إعصـار أدونيـس!

 

الخـير شـوار

 

أدونيس – الذي نشر سنة 1988 ديوان مفرد بصيغة الجمع، وهي السنة نفسها التي بدأت فيها قصتُه التي لم تنتهِ مع نوبل – أصبح بالفعل «جمعًا بصيغة المفرد»: هو المفرد ظاهريًّا، لكنْ المتعدد حدَّ الازدحام في تجربته الشعرية والفكرية التي ما انفكت تحمل الجديد وهو في العقد الثامن من عمره.

والجزائر، التي ظلت في منأى عن الأعاصير الطبيعية، ضربَها مؤخرًا «إعصار أدونيس» الذي مرَّ بها مرورًا غير عادي، فكان مرورُه بمثابة البارومتر لقياس «ضغط» النقاش الفكري الحر. لكن النتيجة كانت مخيبة للآمال! (انظر «الملحق» أدناه.)

أدونيس ليس مجرد شاعر عادي. فمع مرور السنين، أصبح بالفعل «مالئ الدنيا وشاغل الناس»، تمامًا مثل سلفه المتنبي، وأكثر الشعراء العرب علاقة مع جائزة نوبل للآداب (التي ذهبت هذه المرة [2008] إلى الفرنسي ج.م.غ. لوكليزيو)، لا لأنه أول شاعر عربي يفوز بهذه الجائزة – فهي لم تعرف طريقَها إليه بعد – بل لأنه كاد أن يصبح «المرشح الدائم لها»، وفي بداية كلِّ أكتوبر من السنة يتصدر قائمة المبشَّرين بنوبل، وفي كلِّ مرة تأخذ طريقها إلى غيره!

فالفتى القروي الفقير، الذي لم يلتحق بالمدارس النظامية إلا في سنِّ الرابعة عشرة، لم يكن يحلم حينذاك إلا بأن يصبح شاعرًا على الطريقة الكلاسيكية، داخل ما يسميه محمد أركون بـ«السياج الدوغمائي المغلق»، بكلِّ ما يحتويه من جمالية ومعتقد. فكم كانت فرحته عظيمة عندما ألقى قصيدة وطنية حماسية أمام شكري القوتلي، الرئيس السوري الذي زار منطقتهم سنة 1944، تلك القصيدة التي تقترب من المدح والتي «بفضلها» انفتحتْ له أبوابُ الثقافة الحديثة عندما نال إعجاب المسئول الأول في البلاد، فأُرسِلَ، بناءً على طلبه، إلى «المدرسة العلمانية الفرنسية» في مدينة طرطوس.

والشاعر المتمرد الثائر على كلِّ «ثابت»، الذي أصبح في «تحوُّل»، لا يزال، ربما، ينتابه الخجل عندما يتذكر تلك القصيدة «العصماء» التي ألقاها الطفل القروي الذي كان اسمه في أربعينيات القرن العشرين علي أحمد سعيد إسبر. فتلك القصيدة نموذج صارخ لثقافة «الثبات» والتقليد التي ثار عليه طوال حياته القادمة، لكنها – ويا للمفارقة! – كانت المفتاح الذي فتح له أبواب ثقافة «التحول» الجديدة التي دخلها رمزيًّا سنة 1948: السنة التي تُسمَّى في تاريخ العرب بـ«عام النكبة» والتي، في تاريخ الشعر، شهدتْ الميلادَ الحقيقيَّ لواحد من أهم شعراء العربية في التاريخ. ففي ذلك التاريخ، مات الشاعر الكلاسيكي علي أحمد سعيد إسبر وولد أدونيس، بكلِّ ثورته – إنها المفارقة التي لازمت الشاعر طوال حياته، وهو الذي ما كان له أن يكون كذلك لولا قصيدته الوطنية الحماسية التي ألقاها في حضرة الرئيس القوتلي، الذي أطيح به بعد ذلك.

في سنة «النكبة» والعقم، ولد ذلك «الإله» الشعري الذي اتخذ لقب إله الخصب في الثقافة الكنعانية–الفينيقية القديمة، الإله الذي عبر الثقافات الأخرى إلى الإغريقية، واسمه في الثقافة العربية القديمة «بعل». فالإله الذي يصوَّر شابًّا رائع الجمال ولد في السنة نفسها التي أدرك فيها قومُه أن أمَّتهم شاخت وأصابها العقم؛ وفي السنة التي أصدر فيها مفرد بصيغة الجمع رُشِّحَ لجائزة نوبل وأصبح، مع مرور الزمن، «الثابت» الوحيد ضمن قائمة المرشحين – وهو الذي يكره الثبات – ولم يتمكن من تجاوز تلك العقبة – وهو الذي يكره العقبات، مهما كان نوعها – حتى تحوَّل إلى عقبة أمام الشعراء العرب الذين جاؤوا بعده، مثلما كان المتنبي عقبة في تاريخ الشعرية العربية.

