وأنا الطير المشرد والأقاح: يوميات دمشقية 3

زياد جيوسي

 

هي رام الله والعشق الذي لا يفارقني، الدروب والياسمين المتعربش على الجدران، هواءها العليل الذي يحمل في نسماته كل عبق الوطن من الشمال إلى الجنوب ومن الشرق للغرب. حملتها معي في جولتي الدمشقية لمدينة أعشقها وأبعدني الزمن عنها عقودًا، فما أن أنهيت جولتي في الشام حتى كنت أسارع، بعد إنهاء عملي في عمّان بعد عيد الأضحى، مع الأسرة والأهل للعودة بشوق، فلم يتح لي التجوال فيها ومعانقتها والتفيء تحت شجرة بركة إلا يومًا واحدًا، لأصبح بعدها طريح المشفى، وانتقل إلى عمان لمواصلة العلاج. ومع كل الألم لم تستطع رام الله أن تغيب يومًا عن القلب والروح، كما لم تغب الشام يومًا رغم مرور العقود والسنوات. وما أن تحسنت بشكل معقول حتى كنت أهمس لطبيبي الفنان الرائع: هلا سمحت لي بزيارة رام الله ولو لأيام؟ فلن يتم شفائي إن لم أتنشق عبق ياسمينها، إن لم أعانقها وتسدل شلال شعرها الأسود على أكتافي، ومن بين شلاله أتأمل قمر وجهها المنير. فرق قلبه لهذا العاشق لمدينة وسمح لي بالسفر لأسبوع أعود بعده لمواصلة العلاج. مازجت بين عشق رام الله ودمشق وحب نابلس، حين تجولت فيها بعد محاضرة مطولة ألقيتها حول استخدام الرمز في النقد السينمائي والأدبي، فهي المدينة التي حرمت منها بسبب الاحتلال سنوات طويلة، وفي أحيائها القديمة، ولهجة أهلها المميزة، أشعر أني في الشام. كان الجمال يتدفق حين تناولت، وصحبي، الغداء في مطعم فندق الياسمين، فتذكرت مطعم البيت الدمشقي في الشام؛ فنمط البناء متشابه والياسمين بعض من الجمال الذي ينثر في الفضاءات بعض عبقه والجمال.

بين ياسمينات رام الله وجماليات نابلس كنت أستعيد ذاكرة الأيام الدمشقية، الأيام التي كانت في نهاية تشرين الثاني من العام الفائت. ولتشرين دومًا، في الماضي، ارتباط خاص بالشام، فهو يسكن تلافيف الذاكرة وعبق الروح. تذكرت أني كرست اليوم الرابع من زيارتي لمخيم اليرموك، تجولته بالكامل سيرًا على الأقدام مع زوجتي. وكم كنت سعيدًا بلقاء العديد من الأصدقاء والأحبة: منهم من جمعني وإياهم التاريخ السابق، ومنهم من جمعني بهم القلم والأدب. وكنا قد استقبلنا في الصباح الكاتبة السورية الرائعة أماني ناصر، وكان لقائنا الأول مواجهة بعد معرفة طويلة عبر القلم والأدب ومواقع الشبكة العنكبوتية. وقد فوجئت بحجم اللطف والخلق الذي تحمله روحها، وسعدت بلقائها كما سعدت بها زوجتي. ولوقت لم نشعر به مع القهوة تمتعنا بالحوار الأدبي والفني، ولم تغادرنا إلا بموعد في اليوم التالي لنجول فيه برفقتها أحياء دمشق وأسواقها.

ما أجمل الشام، فكيف حين يلتقي الجمال مع عشق قديم وراسخ في القلب، هكذا شعرت في اليوم الثاني ونحن نجول أحياء دمشق القديمة برفقة الكاتبتين أماني ناصر ونزهة الحج. شعرت بالصفاء الروحي وأنا أصلي في المسجد الأموي، وأقرأ الفاتحة على روح صلاح الدين الأيوبي في مقامه. عبق التاريخ في المدرسة العزيزية وقلعة دمشق، أحياء دمشق وأسواقها، المسكية والقباقبية والساروجة والمرجة وأحياء كثيرة مذهلة الجمال، مذهلة بعبق التاريخ. لم نشعر بالتعب حتى جلسنا، عصرًا، في مقهى جميل وقديم يحمل اسمًا جميلاً هو النوفرة. ارتحنا كثيرًا وجلنا رئة أسواق الشام، سوق الحميدية بزواريبه وتقاطعاته وأقسامه، ومن حسن الحظ أنني وزوجتي برفقة فتاتين من بنات المدينة، يعرفنها جيدًا ويمتلكن الروح المشرقة ككاتبات، وحسن الضيافة وجمالها كدمشقيات أصيلات.

لم نفترق إلا بعد تناولنا العشاء، جميعًا، في مطعم البيت الدمشقي، فقد بلغ منا التعب مبلغه، والرغبة بالطعام ازدادت للمأكولات الدمشقية الطيبة، فكانت جلسة جميلة حفلت بالروح المرحة للكاتبة والصديقة أماني ناصر ومقالبها المرحة. ودعناهم على أمل لقاء آخر ونحن نشعر بالامتنان لهذه الجولة والنهار الجميل، وأكملت وزوجتي المسير، ورغم التعب لم نشعر بالرغبة في العودة إلى البيت، فتجولنا في الشوارع متمتعين بالنسمات الدمشقية الناعمة، ولم نعد، إلا متأخرين، إلى اليرموك وبعد أن تناولنا بوظة بكداش الشهيرة. ألقينا حقائبنا، ونزلنا نجول في شارع اليرموك وصفد وغيرها إلى وقت متأخر بعد منتصف الليل لنعود مرهقين جدًا لكن الفرح يجتاحنا.

كان اليوم التالي هو الجمعة. حتى العصر بقينا في المخيم حيث صليت الجمعة في مسجد يحمل اسم مدينة صفد الفلسطينية المغتصبة. ثم خرجنا نجول في شوارع دمشق شبه الخالية بحكم العطلة الأسبوعية، ونحتسي القهوة في مقهى هافانا، لأكتب هناك كمًا من الملاحظات على ورق استعرته من المقهى. أكلمنا طريقنا في المساء إلى نادي الصحفيين لحضور حفل تكريم لشعراء فائزين، وكم سُعدنا هناك حين فاجئنا الصديق الصحفي والإعلامي مؤيد عبد القادر والصديقة الكاتبة الرائعة ماجدولين الرفاعي، بالإعلان عن وجودي وتكريمي. تدفق الدم إلى وجهي خجلاً من هذه المفاجأة. لم ينسى الصديق مؤيد أن يشير، وهو ابن الرافدين، إلى أنني درست في بغداد وشربت من مياه دجلة. وكم كان فرحي كبيرًا حين سلم عليّ عدد كبير من الكتاب الذين يعرفوني وأعرفهم من خلال القلم، وسعدت أيضًا بكم الكتب التي أهدوها إليّ مع حروف منبثقة من أرواح محلقة، ومنهم على سبيل المثال الشاعر منذر عبد الحر، انتصار سلمان، مادلين اسبر... وغيرهم الكثير. فرحنا أيضًا بلقاء الشاعر الكبير عبد الرزاق عبد الواحد الذي ألتقيته مرة في بغداد، والفنان الرائع جميل الروح رائع الصوت سعدون جابر حيث ذكرته بلقائنا الأول في عام 1974 وسهرتنا في حديقة الجنينة في بغداد، وأغنية طيور الطايرة التي غناها في تلك الفترة؛ إضافة إلى الشاعر السوري أحمد جنيد. آمل أن يسمح لي الوقت بالكتابة النقدية عن بعض من هذه الروايات والقصص والدواوين الشعرية الجميلة. أكملنا السهرة بعد الحفل على عشاء أصرت الأخت الغالية ماجدولين على دعوتنا وأبنائها إليه، فكان عشاء رائعًا مع أناس رائعين، وكانت الياسمينة المتعربشة على الجدار خلفي تمنحنا جميعا جمالاً يزيده القمر المنير في السماء فوقنا.

هي الشام جلتها وروح طيفي برفقة لم تفارقني، حروفي الخمسة تسكب الجمال شذًا وعبقًا، وعمّان وبغداد ترافقاني، ورام الله تسدل شعرها الجميل على أرواح المدن وروحي، فأجلس في هذا الصباح العمّاني بعد أن حضرت من رام الله بالأمس؛ أجلس إلى شرفتي متأملاً السماء الصافية التي تشتاق للغيم والمطر، أحتسي قهوتي وحروفي الخمسة تشاركني فيها، أستمع لشدو فيروز:

أصوات أصحابي وعيناها ووعد غد متاح،
كل الذين أحبهم ذهبوا رقادِ واستراحوا،
فأنا هنا جرح الهوى، وهناك في وطني جراح،
وعليك عيني يا دمشق فمنك ينهمر الصباح،
يا حب تمنعني وتسألني متى الزمن المباح،
وأنا إليك الدرب والطير المشرد والأقاح.

*** *** ***

عمّان 4-2-2009

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 إضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود