العلم والسياسة والأديان...

ومستقبل البشرية

 

أديب الخوري

 

إن تحدِّيات عصرنا – تحدِّي تدمير جنسنا البشريِّ ذاتيًّا، والتحدِّي المعلوماتي، وتحدِّي علم الوراثة، إلخ – توضح بطريقةٍ جديدة مسؤولية رجال العلم الاجتماعية في مبادرة وتطبيق البحث معًا.

وإذا كان رجال العلم لا يستطيعون أن يقرُّوا تطبيق اكتشافاتهم الخاصة فإن عليهم أن لا يقفوا مكتوفي الأيدي أمام تطبيق هذه الاكتشافات تطبيقًا أعمى.

وفي رأينا أن اتِّساع التحدِّيات المعاصرة يحتاج، من جهة، إعلامًا للرأي العام دقيقًا ودائمًا، ومن جهة أخرى، إنشاء هيئاتِ توجيه، وحتى هيئات اتِّخاذ قرار، ذات طابع يعتمد على خاصية متعددة المناهج وعبرمناهجية.

(من البلاغ الختامي لندوة البندقية*)

 

مشهورةٌ الرسالة التي وجَّهها، عشيَّةَ نشوب الحرب العالمية الثانية، العالِمُ الكبير ألبرت أينشتاين إلى الرئيس الأمريكي روزفلت يخبره فيها عن إمكانية اختراع القنبلة الذرية. وهذه الرسالة كانت في أساس قيام "مشروع مانهاتن" الذي تمخَّض عن صنع القنبلتين اللتين أُلقِيَتا على اليابان – مع أن الحرب كانت قد حُسِمَت عمليًّا، ومع أن أينشتاين عاد فكتب رسالة أخرى يطالب فيها الرئيسَ بعدم استخدام السلاح الذري. من المعروف أيضًا أن أينشتاين أعرب عن ندمه على الرسالة الأولى بعد ما رآه من نتيجتها، وبعد أن سبق السيف العذل، وصرَّح مرةً بأنه، لو عاد به الزمن إلى الوراء، لاختار أن يكون "سمكريًّا"! وعندما عُرِض عليه بعد ذلك أن يكون أول رئيس لما يسمَّى "دولة إسرائيل" (بحكم كونه يهوديًّا) رفض العمل في السياسة قائلاً: "تعمل السياسة من أجل اللحظة الراهنة، أما المعادلات فللخلود."

بعد نهاية الحرب شهد العالم مرحلةً من أشدِّ الأوقات توترًا؛ وهي ما سُمِّي بـ"الحرب الباردة" التي وَسَمَها سباق التسلح، ولاسيما التسلح النووي. وفي تلك الفترة قام العديد من العلماء (نذكر منهم أينشتاين نفسه والرياضي والفيلسوف البريطاني برتراند رسِّل الذي تعرَّض للسجن وللحرمان من التعليم الجامعي في وطنه) بمبادراتٍ مختلفة، فردية حينًا وبالتعاون ضمن مجموعاتٍ حينًا آخر، من أجل التعبير عن رفضهم لاستخدام العلم ونتائجه استخدامًا يهدِّد الإنسان ويهدِّد الحياة. ونذكِّر بأن أينشتاين ورسِّل كانا، كلٌّ على حدة، من أوائل الذين دعَوا إلى إقامة حكومة عالمية.

ولا شكَّ أن المسألة باتت أكثر تفاقمًا اليوم:

يؤدِّي تقدُّم الطبِّ، وانخفاض نسب وفيَّات الأطفال، وارتفاع معدَّل سنِّ الوفاة، إلى ما نراه من زيادة كبيرة ومتسارعة في عدد سُكَّان العالم. ولئن كانت الأرض تتسع فعلاً لأضعاف سكَّانها الحاليين إلا أن استمرار التزايد السكاني، مع استمرار التفاوت الحادِّ والمتَّسع بين الطبقات الغنية والفقيرة وبين الشمال والجنوب، يهدِّد بإدخالنا في عصر جديد من الأوبئة والمجاعات.

يتزايد، يومًا بعد يوم، التلوث الناجم عن استخدام الوقود الأحفوري (النفط والفحم الحجري) على نحوٍ متسارعٍ وغير منتظم، خصوصًا مع رفض الولايات المتحدة – وهي أكبر الدول من حيث الإنتاجية الصناعية وأكثرها تلويثًا للبيئة – التقيُّد بتنظيم دوليٍّ يحدُّ من هذا التلوث. ويختلف العلماء والخبراء في تقدير حجم المشكلة، مع أن الاختصاصيين، الأوروبيين واليابانيين خصوصًا، يُجمِعون تقريبًا على وجودها. إلى جانب ذلك تُجتثُّ الغابات – وهي رئات الأرض – وتُستَنفَدُ موارد الطاقة والمياه العذبة بشكلٍ لم يسبق له مثيل. وفي جميع الأحوال فإن تكوين الأرض الذي استغرق مليارات السنين يكاد يتغير على يد الإنسان خلال ما لا يزيد عن مائة عام!

يفتح تطور العلوم البيولوجية والهندسة الوراثية إمكاناتٍ كبيرةٍ أمام الإنسان، وتظهر الحاجة الماسَّة إلى الضوابط الأخلاقية لاختيار التطبيقات الإيجابية لهذا التقدم. لكن ما نسمعه في وسائل الإعلام – وما خفي كان أعظم! – أمرٌ آخر. فكما تحوَّلتْ إمكانات الخير التي حملها تقدُّم الطبِّ في زراعة الأعضاء إلى تجارةٍ عالميةٍ منظمة ترعاها مافياتٌ كبرى لا تقيم أيَّ وزن للاعتبارات الإنسانية والأخلاقية، تتحوَّل إمكانات الهندسة الوراثية والاستنساخ إلى خطرٍ حقيقي: صناعة الإنسان بالمواصفات المطلوبة!

لا يقلُّ عن ذلك ما يمكن أن يتيحه تقدم علوم الروبوت والذكاء الصنعي، خصوصًا وأن علوم الإلكترونيات قد ارتبطت بعلوم البيولوجيا، فصار يمكن التفكير بتزويد الإنسان بذواكر صنعية تشبه الذواكر التي تعمل داخل أجهزة الكمبيوتر، مثلاً، أو تزويد روبوت ما بأعضاء للحسِّ مأخوذة من هذا الكائن الحيِّ أو ذاك.

أخيرًا وليس آخرًا، ما يزال الخطر النووي الذي يمكن أن يبيد القسم الأعظم من الحياة على الأرض جاثمًا على قلوبنا. ويمكن النظر إلى الحرب الأخيرة التي شنَّتها الولايات المتحدة وبريطانيا على العراق، مع معارضة مجلس الأمن، ومع كلِّ المظاهرات التي قامت في كلِّ أنحاء العالم، كناقوس خطرٍ أيضًا: إن نيرون ما زال موجودًا؛ ولقد صار أقدَرَ على الحرق! وإذا كان السيِّد بوش الابن لم يتورَّع عن ضرب عرض الحائط بإرادة كلِّ الناس في العالم قاطبة، فما الذي يمنعه، أو يمنع غيره، من إشعال الأرض والتمتُّع بالنظر إليها من محطَّته المدارية الخاصة، كما فعل نيرون بروما؟! الأمر الشديد الغرابة، المضحك المبكي، هنا هو أن الولايات المتحدة تذرَّعتْ بوجود أسلحة دمارٍ شامل لدى العراق من أجل احتلاله، في حين استخدمت هي نفسها أسلحة الدمار الشامل المحظورة دوليًّا من أجل تنفيذ غرضها. أما ترسانة العراق من هذه الأسلحة فقد صار من شبه الثابت أنها لم توجد إلا في تقارير وكالات المخابرات الأمريكية والبريطانية. ويجدر بنا أن نذكر هنا أن الولايات المتحدة هي الدولة الوحيدة في العالم، حتى اليوم، التي استخدمت السلاح النووي وما زالت تستخدمه.

يحملُ كلُّ تقدُّمٍ علميٍّ إمكاناتٍ جديدة يمكن استخدامها للخير أو للشر. والسؤال الأساسي الذي يطرح نفسه هنا هو التالي: من المسؤول عن تطبيق الاكتشافات العلمية؟ ومن الذي يُسنِد إليه هذه المسؤولية؟ وما هي الآلية التي تحدث بمقتضاها هذه الأمور؟ وما هو المحرِّك لها؟ وإذا كانت تطبيقات العلوم حتى اليوم قد أوصلتْنا إلى هذه النقطة الحرجة التي بات معها بقاء النوع البشريِّ على كفِّ عفريت، فما هي الوسائل القمينة بإخراجنا من هذه المحنة، بإعادة الأمور إلى نصابها، وبجعل المسؤولية مشتركةً بين الجميع، فيكون البقاء أو عدم البقاء موضوعًا يقرِّره الكلُّ معًا، لا دول دون غيرها ولا أفراد دون سواهم؟

فلنتذكَّر أن العالِمَ إنسانٌ أيضًا. إنه، بدايةً، طالبٌ جامعي تكوِّنه ثقافةُ عصره ومجتمعه، إضافةً إلى ثقافة جامعته. ولعل المشكلة الكبرى تكمن هنا: لم تعد الجامعة مكانًا للثقافة بل للتخصص الضيِّق، ومَعْبَرًا إلى سوق العمل ليس إلا. لم يعد العلم، أو لم يعد يُنظَر إليه على الأقل، كوسيلةٍ للمعرفة، بل بالأحرى كطريقٍ لتأمين عمل يدرُّ أفضل ما يمكن من الدخل. أما المكوِّن الثقافي الرائس في كلِّ مكان فقد بات المحطَّات الفضائية، وليس المدارس والجامعات؛ وهي محطَّاتٌ يملكها ويديرها، في الأغلبية الساحقة من الحالات، أشخاصٌ يبحثون عن الربح وحده: فهم يعتنون بطرح المادة الرخيصة المرغوبة، وليس أبدًا المادة المفيدة والمُهذِّبة. فما إن يتخرَّج الطالب من جامعته – في أيِّ اختصاصٍ وعلى أيِّ مستوى – حتى يكتشف حاجته إلى العمل الذي يؤمِّن له دخلاً يساعده على الاستمرار في الحياة. وهذا العمل غالبًا ما يجده لدى المؤسَّسات الصناعية الكبرى التي لا يخفى على أحد أن شعارها وهمَّها وكلَّ أهدافها تتلخَّص بكلمةٍ واحدة: الربح؛ أو لدى الحكومات التي غالبًا ما تهتم، بالدرجة الأولى، بالتطبيقات العسكرية التي غالبًا ما تدَّعي أنها "دفاعية"! ولا ينتبه هؤلاء العلماء والخبراء والفنيون والمهندسون أنهم كانوا، بطريقةٍ أو بأخرى، عبر اتِّحاد أو آخر، يستطيعون فرض شروطهم، وذلك لأن المؤسَّسات والحكومات تحتاج إليهم بقدر حاجتهم إليها أو أكثر. ولا أتحدث هنا بالطبع عن شروط مادية تتعلق بالرواتب وعدد ساعات العمل وما إلى ذلك، بل بالأحرى عن شروطٍ أخلاقية تتعلَّق بأنواع الأبحاث والتطبيقات ومجالاتها. ولكنْ... هل يعي هؤلاء العلماء هذه الشروط حتى يفرضوها؟ بل إن الكثيرين منهم، في الكثير من الأوقات، يقعون ضحايا عمليات غشٍّ وتزويرٍ للحقائق ويقدِّمون خدماتٍ للأجهزة العسكرية وهم لا يعلمون: كأن يُجنَّدوا لتطوير جهاز اتِّصالٍ ما من أجل بحثٍ علميٍّ ما، أو لصالح خدمة مدنية ما، ثم يُفاجَئوا بأن مموِّل هذا المشروع والمستفيد منه هو "وزارة الدفاع"! وكم من حالات انتحار وحالات تصفية جسدية تحدث ولا يسمع عنها إلا القليلون؛ وفي أحسن الأحوال يقال للجمهور إن فلانًا من العلماء أو من الفنيين مات "في ظروف غامضة"!

في جميع الأحوال، تبقى المشكلة الرئيسية، على ما أظن، في تحوُّل العلم إلى وسيلة لكسب الرزق وفي غلبة المجتمع الاستهلاكي الذي يخلق كلَّ يومٍ إمكانات جديدة للرفاهية، سرعان ما تصير، بقوة الدعاية، من جهة، وبالغياب المتزايد للقيم الأخلاقية والدينية، من جهة أخرى، وعلى الأخص بسبب ضعف النفوس، من جهة ثالثة، ضروراتٍ حياتية لا غنى عنها.

يقودنا ذلك إلى التفكير فيما يتعلَّمه المرء، سواء في المدارس أو في الجامعات. وما من شكٍّ أنه بات من الضروري أن يُعادَ النظر في أسس التربية والتعليم نفسها، وبشكلٍ خاصٍّ في ضوء التهديد الذي يواجهه النوع البشري. يحتاج ذلك إلى قرار سياسيٍّ بالتأكيد لأن الحكومات هي المسؤولة الأولى عن التعليم ومناهجه في أكثر دول العالم. وهذا يزيد الأمر تعقيدًا لأن السياسيين، وخصوصًا في الدول الغربية التي ندعوها "متقدِّمة"، بل وخصوصًا في الولايات المتحدة التي تسبق بأشواط كبيرة جميع دول العالم الأخرى في التطبيقات التكنولوجية، يُبدون أقلَّ اهتمام ممكن بالموضوع؛ بل يبدو أن من مصلحتهم الإبقاء على أجواء التوتر والخوف والحذر والبقاء على كفِّ العفريت.

 يتطلَّب الأمر عملاً عاجلاً واستنفارًا لكلِّ ذوي النيات الحسنة في العالم أجمع، على اختلاف انتماءاتهم القومية أو العرقية أو الدينية أو المذهبية. ويشكِّل فهم المشكلة والتعريف بأسبابها وبمدى أبعادِها جزءًا ممَّا يمكن أن يُعمَل! أعتقد هنا أن ثمة مجموعة من الأخطاء البنيوية التي تقوم في أساس هذا الوضع والتي يجب الرجوع إليها ومعالجتها:

يحدث كلُّ ما يحدث في شبه خفية: فالأغلبية الساحقة من سكَّان العالم لم يسمعوا بمشروع مانهاتن إلا بعد إلقاء القنبلة الذرية على هيروشيما؛ كذلك فوجئ كلُّ الناس بأن يرَوا صورة النعجة دوللي على الصفحات الأولى في جرائد العالم. يمكن، قياسًا على ذلك، أن نتخيَّل ما يمكن أن يعدَّه السياسيون والعسكريون الغربيون، مستخدمين العلم والعلماء، في معسكراتهم ومراكز بحثهم السرية. على الإعلام الذي يقال إنه حرٌّ في الغرب أن يتحمَّل مسؤوليته الكاملة، إن لم يكن في كشف ما يجري وراء الستار، فعلى الأقل في تعريف الناخبين بأن كلَّ هذه الترسانة النووية، وكلَّ هذه الأبحاث الإضافية المخصَّصة "لأغراضٍ دفاعية"، ليست ضروريةً أبدًا من أجل "الأمن القومي". ولقد بدأ شيءٌ من هذا الأمر يحدث في الولايات المتحدة بعد الحادي عشر من أيلول 2001؛ لكن المطلوب أكثر من ذلك هو العمل على الوصول إلى إيجاد هيئاتِ اتِّخاذ قرار يشارك فيها، في الوقت نفسه، السياسيون والعلماء والإعلاميون وغيرهم من أصحاب القرار. وبالمقابل يُفترضُ بالجمهور، بالناس في كلِّ مكان، أن يكونوا أكثر اهتمامًا بما يجري في بيتهم الأرض الذي لم يعد يمكن أن يُترَك قرارُ مصيره لحفنةٍ من المتمكِّنين.

المؤسف إلى حدِّ أن يكون مبكيًا هو أن ثقافة عصرنا هي ثقافة الربح والنفع والأنانية والانتهازية والماكيافلِّية. والمؤسف أكثر من ذلك هو تسرُّب هذه القيم حتى إلى المؤسَّسات ذات الطابع العلمي، كالجامعات، وذات الطابع الإنساني، كالمؤسَّسات الخيرية على اختلاف أنواعها، وصولاً إلى المؤسَّسات الدينية و"الروحية" (أو التي تسمِّي نفسها كذلك). وليست هذه بالمشكلة البسيطة أبدًا؛ وما أعتقده هو أن تجاوزها لا يتم إلا بالقرار الفرديِّ الخاص: أعني أن يملك المرءُ شجاعة اتِّخاذ القرار المنفرد والمستقلِّ بعدم الانجراف في تيَّار المفاهيم والقيم المسيطرة على مجتمعاتنا الاستهلاكية المعاصرة، والالتزام بنهج حياة تأخذ فيه القيمُ الإنسانية والمعرفية الأهميةَ الأولى، وإنْ على حساب مستوى العيش والرفاهية. يتطلَّب ذلك تضحياتٍ عظيمة بالتأكيد؛ ولا بدَّ أن يظهر المرءُ غريب الأطوار في محيطه، إن لم نقل شاذًّا ومجنونًا!

وأعتقد أن التقاليد المختلفة يمكن أن تلعب دورًا مساعدًا هامًّا هنا، اللهمَّ إذا عرفنا كيف نتجاوز مظاهرها المؤسَّساتية والطقوسية والتعصُّبية والأصولية لنغوص في جوهرها الصوفيِّ المشترك.

ما تزالُ أفكارٌ هي من قبيل السحر والشعوذة والخرافة، فُهِمت خطأً على أنها دينية، حتى صارت جزءًا جوهريًّا من العقائد، تسيطر على مختلف مجالات تفكيرنا وتوقف انتشار الأفكار والقيم العلمية الصحيحة. يتطلَّب الأمر مراجعةً عقائديةً، شاملةً وطوعيَّة، لمختلف التعاليم الدينية بحيث يُعدَّل باستمرارٍ ما يجب تعديله. على المؤسَّسات الدينية ألا تنتظر كلَّ مرة انتصار غاليليو وداروِن كي ترقِّع معتقداتها؛ وأن تتنازل للعلم عن دوره في تفسير العالم والكون، بحيث لا تتابع فقدان اعتبارها ومكانتها؛ وأن تعي أخيرًا أن دورها هو شيءٌ آخر، لا أقول أكثرَ أو أقل أهميةً من دور العلم، لكنه بالأحرى دورٌ مكمِّلٌ له؛ فتستطيعَ، من جهةٍ، أن تقدِّم خبرتها الروحية العريقة وتعيد شيئًا نفيسًا من القيم الأخلاقية التي ما انفكت تتراجع بين البشر؛ ومن جهةٍ أخرى، أن تستعيد مصداقيَّتها وأن تقول كلمةً مسموعة حين يتعلَّق الأمر بتطبيقٍ للعلم على درجة من الخطورة، أو بأيِّ شأنٍ عالميٍّ كبير. لكن عليها بالأوْلى، وفي سبيل ذلك، أن ينبذَ كلٌّ منها ادِّعاءه الأفضليَّة والكمال دون غيره.

يتحمَّل المربُّون مسؤوليةً كبرى، سواء كانوا من معلِّمي المدارس أو من الواعظين الأخلاقيين في المؤسَّسات الدينية والأخلاقية على أنواعها، أو من الأهلين. فحتَّام نبقى نربِّي أولادنا على "التنافس" بحجَّة العيش الكريم، وعلى إقصاء الآخرين باسم الوطنية وعلى التكبُّر باسم الله! وإلى متى نعلِّم أطفالنا أن الإنسان وُجِدَ لكي يسيطر على الطبيعة، وأن كلَّ ما على الأرض قد "سخَّره الله" لخدمة الإنسان؟! إلى متى نزرع في رؤوسهم هذه العنجهية تجاه كلِّ أشكال الحياة الأخرى التي هي أصل وجودنا، فنشجِّعهم على المضيِّ في تدمير بيتنا؟ متى نبدأ نعلِّم أطفالنا قيم أهمية الفنِّ، وتذوُّق الجمال، وعظمة المشاركة، وعمق الوحدة مع مختلف الكائنات، وجلال الطبيعة، وأولوية الحياة، و... حرج الموقف!

بيد أن المربِّين لا يعملون بمفردهم، بل ضمن مؤسَّساتٍ هي، بالدرجة الأولى، المدارس والأسرة. ثمة مؤسَّسة تقوم بدورٍ تربويٍّ وتعليميٍّ يزداد أهميةً يومًا بعد يوم، حتى يكاد يأخذ بعض مكانة المدارس – وأعني وسائل الإعلام، ولاسيما الفضائيات والإنترنت. تحتاج المؤسَّسات التربوية إلى إعادة نظر شاملة، بدءًا من المدرسة، سواء كطبيعة بناءٍ، أو كمناهج، أو كأهداف تربوية وتعليمية، وصولاً إلى إعادة تأهيل للمعلِّمين والمعلِّمات الذين لا يعني الأمر بالنسبة لهم أكثر من وظيفة ومهنة، وانتهاءً بالمزيد من الاهتمام بالبرامج الموجَّهة للصغار خصوصًا وللكبار عمومًا في محطَّات التلفزيون والإنترنت التي يمكن أن تشكِّل وسيلةً فعَّالة في صياغة جديدة للقيم إذا ما أُحسِن استخدامُها. ولا شكَّ أن للحكومات دورًا هامًّا تلعبه هنا.

يزداد التخصُّص، ومعه تنمو النظرةُ التجزيئية إلى العالم، وتغيب معه النظرة المعرفية الكلِّية. إن الكثير من "العلماء" لا يعرفون الكثير خارج اختصاصاتهم الضيِّقة، ويبدو البعض منهم أقلَّ ثقافةً علميةً من الكثير من المثقَّفين العاديين! يعكس هذا الواقع اهتمام "العالِم" بإنجاز ما يُطلَب منه أكثر من اهتمامه بالبحث عن المعرفة، وهي الصفة الأصيلة للعالِم الحق. ولا شكَّ أنه تقصير الجامعات والمناهج الجامعية، بالدرجة الأولى، التي، كما أشرنا سابقًا، بات ينحصر عملُها في تأهيل أشخاصٍ قادرين على رفد سوق العمل فحسب.

ولا شكَّ، في هذا السياق، أن التعريف بفلسفة العلوم وتاريخها يضعنا في صورة ما يجري. فلقد نُظِرَ على الدوام إلى التاريخ العام على أنه ملخَّص الأحداث السياسية والعسكرية التي تجري في العالم. لكن الحقيقة التي بدأت تفرض نفسها أكثر فأكثر هي أن تاريخ العلم يشكِّل الجانب الأهم من تاريخ البشرية؛ حتى إن العلم وتطبيقاته يرافقنا اليوم في كلِّ لحظة من لحظات حياتنا. ثمة ما هو شديد الأهمية والدلالة هنا: ففي الوقت الذي يقصُّ علينا التاريخ العام، منذ ظهور البشر على الأرض، رواياتِ الحروب والنزاعات والانقسامات، فإن تاريخ العلم يروي لنا – إذا أحسنَّا قراءته – قصَّةَ مسيرةٍ مشتركة تتَّجه نحو فهم حقيقة وجودنا ومغزاه. وإذا كان التاريخ العام ينطوي على التأكيد على فرقة البشر ونزاعاتهم، مغذِّيًا روح العداء والانتقام، فإن تاريخ العلم ينطوي على التأكيد على وحدة هؤلاء البشر وتكاملهم، مغذِّيًا روح المحبة والتعاضد.

تطرح المناهج المعرفية المختلفة رؤى للعالَم تُرسي صوَرَها المتناقضة أحيانًا في أعماق لاوعينا. وكما أشرنا أعلاه إلى ضرورة مراجعة المؤسَّسات الدينية لمعتقداتها المختلفة بطريقة تترك للعلم فيها ميدانَه الخاصَّ، نقول أيضًا إن رؤى العلم ليست رؤى ثابتة، ومن الأكيد أنها ليست بمطلقة. لقد كان انتصار الميكانيكا النيوتونية ونجاحها الكبير في تفسير الكثير من الظواهر الطبيعية، بدءًا من سقوط التفاحة من التفاحة وانتهاءً برقصة الكواكب في السماء، سببًا في إرساء رؤية ميكانيكية للكون وفلسفة حتمية تجذَّرتْ عميقًا في نفسيَّتنا، وساهمت في جعلنا آلات أكثر من كوننا كائنات حية!

لكن هذه الفلسفة العلمية باتت مرفوضةً اليوم، ولاسيما مع نظريَّتي الميكانيكا الكوانتية والشواش اللتين تقدِّمان لنا صورة عالمٍ عضويٍّ متجدِّدٍ وغير قابلٍ للتنبُّؤ به؛ وهو عالمٌ يشترك الإنسان، بطرق مختلفة، في تكوينه وصياغته، ولكن كجزءٍ منه لا كفاعلٍ خارجيٍّ مسيطر. إن هاتين النظريتين، إضافةً إلى النظرية النسبية وكلِّ ما ينشأ عنها من رؤى للكوسموس، تضعنا أمام التأمُّل في دورنا في هذه الحياة وأمام مسؤولياتنا تجاهها. وفي جميع الأحوال فقد حان الوقت لتجديد مفاهيمنا الخاطئة لما يطرحه العلم؛ وهي مفاهيم ما تزال قيد التداول في الجامعات والمدارس أحيانًا. لا بدَّ، من أجل ذلك، من القيام بجهد كبير في ميدان تبسيط ونشر المفاهيم العلمية الحديثة، مع انعكاساتها الفلسفية والحياتية.

نشير أخيرًا إلى أن حركاتٍ عديدة تحمل همَّ المرحلة الدقيقة التي تمرُّ بها الكرة الأرضية تقوم حول العالم. ويبقى أن هذه الحركات يمكن أن تكون أكثر فاعلية إذا ما عملت على المزيد من التواصل فيما بينها ومع أفراد آخرين منعزلين وغير منظَّمين يحملون الهمَّ نفسه. يمكن، في هذا الشأن، اقتراح اتِّحادٍ عالميٍّ لأحزاب الخضر ولبعض الجامعات والمؤسَّسات ولبعض العلماء والمفكِّرين المنفردين، وغير ذلك من الحركات التي تدعو إلى الحفاظ على البيئة وإلى السلام في العالم وإلى الحوار بين الثقافات (وباختصار، كلُّ جهةٍ تعتبر الخروج من التهديد الجاثم على قلوبنا همَّها الأول). يمكن لذلك أن يكون عاملاً موازِنًا أمام فتح التجارة، بين جميع الدول وغير ذلك من مظاهر العولمة على النمط الذي تفرضه الاحتكارات العالمية الكبرى، عبر حكومات الدول الغنية التي تزيد بذلك من تعميق الهوَّة بين الشمال والجنوب، بين الأغنياء والفقراء، بين المتخمين والمعدمين. لكن الهدف الأول من مثل هذا الاتِّحاد يبقى النضالَ المحبَّ والشجاع والغيور في سبيل إشراكٍ أكبر فأكبر لكلِّ الناس، في الأرض قاطبة، في اتِّخاذ القرارات المصيرية للجنس البشري. فهل نصل إلى ذلك يومًا؟

أقول نعم! وما عندي ما يبرِّر إجابتي... إنَّها قضيَّة إيمان.

أؤمن بالحياة. أؤمن بالخير. أؤمن بانتصار الوحدة والسلام والتعاضد والتكافل... رغم أن كلَّ المؤشَّرات تدلُّ على غير ذلك. لكن الإيمان بلا عملٍ لا يكفي. فعندما أضمُّ إيماني إلى المفارقة الكوانتية الرائعة أستنتج ما يلي: الحياة على الأرض ستنتصر، والطبيعة ستنجو من العمل المخرِّب للإنسان، رغم استمرار هذا الإنسان في غِيِّه.

لكن هذا الإنسان جزءٌ لا يتجزأ من هذه الحياة ومن هذه الطبيعة؛ وسيكون عمله وموقفه، عن قصدٍ أو عن غير قصد، حاسمَيْن في انتصار الحياة والطبيعة!

فلنعمل... على أنفسنا أولاً!

*** *** ***


* بين الثالث والسابع من آذار من العام 1986 عُقِدت في فينيسيا في إيطاليا، بمبادرةٍ من منظمة اليونسكو، ندوةٌ ضمَّت سبعة عشر من أكابر العلماء المعاصرين في شتى فروع العلم ومن بلدانٍ مختلفة. عُقِدت الندوة لمناقشة موقف العلم ومكانته حيال المناهج المعرفية الأخرى (الفلسفية والدينية وغيرها) ودوره في الحفاظ على الحياة على الأرض وتقدمها. أصدر المشاركون بيانًا ختاميًّا مشتركًا وقَّعوا عليه جميعًا؛ ويعدُّ هذا البيان، بحدِّ ذاته، حدثًا تاريخيًّا. صدرت ترجمة عربية لكتابٍ يضمُّ أهمَّ المحاضرات والمناقشات التي جرت في هذا اللقاء من قبل وزارة الثقافة في الجمهورية العربية السورية بعنوان العلم يواجه تخوم المعرفة (سلسلة "علوم" 17، بترجمة محمد حسن إبراهيم، دمشق 1994).

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

Editorial

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال يوسف وديمة عبّود