والشاعر الذي تسمَّى بـ«أدونيس»، الإله الأسطوري، اعترف، رغم كلِّ شيء، في حوار مطوَّل معه نُشِرَ في كتاب منذ سنين، أنه لم يتخلص من رواسب الثقافة العربية، بكلِّ أمراضها. لقد أسماه أنصاره بـ«المعلِّم الثالث» (بعد «المعلم الأول» أرسطو و«المعلم الثاني» الفارابي)، ولم نسمع أنه احتجَّ على ذلك اللقب، لكنه كرَّس نفسه محاربًا للتلقينية والتعليمية التي عانت منها الثقافة العربية، ولا تزال تعاني منها. والطفل الذي كان يرتدي ملابس الكبار البالية في قرية قصابين الفقيرة في أربعينيات القرن العشرين لم يكن يحلم بأن يتحول إلى ذلك «المعلم الثالث» الذي انتصر على كلِّ شيء، إلا على شبح اسمه «نوبل»!

ومن الغريب أيضًا أن الشاعر المفكر الذي ناهض الثقافة الذكورية في الثقافة العربية أسمى نفسه «أدونيس»، الذي يحيل إلى الذكورة والخصوبة المناهضة للأنوثة، التي تحيل إلى التحضر والتعدد. وهذه مفارقة أخرى من مفارقات هذا الشاعر–الظاهرة الذي استحق بالفعل أن يكون «جمعًا (حدَّ التناقض) بصيغة مفرد (اسمه أدونيس)».

كان إلهًا للخصب في الميثولوجيا القديمة، وأصبح «إعصارًا» مدمرًا! وقد مرَّ قبل أيام على الجزائر، وقد يضرب مناطق أخرى قريبًا، ولا مؤشر لأن يصير مجرَّد زوبعة أو رياح موسمية. فقوته في تزايد مستمر وهو على عتبة الثمانين!

* * *

 

ملحق
أدونيس يدعو من الجزائر إلى فصل الدين عن الدولة

 

حلَّ الشاعرُ والمفكرُ السوري أدونيس، علي أحمد سعيد، بالجزائر يوم الأحد [19/10/2008] بدعوة من «المكتبة الوطنية الجزائرية». وقد بدأ نشاطه الفكري مساء الاثنين بإلقاء محاضرة أمام جمهور غفير حول «مشكلة الدولة والسلطة والدين في المجتمعات العربية والإسلامية».

ولقد انطلق الشاعر أدونيس من فرضية مُفادها أن «الثابت» في الإسلام هو الوحي وأن «المتحول» هو التأويلات التي خضع لها هذا الوحي. كما تحدث عن مشكلة كبرى تتمثل في إخضاع الوحي للتأويلات السياسية والمذهبية، وذلك بدوافع قَبَلية ومذهبية وإيديولوجية وسياسية هدفها اقتناص السلطة.

ولقد شدَّد أدونيس على أزمة الفكر الإسلامي، مبرِزًا أن هذه الأزمة تاريخية قديمة، وليست جديدة. وفي هذا الخصوص، قال إن تحويل الدين الإسلامي إلى مؤسسة سلطوية هو السبب الرئيسي في طمس أبعاده الروحية كخيار شخصي. وهو يرى أيضًا أن الثقافة السائدة في المجتمعات العربية والإسلامية هي ثقافة السلطة القمعية التي تستخدم الدين غطاءً ومسوِّغًا لها.

وفي تحليله للعلاقات بين الدول العربية والإسلامية، قال إنها ليست مبنيةً على قاعدة اقتصادية مشتركة أو قاعدة سياسية واحدة، وإنما على الدين كسلطة، لا تُستثنى من ذلك الأنظمةُ أو الأحزابُ التي تعتبر نفسها «معارِضة» للأنظمة الحاكمة. وهنا أوضح أن الديموقراطية لا توجد في العالم العربي، حيث تغيَّب حقوقُ الإنسان والحرياتُ وتُقصى العدالةُ الاجتماعية.

وقد لاحظ بأن مشكلة تحويل الإسلام إلى سلطة قد بدأت منذ معركة «السقيفة» [سقيفة بني ساعدة]، ثم اتخذت أشكالاً مختلفة مع الحفاظ على المضمون ذاته. وقد كرَّر عدة مرات قوله إن المشكلة لا توجد في الوحي، بل تكمن أساسًا في الانقسام والتأويلات المصلحية للوحي على نحو يخدم أغراض هذا التيار أو ذاك الفريق في المجتمعات العربية والإسلامية. وهكذا يرى أدونيس أن تسييس الدين ومأسَسَته (أي تحويله إلى مؤسَّسة سلطوية) هو المسئول عن تحريف الدين كتدين روحي للأفراد وجعله أداة للوصول إلى الحكم غير الديموقراطي.

وفى مقارنة له بين المجتمعات الغربية وبين المجتمعات العربية–الإسلامية، قال أدونيس إن الأولى قد حقَّقتْ الحداثة والديموقراطية بعد فصل الكنيسة عن الدولة. أما المجتمعات العربية–الإسلامية فقد فشلت في تحقيق ما أنجزتْه الدولُ الغربيةُ بسبب تحويل الوحي إلى مؤسسة سلطوية تخضع لثقافة الإلغاء وإخضاع الفرد وتهميش الرأي النقدي المخالف للسلطة أو معاقبة أصحابه. وفى رأي أدونيس أن السلطة التي تستخدم الدينَ مطيةً تلجأ إلى «تكريم» مَن يسوِّغ أفعالَها وممارساتِها وخطابَها وإلى التنكر لِمَن يقف منها موقف الاختلاف أو المعارضة. ومن جهة أخرى، فإن أدونيس يرى ضرورة احترام الحرية الدينية في مجتمعاتنا.

بعدئذٍ قدم الشاعر أدونيس بعض الأمثلة من الشعر العربي، قائلاً إن الشعر المكتوب قبل الإسلام كان إما تعبيرًا عن شخصية الشاعر ومواقفه من الحياة وإما تعبيرًا عن الجماعة؛ أما بعد انخراط الشعراء في الإيديولوجيا الدينية الإسلامية فقد اختفت تلك العناصر من شعرهم، وراحوا يعيدون إنتاج مضامين الدين الجاهزة إما في الوحي وإما في المذهبيات الدينية. ثم ساق مثالاً آخر هو شعر أبي نواس الذي أعاد إلى الشعر خصوصيتَه كتعبير عن الشخصي الإنساني، لا كتعبير عن الإيديولوجيا الدينية السابقة للتجربة الشخصية. إن أدونيس يريد بهذا النموذج (أي شعر أبى نواس) القول بأن الشاعر الحقيقي يعبِّر عن ذاته وعن مجتمعه وعصره من خلال تجربته هو؛ أما الشاعر الذي يصدر عن المؤسسة، سواء كانت دينية أو سياسية، فهو لا يعبِّر، وإنما ينقل مضامين جاهزة مسبقًا، وبذلك لا يكون الشعر عنده إبداعًا، بل صدى ونسخة مكرَّرة عن قوالب المؤسسة.

وخلال النقاش المفتوح مع الجمهور الحاضر في الندوة، تباينت التعقيبات والأسئلة، لكنها اشتركت عمومًا في الهمِّ الأساسي، ألا وهو تحويل الدين الإسلامي في المجتمعات العربية الإسلامية إلى أداة للحكم والسلطة وإلى طقوس من العنف. وجوابًا عن سؤال وجَّهه أحد الحاضرين إلى أدونيس حول موقفه من «حزب الله» اللبناني، قال إنه مع «حزب الله» المناضل، وليس مع «حزب الله» كمشروع دولة دينية.

كما قال أدونيس إنه لا يوجد مفكر إسلامي واحد، من جاكارتا إلى شمال أفريقيا، صاحب إسهام نظري جديد في الإسلام أو نظرية جديدة لتجديد الإسلام. هذا وقد أفصح صراحةً عن يأسه من التغيير الجذري في مجتمعاتنا في ظلِّ سيادة السلطة الدينية والدين الذي يُستعمَل كقناع للوصول إلى السلطة السياسية وتكريس الواحدية والقمع والاستبداد، وذلك بعد إقصاء الدين كإيمان شخصي وبُعد روحي في حياة الإنسان.

*** *** ***

نقلاً عن: العرب أونلاين

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 إضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود