بالحبِّ كلُّ شيء لكم

تأمُّلات في معنى الوجود الأسمى

 

پاسكال تابت

 

في زمن امتلأ فيه قلبُ الإنسان بالحسد والكبرياء والمنافسة، فضاق إلى حدِّ أنه لم يبقَ يتسع للحب، وفي زمن لم يعد فيه الإنسانُ يعرف كيف يحب ولماذا يحب، أطلَّ علينا الأب جورج كرباج بكتابه بالحب كل شيء لكم.

لدى قراءة هذا الكتاب تنتابنا حيرة: أنقرأ كتابًا خطَّه كاتبُه في زمن كهذا وفي ناموس هذه الأرض وشريعتها؟ أم نقرأ كتابًا خُطَّ في اللازمنية، في سماء صافية، رائعة، جذابة، أمطرت حبًّا على ريشة الكاتب وأوراقه؟ أمام قدسية كلماته لا نستطيع إلا أن نعيش حالة حبٍّ كوني لامحدود. يُخرِجنا كتابُه من محدوديتنا، يرفعنا عن أرض اللاجمال والحبِّ الزائف والمصالح الشخصية الرخيصة العابرة، ليطير بنا إلى عالم جوهره الحب الذي به "كل شيء لنا".

كتاب الأب كرباج تأملات في مفهوم المحبة المسيحية. تعبيراته رقيقة، شفافة، واضحة. يجمع فيه بين الفلسفة واللاهوت وعلم النفس، فيدخل عمق أعماق النفس البشرية. وعلى الرغم من أنه موجَّه إلى راهبات في أثناء رياضة روحية، إلا أنه يعني أيضًا كلَّ إنسان، سواء كان مسيحيًّا أو غير مسيحي؛ إذ يطرح موضوعًا يشغل كلَّ إنسان مذ "كان مساء وكان صباح: يوم سادس".

الكتاب في ثلاثة فصول. في الفصل الأول منه يتضح لنا جليًّا مفهومُ الأب كرباج للحبِّ الذي ينقلنا من الملكية avoir إلى ما هو أسمى منها بدرجات: الكينونة être. الحب ليس امتلاكًا؛ فهو "لا يملك شيئًا ولا يملكه شيء"[1]. يجعل منَّا كائنات "على مستوى عالمي كوني" (ص 18)، فنشعر بأن كلَّ محتوى الكون يخصنا لأننا نحبه. الحب هو الحقيقة–النواة لكلِّ شيء؛ إنه "المحرِّك الأول" Primum mobile في المعنى الروحي المسيحي للكلمة، لا في المعنى المادي الأرسطي.

الحب "تَرَوحُن"، به تكون قيمةُ الجسد، "فلا يثقل علينا اللحمُ والدم حتى الموت". هنا نرى لحمة الإنسان ووحدته: إذ لا جسد من دون روح، ولا روح من دون جسد؛ وبالتالي، لا قيمة ولا ميزة لأحدهما من دون الآخر. ثمة جدلية بينهما هي رَحِم هذا "التَرَوحُن" ورَحِم الحياة. إن نَمَتْ في الإنسان ملكاتُه الروحية، فهذا لا يعني أبدًا نبذ الجسد واحتقاره ونعته بالدونية، كما اعتبر بعض الفلاسفة وبعض الديانات، بل على العكس: هذا "التَرَوحُن" يهب الجسد قيمته، فننظر إليه على أنه هيكل الروح.

