيلي، وشكل الدولة المنشودة، إلخ.

فمن خلال هذه الحوارات، يبدي سعيد، في أكثر من مكان على رقعة الكتاب، موقفه الرافض رفضًا حازمًا لتسوية أوسلو، ليس من موقع الرافض لفكرة ومبدأ التسوية السياسية كشكل لا بدَّ منه في نهاية المطاف لتسوية الصراعات، وإنما من موقع الرافض لشكل التسويات المجحفة من قبيل تسوية أوسلو التي، كما نعلم، كان يطلق عليها عبارة "ڤرساي فلسطينية".

أما على صعيد الجدال الدائر في أوساط بعض النخب المثقفة الفلسطينية بين أولوية مشروع الدولة الفلسطينية المستقلة في الضفة والقطاع (إلى جانب دولة إسرائيل) وفكرة الدولة الواحدة، ثنائية القومية، فالموقف الذي يبديه سعيد يقوم على ترجيح فكرة الدولة ثنائية القومية فوق أرض فلسطين التاريخية. وهذا الخيار، الأقل شعبية، الذي مازالت تقتصر الدعوةُ إليه على أوساط بعض النخب المثقفة الفلسطينية، هو الخيار الأكثر واقعية، بحسب سعيد، لدعاوى تتعلق بحالة التشابك والتداخل الجغرافي والديموغرافي القائمة بين الشعبين الفلسطيني واليهودي فوق أرض فلسطين، من جهة، وبسبب كونه الخيار الأسلم والأمثل الذي يمكن له أن يساهم مستقبلاً في تحقيق مطلب حق العودة، من جهة ثانية. أما في خصوص الخيار الأول، الأكثر شعبية (خيار الدولة الفلسطينية المستقلة)، فهو غير مستبعَد من تفكير إدوارد سعيد الذي يقر به كخيار مؤقت، أو مرحلي، يتم من خلاله التحضير للخطوة التالية والحل النهائي القائم على فكرة دولة لشعبين (يهودية–فلسطينية)، شريطة توافُر مبدأ المساواة.

أخيرًا، على المقلب الآخر، لا بدَّ من التذكير بالحوار الذي أداره دايڤيد بارساميان مع إدوارد سعيد حول المصاعب التي اعترضت "الپروفسور" إبان مسيرته النضالية كشارح للقضية الفلسطينية ومُدافع عنها في الولايات المتحدة والغرب عمومًا؛ وهي، كما نعلم، مصاعب ناجمة عن الهجمات المضادة الصهيونية، اليهودية وغير اليهودية، التي اعترضت طريقه والتي وصلت إلى إطباق الحصار عليه أكثر من مرة والدعوة إلى إنهاء حياته المهنية كمحاضر وأستاذ جامعي، ووصلت أيضًا إلى حدِّ المساهمة في تشويه صورته ووَصْمِه بعبارة "پروفسور الإرهاب"!

*** *** ***

عن المستقبل، الخميس 31 آب 2006، العدد 2372


[*] دايڤيد بارساميان، الثقافة والمقاومة: حوارات مع إدوارد سعيد، بترجمة علاء الدين أبو زينة، دار الآداب، بيروت، 2006.

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود