القسم الأول من البحث

 

2. الإنسان الإيكولوجي

كائن جديد يطلع علينا... محوكًا بخيوط الحلم الإغريقي بقدرة العقل البشري؛ ضامرًا ومعوجًّا بالحِواء الوسيطي للإنسان الراضخ للدين؛ نصف متحرر في فترة النهضة؛ موصَدًا دونه بين تروس رقٍّ جديد يدعى الثورة الصناعية؛ ثَمِلاً ومَعميًّا عليه باليوطوبيا المادية للقسم الأول من القرن العشرين – ألا وهو... الإنسان الإيكولوجي.

من وادي دجلة، من بلاد الرافدين وبابل وآشور، قامت حضارات كانت في وقتها جديدة وعظيمة وعزيزة؛ في حوض بحر إيجه جرى المزيد من صقل الروح البشرية؛ والماضي الغابر المتمثل في السلاحف والأورانغ أوتان قد خُلِّف وراءه؛ وآفاق المغامرة الكبرى، آفاق الإنجازات الروحية العظيمة، آفاق القفزات الكبرى، قد انفتحت فجأةً لتبهر الخيال وتتحدى شجاعتنا. لكننا، بعد القفزة الإغريقية القديمة، يبدو أننا قد خنعنا لفقر دم روحي غريب. كُموننا الهائل يرعبنا، إذا جاز التعبير؛ إذ خطفتْ أبصارَنا الشمسُ التي أبدعناها؛ أو لعلنا قد حسدنا السلحفاة، وعدنا إلى الزحف من جديد. بيد أنه لم يعد لنا مكان في أسرة السلاحف والقشريات. فنحن محكومون بقَدَر نجمي، وملعونون بحتمية التعالي المتواصل. علينا أن نعاود مواجهة مستقبلنا – حتى لا نخون الإنسانية المحتواة فينا. فالقَدَر البشري سجن لولبي الشكل من اكتمال لا ينتهي.

من نفق الأدغال الصناعية الاستهلاكية نحدِّق متهيِّبين في نور جديد، أغنى بخبرة التقدم المادي، بحرية الحركة، بالقدرة على رؤية العالم بأسره ضمن جدران غرفتنا، وأفقر بالبائد من الغابات والمروج والوديان المغطاة بأشرطة الإسمنت، وبالثقافات المكتسَحة من على وجه البسيطة. بيد أننا أغنى بالتجربة المؤلمة التي تخبرنا بوجوب سيرنا على دروب جديدة. إننا نصحو من السُّبات المادي كي نستلهم تصوُّر العالم بوصفه "سرًّا مروعًا" mysterium tremendes. لقد قال عالم البيولوجيا البريطاني القدير ج.ب.س. هالدين: «قد لا يكون العالم أعجب مما نتخيل وحسب، بل أعجب مما نستطيع أن نتخيل.» بعض الناس لا يزال هاجعًا، مغلَّفًا بشرنقة الحلم المادي. فأما أفكارهم السَّرنمية somnambulic نصف المتماسكة حول إنجاز الفردوس الاستهلاكي فسوف ننحِّيها جانبًا.

لكننا ما نزال في البداية وحسب. علينا أن نقوم بقفزة خيال، من التصور النيوتُني، الجبري، للعالم، الذي تحرِّكنا فيه وتعيِّننا وتُشرِطنا قوى فيزيائية حتمية، إلى تصور للعالم نكون فيه المحرِّكين، المشاركين في إبداع العالم ونحن نبدع أشكالاً جديدة من الحساسية والوعي. علينا أن نتحلَّى بالشجاعة للنظر 500 مليون سنة إلى الأمام، ثم نفكر في الكائنات الخارقة التي سنكونها حينذاك. لكن المتشكك لا يحرك ساكنًا. وسوف يقول لنا إننا نعيش الآن، وليس بعد ملايين من السنين الآتية. وعلى المتشكك سوف نجيب بأن آنَنا يمتد عبر مئات، بل آلاف السنين. فلنتحلَّ على الأقل بالشجاعة على النظر إلى الألفية الحالية. فماذا نرى؟ إننا نبصر طلوع الإنسان الإيكولوجي.

قبل أن نمضي في المزيد من المناقشة حول صفات الشخص الإيكولوجي، هلمَّ ننظر إلى مشهدنا الحالي ونتساءل لِمَ لا يرضينا التصور الراهن، أي تصور القرن المنصرم، للإنسان – بل لا يمكن له أن يرضينا بأيِّ حال من الأحول.

1. نقائص فلسفات الإنسان الغربية الراهنة

لقد كانت فلسفة القرن العشرين الغربية قوية ومجدِّدة في المنطق وعلم المعاني وفلسفة اللغة؛ لكنها لم تكن قوية ولا مجدِّدة في فلسفة الإنسان. وهذا بالطبع قابل للفهم، إنْ لم نقل واضحًا. فإذا كان نطاق خطابكَ من التحديد بحيث لا يعتبر صالحًا إلا الفيزيائي والمنطقي، فإنك لا تستطيع أن تبسط (في نطاق خطاب كهذا) أية فلسفة ذات قيمة عن الإنسان – ذلك لأن ظاهرة الإنسان تبتدئ حيث تنتهي المادة الفظة.

تبتدئ فلسفة الإنسان عندما نحاول ترسيم ما هو فريد في الإنسان والتعبير عنه، أي ما يتعدى الفيزيائي ويتخطَّى المنطقي والتحليلي. إن على فلسفة الإنسان الجديرة باسمها أن تحاول التعبير عن الطبيعة المتعالية للإنسان، لأن ظاهرة الإنسان، بمقدار ما هي فريدة، تتعالى عن الفيزيائي والبيولوجي، وتتعالى بالتأكيد عن المنطقي والتحليلي.

وفي قولي إن الإنسان كائن متعالٍ transcendent، أؤكد ببساطة على أن الإنسان نتاج للتطور المتجاوز نفسه باستمرار. وبمقدار ما تتجنب الفلسفة التحليلية أيَّ مفهوم للتعالي transcendence، وبمقدار ما تسعى إلى تحديد ذاتها بالمظاهر المحايثة immanent للإنسان، وبمقدار ما تصرُّ على التعبير عن ظاهرة الإنسان بلغة تحليلية ووصفية وحسب، فإن الفلسفة التحليلية مقضيٌّ عليها بإغفال ظاهرة الإنسان (وما هو فريد في الإنسان تحديدًا)، ومقضيٌّ عليها بصنع فلسفة للإنسان من التكلُّف والتقعُّر بما يجعلها غير أهل للأخذ بها. إذًا: يكاد يكون من البدهي أن استمرار الفلسفة التحليلية على وفائها لأدواتها ومنهجياتها سيقضي عليها لا محالة بعدم الملائمة للتعبير عن فرادة الإنسان. وفي الوسع التعبير عن الورطة الرئيسة للفلسفة التحليلية فيما يتعلق بفلسفة الإنسان كما يلي: ما أهمية تصويب لغتكَ إذا جعلتَ مفهومَك عن الإنسان مغلوطًا؟ بعبارة أبسط، فإن الفلسفة التحليلية طوَّرتْ أدوات مفهومية جبارة للتعامل مع الفيزيائي والمنطقي؛ غير أن هذه الأدوات غير ملائمة على الإطلاق لتناوُل الإنساني والوجودي والروحي. لهذا السبب فإن الفلسفة التحليلية غير ملائمة مطلقًا للتعاطي مع ظاهرة الإنسان.

ونتيجة للإفلاس المفجع للفلسفة التحليلية في التعامل مع فلسفة الإنسان (وكذلك في التعامل مع الأخلاق وعلم الجمال)، تبوأت الماركسية والوجودية مكان الصدارة كفلسفتين بارزتين للإنسان إبان النصف الثاني من القرن العشرين. وفي رأيي أن كلا فلسفة الإنسان الماركسية وفلسفة الإنسان الوجودية، خصوصًا كما عبَّر عنها سارتر، غير ملائمتين من حيث الأساس، لأنهما تختزلان ظاهرة الإنسان وتسلبانه أرْفَع صفاته: طبيعته المتعالية، ألوهيته، كرامته، كما تحرمانه، حرمانًا غير مباشر، من أسمى آماله وأوسع آفاقه. وهما، في المآل، تتفتَّقان عن كونهما فلسفتي يأس، لا فلسفتي أمل.

على فلسفة للإنسان قابلة للحياة ومستدامة أن تكون فلسفة أمل وفلسفة تطلعات سامية؛ عليها أن تكون فلسفة تشجع الإنسان على المزيد من صنع ذاته في الأبعاد كلِّها، بما فيها الأبعاد الثقافية والروحية والمتعالية. فما برحت قصة الإنسان، إلى الآن، قصة تعالٍ موصول، قصة صيرورة إلى كائن يزداد أبدًا تحولاً ومعرفةً وحساسية.

ولقد لعبت الأديان والثقافات دورًا حيويًّا في جعل الإنسان ذلك "الحيوان الرمزي" Homo symbolicus الذي نعرف. وبإيجاده الديانات والثقافات ابتكر الإنسان رموزًا متحدية حملتْه على أن يصنع من نفسه شيئًا. فعلينا ألا نقول (بسذاجة) بأن الإنسان، عبر صنع الأدوات واستعمالها، أنْسَنَ نفسه – كلا. فالإنسان حيوان رمزي بامتياز، وعبر رموز (أعظم منه) يستطيع أن يصنع من نفسه شيئًا.[1]

ما يفكر فيه الإنسان إياه يصير: فإذا لم يفكر في شيء فإنه يصير لاشيء؛ أما إذا فكَّر في رموز أرفع منه، فقد يصير تدريجيًّا على صورة هذه الرموز. إن جمجمة خاوية لا تفكر في شيء، أو تنطق بالتفاهات، تقود إلى تصور تافه عن الإنسان وإلى مجتمع تافه. وإن عمق تفكيرنا أو ضحالته هما أساس عُمق واقعنا وضحالته، بما فيه واقع الشخص البشري. لقد كانت مأساة الماركسية كفلسفة عامة، ومأساة فلسفة الإنسان الماركسية بالأخص، هي في أن اعتقادها (الساذج) بأن قوى الإنتاج تعيِّن الأمر برمَّته جعل الإنسان على صورة قوى الإنتاج: آلاتيًّا، عديم الإحساس، فجًّا. وبالمستطاع التعبير عن محنة الماركسية فيما يتعلق بفلسفة الإنسان كما يلي: ما أهمية تصويبكَ علاقات الإنسان الاقتصادية إذا عطَّلتَ علاقاتِه الإنسانية والثقافية والروحية؟ بعبارة أبسط، فإن الفلسفة الماركسية، في اعتقادها بأن القوى الاقتصادية والمادية تعيِّن الأمر برمَّته، تقزِّم ظاهرة الإنسان وتقلِّصها في الواقع كي تجعل الإنسان على صورة قوى الإنتاج.

لقد قلت لتوِّي بأن الوجودية والماركسية فلسفتا يأس وليستا فلسفتَيْ أمل، بينما المعلوم عالميًّا بأن الماركسية فلسفة إنسان متفائلة، لا بل هي فلسفة يوطوبية – ترسم تطلعات بعيدة المدى إلى المستقبل. ولسوف أوجز: إني أجد من جانبي هذه التطلعات غير بعيدة المدى إلى هذا الحد، وأجد تفاؤلها ضحلاً نوعًا ما، لأن لبَّ المسألة ينحصر في أن الإنسان الماركسي محدود الآفاق. وحتى عندما نسمح بتحقيق اليوطوبيا الماركسية، فما نشهده في النهاية هو شكل من أشكال المجتمع الاستهلاكي. وفي وسعي أن أرى صوت الاحتجاج يعلو، إذ يقال لي إن الجشع والاستغلال وقمع طبقة لأخرى بلا رحمة ستزول في المجتمع الشيوعي، وبالتالي، لن يكون شكلاً من أشكال مجتمعنا الاستهلاكي. قد يصحُّ هذا إلى حدٍّ بعيد؛ لكنه مع ذلك سيكون شكلاً من أشكال مجتمعات الاستهلاك قطعًا، بما أنه مقضيٌّ عليه بذلك إذا استبعد الروحي والديني والمتعالي. ولنتذكَّر أن توق البلاد الشيوعية السابقة العظيم هو اللحاق بركب الغرب فيما يتعلق بالإنتاج وبالاستهلاك.

إن مفهوم الإنسان المجرد من الأبعاد الروحية ومن أيِّ معنى للتعالي غير ملائم إلى حدِّ الرثاء. لهذا السبب فإني أجد فلسفة الإنسان الماركسية شديدة التشاؤم، مجردة من الأمل. أعلم بأن مَلء مِعَد الفقراء أمر هام. لكنْ من بعد أن تكون قد ملأتَ المِعَدَ، تبقى هنالك الحياة التي ينبغي أن تُعاش، والمعنى الذي يجب أن يتخلَّل الحيوات الإنسانية؛ يبقى الجمال الذي ينبغي اختباره، وتبقى آفاق أوسع يجب التطلع إليها، سماوات عُلى ينبغي اعتناقها. وإني على اطلاع أيضًا على بعض نصوص ماركس الشاب التي يتكلم فيها على الإنسان مزارعًا في الصباح، وشاعرًا بعد الظهر، وفيلسوفًا في المساء.[2] إنما يجب عدم تعليق أهمية كبرى على هذه النصوص لأنها ليست على تناغُم مع باقي الفلسفة الماركسية، التي (إن كان عليها أن تكون ماركسية) يجب أن تصرَّ على أولوية المادي على الروحي، على أولوية كيفيات الإنتاج على أشكال الوعي، على أولوية الأشياء المادية الفجَّة على الجميل والحساس والخُلُقي. ثم إن «الوجود يعيِّن الوعي». تلكم هي العقيدة الرئيسة للماركسية. ولقد توقفتُ عند بعض تفاصيل التصور الماركسي للإنسان لا لأني أريد هدمه، أو لأني أحسبه غير ذي نفع برمَّته. فأقل ما يقال عن التصور الماركسي للإنسان هو أنه غير متَّسق، وبذلك يحوي، بما هو كذلك، بعض الأمور الحسنة. إنما كان قصدي، بالأحرى، أن أبيِّن أنه ليس بفلسفة أمل، أنه ليس بالبديل الحقيقي للتصور الجشع، الكاسر، المستغل للإنسان، المميِّز لمنظومة المسعى الحر؛ أي أن محدودية التصور الماركسي للإنسان، باختصار، هي من الأساسية بمقدار ما هو عليه التصور التجريبي، الرأسمالي للإنسان؛ فكلاهما ثمرة الدهرية secularism والمادية، وكلاهما يعاني من عواقب رؤية شديدة الاختزال للإنسان، وكلاهما مفتون بالنموِّ المادي وبفكرة التقدم.

لم أقل الكثير عن التصور الوجودي للإنسان. فلعلَّ لا حاجة لي إلى ذلك. ذلك أن هذا التصور أيضًا ثمرة نظرة اختزالية إلى الإنسان؛ وهي نتيجة الدهرية والمادية التي تضيع فيها الموناد الوحيدة المدعوة بالكائن البشري ضياعًا لا رجاء فيه في هذا الكون الشاسع واللاشخصي. والمعنى الوحيد الذي تستطيع هذه الموناد أن تقتات به هو أن تواسي نفسها بكونه بائسة. أرجو ألا أكون مغاليًا جدًّا وأكون، بالتالي، ماسخًا للوجودية. ففي واقع الأمر أن الوجودية هي التي مسخت الكائن البشري، مختزلةً إيَّاه إلى أحدب قزم، يختنق في عصاراته ويتمتع بالمشهد شامتًا.

قد يذهلنا أن نعلم بأن سارتر، في نهاية حياته، في آخر مقابلة أُجْرِيَتْ معه قبيل وفاته، أدان فلسفة يأسه. قال:[3]

أنا نفسي لم أعرف اليأس قط. كما أني ما نظرت إلى اليأس قط، ولو في أدنى درجاته، كقيمة من شأنها أن تؤثر فيَّ. فهاهنا كيركغور هو الذي كان له تأثير لا يستهان به عليَّ.

كان ذلك هو النمط الرائج. كانت تراودني فكرة أن ثَمَّ شيئًا ما مفقودًا في معرفتي الشخصية بنفسي، حال دون شعوري باليأس. ولكن مادام الآخرون يتحدثون عنه، كان لا بدَّ للمرء من أن يقر بأن للأمر وجودًا عندهم. ولعلك ستلاحظ بأنه يكاد لا يكون ثَمَّ أيُّ أثر لهذا اليأس في مؤلَّفاتي من تلك اللحظة فصاعدًا: كان شأنًا من شؤون ذلك الوقت.

من شديد الغرابة أن يقول فيلسوف كبير «كان ذلك هو النمط الرائج... مادام الآخرون يتحدثون عنه، كان لا بدَّ للمرء من أن يقر بأن للأمر وجودًا عندهم». ويمضي سارتر قائلاً ما يلي عن الأمل:[4]

أعتقد أن الأمل يُبنى في الإنسان. العمل الإنساني متعالٍ: إنه يضع غايته وتحقيقه في المستقبل. ثَمَّ أمل كبير في كيفية العمل عينها – في وضع غاية ينبغي بلوغها.

ذاك كان، إذن، سارتر في نهاية أجَله؛ وربما طوال عمره – السارتر الذي لا نعلم عنه إلا القليل.

ثمة نقطة عمومية الأهمية أخرى هي الآتية: الميراث الغوتي للإنسان، والميراث البليكي والنيتشوي[5] ضائعان تمامًا في التصور الوجودي للإنسان وفي التصور الماركسي للإنسان؛ وبالطبع في تصور الإنسان الممثَّل بالفلسفة التحليلية. أما المحنة الرئيسة للوجودية، فيما يخص فلسفة الإنسان، فيمكن التعبير عنها كما يلي: ما أهمية تصويب فرادة الإنسان إذا كانت هذه الفرادة تعني حجابًا خانقًا من اليأس؟ بعبارة أبسط، فإن التصورات الوجودية للإنسان تطلب بحق التعريف بالإنسان بلغة يتفرَّد بها الإنسان نفسه؛ غير أنها تخطئ التفكير في الإنسان باعتباره مونادًا وحيدة، مخلوقًا تائهًا، يهيم على وجهه في كون لا معنى له.

