مـأزق العـالم الإسـلامي

 

مهـدي النجَّـار

 

"قُلْ هوَ مِنْ عِندِ أنفسكم إنَّ الله على كلِّ شيءٍ قدير"
سورة آل عمران، الآية 165

 

مـدخـل

نقصد بـ"العالم الإسلامي"، ابتداءً، هذه المنطقة الجغرافية الواسعة التي تقطنها غالبيةٌ من الناس تدين بالإسلام والتي تمتد من المغرب إلى إندونيسيا ومن نيجيريا إلى كازاخستان، وتبلغ مساحتها حوالى 32 مليون كم2، أي ما يقارب ربع مساحة اليابسة البالغة حوالى 149 مليون كم2. وتشير الإحصاءات المتداوَلة إلى أن عدد سكان الدول الإسلامية مجتمعةً (عدد الدول الأعضاء في "منظمة المؤتمر الإسلامي" 57 دولة) يبلغ حوالى 1.3 مليار نسمة؛ أما عدد نفوسهم على الكرة الأرضية فيقارب المليارين: أي أن العالم الإسلامي، من حيث النفوس، يبلغ حوالى ربع سكان العالم الذين تعدادهم حوالى ستة مليارات نسمة. وتتوزع دول العالم الإسلامي على أربع قارات، إلا أنها تتركز أساسًا في قارتي أفريقيا وآسيا، حيث يوجد في الأولى (أفريقيا) حوالى 438 مليون نسمة وفي الثانية (آسيا) حوالى 852 مليون نسمة. ومن الجدير بالذكر أن من بين الدول الأربعين الأكثر سكانًا في العالم عشر دول إسلامية، منها: إندونيسيا في المرتبة الأولى: حوالى 225 مليون نسمة؛ پاكستان في المرتبة السابعة: حوالى 150 مليون نسمة؛ نيجيريا في المرتبة العاشرة: حوالى 121 مليون نسمة.

إن هذا العالم يقع، في كلِّ مرة، ضحية التزويقات والتجميلات والتقارير الكاذبة. ولا بدَّ من تجرُّع مرارة الكشف عن المراتب الدنيا من التقدم والازدهار والحداثة التي يحتلها في أغلب مجالات الحياة، بل يتقهقر خارج نطاقها على الأغلب، بعيدًا عن مساراتها واتجاهاتها، فيقع في دائرة الخراب المزري الذي يقشعر له البدن، ليس على صعيد واحد، إنما على الأصعدة والميادين كافة، خاصة الرئيسة منها: أصعدة الاقتصاد والتنمية والسياسة والثقافة والعلوم والآداب وقيم الأخلاق، وحتى على مستوى الرياضة البدنية!

إلا أن الذين يحملون ثقافة نقلية تقليدية أو متشدِّدة يبغضون الكلام على ذلك، فلا تروق لهم رؤيةُ الحقائق والأرقام المفجعة والمخجلة، ويرمون بـ"حجارة من سجيل" أولئك الذين ينبشون الأوراق ويفضحون المستور منها وينعتونهم بشتى النعوت: "زنادقة"، "كفار"، "خونة"، "عملاء"، "أعداء الأمَّة"، إلخ، فيستحقون، بالتالي، قَصاصات رادعة صارمة، معنوية ومادية: من تشويه سمعتهم، إلى طردهم خارج المجتمع وخارج السلطة، إلى زجِّهم في السجون، إلى قطع أرزاقهم، إلى هدر دماءهم وضرب أعناقهم، إلخ.

وهكذا غالبًا ما تُدفَن الوقائعُ والبياناتُ تحت أكوام هائلة من أتربة التلفيق والتزوير والافتراء، حتى يرتفع صخبُ الغطرسات ليملأ الدنيا، ويعلو سقفُ الادعاءات إلى ارتفاع شاهق لتكريس التفوق والمركزية، حتى تضيع المؤشرات والتشخيصات ويموَّه عليها، فيُنسَب إلى هذا العالم المتضعضع ما ليس لديه، تحت هيمنة انفعالات الزهو والكبرياء والافتخار، وتُنسَب إليه خلاصةٌ تقول إنه "أفضل بقاع الأرض"، "أزهى الأوطان"، "أعظم المجتمعات"، "ما من أمَّة على الأرض أفضل وأكرم وأرحم من أمَّتنا الإسلامية"، إلخ. لكن أصحاب تلك الخلاصة يتأسفون حين تحاصرهم الأرقامُ والوقائعُ والأحداث، فيعلنون جهارًا أن رداءات عالمنا الإسلامي وانتكاساته، هزائمه وخيباته، فقره وتعاسته، تفكُّكه وتشرذمه، حصلت – وتحصل – بسبب الإمپرياليين والصهاينة، بسبب الكفار والصليبيين!

هذا ليس صحيحًا. والصحيح، برأينا، أن هؤلاء (أي أمريكا والغرب وإسرائيل) ليسوا أسباب مشكلات العالم الإسلامي كلها. فلو "خسف الله بهم الأرض" لما خرج هذا العالم من مأزقه، لأن أسباب المأزق تتعلق أساسًا بمسائل التخلف والتمدن، لا بمسائل دينية أو طائفية. إنها، بالدرجة الأولى، مسألة حضارية وتمدُّنية. ومعضلة العالم الإسلامي معضلة داخلية بسبب انهيار جهاز المناعة فيه. والمريض الذي لا يقتنع بمرضه يصعب علاجه. إلا أن "الآخرين" ليسوا من صنف الملائكة، بل هم مجموعة بشرية يريدون، كغيرهم، أن يحافظوا على تفوقهم وقوتهم وتمدُّنهم، ويعتقدون أنهم مؤهلون أكثر من غيرهم للتمتع بخيرات الدنيا والحضارة، لأنهم يتحكمون بقوة في دورة الرأسمال العالمي والبورصات الكبرى، في التكنولوجيا والمنظمات الدولية ("صندوق النقد الدولي" و"البنك الدولي" إلخ)، ولا يريدون للعالم الإسلامي (ولا لغيره من الأمم) أن يتطور إلا وفق حساباتهم ومصالحهم وفي إطار المسموح به في دائرة الضبط والتحكم.

والغرب إنما كسب العالم ليس فقط بسبب تفوُّق أفكاره أو قيمه أو دينه، بل بالأحرى – كما يرى صموئيل هنتنغتون – بسبب تفوُّقه في تطبيق العنف المنظَّم. كثيرًا ما ينسى الغربيون تلك الحقيقة، لكن غير الغربيين (مثل العالم الإسلامي) لا ينسونها. لذا يجب أن نُقلِعَ عن أيِّ تصور أخلاقي للغرب الحداثي الذي لا يريد إلا استتباع الآخرين ودمجهم في السوق ليصبحوا مُستهلكين تقنيًّا واقتصاديًّا وثقافيًّا – هذا من جهة. ومن جهة ثانية – وهو الأهم – على المسلمين أن يبحثوا عن أسباب خرابهم وخذلانهم داخل أوطانهم ولا يعلِّقوها، كما فعلوا ألف مرة، على عاتق غيرهم. فمَن يحب وطنه وأمَّته حقًّا وحقيقةً عليه أن يكدَّ ليل نهار، مفتشًا ومشخِّصًا ومتفحصًا الأسباب والعلل، فينتفض بشجاعة ويعرِّيها دون مواربة أو حياء، بدلاً من شتم الآخرين وسبِّهم، بمناسبة أو من دون مناسبة. وهل الصراخ والنواح ينفع في تغيير المسارات التاريخية؟!

المسلمون، مثلهم كمثل البشر قاطبة، ليس قَدَرهم أن يظلوا في مصاف الأقوام المتخلفة. فهم في كلِّ مرة يريدون أن ينهضوا، أن يغيروا أحوالهم ويشعروا بإنسانيتهم وكرامتهم؛ لكنْ تُضيِّعهم الآراء الملتبسة والتمويهية والخرافية. يطرح أصحاب هذه الآراء، بشقَّيها التقليدي والمتشدد، شعارات تبسيطية وعمومية، مثل: "الإسلام هو الحل"، "الاقتصاد الإسلامي"، "الدولة الإسلامية"، "الخلافة الإسلامية"، "الدستور الإسلامي"، "التكافل الاجتماعي بين المؤمنين"، إلخ – هذه الشعارات، مثل بكائية لا نهاية لها، تريد أن تعوِّض عن فعل البحث والإصرار، كأنها تسعى إلى تحويل البكاء على الحظ العاثر بديلاً عن مراجعة الذات: نقدها ونقد تراثها وثقافتها. تلك شعارات كلها غير فعال، على مبعدة شاسعة من روح العصر وأفكاره وقيمه، ولا تقترب كثيرًا من علل الخراب الذي يعيشه المسلمون في أوطانهم.

مظاهر التخلف

أولاً: الفقر

يُعتبَر الفقر من أهم الأوصاف التي يتصف بها العالمُ الإسلامي، على الرغم مما يقال عن امتلاكه ثروات طبيعية هائلة، قوى عاملة ضخمة، عقولاً علمية كبيرة، موارد مائية غزيرة، وأراضي زراعية شاسعة، إلخ. إلا أننا حين نحدِّد الفقر بحسب المرجعيات العالمية، مثل "مجلس المجموعة الأوروبية" الذي أقرَّ منذ العام 1975 التعريف الآتي للفقر: "يوصف بالفقر الأفرادُ والأُسرُ ذات الموارد التي تقل إلى درجة تُبعدهم عن الحدِّ الأدنى المقبول للحياة في الدول الأعضاء التي يعيشون فيها." (المقياس الحديث لأدنى نسبة دخل في العالم 725 دولارًا سنويًّا.) وفي العام 1994، حدد المجلس الأوروبي "المحرومين" بأنهم "فئة من البشر تخرج عن مجالات التمتع بحقوق الإنسان، جزئيًّا أو كليًّا"؛ ومن الواضح أن هذا الربط بين الفقر وحقوق الإنسان هو امتداد لاتفاقيات هلسنكي، كما يعكس توسعًا واضحًا في مفهوم الفقر. – وفق تلك التحديدات، نقول، نجد الفقر في العالم الإسلامي كأنه أصبح شائعًا ومألوفًا كالموت! ولذلك صار "تدجين" الفقراء مدخلاً إلى إلفتهم الفقر، إلى حدٍّ صار معه حالةً طبيعيةً أو قَدَرًا لا خلاص منه.

فعلى مستوى العالم، الذي يُعتبَر نصفُ سكانه من الفقراء ويعيش فيه نحو 1.3 مليار إنسان تحت خطِّ الفقر (أي أولئك الذين يعيشون على أقل من دولار يوميًّا، ثمن شطيرة لحم بقر أو مشروبين غازيين)، نجد أن ثلث فقراء العالم هم من العالم الإسلامي. في عبارة أخرى، يعيش في العالم الإسلامي 37% من السكان تحت خطِّ الفقر[1]، أي ما يعادل 504 ملايين شخص تقريبًا، وتبلغ نسبتهم إلى فقراء العالم 39%. وهذا معناه أن أكثر من ثلث سكان العالم الذين يعيشون تحت خطِّ الفقر يسكنون دول العالم الإسلامي! ويصاب المرء بالخجل والاستياء حين يعرف أن دخل الفرد الفقير في الدول الصناعية يساوي أكثر من مئة ضعف نظيره في العالم الإسلامي.

وطبقًا للحسابات الشهيرة التي أجراها بهيمال غوش، المدير الأسبق لـ"برنامج الأمم المتحدة الإنمائي"، فإن الإعانة المالية المقدَّمة عن كلِّ بقرة في الاتحاد الأوروبي (2.5 يورو) تتجاوز الدخل اليومي للملايين من الفقراء في سائر أنحاء العالم! ومن الجدير بالذكر أننا لا نجد بين البلدان الثلاثين الأغنى في العالم بلدًا إسلاميًّا واحدًا، وأن جميع الدول التي عانت من انهيار اقتصادي وصارت، بالتالي، "دولاً عاجزة" تنتمي – باستثناء واحدة – إلى العالم الإسلامي. كذلك نلاحظ ارتفاع المديونيات التي تقدَّر بمئات المليارات من الدولارات. إن مديونية الدول العربية وحدها (وهي جزء أساس من العالم الإسلامي)، على سبيل المثال، مُقدَّر لها أن تصل إلى 270 مليار دولار في العام 2020، بحسب تقديرات تقرير "المنتدى الإستراتيجي" في دبي.

ثانيًا: الاقتصاد والتنمية المشوَّهة

تتصف اقتصاديات بلدان العالم الإسلامي بحالة رثة تعكس الطابع الريعي المشوَّه والاستهلاكي التبذيري. فإذا ما استثنينا النفط[2] والكاڤيار (بيض السمك) والسجاد الإيراني والأفيون[3] – إذا ما استثنينا ذلك كلَّه، فإن الدول الأعضاء في منظمة الدول الإسلامية لا تقدم شيئًا يُذكَر للسوق العالمية. فمن بين منتجات الدرجة الأولى المميَّزة الخمسة آلاف في العالم، ناهيكم عن التصنيع العسكري، لا تُنتَج سلعةٌ واحدةٌ في بلد إسلامي. وترشح عن تلك الهياكل الاقتصادية الركيكة والهشة ظواهر خطيرة، مثل:

-       شيوع حالة الترهل والبطالة (الفعلية والمقنَّعة): يبلغ حجم القوى العاملة في العالم الإسلامي حوالى 395 مليون عامل، أي ما يعادل 29% من إجمالي السكان. وبينما تراوحت نسبة البطالة في البلدان الصناعية بين 5 و12% خلال العقدين الماضيين فإن المعدل المتوسط للبطالة في العالم الإسلامي يزيد عن 20%. ونعتقد أن هذا الرقم متواضع إذا ما قيس إلى نسبة نساء العالم الإسلامي (حوالى 50%) اللواتي أغلبهن أميات وعاطلات عن العمل. ومن غير المحتمل أن يحصل 40% من الشباب المتعلم على مهنة عصرية لائقة في بلدانهم.

-       الاستهلاك التبذيري: من الأمثلة عليه في العالم الإسلامي أن النساء الخليجيات (وهن عيِّنة ممتازة من النساء الثريات) ينفقن نحو 1.7 مليار دولار سنويًّا على مستحضرات التجميل، وهو معدل يُعد من بين أعلى المعدلات في العالم!

-       ارتفاع معدلات التضخم (انخفاض القيمة الشرائية للنقد): حيث بلغ للعام 2000 نسبة 14% في العالم الإسلامي[4].

ثالثًا: الفساد الإداري والفساد المالي

نتيجة لتلك الهياكل الاقتصادية الهشة، تضعف، بالطبع، كفاءة القوى العاملة وتتفاقم حالة الفساد والهدر وتبديد الموارد تحت عناوين عديدة، في معزل عن رقابة جدية وضوابط صارمة. ويُعتَبَر الفسادُ الإداري (وهو ما يُعرَف باستغلال الوظائف العامة لتحقيق مكاسب شخصية) والفساد المالي (الرشاوى والاختلاس، التلاعب بأسعار المشتريات والمبيعات، تنفيذ مشاريع وهمية، إلخ) من أبرز مواصفات العالم الإسلامي. ولقد فرزت "منظمة الشفافية الدولية" (وهي مؤسسة غير ربحية يشرف عليها "البنك الدولي") 85 دولة بحسب مدى انتشار الفساد فيها في سلَّم تنازلي من 10 نقاط (الأكثر نزاهة) إلى صفر (الأقل نزاهة). وفق هذا السلَّم، فإن أكثر الدول الإسلامية نزاهةً جاءت في موقع متوسط من هذا السلَّم[5].

رابعًا: الرعاية الصحية والخدمات

نلاحظ تفاقُم الأوضاع البائسة والصعبة لسكان العالم الإسلامي بسبب عجز الدول عن توفير الرعاية الصحية والطبية والخدمية لمواطنيها بحسب المعايير الحديثة. فوفقًا لدراسة أعدَّتْها "منظمة الصحة العالمية"، يُعتبَر بلدٌ إسلامي وحيد، هو عُمان، بين الدول الأربعين التي توفِّر لمواطنيها تلك الرعاية. على أساس ذلك، تتدهور الحالةُ الصحيةُ للمواطنين وتزداد وفياتُهم وتتضاءل أعمارُهم: فنسبة الوفيات حوالى 10/ألف نسمة، ومعدل عمر الرجل في الأوطان الإسلامية أقل في المتوسط بعشرين سنة من نظيره الغربي. ويصيبنا الأسى والتذمر حين نقرأ واقع الطفولة في العالم الإسلامي وما تعانيه من إهمال: فقد أفاد تقرير (نيويورك، 21 أيلول 2005) صادر عن "منظمة المؤتمر الإسلامي" و"صندوق الأمم المتحدة للطفولة" (اليونيسيف) و"المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة" (الإيسيسكو) بأن أكثر من ثلث الأطفال في دول "منظمة المؤتمر الإسلامي" يعانون من سوء التغذية، فيما تسجِّل مستويات الرضاعة الطبيعية الحصرية خلال الستة أشهر الأولى من حياة الطفل، في بلدان المنظمة، أدنى المستويات في العالم. ونلاحظ أن أعلى معدلات وفيات الأطفال توجد في 16 دولة من دول العالم، منها 11 دولة تابعة لـ"منظمة المؤتمر الإسلامي"، أي ما نسبته 88% من دول العالم الأعلى وفيات، حيث يموت في دول المنظمة 4.3 ملايين طفل دون سنِّ الخامسة سنويًّا، أي ما نسبته 69/ألف نسمة[6].

يحدث ذلك نتيجة أمراض يمكن الوقاية منها. وبسبب رداءة الرعاية الصحية وسوء التغذية، كمثال على ذلك، يعاني طفل من أصل ثلاثة أطفال عراقيين من سوء التغذية الحاد؛ وفي ثلاث دول من دول "منظمة المؤتمر الإسلامي"، هي جيبوتي والعراق واليمن، يتوفى طفل واحد من أصل عشرة أطفال قبل بلوغه سن الخامسة؛ ويعاني الأطفال في الدول الإسلامية الواقعة في أفريقيا جنوب الصحراء من أشد أنواع الحرمان، إذ تتجاوز الوفيات بينهم ضعفَي المتوسط العالمي، ولا يُتوقع لطفل يولد في تلك المنطقة أن يتجاوز سنَّ الـ46 بالمقارنة مع 88 سنة في البلدان الصناعية.

من جانب آخر، نجد لڤيروس نقص المناعة البشرية المكتسب (الإيدز) أثرًا مدمرًا على أطفال الدول الأفريقية من منظمة المؤتمر، حيث يبلغ انتشارُه بين البالغين 5.4%، أي ما يقابل 7.9 ملايين حالة. وقد أعلنت اليونيسيف في تقريرها الصادر في 07/10/2007 أن امرأة تموت كلَّ دقيقة بسبب الحمل والولادة، وأن عدد هؤلاء النسوة يبلغ سنويًّا 535 ألف امرأة على مستوى العالم، مشيرةً إلى أن نسبة 99% منهن نساء من دول نامية، معظمها من العالم الإسلامي. وقد ذكرت مصادر اليونيسيف أن نحو 450 امرأة ماتت في كلِّ 100 ألف عملية ولادة خلال العام 2005، في حين توفيت 9 نساء فقط في كلِّ 100 ألف ولادة في الدول الصناعية ودول شرق أوروبا.

إضافة إلى ذلك، فإن الدول الإسلامية عاجزة عن تقديم الخدمات الضرورية لمواطنيها، كمنظومة الصرف الصحي والمياه الصالحة للشرب. فأغلب المدن الكبيرة في العالم الإسلامي يُعتبَر فيها نقصُ المياه مشكلةً يومية، مثل: كراتشي، طهران، مدينة الكويت، القاهرة، الجزائر، دمشق، إلخ. ونلاحظ أن هذه الدول عاجزة أيضًا عن توفير مستلزمات نجاح النشاطات الترفيهية والإبداعية والرياضية لمواطنيها. فلا غرابة أن يعجز العالم الإسلامي – وهو المترامي الأطراف – أن يقدم طوال حياته الرياضية فريقًا في كرة القدم من الدرجة الأولى!

خامسًا: ظاهرة الهجرة

من الملفت أن ظاهرة الهجرة من الأوطان الإسلامية إلى غيرها بلغت أشُدها في العقود الأخيرة؛ ونكاد أن نجزم أنه لو فُتِحَ البابُ على مصراعيه لشبيبة العالم الإسلامي وكفاءاته العلمية وخبرائه ومثقَّفيه، بمن فيهم المتشددون والمتعصبون، لما بقي إلا عدد ضئيل منهم. ومن المفارقات أن أغلب الهجرات تتجه صوب "دار الكفر" (في المنظور الإسلامي الأصولي)، أي من "دار السلام" إلى "دار الحرب"! ويشكل المسلمون حوالى 80% من لاجئي العالم. وهنالك 1.2 مليون شخص من العالم الإسلامي، وخاصة من ذوي التعليم العالي، يفرون إلى أوروبا وأمريكا الشمالية وأستراليا ونيوزلندا كلَّ عام[7].

سادسًا: ظاهرة العنف والحروب والنزاعات البينية

لا ريب أن من أهم المظاهر التي يتصف بها العالم الإسلامي ويحوِّله إلى جحيم مظاهرَ الحرب والعنف والقسوة، المتمثلة في الإبادات الجماعية والاغتيالات والإعدامات داخل هذه المجتمعات. فإذا استثنينا الحروب الخارجية التي لم تحرز فيها الجيوش الإسلامية خلال القرنين الماضيين أيَّ نصر ضد خصومها غير الإسلاميين، فالحروب البينية التي خاضتْها، ببسالة وكراهية وبدماء غزيرة، حروب ضروس دمرت البلاد والعباد (العراق/إيران، العراق/الكويت، إلخ). فقد لقي في العقود الأخيرة ما لا يقل عن 2.5 مليون شخص حتفهم في الحرب، وأنفق العالم الإسلامي أكثر من 72 مليار دولار في المجال العسكري[8]؛ ناهيكم عما حصل من تطهيرات عرقية وطائفية داخل هذه المجتمعات، على يد الحكام ضد معارضيهم، أو بين الأديان والطوائف بعضها ضد بعضها الآخر[9].

أما النزاعات البينية فهي شبه دائمة بين الدول الأعضاء في "منظمة المؤتمر الإسلامي". وتذكر التقارير أنه من أصل 27 دولة آسيوية توجد نزاعات بين 21 منها، وأنه من أصل 26 دولة أفريقية هناك 16 دولة منهكة في نزاعات بينية منذ عدة قرون، وأن هناك 22 دولة عربية داخل المنظمة تتنازع 18 منها. وتختلف دول العالم الإسلامي فيما بينها في عدد النزاعات التي خاضتْها، إلى جانب اختلافها في عدد الأطراف التي خاضت معها النزاع: فالعراق، مثلاً، يصنَّف على أنه أكثر دولة إسلامية دخلت في نزاع مع دول إسلامية أخرى[10]. وتُعتبَر السعودية وأفغانستان والعراق من أقدم الدول الإسلامية دخولاً في النزاعات، بينما طاجكستان وقرغيزستان أحدث الدول الإسلامية دخولاً في حلبة النزاعات. ومن المثير للقلق أن تشير الإحصاءات إلى أن 80% من أحكام الإعدام في العالم نُفِّذت داخل العالم الإسلامي!

سابعًا: الأمِّية والتعليم والثقافة

تشير "المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة" إلى أن نسبة الالتحاق بالمدارس الابتدائية تقل عن 60% في 17 بلدًا من بلدان المنظمة. ولا يلتحق ربع الأطفال في الدول العربية الأعضاء بالمدارس. وعلى العموم، فإن نسبة التعليم في العالم الإسلامي تصل إلى 63%؛ غير أن معدل الإنفاق عليه لا تتجاوز 4% من الناتج القومي الإجمالي[11]. وتنتشر الأمية بين أكثر من نصف السكان البالغين في بعض البلدان، بل قد تصل إلى نسبة 70% لدى النساء. ويشير بعض الأرقام المتوفرة عن بعض الدول إلى أن هناك 17 جهاز كمپيوتر فقط لكلِّ ألف نسمة في العالم الإسلامي.

ونلاحظ، في صورة عامة، تأخُّر التعليم في معظم البلدان الإسلامية، حيث تُخرِّج مؤسساتُه مواطنين غير مؤهلين للمشاركة في الإنتاج أو الاندماج في السوق العالمية التي تتطور سريعًا، وذلك لأن الغالبية العظمى من تلك المؤسسات تفتقر إلى الجودة الضرورية في التعليم والقيادة المستقلة والمناهج التقدمية التي من شأنها تدريب الطلبة على مواءمة التطورات العلمية والتقنية. ففي دراسة قامت بها "مجموعة تصنيف الخبراء الدولية ومؤسسات سياسات التعليم العالي" في واشنطن، نالت جامعة إسلامية واحدة فقط موقعًا على قائمة تتألف من 3000 جامعة على امتداد العالم؛ وقد جاء ترتيبها في آخر القائمة!

ومن المثير للأسى أن تشير الإحصاءات إلى أن معدل قراءة الفرد في العالم الإسلامي على مستوى العالم هو ربع صفحة في العام، بينما يصل معدل قراءة الفرد الأمريكي إلى 11 كتابًا والبريطاني إلى 7 كتب. وتقدِّر الإحصاءات أن متوسط قراءة الفرد في هذا العالم، مقارنةً بالقارئ العالمي، لا تتجاوز النصف ساعة في السنة، وأن المواد الأولية اللازمة لصناعة الكتاب، من ورق وأحبار وآلات طباعة، مستوردة من الخارج، إضافة إلى ارتفاع أسعار هذه المواد والخدمات. وفي تقرير للأمم المتحدة عن التنمية، أشيرَ إلى أن ما يترجمه بلدٌ مثل إسپانيا في عام واحد يعادل كلَّ ما تُرجِمَ من كتب إلى اللغة العربية – وهي أهم لغات العالم الإسلامي – خلال الألف سنة الماضية!

ثامنًا: غياب الحريات وانتهاك حقوق الإنسان

على الرغم من أن تلك الفقرات من مظاهر الخراب في العالم الإسلامي الآنفة الذكر تساهم جميعًا مساهمةً جديةً ومثيرةً للقلق في امتهان كرامة الإنسان وسلب حقوقه في أن يعيش حياة سوية، إلا أن غياب الحريات الفردية والاجتماعية مظهر آخر من مظاهر ذلك الخراب، متمثلاً في الانتهاكات الخطيرة لحرية الصحافة وحرية النقد والتعبير، لاسيما أن غياب التعددية في وسائل الإعلام المرئية والمسموعة يثقل على كاهل حرية التعبير في هذا العالم. وبحسب مُسوح العام 2005، نجد أن هناك دولتين فقط من بين دول "منظمة المؤتمر الإسلامي" توفران الحرية، وأن 17 دولة لديها حريات جزئية أو هي في طريقها نحو الحرية، بينما هناك حوالى 614 مليون شخص في 28 دولة إسلامية (أي ما نسبته 60% من دول العالم الإسلامي) يعانون من تقييد الحرية؛ وقد وصلت أحوال الحرية في عشر دول إلى أسوأ أوضاعها (سبع درجات)، ومعظمها دول عربية[12]. وعن الانتهاكات الخطيرة لحرية الصحافة والعنف الممارَس ضد العاملين المحترفين في القطاع الإعلامي، نجد مدى استهانة بلاد الإسلام بالعقل وحرية التعبير حين نطالع تقرير العام 2007 لمنظمة "مراسلون بلا حدود"[13].

أسباب التخلف

أولاً: الاستبداد السياسي

إن الاستبداد السياسي (الوراثي/التوتاليتاري)، بنوعيه المَلَكي والجمهوري، هو من التجذر في العالم الإسلامي بحيث يُعتبَر واحدًا من الصفات الأساسية لنوع الحكم السائد. وهو امتداد لمبدأ التوريث الإسلامي القديم (مبدأ الوراثة في الحكم) الذي ابتدعه الأمويون (663- 754 م) لأول مرة، باعتباره الحاكمية المشروعة التي وفقها يُعتبَر الحاكم (الخليفة، السلطان، الملك، الأمير، الرئيس) مصدرًا للسلطات كلِّها، عسكريةً وقضائيةً وإدارية، لا تخرج هذه السلطات من قبضة يده، حيث اعتبر معاوية بن أبي سفيان (ت 680 م)، أول خلفاء بني أمية، أن السلطة هبة من الله[14].

وقد هيمن هذا النوع من الحكم على امتداد حكم الدولتين الأموية والعباسية (663-1258)، أي من القرن السابع حتى القرن الثالث عشر! وليس بمستغرب أن تطول مدة حكم بعض الخلفاء حتى "تضرب الرقم القياسي" (بالتعبير المعاصر): فقد كانت مدة خلافة الناصر لدين لله 46 سنة و10 أشهر و28 يومًا؛ إلا أن هذا "الرقم القياسي" يبدو اعتياديًّا ومعتدلاً إذا ما قورن بفترة مكوث حكام الدول الإسلامية المعاصرين الذين يعزُّ عليهم التخلي قيد أنملة عن مقاعدهم إلى حين يقبض – سبحانه وتعالى – أرواحهم، فيتركوها بكلِّ تَركاتها لأولادهم (حتى إذا لم يبلغوا سن الرشد!)، أو تتسلط عليهم حركةٌ انقلابيةٌ عسكريةٌ تزيحهم عن أماكنهم بعنف، ليحلَّ محلَّهم أسوأ منهم وأغشم! وهنا نورد بعض النماذج لملوك ورؤساء بعض الدول الإسلامية، بحسب مدة حكمهم، باستثناء منطقة الخليج العربي المعروفة بحكمها الوراثي التوتاليتاري إلى ما لا نهاية:

-       الملك حسين (الأردن) – مدة الحكم 47 سنة: أُعلِنَ ملكًا خليفةً لأخيه طلال بن عبد الله بن الحسين الأول، الذي أجبره الپرلمان على التنحِّي بسبب مرض ألمَّ به طويلاً، وذلك في العام 1952؛ كان عمره آنذاك 17 سنة، ولم يبلغ السن القانونية، فشكَّل مجلسًا للوصاية على العرش، وتُوِّج في العام 1953. توفي الملك حسين إثر إصابته بسرطان في الجهاز البولي سنة 1999، وتولَّى الحكمَ من بعده ابنُه الملك عبد الله الثاني.

-       العقيد معمر القذافي (ليبيا) – مدة الحكم 40 سنة، ومازال مستمرًّا: قام العقيد القذافي بثورة على الحكم السنوسي في ليبيا واستلم السلطة ومازال فيها.

-       الملك الحسن بن محمد الخامس (المغرب) – مدة الحكم 38 سنة: تم تنصيبه ملكًا بعد والده سنة 1961، حتى وفاته سنة 1999 إثر نوبة قلبية. تولَّى الحكمَ من بعده ابنُه الملك محمد السادس.

-       سوهارتو (إندونيسيا) – مدة الحكم 33 سنة: تولَّى السلطة بانقلاب عسكري في العام 1965. وقد أدت الاحتجاجات الطلابية وأعمال العنف التي اجتاحت البلاد إلى الإطاحة بـ"الجنرال" الذي أصيب، بعد أن توارى عن الأنظار، بعدة جلطات قلبية. وقد أفادت "منظمة الشفافية الدولية" بأن سوهارتو وعائلته جمعوا ثرواتٍ تقدَّر بالمليارات من أموال الدولة.

-       الحبيب بورقيبة (تونس) – مدة الحكم 30 سنة: تولَّى الحكم سنة 1957. وأمام الحالة الصحية المتردِّية للرئيس بورقيبة، قام الوزير الأول زين العابدين بن علي سنة 1987 بتنحيته وأعلن نفسه رئيسًا جديدًا للجمهورية.

-       حافظ الأسد (سوريا) – مدة الحكم 30 سنة: تولى الرئيس الأسد الحكم في سوريا سنة 1970 حتى وفاته في العام 2000 إثر أزمة قلبية مفاجئة؛ وكان يعاد انتخابُه في "استفتاءات" متتابعة، فيحصل في كلِّ مرة على نسبة أصوات تقارب 100%. تولَّى الحكمَ من بعده ابنُه الدكتور بشار الأسد.

-       محمد حسني مبارك (مصر) – مدة الحكم 27 سنة، ومازال مستمرًّا: تولَّى رئاسة مصر في العام 1981 بعد اغتيال الرئيس أنور السادات، وحصل على أغلبية أصوات مطلقة في خمس دورات انتخابية.

-       علي عبد الله صالح (اليمن) – مدة الحكم 21 سنة، ومازال مستمرًّا: رئيس اليمن الشمالي (سابقًا) منذ العام 1987 والرئيس الحالي للجمهورية اليمنية منذ العام 1990.

يستثنى من هذه الممارسة (الإمساك بالسلطة) المشير عبد الرحمن سوار الذهب، الذي استلم السلطة في السودان في أثناء انتفاضة أبريل 1985، باعتباره أعلى قادة الجيش، وبتنسيق مع قادة الانتفاضة من أحزاب ونقابات؛ ثم قام بعمل غير مسبوق في العالم الإسلامي، إذ سلَّم السلطة للرئاسة المنتخَبة في العام التالي[15].

إن متوسط مدة إمساك الزعماء المعاصرين في العالم الإسلامي بالسلطة هو حوالى ربع قرن للزعيم الواحد (باستثناء ورثته)؛ وهي مدة من الزمن كافية لأن يفعلوا أيَّ شيء بشعوبهم أو للتمهيد لمن يأتي بعدهم على الأقل[16]. إلا أنهم، كما تشير التقارير والأرقام السابقة، لم يفشلوا فشلاً ذريعًا في نقل شعوبهم إلى مسارات الحداثة والرفاه وحسب، بل أغرقوا بلدانهم في الفقر والبطالة والمديونيات والفساد الإداري والمالي، وتخلَّفت في عهودهم أشكالُ الاقتصاد، فلم يحققوا أشكالاً من الاقتصاديات الحديثة، كتطوير الإنتاج الزراعي وتحقيق الإنتاج الصناعي المتطور، على الرغم من اهتمام بعضهم بالبهرجة العمرانية (شوارع، أبنية ضخمة، جسور، ساحات، مطارات، إلخ)، بسبب احتكارهم للثروات وانشغالهم في توسيع هيمنتهم والحفاظ على أمنهم الشخصي وأمن عوائلهم.

إن الحكومات الإسلامية المعاصرة، في صورة عامة، حكومات من نوع: مَلَكيات، أنظمة الحزب الواحد، أنظمة عسكرية، ديكتاتوريات شخصية، أو بعض من هذه التركيبات مجتمعة. وتعتمد هذه الحكومات عادة على أُسرة واحدة أو تقوم على أساس قبلي أو عشائري. من جهة أخرى، نجد ممارسة أغلب هذه الحكومات مضادة، في أحيان كثيرة، لحقوق الله وحقوق الإنسان في آنٍ معًا، إضافة إلى افتقارها إلى أسُس تبرِّر بها حكمها على أساس من الشرعية الدينية أو الشرعية الديموقراطية أو الشرعية الوطنية.

ومن التوصيفات التي تتسم بها هذه الحكوماتُ أنها غارقة في الفساد المالي والإداري ومعزولة تمامًا عن احتياجات شعوبها وتطلعاتها الحقيقية، قمعية ولا تشتري بفلس أحمر حقوق الإنسان أو حرية الناس. فهي منغمسة في ذاتيتها وفي كسلها، منكبة على نهب الثروات وتكديسها، منشغلة في تهيئة أبنائها لاقتناص السلطة وتداوُلها في ما بينهم. وفي أحسن الأحوال، إذا رضخت لمطالب العصر الملحَّة، فهي تمارس الديموقراطية الحديثة ممارسةً هزيلةً ومضحكة، غالبًا ما تحقِّق في صناديق الاقتراع أو الاستفتاءات نتائج مذهلة تصل إلى ما يقارب المئة في المئة! – فكأنها بذلك تضحك على ذقون العالم وذقون مواطنيها[17].

وحين تنشط التيارات والأحزاب والتجمعات الإسلامية السياسية، ويمتد ويتسع الزخمُ الديني المعارض ويقلق راحة الحكومات التي تعجز عن تصفيته أو قمعه، يندفع الزعماء في الدول الإسلامية في قوة وذعر لمماهاة أنظمتهم وأنفسهم بالإسلام[18]. إذ إن ما نلاحظه في الاستبداد السياسي في العالم الإسلامي، القديم والمعاصر، هو تميزه بالتلازم (أو بالتماهي أحيانًا) مع الاستبداد الديني: نراهما، في أغلب الأحيان، أحدهما يلبس جلباب الآخر ويستقوي به، ليضفي على نفسه الشرعية والهيبة والقوة. وقد أجمعت آراء أكثر العلماء من الناظرين في التاريخ الطبيعي للأديان على القول بأن الاستبداد السياسي متولِّد من الاستبداد الديني[19]. لذا كان من مظاهر هذا التلازم بين الاستبداد السياسي والاستبداد الديني أن تحلَّى أغلب الحكام في التاريخ الإسلامي بالأسماء الإلهية وقدسوا أنفسهم بصفات قدسية[20]. فهم يعتقدون أن البلاد والعباد ملك أيمانهم، شأنها شأن غنائم الحرب والإماء والجواري ("أينما تمطرين فهي أرضي"!)، مطبِّقين على أنفسهم قوله تعالى: "لا يُسأل عما يفعل وهم يُسألون" (الأنبياء 23). وقد قامت الدنيا ولم تقعد حين قال الشيخ الأزهري علي عبد الرازق بأن الإسلام دين وليس دولة[21]. فعلى هذا الأساس، حاول الشيخ عبد الرازق أن يثبت في كتابه المشهور الإسلام وأصول الحكم (مصر، 1925) بأن الخلافة (أو الحكم) ليست "أصلاً" من أصول الإسلام، وأن هذه المسألة دنيوية سياسية أكثر منها دينية، وأنها يجب أن تُحسَم بحسب مصلحة الأمة نفسها مباشرة؛ إذ لم يَرِدْ بيان، لا في القرآن ولا في الأحاديث النبوية، في كيفية تنصيب الخليفة أو تعيينه.

ثانيًا: النمو السكاني

إن من أبرز الأسباب التي جعلت العالم الإسلامي يندرج في مأزقه الراهن هو وصول معظم المجتمعات فيه إلى مرحلة الانفجار السكاني، حيث يبلغ معدل النمو السكاني نحو 2.7% سنويًّا[22]. ويبرز تقرير 50:50 الصادر عن مجلة Middle-East Economic لسنة 2007 الطفرة الهائلة التي حدثت في أعداد سكان منطقة الشرق الأوسط (وأغلبها من دول العالم الإسلامي)، حيث ارتفع عدد السكان ليبلغ في الوقت الحالي 377 مليون نسمة، بعدما كان 162 مليون نسمة في العام 1957؛ أي أن الزيادة خلال 50 سنة بلغت 215 مليون نسمة؛ وفي العام 2030 يُتوقع أن يصل عدد السكان إلى 524 مليون نسمة[23]. وهذا المؤشر يوحي إلينا بأن عدد الناس في العالم الإسلامي سوف يتضاعف خلال فترة تقل عن 25 سنة إذا استمر النمو على ما هو عليه الآن.

ويُعتبَر معدَّلُ النموِّ السكاني الإسلامي من أعلى معدلات النموِّ السكانية في العالم. فعندما نقارنه مع المعدلات الأخرى، نجد أن معدل نموِّ السكان في العالم يصل إلى 1.6%، بينما نسبته أقل بكثير في الدول المتقدمة (أمريكا: 0.8%، أوروبا 0.3%). ونلاحظ أن المسلمين قد ازدادوا خلال قرن من الزمن أكثر من 1000 مليون نسمة[24].

ويصاحب هذا النمو الانفجاري في العالم الإسلامي تراجُعٌ مخيف في الإنتاج الزراعي، من حيث انحسار المساحات الصالحة للزراعة وتوسع موجات التصحر وشح مياه الري وبدائية طُرُق الزراعة وانخفاض مستوى الحياة من جميع وجوهها في الأرياف. وعلى مستوى الإنتاج الصناعي، لم يحدث أي حراك مهم، فظلت دول العالم الإسلامي بعيدة عن الإنتاج الصناعي الحديث وتصنَّف بين الدول المتخلفة. وبالطبع، ينجم عن ذلك تدنٍّ في مستويات التنمية البشرية وإخفاق في إدراج الناس في مجالات التمدن والرقي والتمتع بحقوق الإنسان كاملة.

إن من أهم أسباب هذا النمو الانفجاري الخصوبة التناسلية العالية، حيث تصل إلى 6.1 طفل لكلِّ امرأة! – إضافة إلى إن الثقافة الإسلامية (التقليدية المتشددة) تحث على زيادة النسل وتشجع على الزواج المبكر وتعدد الزوجات، وذلك على العكس من المسيحية التي تُعتبَر قمةُ التدين فيها الرهبانية والعزوف عن الزواج. ومن العوامل الأخرى التي تساعد على زيادة النمو أن غالبية الدول الإسلامية ذات طبيعة ريفية، تسودها التقاليد والأعراف العشائرية والعادات البالية التي تحبِّذ أن تكون أُسَرها كبيرة، كما تتفشى فيها الأمية والجهل. ولأن القوانين غير فعالة في هذه الدول، وغالبًا ما يترافق تطبيقُها بتفسيرات ملتوية وطُرُق غير شفافة، وتشوب المحاكم والإجراءات الردعية فيها انتهاكاتٌ خطيرة تتدخل فيها الرشاوى والعلاقات الشخصية وصلات الرحم والضغوط السياسية والدينية، يلجأ المواطن في العالم الإسلامي إلى عشيرته وأقربائه، لا إلى الحق والقانون، لحمايته من الابتزاز والمظالم والاعتداء ولضمان الأمان لحياته وحياة أسرته ومجال عمله. فهو يحبذ (ويشجع) أن يكون أفراد عشيرته كثيري العدد، يستقوي بهم على الغير (عن حق أو من غير وجه حق)، فـ"يأخذ حقَّه بيده"، كما يقال، بمساعدة أبناء عمومته. لذا من المستبعد، تمامًا كما هي حال المواطن العادي، أن نجد زعيمًا في العالم الإسلامي لا يستند إلى هذه القاعدة، أي إلى عصبة العشيرة، لتعزيز سلطته وحمايتها والإمساك بها إلى ما شاء الله! من ناحية أخرى، تؤدي الصراعات الحضارية أحيانًا إلى الدفع باتجاه التكاثر المفرط، كما في الصراع بين العرب الفلسطينيين والإسرائيليين أو بين المسلمين والمسيحيين في لبنان. وفي هذه الحالة، يحاول كل طرف أن يزيد من نموِّه الطبيعي كي تكون له الغلبة. إن نسبة نفوس العالم الإسلامي، إذا ما استمرَّ النمو على هذه الوتيرة المتسارعة، ستصل في العقود الخمسة الأولى من القرن الواحد والعشرين إلى أعلى نسبة في العالم من الناحية العددية.

آفاق الخروج من المأزق

لا يمكن للعالم الإسلامي، في صيغته الراهنة، وهو يكرِّر نفسه في أنظمة سياسية تقليدية وينمو سكانه بهذا التسارع الانفجاري، أن يخرج من مأزق الخراب والتخلف وأن يضع أقدامه في مضمار الحداثة، ليندرج فيها اقتصاديًّا وسياسيًّا ومعرفيًّا وثقافيًّا وأدبيًّا. وهذه المسألة ليست اختيارية، بل هي حتمية من حتميات مسار التاريخ. فالشعوب والأمم، إذا ظلت خارج فضاء عصرها، تتضعضع ويصيبها الخور والانهيار.

تختلف تصوراتنا عن تلك التصورات التي تنطلق من نوايا حسنة، فلا ترى في العالم الإسلامي (حاضره وماضيه) إلا عالمًا فردوسيًّا، فتذهب إلى تعليق المشكلات المعاصرة على أعناق الآخرين، وتزعم بأن في نصوص الإسلام (خاصة القرآن الكريم والسنَّة النبوية) الحلول الكافية الشافية لمشكلات عصرنا ومعالجة أوضاع هذا العالم ونقله إلى أحسن ما يمكن: ففيها نظرية للحكم، ونظرية للاقتصاد، ونظرية للاجتماع؛ فيها علوم الطب والوراثة والهندسة والفلك؛ إلخ. إن هذه الآراء عمومية وتبسيطية، تختزل تاريخ العلوم الإنسانية والطبيعية وتجارب البشرية برمَّتها في شاردة وجدتَها هنا أو واردة عثرتَ عليها هناك، ولا تعتمد في تصوراتها الأرقام والوقائع، ولا تسلك في النتائج التي تتوصل إليها منهجياتُ الفحص والاستقصاء والبحث العلمي، ولا علاقة لها بما أنتجتْه المعارف الإنسانية في حقول السياسة والاقتصاد والعلوم الطبيعية والثقافة عمومًا.

إن الإسلام، أولاً وقبل أيِّ شيء آخر، دين، وليس دولة أو نظام حكم. غرضه الرئيسي أن يبعث في الإنسان أسمى مراتب الشعور في ما بينه وبين الله وبينه وبين الكون من صلات. إن نداءات الدين تتغلغل في نفوس الناس لتصقلها وتجلوها وتعمِّق صلاتها بالحقيقة المطلقة. ولا ريب أن في الإسلام قوانين وأحكامًا وعظات تربوية وأخلاقية، لا تنفك آياته تدعو جميع البشر إلى التزامها والعمل بموجبها، لا لشيء آخر غير صالح الإنسان ورفعه من حالة التسافُل إلى حالة التسامي. يأمر الدين الإسلامي، على لسان قرآنه الكريم، بإقامة الصلاة، بالصدقة وإيتاء الزكاة، بعمل الصالحات، بالتواصي بالحقِّ والصبر والرحمة، بالإحسان والاستقامة والمجادلة الحسنة، بصون الفروج، بفكِّ الرقاب، بإطعام اليتيم والمسكين والأسير، بإيتاء ذي القربى وابن السبيل حقهما، إلخ، مثلما ينهى عن القتل والاعتداء والظلم، عن الطغيان والاستكبار، عن كبائر الفواحش والآثام، إلخ. إنها كلها بمثابة المعالم التي ينبغي على الإنسان (ولاسيما المسلم) أن يسلك على هدي منها.

من جانب آخر، نجد أن القرآن خلو من الإشارة، ولو من بعيد، إلى أيِّ نوع من أنظمة الحكم يجب أن يقيمها المجتمعُ الإسلامي، وإلى كيفية انتقال السلطة من فئة إلى أخرى. إنما ترك مثل هذه الأمور للإنسان نفسه وما يتعلق بظروفه وواقعه: "أنتم أعرف بأمور دنياكم." من هنا تأتي معقولية المناشدة بإجراء إصلاحات جوهرية وأساسية في نوعية السلطات الراهنة القائمة في العالم الإسلامي من أجل إخراجه من مأزق الهوان والتخلف، أي إقامة سلطات مدنية متحررة من الإرث الاستبدادي الغليظ ومعتمدة على الأبجديات الأولية للحداثة السياسية: الدستور، الپرلمان، الانتخاب، الفصل والتمييز بين السلطات، إلخ. ولا بأس هنا من التذكير بتلك النصيحة الساخرة التي قدَّمها الرئيس اليمني علي عبد الله صالح، مخاطبًا زملاءه في النظام السياسي الإسلامي، في صدد الإصلاحات السياسية: "احلقوا رؤوسكم قبل أن يحلقها غيركم!" (فضائية العربية، 11 /06/2004). ولا بدَّ، في هذا الشأن، من الأخذ بمسار الفكر العصري الذي ينزع عن السلطة قناع القدسية الذي تحاول التستر وراءه، فيعتبرها مجرد سلطة بشرية قابلة للخطأ والزلل والزيغ، وبالتالي، يجوز نقدُها وتتعيَّن مراقبتُها ومحاسبتُها.

إن مشاريع الإصلاح السياسي في العالم الإسلامي ستصطدم بعقبة كأداء فيما لو تحققت، يقف حائلاً بوجه نجاحها الانفجارُ السكاني الهائل. فالأنظمة الجديدة التي تحاول تأسيس نفسها وفق سياقات الحداثة السياسية ستعجز عن إجراء تنميات معيشية واقتصادية مناسبة، وتخفق في نقل شعوبها إلى حالات الأمن الغذائي والسكني والصحي والبيئي والتعليمي والخدماتي، لأن التسارع العددي للسكان لا يتناسب مع (أو لا يواكب) أية خطوات سائرة نحو تحسين الاقتصاد والتنمية العصرية وتحقيق الإنتاج الصناعي الحديث والزراعي المتطور بسبب تراكمات التخلف في الميادين كلِّها. لذا لا بدَّ من خطوات عملية مناسبة تحدُّ من النمو السكاني، وذلك بتشجيع الناس على تنظيم تناسُلهم وأُسَرهم.

والصخب الذي يتعالى ضد مثل هذه التصورات لا يستند إلى معايير حسابية وعلمية، وهو بعيد عن الحلول الواقعية والعقلانية. فما معنى أن يبتهج الداعون إلى الزيادة العددية في نفوس المسلمين – حتى لو انطلقوا من غيرتهم الشديدة على الإسلام! – وهم عاجزون تمامًا عن تقديم الحلول الواقعية والعقلانية من أجل إنقاذ مجتمعاتهم من حالات ذلِّ الفقر ومهانة العوز، من حالات بائسة ويائسة تضيع فيها الكرامة والمعنى؟! وهل تفيد الأعداد الهائلة في تغيير الأوضاع الصعبة والمزرية، شأن أوضاع العالم الإسلامي، التي تتنافى مع أبسط القيم الدينية السامية ومع حقوق الإنسان في الحياة كافة؟!

إضافة إلى ما أسلفنا، فإن آفاق خروج العالم الإسلامي من مأزقه الراهن يتوقف على نشر ثقافة بديلة وترسيخها؛ ثقافة تحلُّ محلَّ الثقافة اللاعقلانية التي تحكم العالم الإسلامي اليوم في مجالات السياسة والقانون والاقتصاد والتعليم الموروث والقيم الثقافية والاجتماعية، لأن هيمنة الثقافة اللاعقلانية التي تنتمي إلى فضاء القرون الوسطى أفضى إلى إلغاء الحريات وتبرير الجهل والتخلف وتوسيع الاستبدادين السياسي والديني. إن غاية الثقافة العقلانية المتنورة البديلة هي فرد مستقل قادر على التفكير ومجتمع ديموقراطي حر قائم على تعاقُد اجتماعي بين أفراد أحرار. وهي في هذا تدعو إلى فصل المجال الديني عن مجال الدولة والسياسة والقانون، وتدعو إلى حرية الضمير، من حيث إنها تشمل حرية الاعتقاد وحرية الرأي والتعبير والأخذ بما جاءت به "شرعة حقوق الإنسان" المعترَف بها دوليًّا.

*** *** ***


 

horizontal rule

[1] توجد أعلى نسبة للفقر في سيراليون (68%)، تليه غامبيا (64%)، ثم أوغندا 55%.

[2] يبلغ إنتاج الدول الإسلامية من البترول (النفط الخام) حوالى 29.8 مليون برميل يوميًّا، أي ما نسبته 45% من الإنتاج العالمي، كما يبلغ الاحتياطي حوالى 760 مليار برميل، أي ما نسبته 73.7% من احتياطي العالم.

[3] بلغت حصيلة إنتاج أفغانستان من الأفيون في العام 2005 حوالى 4.1 آلاف طن، أي ما نسبته 87% من الإنتاج العالمي؛ ويُنتَج الهيروين محليًّا في أفغانستان بواسطة معامل لمعالجة الأفيون وتحويله إلى هيروين.

[4] كانت أعلى هذه النسب في سيراليون (170%)، ثم العراق (135%)، ثم تركيا (65%)؛ أما أدناها فكانت في أذربيجان (7%)، ثم السعودية (1%).

[5] اعتُبِرَتْ ماليزيا من بين الأكثر نزاهة، حاصلةً على 5.3 نقاط، تلتها تونس (5)، ثم الأردن (4.7)؛ أما أقل الدول الإسلامية نزاهةً فهي نيجيريا التي حصلت على 1.9 نقطة، فالعراق وإندونيسيا (2)، ثم پاكستان (2.7).

[6] أعلى هذه النسب في أفغانستان (149/ألف نسمة)، يليه سيراليون وموزمبيق (140/ألف نسمة)، وأدناها في الكويت (12/ألف نسمة).

[7] من المؤسف، مثلاً، أن نجد في كندا أطباءً إيرانيين أكثر من الأطباء في إيران!

[8] جاءت السعودية في المرتبة الأولى (حوالى 18 مليار دولار)، تليها تركيا (حوالى 8 مليارات دولار)، ثم إندونيسيا (حوالى 5 مليارات دولار)؛ ولا توجد بيانات في خصوص العراق!

[9] كلها حروب متشددين، مثل: "القاعدة" ضد المدنيين العزَّل في أرجاء البلاد الإسلامية، الشيعة والسنَّة، نظام صدام ضد الأكراد في العراق، "حماس" و"فتح" في فلسطين، المسيحيين والمسلمين في لبنان، المغاربة والصحراويين، السنَّة والشيعة في پاكستان والبحرين، النزاعات الدامية العرقية والدينية في نيجيريا، إلخ.

[10] بلغ عدد النزاعات التي خاضها العراق 14 نزاعًا مع ست دول، كان للكويت النصيب الأكبر فيها، إذ بلغت نزاعاته مع العراق سبعة نزاعات!

[11] تتصدر غويانا دول العالم الإسلامي في نسبة التعليم (98%)، تليها المالديڤ (93%)؛ وأقل هذه النسب في النيجر (14%)، يليه الصومال (24%)، ثم مالي (31%).

[12] تفيد التقارير بأن ثلثَي السجناء السياسيين في العالم يقبعون في سجون الدول الإسلامية، وأن بعض الدول الإسلامية ينفذ الإعدام في مواطنيها المحكوم عليهم بالإعدام بطُرُق بشعة، مقزِّزة للضمير الإنساني، كرجمهم بالحجارة أو رميهم في أحواض حامض النتريك أو تمزيق أجسامهم بواسطة كلاب مفترسة!

[13] من بين 169 دولة أُجرِيَ فيها البحثُ والاستطلاع، كانت غالبية الدول الإسلامية تحتل أسوأ المراتب: إيران: 166، الصومال: 159، فلسطين: 158، العراق: 157، السعودية: 148، مصر: 146، تونس: 145، ماليزيا: 124، الجزائر: 123، المغرب: 106، قطر: 75، الإمارات: 65، الكويت: 63. (ويبدو أن المنظمة لم تستطع القيام بالاستطلاع في دول مثل سوريا وليبيا والسودان وپاكستان، لكنها وضعتْها في أسوأ المراتب!) وبالمقارنة مع دول الغرب، كانت جميع دول أوروبا وأمريكا تقع ضمن المراتب الأفضل: أمريكا: 48، فرنسا: 33، ألمانيا: 20، كندا: 18.

[14] نُقِلَ عنه أنه خاطب العراقيين بعد تمكُّنه من الأمر وبسط يده على الكوفة بقوله: "يا أهل العراق، أترونني قاتلتكم على الصيام والصلاة والزكاة وأنا أعلم أنكم تقومون بها؟! وإنما قاتلتكم على أن أتأمَّر عليكم، وقد أمَّرني الله عليكم... إنما أنا خازن من خزَّان الله، أعطي مَنْ أعطاه الله وأمنع مَنْ منعه الله." (القاضي عبد الجبار، فضل الاعتزال) وقال مثل ذلك أبو جعفر المنصور (ت 775 م)، ثاني الخلفاء العباسيين، مخاطبًا المسلمين في موسم الحج: "أيها الناس، إنما أنا سلطان الله في أرضه، أسوسكم بتوفيقه وتسديده وتأييده وتبصيره، خازنه على فيئه، أعمل بمشيئته وأقسمه بإرادته وأعطيه بإذنه... قد جعلني عليه قفلاً، إذا شاء أن يفتحني لإعطائكم وقسم أرزاقكم فتحني، وإذا شاء أن يقفلني عليها أقفلني." (ابن قتيبة، عيون الأخبار).

[15] يذكِّرنا هذا بالحدث المماثل الوحيد الذي حدث في التاريخ الإسلامي في قصة معاوية بن يزيد المثيرة مع معلِّمه عمر المقصوص واعتزاله الخلافة. قيل: كان المقصوص من نُفاة القَدَر، ويقول بالعدل، على طريقة المعتزلة فيما بعد. ولما مات يزيد بن معاوية، خلفه ابنُه معاوية الثاني (وعمره 13 عامًا)، فاستشار معلِّمه في أمر البيعة، فأجابه: "إما أن تعدل أو تعتزل." فخطب معاوية بن يزيد: "إن جدِّي معاوية نازع الأمر مَن كان أولى به وأحق [يعني عليًّا بن أبي طالب]، ثم تقلَّده أبي، ولقد كان غير خليق به. ولا أحبُّ أن ألقى الله عزَّ وجل بتبعاتكم، فشأنكم وأمركم، ولُّوه مَنْ شئتم." ثم نزل وأغلق الباب في وجهه وتخلَّى بالعبادة، حتى مات بالطاعون بعد أربعين يومًا، وكانت ولايته عشرين يومًا. فوثب بنو أمية على عمر المقصوص وقالوا: "أنت أفسدتَه وعلَّمته"، فطمروه ودفنوه حيًّا! (ابن العبري، تاريخ مختصر الدول)

[16] ينطبق هذا الكلام نسبيًّا على الأحزاب والتنظيمات السياسية، الدينية وغير الدينية، خارج سلطة الحكم، من حيث الإمساك برئاسة الحزب أو التنظيم.

[17] هناك 10 دول إسلامية فقط تتمتع بأنظمة سياسية ذات ديموقراطية انتخابية، بغضِّ النظر عن نوع الانتخابات، بينما لا تزال 47 دولة من دول "منظمة المؤتمر الإسلامي" (أي ما نسبته 82.4% من دولها) من دون أنظمة انتخابية.

[18] ففي الثمانينيات والتسعينيات نجد الحسين، ملك الأردن، يتكلم على الحاجة إلى إقامة "ديموقراطية إسلامية" و"إسلام حديث"؛ وفي المغرب، أكد الملك الحسن أنه من سلالة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، كما راح يؤكد على دوره كـ"أمير المؤمنين"؛ وفي حين لم يُعرَف سلطان بروناي بأية ممارسة إسلامية من قبل، أصبح بين ليلة وضحاها "شديد الورع"، وراح يعرِّف بنظامه على أنه "مَلَكية ملاوية إسلامية"؛ وفي تونس، بدأ بن علي يتوسل إلى الله بانتظام في خطبه والتحف بعباءة إسلامية ليرضي النفوذ المتزايد للجماعات الإسلامية؛ وفي أوائل التسعينيات، تبنى سوهارتو صراحةً سياسةَ أن يصبح "أكثر إسلامًا"؛ وفي العراق، قاد صدام حملة "إيمانية" واسعة، فخطَّ اسم الجلالة على العلم الوطني، وكتب القرآن بدمه، وسمى نفسه "عبد الله المؤمن"؛ كما هرع بعض رؤساء الحكومات (أوزال، سوهارتو، كَريموف) لأداء فريضة الحج بغرض إبراز التزامهم الإسلامي؛ إلخ.

[19] يقول عبد الرحمن الكواكبي (ت 1902 م)، أبرز أقطاب التنوير في القرن التاسع عشر، في هذا المعنى: "إن لم يكن هناك توليد فهما [الاستبداد الديني والاستبداد السياسي] أخوان، وأبوهما التغلُّب والرياسة، أو هما صنوان قويان، بينهما رابطة الحاجة على التعاون لتذليل الإنسان. والمشاكلة بينهما أنهما حاكمان: أحدهما في مملكة الأجسام والآخر في عالم القلوب." (الكواكبي، طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد)

[20] مثل: الواثق بالله، المنتصر بالله، المعتز بالله، القاهر بالله، المستنجد بالله، الحاكم بأمر الله، إلخ.

[21] يشير الأثر التالي إلى أن الإسلام دين، وليس دولة حكم. قال النبي لقومه: "ما أدري ما تقولون؟ ما جئتكم بما جئتكم به لطلب أموالكم، ولا لشرف فيكم، ولا لمُلك عليكم، ولكن الله بعثني إليكم رسولاً، وأنزل عليَّ كتابًا، وأمرني أن أكون لكم بشيرًا ونذيرًا، فبلَّغتكم رسالة ربي." (ابن اسحق، السيرة النبوية)

[22] تتصدر الأرقام فلسطين (8.3%)، تليها سيراليون (4.3%)، فالصومال (4.1%)، فالسعودية (4%)، فاليمن (3.3%).

[23] تذكر جريدة الرياض، مثلاً، بأن عدد سكان المملكة العربية السعودية كان في حدود 8 ملايين نسمة قبل 25 سنة، فيما أصبح اليوم في حدود عشرين مليون نسمة، ويُتوقع أن يصل إلى أكثر من 45 مليون نسمة بحلول العام 2025!

[24] ترتبت هذه الزيادة من ناحية نسبية كالتالي: في العام 1900، كان المسلمون 12% من سكان الأرض، وكان المسيحيون 33%؛ وفي العام 1980، وصلت نسبة المسلمين إلى 20%، وفي العام 2000 أصبحوا يمثلون 25% من سكان الأرض، بينما يمثل المسيحيون 30% فقط. ومنه نرى أن نسبة نموٍّ سكاني هائلة حدثت في العالم الإسلامي تقدَّر بستة أضعاف من العام 1900 إلى العام 2000، بينما كان نمو المسيحيين 2.5 فقط.

 

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 إضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود