العجوز

 

معن عبد السلام

 

كان العجوز، يتبعُه ثورُه الذي تصل قرونُه أولَ الكون بآخره، وحيدين، لا أحد يؤنسُهما غير بعض النيازك السيَّارة والأقاليم الفلكية.

كان العجوز يحبُّ ثوره كثيرًا. فمن حياته المليئة بالمغامرات في أرجاء الكون لم يحظَ إلا بهذا الثور الصديق الذي يشبه ألفَ كوكبٍ أسودَ، متَّحدةٍ بعضها ببعض، كبيرًا ضخمًا يأكل الشهبَ الهاربة ويشرب السحبَ الكونية. صوتُه صوتُ مغارة عظيمة لا حدود لفيها. أما حدقتاه فمدوَّرتان، تبرقان كشعلة فيها ألف ألف شجرة تحترق.

 اعتادَ العجوز أن يحمل عكازًا تعينه على المسير المرهق في أرجاء الكون الشاسع الذي لا تحدُّه معرفة، مما جعله يفكِّر في معنى حياته وتجواله.

كثيرًا تفكَّر، وراح يستقصي مجالاتِ الكون، لعلَّه يجد أحدًا ما يتحدث إليه، أو مكانًا يستريح فيه من سفره المستمر منذ أول الزمان. أما الثور فقد كانت همَّته من همَّة صاحبه، مطأطأ الرأس، حزينًا كحزنه، وحيدًا كوحدته.

وفي يوم من الأيام، وبينما كانا يسيران في مجرة درب التبان، لمحا ضوءًا في البعيد ينبض، فركضا مهرولين، الرجل على عكازه والثور يلحق به، إلى أن وصلا حيث تكمن الشمس، ترتفع منها حبالٌ ذهبيةٌ تنير ملايين الأميال من المجرة.

أحسَّ العجوز بدفءٍ يغمر قلبه وبفرحٍ يتملَّكُه. لم يفهم لِمَ انتابه هذا الشعور! فلقد شاهد في حياته مئات الأنجم التي تلتهب وتشعُّ كما الشمس تمامًا. إلا أن الأمر هنا كان مختلفًا تمامَ الاختلاف. فهذه الشمس تَهَبُ فرحًا غريبًا من نوعه، و ألفة تستوطن شغاف القلب.

توجَّه العجوز مخاطبًا ثوره:

-       يبدو، يا صديقي العزيز، أننا سوف نقيم في هذا المكان بعض الوقت!

"لكن... ، فكَّر العجوز، عليَّ أن أجد مكانًا يؤوينا. فمن غير المعقول أن نبقى ملتصقين هكذا إلى الشمس. فمن الممكن أن نسهو قليلاً. وحينذاك سوفَ تلتهمنا الشمس في لحظة واحدة."

تلفَّتَ حواليه، وراحَ يدور حول الشمس عدة دورات، ويدُه قابضة على الحبل المربوط إليه الثور.

قشعريرةٌ صارت تسري في بدنه. وكلما التفَّ أكثر ازدادت هذه القشعريرة وتحولت إلى حماس جميل يغمرُه بدفء لذيذ لم يرغب في أن يتوقف. طاقةٌ كبيرةٌ فاضت من قلبه تدعوه إلى الدوران والالتفاف حول الشمس.

وهكذا راحَ يدور، والثور مربوطٌ بحبلٍ يدورُ معه. كانت البهجة تزداد كلما دارَ دورةً كاملة، وكان الفرح كالريشِ يغطي جسمه بأكمله.

الشمس كانت ما تزال تفيض بالنور والدفء، وهو ما يزالُ منبهرًا، قلبُه يرتعش، يدور حولها... إلى أن وقع في خندق يستطيل عميقًا حول الشمس، مما جعله ينساب وكأنه في نهر جارف من الألوان الحريرية.

شعر بجسمه يلتف، يدور في الساقية التي تلتف، تدور حول الشمس. دوارٌ في رأسه صار يستيقظ، وآلام غريبة بدأت تسكن جسمه حينما بدأت العكاز تلتحم ببدنه لتصبح قطعةً من كيانه.

-       آه ماذا فعلت بنفسي؟! كيف سجنت جسمي في هذه الهاوية؟!

سريعًا كحركة دولاب في الفضاء كانَ. عيناه زائغتان تنظران إلى الثور المسكين وقد وقع في خندق آخر كالذي وقع هو فيه. إلا أن يده لم تفلت الحبل. فقد كان أمله الوحيد في النجاة.

وهكذا قبع العجوز عدة ملايين من السنين يدور حول نفسه وحول الشمس، ومن حوله الثور الرفيق والحبيب الذي صار يُسمَعُ له خوارٌ يملأ أرجاء الكون قاطبة.

غضبٌ شديد بدأ يستشيط في قلب العجوز. لعنَ الساعة التي فكَّر فيها بالبقاء قرب الشمس، ولعنَ الخندق الغريب الذي لا فكاكَ منه.

كان غضبُه حارًا جدًا، لدرجة أنه نسيَ حرارة الشمس أمام حرارة قلبه. أحسَّ بالدماء تفور من جسمه كلِّه، وأحسَّ أن بقعًا حمراءَ صارت تتكون على جسمه لتنفجر بعد حين على شكل براكين كبيرة تفرز نارًا حاميةً وأشكالاً من الغضب لم يسبق لهُ عهدٌ بها من قبل.

كان ينظر برأفةٍ إلى ثوره العزيز وهو يتكوَّر ويتكوَّر من شدة الدوران، والنيازك اللئيمة من حوله تضربه وتأكل من جسمه بلا رحمة ولا شفقة. بعد حين كفَّ الثورُ عن تأوُّههِ ولم يعد يُسمَعُ له صوت. خاف العجوز وانتابه حزن شديد:

-       أيمكن... ؟! آه، يا ثوري الحبيب، أيمكن أن تكونَ متَّ؟ إنني السبب، إنني السبب! سامحني يا حبيبي! سامحني يا صديقي!

إلا أنه انتبه لعينيِّ الثور تبرقان كهلال جميل مبتسم، فأحس ببرودة في قلبه، وشعر بفرح غامر يداعب أوصاله التي صارت متصلةً ومكوَّرةً بعضها على بعض.

أحاسيس جميلة وجديدة لم يختبرها من قبل باتت تنبت من روحه، وراحَ، رويدًا رويدًا، يخفت اضطرابُ قلبه، والبراكينُ تنطفئ، الواحد تلو الآخر، إلى أن لم يعد هناك شيء يُذكَر. حتى إن جلده أخذ بالتحول إلى صخور صلبة يكسوها الجليد البارد المنعش.

لم يعد حزينًا، ولم يعد فرحًا. صارَ يحسُّ بجوهر حقيقي يتكوَّن في أحشائه. صارَ كائنًا آخرَ، وعليه مهمة معرفة كينونة هذا الكائن.

ظلَّ العجوز يراقب الثورَ بين الفينة والأخرى، وبتعاطف عميق يرسل إليه، عبر الحبل الذي ما يزال مربوطًا إليه، محبَّته الكامنة في صدره. لقد لاحظ أن الثورَ صديقه يتغير ويتبدل أيضًا. وكان يرى مدى جمال صورته وشكله، وكم أن بريق عينيه ساحر وأخَّاذ.

وفي لحظة صمتٍ عميق، حين هدأت أفكارُه وهواجسُه عن الانفعال، راحت سكينةٌ نديةٌ تستقر في أعماق فؤاده، مما جعله يذرف دموعًا غزيرة، دموعًا لا تنم عن سخط، أو حزن، أو حتى فرح، بل كانت دليل قبوله، ودليل تجربته الحقيقية، ونشوته بهذه التجربة.

[ومن هذه الدموع تكونت الينابيع والبحار الواسعة.]

أحس برطوبةٍ تعشِّش على جسمه، وأحسَّ بحرارة الشمس تلتهم هذه الرطوبة بسرعة كبيرة لتحولها إلى سحبٍ بيضاءَ ورمادية تغلِّفه، وتجعله وسيمًا كما لم يكن من قبل.

محبةٌ وسلامٌ فاضا من روحه، فتلألأتِ النجوم، وأزهرتِ العكاز حكاياتٍ وأعراسًا، وأزهرتْ أغاني فضيةً كلون عينيِّ الثور البراق.

***

 

الهدوءُ صارَ سكونًا

والحزنُ تحوَّلَ قلقًا

والقلقُ حبًّا

والحبُّ أرضًا

كتفاحةٍ ورديةٍ قضمتْها أنثى

وقضمها ذكرٌ

فصارتْ بيتًا

ووطنًا

وصارتْ أنشودةً ونافذةً

تطلُّ على حقلٍ

وتطلُّ على قمرٍ

دافئٍ يبتسمُ لصاحبٍ وحبيبْ.

2001

*** *** ***

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

Editorial

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال يوسف وديمة عبّود