وفي تفتيشنا عن فلسفة للإنسان قابلة للحياة، علينا أن ننظر في فلسفة تعلِّل فرادة ظاهرة الإنسان، هي فلسفة أمل، تفيد في شرح العروج التطوري للإنسان، وتمنح مجاهداته المستقبلية – وهي مجاهدات متعالية بالضرورة – مدًى ودعمًا. إن التصور الإيكولوجي للإنسان، في رأيي، خطوة مُنجِية في هذا الاتجاه. ملاحظة اصطلاحية: أقصد بـ"الإنسان الإيكولوجي" التصور المتعالي–التطوري للإنسان. لقد كانت المقاربة التطورية تعني، تقليديًّا، إرجاع الإنسان إلى أشكال أدنى واستبعاد ألوهيته؛ كما كانت المقاربة المتعالية، تقليديًّا، تعني قبول ألوهية الإنسان (مشتقةً من بعض المطلقات) واستبعاد السيرورة التطورية. أما الإنسان الإيكولوجي فيفتش عن ألوهية الإنسان ويعثر عليها في السيرورة التطورية.

إن تيليتش يجعل الأونطولوجيا المجال المركزي للفلسفة. وعند سارتر وهيدغِّر وغيرهما من الوجوديين، فإن الاستقصاء الظواهري هو المجال المركزي للفلسفة. أما الكوسمولوجيا في الفلسفة الإيكولوجية فتبرز بوصفها المجال المركزي للفلسفة. فمن بنيان الكوسموس، وقد تمَّ تصوُّره على الوجه الصحيح، يتفرع الإلزام الخُلُقي، كما وفهم الخصائص الجوهرية للإنسان.

2. الإنسان الإيكولوجي

بدايات الإنسان مستترة في الغبار الكوني. غير أن التطور، عبر مليارات السنين من "إبداعه"، أبدع بُنى وكائنات فيها من الحذق والتعقيد ما يتاخم الإعجاز. ونحن واحدة من الصور المجسِّمة لهذا الحذق والتعقيد. لكن هذا ليس من فضلنا: فما نحن إلا وعاء اختزن فيه التطور ونمَّى بعض أثمن مقتنياته. فلقد قاد النمو الوئيد للوعي – على مستوى الإنسان العاقل – إلى تفتح الوعي الذاتي، ومن بعدُ إلى بنية الوعي المنعَم عليها بالألوهية. إن ألوهية الإنسان واحدة من التبلورات المميِّزة للنعمة التطورية.

إن فرادتنا لا تتأتَّى من كوننا منفصلين عن بقية الكوسموس ومقضي علينا بالعزلة البشرية، كما كان يعتقد الوجوديون؛ كما ولا يتأتى من كون الإنسان مقياسًا للأشياء كلِّها، كما كان يريد بروتاغوراس والإنسانيون التقليديون؛ إنما فرادتنا متجذِّرة في كوننا الأوصياء على متحف الكنوز الذي أبدعه التطور والذي يفوق حدَّ التصور.

في هذه الرؤية للإنسان نفقد جزءًا من البريق الذي يضفيه الإنسانيون التقليديون على الشرط البشري، لكننا نفوز بشيء أهم: نحن الآن في اتحاد مع الكوسموس؛ نحن جزء لا يتجزأ منه. نحن جزء من الدورة الرائعة التي تعاونتْ فيها الذرات الفجَّة والغبار الكوني، كما والأميبات الأولى والمجرات القصية، جميعًا على إبداع الحياة، ثم على إبداع ظاهرة الإنسان. وهذا التصور للكون ولموضع الإنسان فيه يتأكد تأكيدًا متزايد على يد فيزياء النجوم وفيزياء القسيمات.[6]

في الوسع التعريف بالإنسان الإيكولوجي بوصفه حزمة من الحساسيات منخرطة في سيرورة صقل متواصلة. ولقد لعبت الحساسيات الدور الرائس في تدرُّج التطور، وفي ظهور الإنسان. إذ إن صعود الإنسان قد جاء نتيجة للتوسيع والتصفية المستمرين للحساسيات التي تمخَّض عنها التطور؛ إلى أن بلغنا الحساسيات الجمالية، والحساسيات الخُلُقية، وحسَّ الألوهية. وحسُّ الألوهية هذا هو واحد من الحساسيات البشرية – واحد من مقتنيات التطور. كما أن الفطنة المنطقية، أي المقدرة على مزاولة المنطق، واحدة من الحساسيات أيضًا. والمعرفة كلُّها هي نتاج قدراتنا أو حساسياتنا المعرفية. والحدس أحد حساسياتنا؛ وبعبارة أخرى، واحدة من القدرات على اكتساب المعرفة ومزاولتها.

إن الغاية من الحساسيات كلِّها تعزيز الحياة وتوسيعها. وكلما كان مدى حساسياتنا أعظم كانت الحياة التي نختبرها والواقع من حولنا أغنى. فحين ظهرت العين كشكل جديد من أشكال الحساسية، وحين شرع التطور يرى من خلال مخلوقاته، كان هذا الأمر خطوة جبارة قُدُمًا في الإفصاح التطوري عن الكون. فالنظر شكل من أشكال الحساسية؛ وكذلك التفكير، وكذلك الوَجْد الصوفي. لذا فإن في الوسع التعريف بالإنسان بوصفه مختبرًا لتوسيع الحساسيات. والتطور نفسه مختبر أوسع أيضًا، مشغل كيميائي بحق تُبدَع فيه وتُصقَل باستمرار حساسيات جديدة.

يمكِّننا هذا التصور للتطور من النظر إلى الكوسموس بأسره نظرة جديدة، ومن إعادة تقويم قيمنا، وكذلك من إعادة بنائها، إنْ فيما يتعلق بالكوسموس بعامة أو فيما يتعلق بغيرنا من الكائنات الإنسانية. الإنسان الإيكولوجي يقدِّر ويقبل بأن القيم الإنسانية، ولاسيما ما يجعل منها حياتنا ذات معنى وتشكِّل أساس تفاعلنا مع غيرنا من البشر، ليست مُنزَلةً من السماء، كما وليست مجرد قيم ذاتية واتفاقية، وعرضةً، بالتالي، للنزوات البشرية؛ إنما بأن أصلها ومعناها كامنان في طبيعة السيرورة التطورية نفسها؛ في سيرورة صيرورتنا: كنوع، ككائنات خُلُقية، وكعملاء يحسُّون بذواتهم.

لقد بات في وسعنا الآن – ونحن ننظر إلى التطور بوصفه سيرورة أنْسَنَة humanization وسيرورة موصولة لتحسيس المادة (أي لتحويل المادة إلى روح) – أن نرى بوضوح بأن القيم أشكال صريحة وفصيحة من أشكال الوعي؛ فهي أشد الحساسيات التي طوَّرها النوع البشري صقلاً؛ ثم صنَّفها لاحقًا وشرَّعها. وما القيم الخُلُقية، أي القيم المعترَف بها رسميًّا كقيم خُلُقية، إلا أشكال صريحة لحساسيتنا فيما يخص الإخلاص والإيثار والإجلال والمحبة والرحمة.

كلُّنا على دراية بأن القوانين والشرائع الخُلُقية لا تحوي إلا جانبًا من استعداداتنا الخُلُقية؛ ولا ينعكس فيها إلا جانب وحسب من سلوكنا الخُلُقي. فهنالك مواقف نسلك فيها سلوكًا خُلُقيًّا (ونعلم ذلك)، رغم أن سلوكنا لا تبرِّره أية شريعة خُلُقية. إن معرفتنا بوجود صنوف لا حصر لها من الاستعدادات الخُلُقية وأشكال عديدة من السلوك الخُلُقي لا تبرِّرها أية وصية خُلُقية لهي نتيجة من نتائج حساسيتنا الخُلُقية المبطونة في ذواتنا الداخلية، والتي تشكِّل واحدة من صفات كياننا. وأولئك الذين لا يمتلكون هذه الحساسية، ولا يستطيعون التمييز بين الخير والشر، بشرٌ كسيحون جذريًّا، وغالبًا ما ينتهون إلى الإجرام. وبمقدار ما يقلِّص المجتمع التكنولوجي حساسيتنا الخُلُقية، فهو مذنب باقترافه جريمة لا تُغتفَر.

إن الأهمية الفائقة للقيم، وخاصيَّتها المقدسة بمعنى من المعاني، تتفرع من كونها تلخص وتتوِّج سمات الوجود البشري التي تصبح الحياة الإنسانية من خلالها نورًا، وتصير عبربيولوجية trans-biological، تصير إلهية. وإن عيش ملء الحياة لهو المشاركة في هذا النور وفي هذه الألوهية. غير أن هذا النور وهذه الألوهية معطيان لنا بالقوَّة. وتحقيق هذه الإمكانية سيرورة عسيرة وشائكة، تبدو متعذرة أحيانًا. لقد كاد يكون من المستحيل على التطور أن يحقق الإنسان، لكنه حقَّقه؛ ويكاد يبدو من المتعذر علينا تحقيق الألوهية الكامنة فينا، لكننا سنحقِّقها.

الإنسان الإيكولوجي مخلوق التطور: فهو يظهر عند عطفة معينة من السيرورة التطورية البشرية (ولنا أن نضيف: عند عطفة مائجة إلى حدٍّ ما)، ولسوف يختفي عند عطفة أخرى حين يحقق التطور (من خلالنا) المزيد من تجاوز ذاته. التطور يتواصل – إلى ما لا نهاية؛ وهو يغيِّر أشكاله وأشواقه؛ ويغيِّر معها الشرط البشري. ليس ثمة مطلقات في التطور؛ فما ثمَّ إلا دفق متواصل يتجاوز ذاته.

3. الإنسان الإيكولوجي والاحتفال بالحياة

لدينا في مخزوننا إرث الحياة برمَّته: الحياة متفتحةً، ناميةً، ومنبثقةً في أشكال جديدة. وإنْ نحن إلا شكل من أشكال الحياة. ونحن على وعي بفرادتنا وتفوقنا على أشكال الحياة الأخرى. لكن هذا التفوق ليس تفوقنا نحن بقدر ما هو تفوُّق الطبيعة، تفوُّق الحياة نفسها، بقدرتها على التفتح عن الوعي الذاتي وقدرتها على كتابة الشعر – من خلالنا.

لقد طورت الحياة هذا التنوع الخارق من الأشكال، لا لكي يفنيها نوعٌ واحد، وقد ثَمِلَ بسلطانه، ومدنيةٌ لا تفتأ تمضي رأسًا على عقب في نموِّها الوحيد الجانب. فالحياة أقوى، وأشد تحملاً، وأوسع حيلةً، وأعظم إعجازًا من حذق واحد من أنواعها وإعجازه. أومن بأن الحياة ستنتصر على الرغم منا، على الرغم من رغبة مدنيَّتنا في الموت.

سوف تجد الحياة مخرجًا لاستخدامنا استخدامًا حاذقًا لتحقيق غاياتها. فالحياة فينا سوف تبدِّل، عاجلاً أم آجلاً، تلك البُنى المدمِّرة التي لا تهدد المجتمعات البشرية وحسب، بل إرث تطوري أوسع. إن غريزة البقاء فينا، أو عبقرية الحياة فينا – حتى نعبِّر بصورة أعم – سوف تجعلنا، على نحو غير مباشر وحاذق، لكي تؤكد على ذاتها وتضمن ديمومتها، نعيد تصميم المؤسَّسات الاجتماعية المتنوعة غير المؤتلفة في أيامنا هذه، ونتخلَّى عن أشد ممارساتنا طفيلية، وننزل عن العديد من متطلَّباتنا. ولسوف نبقى لأن الحياة ستبقى، لأن الحياة أقوى وأشد تحملاً من أيٍّ من أجناسها. وهذا ليس تعبيرًا عن تفاؤل أعمى بمستقبل الإنسان، ولا هو إعلان عن نبل الإنسان وطيبته القصوى، بل بالأحرى تعبير عن التفاؤل بمستقبل الحياة. فالحياة ستحرس مقتنياتها بحمايتنا حتى من أنفسنا. وهناك ما يكفي من القدرة المبدعة والعبقرية، لا لشيء إلا للقيام بذلك. أما إذا أصرَّ أحدهم على أن هذا التصور عن الحياة لا يفتر ويتفتح، يتحول ويبدع، ويقترح بأن الحياة هي الله، فلن نتبرَّم كثيرًا.

يمكن لنا أن نفكر في الحياة كمجرد كيمياء؛ ويمكن لنا أن نفكر في الكيمياء كمجرد فيزياء. وبالتالي، نستطيع أن نفكر في الحياة كمجرد تفاعلات آلاتية بين أجسام فيزيائية وجزيئات كيميائية. وبذلك نكون "علميين" وننصاع بوضوح لمعايير العقلانية الآلاتية. فهل سيلامس هذا التفكير العلمي الحياة كما نحياها؟ يمكن لنا، باختصار، أن نرخِّص معنى الحياة البشرية ونسيء إليه بترجمته إلى حِِواءات فيزيائية–كيميائية. غير أننا لا نستطيع أن نتهرب من الشعور بأن هذا بَخْس لمعنى الحياة.

وبسبب هذه المقدرات الإبداعية الخارقة التي تلامس الإعجاز، يمكن للحياة أن تُدعى "إلهية". بيد أن القول بذلك ليس دعوة إلى العودة إلى الديانات النقلية. ومع ذلك فهناك سمات من الديانات النقلية تضيف شيئًا ذا مغزى إلى جوهر الإنسان، وينجم عنها، في حال نبذها أو تجاهُلها، أثرٌ شالٌّ على حياة الإنسان. فمن دون العبادة ينزوي الإنسان ويتقلَّص. فإذا لم تتعبد لشيء فلست بشيء.

ثمة معالم عديدة لنهضة روحية في أماكن متعددة، وبأشكال متعددة. فبعد عقود من القلق الوجودي، القائم على فلسفة عدمية يهيم فيها الإنسان على غير هدى في كون لا معنى له، قُسَيْمًا وحيدًا حتى اليأس، بدأنا ننظر إلى ظاهرة الإنسان نظرة جديدة.

ولئن أفصحت الديانات النقلية عن بُنى حاجة الإنسان إلى التعبُّد لمُثُل أوسع منه، مرارًا ما يتخلَّل هذه البنى اللبسُ وتشوِّهها الممارسةُ والشعائر. على أن التشوهات والالتباسات ينبغي ألا تحجب عن أنظارنا أن الوظيفة الرئيسة للبُنى الدينية هي الإتيان بإطار للمُثُل الملهِمة والداعمة لحياتنا.

إننا نسبغ على آلهتنا أجلَّ الصفات التي نرغب في اكتسابها، ثم نصنع شيئًا من أنفسنا بمضاهاة هذه الصفات: كبشر وككائنات روحية. إن بشريتنا نتاج لعَكْسِنا في حيواتنا للصفات التي أسبغناها على آلهتنا. ولم يكن التحويل الرمزي للواقع أقل مغزى في عروج الإنسان المُتَأنْسِن من اختراع الأدوات واللغة. وإن دور الدين في هذا التحول الرمزي لم يضاهِه دورُ آخر: فالدين يحوِّل الواقع بما يرمي إلى جعل الإنسان غير أناني وغيريًّا؛ إنه يلهمه مُثُلاً متعالية تساعده على العيش ضمن الأسرة البشرية الواحدة، وتعينه على النهوض للمصالحة مع نفسه. وإن هذه لَمِنَ السمات الرفيعة والمنجية للأديان النقلية.

الدين، في مآل الأمر، أداة في بحث الإنسان عن هويته، عن تكامله، في صراعه الأليم مع نفسه لبلوغ إنسانيته وروحانيته وصونهما. وقد أبدعت الحياة ترسانة من الوسائل والحيل لمؤازرة ذاتها وديمومتها. فعلى مستوى الوعي والثقافة البشريين، ابتكرت الفن والدين كأداتين لصون أسمى منجزاتها. والفن – واللغة حتى – هما، من منظور أوسع، أداتان من أدوات الحياة المفصحة عن ذاتها.

غير أننا يجب ألا نبالغ في الانفعال بالسمات الثانوية للدين أو للفن أو للُّغة؛ إنما علينا، على وجه التخصيص، ألا نحصر انتباهنا في سماتها المَرَضية، بل أن ننظر إليها كأوعية للإفصاح عن الحياة بعامة وصقلها.

حين تُتَصوَّر العبادة والدين كأداتين لاكتمال الإنسان، فإنهما يضطلعان بوظيفتين إيجابيتين. فإن اغترارنا بمثال التقدم المادي أنسانا السمات المنجية العديدة للدين النقلي. لقد أصاب إفريبيدس إذ قال:

من يمتثل للضرورة على الوجه الصحيح،

فإننا نعده بارعًا وحكيمًا في الأمور الإلهية.

لقد ركَّز المفكرون الحديثون، من أمثال نيتشه وماركس وإنجلز والماركسيين والعديد غيرهم من أتباع المذهب الإنساني، بمختلف تسمياتهم في يومنا هذا، على الوظائف الثانوية والسلبية للدين وحدها. إنهم، بإنكارهم للدين، مرارًا ما قد تنكروا للإرث الروحي للإنسانية. وفي محاربتهم للرسوم الأخيرة الباقية من الدين النقلي – المسيحية على وجه الخصوص – قلَّصوا، من حيث لا يدرون، معنى الوجود الإنساني بإرجاعه إلى النشاط الاقتصادي وحده.

4. الحياة كشكل من أشكال المعرفة

هناك خزان هائل من المعرفة فينا لأننا أحياء ولأننا مستودع بديع للحياة. ونحن مشبعون إشباعًا موصولاً بإرثنا التطوري، وإننا لنستخدم أحيانًا المعرفة المخزونة فينا استخدامًا هو من الحذق والابتكار بحيث لا نستطيع فهمها. أي أننا لا نستطيع فهمـ"ها" عبر المقولات التي تجيزها المعرفة المقبولة. ومع ذلك، فنحن، في أعماق سرائرنا، نفهمها. على إبستمولوجيا الحياة أن تُبتكَر. أما في الوقت الحاضر فليست لدينا إلا إبستمولوجيات تهتم بالدعامات المجردة ليس إلا.

من الأيسر علينا التسليم بأن الحياة معرفة، وبأن الحياة والمعرفة متصلتان إحداهما بالأخرى، من تعليل الحياة. وإن عُدَّتنا لفهم إبستمولوجيا الحياة فينا والحياة من حولنا ناقصة لأن فهمنا قد أُشرِطَ وتعيَّن بالفهم المجرد، بالفهم الموضوعي، بالفهم العلمي. والفهم الموضوعي جزء من الفهم بعامة؛ إذ إن الطبيعة أنعمت علينا بعقول، من خواصها القدرة على المَوْضَعَة objectivization. والتجريد abstraction، متصوَّرًا كمَلَكة بشرية، ليس شذوذًا فاحشًا من شذوذات العقل البشري؛ إنما هو واحد من طُرُق عمل الحياة. لكن ثمة، بالإضافة إلى هذه السمة، سمات أخرى للفهم تتطلب التعاطف باعتباره طريقة عملها. ونحن نعاني صعوبة أقل في استعمال التعاطف ككيفية من كيفيات الفهم مما نعاني في تبريره في منظومتنا المعرفية. نحن نفهم بواسطة التعاطف، لكننا لا نستطيع أن نفسِّره بسهولة عندما نُحَضُّ على ذلك.

مختبر العالم محتوى فينا جميعًا. كيمياء الكوسموس برمَّته تسري فيك. سلاسل الطاقة تتحول إلى حياة. فكيف يُتَّفَق للطاقة أن تتحول إلى حياة؟ غرامان من الطاقة يتحولان إلى غرام من الحياة؟ ما هي الطاقة التي تصير حياةً؟ ثم تصير وعيًا؟ أو دونك العلاقة بين الكيمياء والوعي – كلنا يعلم أنها موجودة. فإذا منعنا الأكسجين عن المخ، ينجم عن ذلك غياب الوعي. لكن هذا ليس إلا وجهًا ضئيلاً من وجوه المسألة، من وجوه ما يجري. فعلينا أن ننقِّب في الطبقات العارفة من تطورنا!

مرارًا ما نلجأ إلى المعرفة المخزونة في طبقات تطورنا، وبين آونة وأخرى، نصبح على وعي بها أيضًا. لغة الجسد، لغة الجلد، لغة العينين – كلٌّ منها يملك قواعد نَحْوِه وصَرْفِه الباطنة. فماذا ستكون عليه حياتنا من دون تلك اللغات؟ حين تلتقي عيناكَ بعيني أعرف توًّا مَن أنت، حتى إذا لم أستطع أن أعبِّر عن ذلك، إنْ لك أو لنفسي. أسير في حياتي متجنبًا أولئك الذين حذَّرتني عيناي منهم، وأطرح شبكة غير مرئية فوق أولئك الذين وافقتا عليهم. لدي معرفة في عيني – وأعرف ذلك. فحين أنظر في عينيك، تصبح كتابًا مفتوحًا، أقرأ فيه الصور التي نحتتْها الحياة كلَّها.

يمكن لي أن أفهمك عبر جلدي. يمكن لي أن ألتقط ارتعاشة الحياة فيك عبر التماع عينيك. يمكن لي أن أغمر نفسي في كيانك، لأن كياني وكيانك جُبلا بالقوى التطورية عينها، وهما يتشاركان في إرث الحياة عينه. عبر جلدي وأنسجتي، عبر تناغم حواسي وعقلي، أستطيع أن أولِّف نفسي على الاستماع إليك وإليَّ كما إلى موسيقى التطور. إن جسمي وجلدي وعيناي هي اللوامس التي تتلَّمس الحياة عبرها طريقها، والتي نوالِف أنفسنا بها على موسيقى التطور الذي نشكل جزءًا منه. العقلانية هي الإصغاء إلى موسيقى الأفلاك وفهمها. والعقلانية الحق هي الجمع والمصالحة بين عقلانية الدماغ وعقلانية الحياة. فهاهنا تكمن الحكمة التي تتعالى عن البراعة الفكرية المجردة.

هل في شاعرية منطوقي ما ينفي عن كلماتي معناها؟ وهل أمور الجمال خلو من المعنى لأنها لا تنصاع للبرهان التجريبي؟ إن وظيفة الجمال، على العكس، لهي مؤازرة السمات الجمالية، وبالتالي البيولوجية، للحياة. إن وظيفة الشعر هي إفصاح رمزي مكثَّف عن الحياة. وستجري، على المدى الطويل، أبحاث حول إبستمولوجيا الحياة وكيفيات الفهم التعاطفية، وستدوَّن في مقالات خطابية. ولعله يأتي زمان نستغني فيه عن المقالات الخطابية، وعن عكازي المنطق، لأن فهمنا سيكون أيسر بكثير وأكثر مباشرةً. أما في الوقت الحاضر، فنحن ننمِّي هذه الإبستمولوجيا وهذه الكيفية من كيفيات الفهم ونستخدمهما فرديًّا، وفي أحيان كثيرة تمرُّدًا على الأوامر الصريحة للعقل الخطابي discursive reason.

تعني إبستمولوجيا الحياة[7] رسم خارطة مناطق ملَكاتنا الباطنة ومصادر معرفتنا، بما فيها الملَكات ما تحت الواعية subconscious، والحدسية intuitive، والحسية الفائقة extrasensory، التي تشارك في أفعال إدراكنا وفهمنا، والتي ترشدنا عبر متاهة العيش الفعلي، التي نعيها، وإنْ وعيًا مبهمًا (وهذا الوعي المبهم يجب أن يُفصَح عنه كجزء من إبستمولوجيا الحياة)، والتي، باختصار، تعيِّن تعيينًا راسخًا وفريدًا كيفية حياتنا على مختلف مستويات الوجود، كما وتعيِّن طبيعة تفاعلاتنا مع كيفيات الوجود الأخرى. علينا أن نكون على وعي بأن هذا كلَّه يحدث فيما يتعدى حدود ومعايير إبستمولوجياتنا الحالية الموجَّهة تجريبيًّا والخطابية. إن أول الشروط المسبقة لتوطيد إبستمولوجيا للحياة ملائمة هو الإقرار بأن سيرورة الحياة هي سيرورة معرفة، وبأن معرفة الدماغ لا يمكن أن تنفصل عن المعرفة المحتواة في خلايانا الأولية، وبأن المعرفة المجردة ما هي إلا أحد طرفَي الطيف الذي طرفه الآخر هو معرفة الأميبات التي نشأنا عنها والتي مازلنا معها (كما ومع كلِّ شيء آخر على السلَّم التطوري) في العلاقة الخلوية–الدموية، ونحن نتنفس وننبض بإيقاع الحياة عينه. وإني لأدعو أشكال المعرفة كافة التي نشترك فيها مع أشكال الحياة الأخرى، وأشكال المعرفة ما قبل الخطابية prediscursive والعبرخطابية transdiscursive، المخزونة في طبقات كياننا، معرفة بيولوجية.

وسيتعين على إبستمولوجيا الحياة أن تحلَّ محلَّ الإبستمولوجيا الراهنة، المتمركزة حول الجماد والميت. فقد فزنا الآن بمنظور للتربية جديد: فالسيرورة التي تسهم في إبداع الإنسان الإيكولوجي، والتي تشتمل على إبستمولوجيا الحياة وتغذيها، هي التربية الحق.

وإن أسلافي الفلاسفة في القرن العشرين هم وايتهد وتلار دو شاردان وهيدغِّر. وفي الجانب الآخر يقف المنقول التحليلي، مع رسِّل وكَرْنَب وأوستن، الذي كان مسعاه هو صقل اللغة على حساب فهمنا للقضايا الفلسفية الأوسع. وهذا المنقول التحليلي هو الذي ما يزال مسيطرًا على الفلسفة الأكاديمية الراهنة، وهو الذي تناهضه الفلسفة الإيكولوجية، وتسعى إلى الإطاحة به والحلول محلَّه. إن إبستمولوجيا الحياة إفصاح عن الفلسفة الإيكولوجية. ومن عقائد الفلسفة الإيكولوجية أنها ملتزمة بالحياة. والالتزام بالحياة يوجِب عليها فهم الحياة، الأمر الذي يعني، في المآل، أنها يجب أن تحتفل بالحياة، ليس في أيِّ ضرب من ضروب الطرب الخارجي السهل، بل في وعي عميق، يكاد يكون ميتافيزيائيًّا، بطبيعة الحياة الرائعةِ السريةِ والتعقيد.

إن البيئة الصنعية من ابتكارات العبقرية العلمية للقرن العشرين. لكننا نهرب دومًا عائدين إلى الطبيعة. فالبيئة الطبيعية هي التي تشكِّل قِوامنا. نحن نعاني ضيم البيئة الصنعية (وإنْ على نحو غير واعٍ) لأن الحياة هناك منطفئة جذوتُها. ونحن في حاجة إلى الحياة من حولنا لكي نشعر بأننا أحياء.

وإننا لنجد وصفًا جميلاً للطبيعة اللواصة للحياة بإزاء العلم في المقطع الآتي لألبرت جِنْتْ جيورجي، حامل جائزة نوبل:

في تفتيشي عن سرِّ الحياة، بدأت بحثي في علم النسج. وإذ لم تشبعني المعلومات التي يمكن للمورفولوجيا الخلوية أن تمنحني إياها عن الحياة، تحولتُ عنها إلى الفسيولوجيا. وإذ وجدت الفسيولوجيا شديدة التعقيد، تنطَّست لعلم الأدوية. وإذ وجدت الوضع شديد التعقيد كذلك، توجَّهت نحو علم الجراثيم. لكن الجراثيم حتى كانت شديدة التعقيد؛ لذا فقد انحدرت إلى المستوى الجزيئي، دارسًا الكيمياء والكيمياء الفيزيائية. وبعد عمل دام عشرين سنة، توصلت إلى الاستنتاج بأننا كي نفهم الحياة يجب أن ننحدر إلى المستوى الالكتروني وإلى عالم الميكانيكا الموجية. لكن الالكترونات مجرد الكترونات، ولا حياة فيها مطلقًا. يقينًا أنني أضعت الحياة في الطريق؛ لقد تملَّصتْ من بين أصابعي.

العلم اليوم هو السنَّة الراسخة، وهو يملي على غالبية المتعلِّمين دعمه – لا لشيء إلا لأن هذه الغالبية المتعلِّمة قد مرَّتْ عبر مطحنة التربية العلميةِ التوجيه، وأمست ببساطة مشروطة، إنْ لم نقل مغسولة الدماغ فعلاً، بمقتضيات الفهم العلمي. غير أن التقدم الحق لا يتم على يد الأغلبيات الصاخبة والمباهية والمتطاولة، علمية أو غير علمية، إنما على يد أقليات صغيرة مثابرة. فمنذ أقدم الأزمنة، حين بدأت الأميبات الأولى تتكاثر وتولِّد متعضِّيات أعقد، مابرحت قصة الحياة قصة أقليات حائدة، طوَّرتْ، بعدم انصياعها لنظام الأشياء المستتب، خصائص ووظائف جديدة. لقد كان التطور على السلَّم التطوري يتم دومًا بفضل أقليات ضئيلة تشق طريقها الخاص وئيدةً لتنتج طفرات جديدة، وفي المآل، أشكال حياة جديدة: وراثية، بيولوجية، ثقافية، فكرية، وروحية. إن مُعين شاعرية الحياة لا ينضب. الحياة ليست موضوعية. الحياة ضارية مفترسة. الحياة متجاوزة للذات. وإن ضراوة شدة نبض الحياة لهي الإيقاع الوحيد الحقيق بالاستماع إليه.

أما كيف لهذه الأقلية، التي تشكِّك في كلِّية قدرة وفي كلِّية علم التقدم العلمي–التكنولوجي، أن تقودنا إلى حياة راشدة وإلى كيفيات بديلة من التفاعل مع الطبيعة ومع الكائنات البشرية الأخرى، فهذا لا يزال سؤالاً مفتوحًا. لقد صرَّح مارتن هيدغِّر، في أواخر حياته، وهو في حالة من القنوط التام، بأن الله وحده قادر على إنقاذنا. وخياره هذا ما كان بالخيار الجديد في إحالته مسؤوليتنا على عوامل فوق بشرية. غير أننا لسنا في حاجة إلى معجزة؛ بل نحن في حاجة إلى إرادة متضافرة على تغيير قَدَرِنا. نحن في حاجة إلى التعاون مع الحياة نفسها للتغلب على البثور القبيحة التي أوجدتْها مدنيَّتُنا التكنولوجية – زعمًا من أجل المزيد من التقدم. وهذه البثور ليست الأولى من نوعها. فقد زهقت بثور مماثلة في الماضي، إنما ليس بالعطالة وحدها وعبر الافتراض الكسول بأن «عبقرية الحياة ستُنجينا». إذ إن حكمتنا وعزيمتنا جزء من عبقرية الحياة.

الحياة ستبقى لأنها أقوى من أية من تجلٍّ من تجلِّياتها بعينه. وإذا هي أفصحت عن نفسها في الوعي وفي الإشراق، اللذين أنيط بنا، نحن البشر، حراستهما والقيام عليهما في الوقت الراهن، لن تجيز لنفسها بأن تُدفَع نحو دركات أدنى. ففي الحياة ما هو أكثر من المادة العضوية وسيروراتها الحية. وإبداع الطبيعة جزء من طريقة عملها. وعبقرية الطبيعة سمة أصلية من سمات نموِّها. فما من متعضِّية أو شكل من أشكال الحياة يُحجِم عن الإنجازات والمقدرات التي طوَّرها في سياق تطوره. وهذا يصحُّ أيضًا على الحياة بعامة. فهي ستصون إبداعها وعبقريتها لأنهما أثمن مقتنياتها، وهما ملازمان لاشتراطات وجودها.

إن حذق الحياة لانهائي، لأن الحذق من الحيل التي يُكفَل من خلالها إبداع الحياة ومسيرتها قُدُمًا إلى الأمام. الحياة تستخدمنا وغيرنا من أبنائها لتُديم نفسها. وحتى إذا انطوى هذا على تصوير بشري anthropomorphizing لها فهو لا يمس جوهر المسألة. وإذا ما دُعيَتْ هذه المقاربة ميتافيزياءً، فليكن. فالحياة بالتأكيد تتعدى الفيزياء. وهذا بالضبط ما يعنيه مصطلح ميتافيزياء – "ما بعد الفيزياء". وإذا أزيلت منَّا عبقريةُ الحياة، ماذا يتبقَّى منا؟ حمامة سكينِّرية[8]؟ الحمامة من عجائب إبداع الحياة أيضًا. وفي فهم الحمامة وحده قبول لميتافيزياء الحياة.

الحياة والتطور واحد. فلفهم الحياة علينا أن نفهم التطور. ولفهم التطور علينا أن نفهم الحياة. ومعرفة التطور رأس الحكمة. والانصياع للتطور ولدَفَق الحياة ليس خنوعًا ولا عبودية، بل إشراق وفهم أعمق للشرط البشري. وما نحن في فهمنا لكنوز الحياة ومقدراتها اللانهائية إلا أطفال تحبو.

ولسوف نتعلَّم كيف نتعامل وحذق تفتح الحياة لأن الحياة ستستعملنا لهذه الغاية. ولسوف نتعلم إبستمولوجيا الحياة. سوف نتعلم المسؤولية المروعة المتمثلة في قبول أنفسنا كأجزاء من الله في عملية الصيرورة. وإنه لَحادث مَجيد أن يخرج السطوع من الحلكة. علينا ألا نندب واقع أننا أداة للحياة في عملية اكتمالها وإدامتها لنفسها من خلالنا – فما لنا من خيار آخر. علينا، فوق كلِّ شيء، أن نحاول فهم أن هذا من طبيعة الأشياء. فقد اتفق لنا ببساطة أن نولد في هذا الكون بعينه الذي تمخَّض عن الحياة بخصائصها بعينها.

الحياة ليست كاملة، والتطور حافل بالأغلاط وبالبدايات غير الموفقة. وعدم تطابُق دورة حياتنا مع متطلَّبات الحياة على المدى الطويل، وولادتنا في مدنية محكوم عليها بالموت، يجب ألا يقلقانا أكثر مما ينبغي: فمثلنا كمثل الأوراق المتساقطة، سوف نغذي الأرض التي ستنهض بأشكال للحياة أكثر ناقلية، وبكائنات بشرية أعقل، وبمجتمعات أكثر تآزرًا. ذلك أن الحياة ستبقى؛ وفيها ستبقى أجزاءٌ منَّا وسمات. فكما تقول الأوبنشاد:[9]

أنعمي علينا، أيتها الحياة، بصورتك المستترة، تلك التي في الصوت، في العين، وفي الأذن، والحيَّة في العقل. لا تتركينا.

وكالأم تحمي طفلها، احمينا، أيتها الحياة: أعطينا المجد وأعطينا الحكمة.

5. الحكمة والتكنولوجيا ومصير الإنسان

لقد استهوى العجلُ الذهبي الخيالَ البشري آلاف السنين. ولقد اتَّخذ (في التاريخ) مختلف الأشكال والتجلِّيات، كما اتَّخذ مؤخرًا صورة الوفرة التكنولوجية. فحين يعني السعيُ إلى تلبية الحاجات المادية تدميرَ الدروب العليا المؤدية إلى حياة أكثر تفتُّحًا، وحين يعني إشباعُ المعدة تجويعَ الروح، إذ ذاك فإن السعي إلى تلبية الحاجات المادية ليس أهلاً للنهوض له.

ولقد تفَّهتْ التكنولوجيا مدى المصير البشري والعالم من حولنا، كما أفقرتنا بتوجيهنا توجيهًا منهجيًّا نحو أهداف تافهة بعيدًا عن مُثُلنا الإنسانية العليا: الرحمة، المحبة، الحكمة، السلام الداخلي. وحين نتحدث عن التكنولوجيا والمصير البشري لا يمكن لنا تجنب الكلام على المُثُل الإنسانية العليا؛ فمن خلالها يتحقق المصير البشري. إذ ليس عالمنا الداخلي وحده هو الذي تُفِّه بِهَيْل الأوَيْلات السطحية، إنما لغتنا كذلك باتت من الفقر والتشوُّه، إلى حدِّ أننا بتنا نجد صعوبة في التحدث عن المحبة والرحمة والحكمة ضمن الإطار المرجعي التكنولوجي. ولسوف يبقى العهد التكنولوجي ماثلاً في التاريخ مثالاً على فطنة العقل البشري العظيمة؛ الفطنة التي كانت من العظمة إلى حدِّ أنها كسفت رؤية الناس للآفاق الإنسانية الأوسع. ونحن ما نزال أقرب إلى هذا العهد من أن نستطيع أن ندركه تاريخيًّا. لكنه معبر للتاريخ ليس إلا. متميز وفريد؟ أجل. لكن جميع العهود التي خلَّفتْ أثرًا على التطور الإنساني كانت متميزة وفريدة.

لقد كان العهد التكنولوجي اختبارًا عظيمًا وباهرًا، ما في ذلك ريب. وكان حسبنا أن نرى إلى أين ستقودنا جادَّة معينة للنمو، وإلى أيِّ حدٍّ ستساعدنا جملة محدَّدة من الأدوات (مشتقة من العلم الكمِّي والتكنولوجيا الفائقة القدرة) في مسعانا إلى المعنى. لقد ورثنا رؤية تكنولوجية للعالم، وعملنا بها بنيَّة طيبة وآمال عِِراض. وبمقدار ما أُحبِطَتْ آمالُنا ولم يتحقق الوعد بحياة طيبة، فمن العقلاني والضروري لنا أن نبحر في رحلة جديدة، وأن نفتش عن رؤية جديدة، وأن نسير على درب آخر.

إن العهد التكنولوجي، ضمن المنظور التطوري، لا طائل في التصفيق له ولا في استنكاره. فضمن مدى المصير البشري، ينبغي النظر إلى العهد التكنولوجي باعتباره اختبارًا: اختبار ارتياد جادَّة أخرى مفتوحة أمام النوع البشري، بحيث نستطيع أن نرى ما يقع في نهايتها.

لقد كان العهد التكنولوجي، منظورًا إليه على السلَّم التطوري، جملة خاصة من التنويعات، مدارًا صغيرًا معينًا ضمن مدار أكبر. وبالفعل فقد اتضح أنه مدار صغير أكثر من كونه أيَّ شيء آخر؛ دورًا صغيرًا بالمعنى الفلكي للمصطلح – حركة غريبة من حركات كوكب خرج عن مساره ليعود إليه فيما بعد.

فما هو المسار الحقيقي للمصير البشري؟ هو العودة إلى تلك المُثُل العليا التي وحدها تجعلنا بشرًا، التي تطيل قامتنا، ونعزِّز من خلالها التطور بعامة. إن التطور هو القوة التي ما بعدها قوة. التطور هو الكل، وكلُّ شيء يحدث ضمن سياقه. لا بل إن التطور هو السياق الأقصى. فلقد صنع أشكاله وهيئاته، فطنته وغايته، من خلال الأميبات والأسماك، الفيلة والنمور؛ ومازال يعمل من خلالنا ليفصح عن ذاته أكثر فأكثر.

وإن لمن السخف، بالفعل، أن يكون التطور قد أبدع كلَّ أمجاده حتى يصير بمستطاع الإنسان أن يُتوَّج ذروةً للوجود ككل. ولا يقل عن ذلك حماقةً الافتراض بأن التطور قد بلغ أقصاه واستنفد الآن نفسه، ولم يعد في وسعه أن يمضي أبعد من ذلك. وإنه لجزء من الجهالة الأنانية للعديد من المجتمعات أن تفترض بأنها الشوط النهائي للتاريخ. لكن هذا ما كان عليه فعلاً افتراضُ المجتمع التكنولوجي. بيد أن منظورًا تطوريًّا حقًّا ينبغي أن يعلِّمنا شيئًا من التواضع.

التطور يتواصل؛ ومعه نمضي: متجاوزين العصر البرونزي، متجاوزين العصر الحديدي، متجاوزين العصر التكنولوجي. فما هو، إذن، الشوط القادم في الإفصاح عن الشرط البشري؟

إن الإنسان الإيكولوجي هو الذي يجب أن نتطلَّع إليه لهدايتنا وتوجيهنا في المستقبل. فالإنسان الإيكولوجي يعترف بالطبيعة الفادية والضرورية للألم والرحمة والمحبة والحكمة. والإنسان الإيكولوجي ينظر في الشرط البشري باعتباره قابلاً للتعريف به بأربعة مكوِّنات على الأقل:

الرحمة

ßßß

الألم ×

â

â

â

×

?

×

â

â

â

× الحكمة

ßßß

المحبة

الألم جزء ضروري من كلا الرحمة والمحبة. فمَن لم يتألم قط لا يعرف معنى الرحمة؛ ولا في وسعه أن يعرف معنى المحبة. لذا يجب عدم تجنب الألم بأيِّ ثمن، كما يؤكد البوذا والبوذيون؛ على الألم أن يُقتبَل اقتبالاً فرحًا كطريقة عمل لوجودنا وجزء أساسي منه: فرحًا بمعنى قبول ما هو نافع لنا في مآل الأمر. أما الألم الزائف فينبغي أن تُستأصَل شأفتُه – حقًّا ينبغي. وعلى الألم أن يُخفَّف كلما أمكن ذلك. ومع ذلك فإننا لا نتعلَّم المغزى من الشرط البشري ومعنى حياتنا إلا من خلال الألم.

لقد أوجد التطور نفسه أشكالاً ومخلوقات لا نهاية لها، وقام بذلك من خلال التوتر وما يرافقه من ألم. قد يختلف الأمر في عالم المُثُل ذي الأشكال الرياضية الصرف؛ أما في هذا العالم، المحدود الحادث، فإن كلَّ إبداع وكلَّ إفصاح يحدث كنتيجة لكسر أشكال قديمة: عبر الشدة وما يرافقها من ألم. فالألم كيفية وجود في هذا العالم.

على الرحمة أن تنمَّى لأنها ثمرة رفيعة من ثمار الألم؛ الرحمة نتيجة فهم أعمق بأن جميع المخلوقات تتألم أيضًا، وليس ثَمَّ ما هو استثنائي في شرطنا نحن. لكن الرحمة يجب ألا تبلغ حدًّا من التجرُّد واللطافة بحيث تصير شكلاً من أشكال التنزيه التام عن كلِّ شيء، لأنها إذ ذاك تجعل المحبة متعذرة. فالمحبة تشبيه وتعلُّق. والمحبة التي ليست تشبيهًا مقولة فكرية مجرَّدة، وليست المحبة كما يختبرها البشر. المحبة الحق تعلُّق من العمق والإيثار بحيث يكون مجلبة للفرح للَّذين يضحون بنفوسهم في سبيل موضوع محبتهم. أما الرحمة القصية والمنزهة تمامًا عن كلِّ شيء بشري فقد تكون مسعى لا محبة فيه. لذا فإن على الرحمة والمحبة أن توازِن إحداهما الأخرى. فللمحبة أخطارها أيضًا: فقد تصبح شديدة الغيرة من خلال التعلق، بحيث تنقلب إلى دافع أناني لامتلاك الغرض أو الشخص الذي نحب. بذا يجب على الرحمة ألا تصبح سعيًا لا محبة فيه إلى التنزيه التام؛ وعليها ألا تصبح تعلقًا استحواذيًّا لامتلاك ما نحب.

أما الحكمة، فهي ثمرتها جميعًا: ثمرة الألم والرحمة والمحبة. كما أنها حيازة المعرفة السليمة أيضًا. إذ إن الحكمة هي المعرفة المستنيرة بالمحبة، المتدرِّعة بالرحمة، المطهَّرة بالألم. والشرط البشري الصحيح هو حياة في الحكمة، هي شكل من أشكال التناغم والتوازن؛ لكنه توازن ينبغي أن يعاد توطيده توطيدًا مستمرًّا. فالحكمة توازُن لكياننا حيال الكائنات البشرية الأخرى وحيال الكوسموس ككل. ولا حاجة لنا أن نتجنب مصطلحات من نحو "كوسموس" لأننا من مخلوقات الكوسموس، وإلى أن، وما لم نجد موضعنا فيه، فمن المستبعد أن نجد السلام في الداخل، وذلك الضرب من التوازن الذي ندعوه الحكمة.

ليست الحكمة امتلاك جملة من المبادئ الثابتة؛ وهي ليست، بالتالي، واجبة الوجود حصرًا في الأوبنشاد أو في الإنجيل، في البهغفدغيتا أو في القرآن الكريم، في العقيدة السرية[10] أو في الكوميديا الإلهية. إن كلاً من هذه النصوص العظيمة يمثل استجابة لمشكلات وشروط معينة؛ كلٌّ منها يمثل توازنًا، إنما لأنواع معينة من المشكلات، في وقائع تاريخية محددة. ومع جريان الزمن، تتغير الشروط والمشكلات والوقائع التاريخية. فالحكمة هي امتلاك المعرفة السليمة، إنما لحالة معطاة من حالات العالم، ولشروط محددة من شروط المجتمع، ولإفصاح معين عن الشرط البشري. وبمقدار ما تتغير حالة العالم، وبمقدار ما يقطع الإفصاح عن المعرفة من أشواط، و(بالتالي) بمقدار ما يتواصل الإفصاح عن الكائن البشري، وبمقدار ما ينصقل العقل البشري والحساسيات البشرية، لا يمكن لنا أن نعتنق بنية واحدة من بُنى الحكمة يصلح لكلِّ الأزمنة، بل علينا أن نفتش عن بنية جديدة، عن شكل مختلف من أشكال التوازن لكلِّ عهد. فالحكمة نتاج تطوري؛ وهي تغير بنيتها وتجلِّياتها بمرور الزمن. لا يمكن لك أن تنهل الحكمة من مناهل الآخرين. فإن مثل اكتساب الحكمة كمثل نحت الإنسان الباطن.

الحكمة، إذن، مقولة تاريخية، وليست جملة من الأشكال الدائمة، بل جملة من البُنى الدينامية، ينبغي إعادة بنائها، وإعادة صوغها، وإعادة تسويتها، وإعادة الإفصاح عنها، على الدوام. والحكمة التطورية هي فهم كيفية تغيُّر الشرط البشري عبر مئات، بل آلاف، بل دهور من السنين من عمر الزمن. وحده مثل هذا التصور عن الحكمة يمكن له أن يساعد الجنس البشري في رحلته التطورية.

فماذا بعد الحكمة؟ الإشراق والقداسة، اللذان يتعاليان عن كلَّ معرفة – باستثناء أنهما لا يتعاليان، لأنهما شكلان من أشكال الحكمة والمعرفة التي تشفي وتنير. فهل هذه الحالة وقف على القلة المختارة؟ جزمًا لا. لأن كلاً منَّا يمتلك أوليات هذا الإشراق وتلك القداسة. أما المختارون فيمتلكونها بدرجة عليا وبشكل مشعٍّ وجليِّ السطوع. ولكن حتى البوذا ويسوع لم يكونا دومًا مشعين منيرين. وفي زماننا كانت بعض الأرواح المتواضعة، مثل غاندي والأم تيريزا في كلكتَّا، منيرة ومشعَّة. فالعمالقة بين هؤلاء هم ممهِّدوا الدروب، وهم الآن استثناءات فريدة. أما في المستقبل فسوف يصبحون المعيار والنِّصاب بدرجة ما. كلُّ شيء طبيعي. الإشراق والقداسة طبيعيان. والكلُّ جزء من مواهب التطور الطبيعية، يخطُّ لنا دروبًا جديدة من خلالنا نحن، ومن خلال العمالقة.

يذهب بعضهم إلى أن أسمى صفات الشرط البشري، وخصوصًا الإشراق والقداسة، تُوهَب لنا من الخارج من الله أو من قوى عليا فائقة للطبيعة. لكن القوى الفائقة للطبيعة طبيعية. وإذا وجد بعضهم أن من دواعي السموِّ ومن الضروري استمداد تلك الصفات العليا من آلهة عبربشرية transhuman، فمن نحن لنحطم معتقداتهم؟ لكن هذه الصفات يمكن لها أن تُرى كصفات طبيعية، كصفات من صفات التطور المتطور، كإدراك لمسؤوليتنا فينا – المسؤولية التي هي الوعي المتنامي لِمَنْ نحن إياه، وما نحن عليه، وما نريد أن نصير إياه.

بذا لا يفتش الإنسان الإيكولوجي عن تبرير لما هو الأسمى والأرفع فينا (بما فيه ألوهيتنا – مظلمة كانت أم مشرقة)، في وجود ومودَّة الله أو أية قوى عليا أخرى. فالتطور هو الجواب: إنه القوة المتجاوزة والمحولِّة القصوى – ونحن رأس سهمها القائد.

ذلكم تصور للألوهية الطبيعية للإنسان. والألوهية الطبيعية لا تسلبنا شيئًا من كرامتنا. إنها وحسب تجعل وضعنا أصعب، لأنها تخبرنا أن ما ثَمَّ أحدًا يساعدنا غيرنا نحن. وبالفعل، فإننا يجب أن نساعد أنفسنا، لأن هذا هو قَدَرنا.

فكيف تساعدنا الحكمة التطورية على إطعام الفقراء؟ كيف تساعدنا على التغلب على التضخم والبطالة؟ كيف تساعدنا على التفريج عن الناس من الضغط الذي يعيشون تحت وطأته في ظلِّ المجتمع التكنولوجي؟ قبل كلِّ شيء، بجعلنا على وعي بأن الحكمة ليست واسطة لتوليد الحلول العاجلة. فالحلول العاجلة حلول مهدورة.

تخبرنا الحكمة التطورية بأن الزيجة العاجلة، والحبَّ العاجل، والحكمة العاجلة، والمجتمع العاجل، زيجةٌ مهدورة، وحبٌّ مهدور، وحكمةٌ مهدورة، ومجتمعٌ مهدور. فهلم ننمِّي، بدلاً من ذلك، مجتمعًا دائمًا وصبورًا على الشدائد، لأنه وحده يستطيع أن يكفل قوتنا ككائنات اجتماعية. هلم ننمِّي، بدلاً من ذلك، صلات إنسانية دائمة، لأنها وحدها تستطيع أن تحقِّقنا ككائنات إنسانية. فالتغير والحركة الدائمين إدمان يقود إلى دروب مهدورة.

تعلِّمنا الحكمة أن العديد من المشكلات والأمراض المزمنة التي نشهدها في أيامنا هذه – التضخم، تدهور بيئتنا الخارجية، إفراغ حياتنا الداخلية – كلها عواقب السعي سعيًا غير حكيم على سلَّم فائق الحد. فـالكرما السيئ يحتِّم على المدى الطويل إحداث عواقب سيئة.

يوجِّه الإنسان الإيكولوجي نفسه نحو الأسباب الجذرية، وليس نحو الأعراض. والإنسان الإيكولوجي ليس بإنسانٍ معجزة، بل هو إنسان يدرك بأن الحلول الدائمة لا يمكن أن تكون حلولاً عاجلة، بأن الطريق الصحيح قد يكون وعرًا وكؤودًا بعض الشيء، لكنه الطريق الوحيد الذي ينبغي السير عليه. والعمل الذي يجب القيام به هو، قبل كلِّ شيء، عمل إعادة بناء داخلية، كي نحقق شيئًا من التوازن، شيئًا من التناغم في الداخل، شيئًا من جلاء الرؤية، وإحساسًا بموضعنا في الكون الأكبر؛ أن نحصِّل، باختصار، شيئًا من الحكمة. عندئذٍ فقط نستطيع أن نمضي في إعادة بناء مُجدية للعالم الخارجي. فمن دون الحكمة سنكون أشبه بدون كيخوتي يصارع طواحين الهواء. لقد شُوِّهَ الشرط البشري وعُبِثَ به. وهو يتطلب ترميمه، وتطهيره، وإعطاءه فسحة جديدة من الأجَل وغاية جديدة.

سيفكر الكثيرون – لا بل سيصرون – على أنه على الرغم من أن التصور الإيكولوجي للإنسان جميل، ومرغوب إلى حدٍّ كبير، فإنه، للأسف، غير واقعي وغير عملي. إن رأيًا كهذا سيكون فعل تنازُل، وتعبيرًا عن نقص في إرادة تطويع الواقع على هيئة صور جديدة. فالتصورات الجديدة للإنسان جمعاء تبدأ حلمًا، رؤيا، أو يوطوبيا. ثم تصير واقعًا حين يدرك الرجال والنساء ذوو العزم والدأب جاذبيتها، ويحوِّلونها، بإرادتهم وشجاعتهم، إلى واقع. إن جميع الحقائق الإنسانية مصنوعة من نسيج الأحلام. وإن نسيج الأحلام المعمول بها على نحو مستمر في الحياة اليومية تصبح واقعًا ملموسًا وصلبًا كأشد ما يكون ذلك. الإنسان الاقتصادي نسيج أحلام (من نوع متدنٍّ نوعًا ما) يُعمَل به يوميًا. أما الإنسان الإيكولوجي فنسيج أحلام من نوع رفيع نوعًا ما، نستطيع أن نجعله واقعًا – على أن نعمل به.

إنِ الإنسان إلا تراب. لكنه تراب مشع. إنه التراب الذي يستطيع أن يبصر ترابًا ليس بمقدور أيِّ تراب سواه أن يراه. ومن إشعاعه، يبدع الإنسان–التراب صور الله – تلك التي، بدورها، تحوِّل التراب إلى تماثيل من رخام.

إنِ الإنسان إلا تراب، لكنه التراب البصير، التراب الحسَّاس. إنه التراب الذي يصنع منه التطورُ الفكر. والفكر يصيِّر التراب صورًا من الكمال.

إنِ الإنسان إلا تراب. لكنه تراب مفكِّر. وإنِ العقل إلا تراب، لكنه تراب عجائبي. والإنسان–التراب–العجائبي يبدع الكون على صورته – على صورة التراب المشع الذي يريد أن يغدو أكثر إشعاعًا.

*** *** ***

ترجمة: ديمتري أفييرينوس

تنضيد: هفال يوسف


[1] راجع بصفة خاصة كتابات كارل يونغ ومرشا إلياده وجوزف كامبل.

[2] راجع بصفة خاصة المخطوطات الفلسفية والاقتصادية للعام 1844 لماركس؛ عندما يتفكر المرء في المخطوطات يدرك أن مادتها بسيطة للغاية، وحتى ساذجة بعض الشيء.

[3] Jean-Paul Sartre, “Where I got it Wrong on Despair,” a conversation with Benny Levy, The Observer, London, April 20, 1980, p. 9.

[4] Op. cit., p. 9.

[5] نسبة إلى غوته وبليك ونيتشه. (م)

[6] See J.A. Wheeler, “The Universe as Home for Man,” American Scientist, Nov.-Dec. 1974; Fritjof Capra, The Tao of Physics, 1976.

[7] مع أن غريغوري بيتسون يلمِّح إلى إبستمولوجيا الحياة ويتكلَّم عليها في كتابه العقل والطبيعة (1979)، فإنه لا يأتي بمثل هذه الإبستمولوجيا. غير أن بعض أفكاره بنَّاء.

[8] نسبة إلى عالِم نفس السلوك الأمريكي ف. سكينِّر الذي أجرى تجاربه على الحمام وعمَّم النتائج التي توصَّل إليها على سائر الحيوان، بما فيه الإنسان. (م)

[9] The Upanishads (Prashna), Juan Mascaro translation, Penguin Classics, p. 70.

[10] أهم كتب المعلمة الثيوصوفية هيلينا ب. بلافاتسكايا. (م)

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

Editorial

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال يوسف وديمة عبّود