الحب اتصال بين الله والإنسان، وبالتالي بين الإنسان والقريب. انقطاع هذا الاتصال "جريمة الإنسانية"، بحسب تعبير الأب كرباج. في الحب تكمن استمرارية الإنسان، ومن دونه يضحي ضحية المشاعر الشرسة التي تجعله يعيش جحيمًا. وما أجمل وصف الأب كرباج لغياب الحبِّ عن الإنسان:

تنطفئ في نفوسنا الأنوار. فنغدو كالهياكل المظلمة، المهجورة، الصقيع فيها يجمِّد الدم، وأبوابها المغلقة يعلوها الغبار الأسود، ومذابحها بدون قرابين. وحده الحب ينيرها، يشع في أرجائها كلِّها ويرنِّم. [...] (ص 43-44)

ولكن أنَّى للإنسان كل هذا الحب، وهو كائن مخلوق محدود، "دائرة وجوده ضيقة" و"لا يملك كل شيء"، رغم امتلاكه الكثير؟

هنا تتبدى النزعةُ الصوفية في مفهوم الأب كرباج. الإنسان محدود؛ وبمحدوديته يتوق إلى المطلق، إلى الله الذي يملك كلَّ شيء، بل هو كل شيء. حبه "كل الوجود"، حبه "خالق": فهو خلقنا من فيض محبته، ويدعونا إلى أن نحب. إنه نبع الحب، شلالات الحب، بل الحب نفسه. منه يستمد الإنسان الحبَّ الكبير، اللامحدود، الذي به يدرك أهمية "المساحة الوجودية المطلقة". وهذا الإدراك لا يحصل بالمعرفة الذهنية، الأرسطية، بل بـ"وحي"، بـ"نور داخلي" يقذفه الله في صدر الإنسان. هذا الوحي، لا توفِّره "كنوز الأرض وأمجادها". به نشعر بـ"اللامحدود فينا"، فندرك "أبعاد لانهيوية في عالم نهيوي" (ص 77) ونحل "في قلب الله"[2].

بهذا الوحي، وبهذا الحب المطلق، يتحقق الإنسان ويكون كاملاً: "الحب يجعلني إنسانًا كاملاً، وأنصاف الحبِّ تجعلني نصف إنسان" – وحذارِ من "الأنصاف" لأنها قاتلة، لا تعرف معنى العطاء، بل تخافه.

في الفصل الثاني من الكتاب، يبحث الأب كرباج في موانع تحقيق "كل شيء لكم". فما الذي يمنعنا من تحقيق الحبِّ الكبير وامتلاك كلِّ شيء؟ إنه "فقدان الحس بالقدسيات [...] وعدم الشعور بضرورة الحبِّ كمحرِّك لتفكيرنا وتعبيرنا ومسلكنا [...]" (ص 81). إلى عوامل أخرى، شأن انقطاع الصلة بين الله والإنسان، فيتفكك هذا الأخير ويتبعثر، ويستبد به موتُ الروح المضاد للطبيعة.

"الأنا المغلقة" من أخطر العثرات أمام هذا التحقيق، لأنها تبقى في محدوديتها من دون أن تتوق إلى أن تصبح "كونية"؛ كما وأنها "تسجننا في ذواتنا"، فلا نعود ننظر ونحب ونفكر ونعمل إلا لذواتنا. وحب الذات يقتل الحب. أضِفْ إلى هذه "الأنا" – تلك "الأنا المتطلِّبة" التي تبغي الحصول على كلِّ شيء من دون جهد أو استحقاق أو "حاجة حقيقية". هي في خدمة الذات الضيقة، منحرفة ومتعجرفة؛ لا يهمها سوى ما تملكه، وكل ما ليس لها "لا قيمة له" ولا يهمها. هي لا تبحث إلا عن الامتلاك، ناسيةً أن "الذي في حوزتنا يملكنا أكثر مما نملكه". إنها تجهل الحب، لأنها لا تعرف إلا ذاتها. وتظهر علامات هذه "الأنا" في استعطائنا المجد الباطل، والمناصب، وحب الظهور، وإلغاء الآخر. تُغرِقنا في كبريائنا وتُقَوقِعُنا على ذواتنا وتزيِّف قيمَنا. لا نستطيع مقاومتَها إلا بـ"الأنا المتحررة" والصلاة.

"الأنا المتحررة" تعيش بالحبِّ وللحب. إنه هدفها الأساسي ومحرِّكها. تعيش "قدسية الوجود"، وتُسقِطُ العوائق بينها وبين الكل، "فتنتصر لأنها تسلك طريق الاستشهاد، طريق الصليب، وصولاً إلى القيامة" (ص 117). أما الصلاة، فتقوِّينا وتجعلنا نلتقي الله وكلَّ إنسان، أينما كان. تسيِّرنا في خطٍّ تصاعدي: "هذه الصلاة الفاعلة التي نصعِّدها من أعماق قلوبنا هي التي توحِّدنا وتجعلنا ننتصر" (ص 124) – و"هل الصلاة إلا امتداد ذاتكم إلى الأثير الحي؟"[3]

لا معنى لكلِّ ما ذكرناه في الفصلين الأولين إن لم نسعَ إلى تطبيقه. إنه ما يعالجه الأب كرباج في الفصل الثالث من كتابه من خلال "التبشير" (بالمعنى المسيحي للكلمة). ينطلق "من الشعلة الملتهبة في داخلنا"، فتتحول "العاطفة المثالية" إلى حقيقة حياتية معيشة، لأن "الإيمان من دون أعمال ميت". التبشير ثمرة الحبِّ الذي هو "ديناميكية" متقدة تتفجر.

التبشير رسالة الإنسان المُحِب. عليه أن يحقِّقها باعتبارها "فرصة حياة" يبذل حياته في سبيلها، من غير اعتبارها واجبًا أو استعمالها لمقاصد أو مصالح رخيصة. هذه الرسالة تستحق منَّا أن نوليها "الأهمية الأولى" وألا نتكاسل في نشرها. إن "جنونًا" يدفعنا إلى هذه الرسالة التي تؤمِّن لنا كلَّ شيء. هذا الـ"كل شيء" يستدعي ويستحق "العمل الدائم والعناية المستمرة وعرق الجبين [...]" (ص 141).

علينا أن نحمل هذه الرسالة بحب، فنعطي من غير رجوع إلى الوراء، ونعطي ذاتنا لأن "أجمل عطاء هو عطاء الذات بحرية وقناعة" (ص 145)، فنُخلَق بذلك من جديد. فإن لم يكن الحب في أساس العطاء، يبقى هذا الأخير "مِنَّة، دَيْنًا، صدقةً، ثقلاً في الذاكرة، انتظارًا للإقرار بالمعروف" (ص 145-146).

كتاب الأب كرباج قربانة قرَّبها بحبٍّ على مذابح هذه الحياة المجنونة. أين نحن اليوم، أفرادًا وجماعات وأوطانًا، من هذا الحب؟! هل ندرك أنه وحده يعيدنا أبناء الحياة، ويطير بنا خارج أسوار الزمن؟ أندرك أنه لا يستطيع أن يكون يوتوپيا عقيمة، بل يتفجر شلالات وينابيع؟ إنه قلب الحياة. نحن مدعوون إلى عيشه بكلِّ أبعاده. فليته يجري في عروقنا وشراييننا كيلا نتحول إلى مجرد كائنات بيولوجية فقط.

أليس فقدان الحبِّ وراء كلِّ النزاعات وكلِّ ما يعانيه عالمنا اليوم؟ كم نحن في حاجة إليه في عصرنا هذا – عصر الانحطاط على كلِّ المستويات. غيابه يضنينا ويُرجِعنا إلى الوراء – والحياة سيرٌ إلى الأمام.

نحن خُلِقنا بالحب. فلنَعِشْ به، ولنَخلُقْ به، ولنَمُتْ به – فتكون لنا الحياة.

*** *** ***

عن النهار، الأحد 30 آذار 2003


 

horizontal rule

[1] جبران خليل جبران، النبي، بترجمة يوسف الخال، دار النهار للنشر، بيروت 1968، ص 19.

[2] المرجع السابق، ص 19.

[3] المرجع السابق، ص 77.

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

Editorial

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود