حول العَلمانية في الإسلام والمسيحية

"روحنة" الدين مدخل إلى الحداثة

ولا وجود لكلمة "دولة" في النصِّ القرآني

نحتاج إلى ثورة لاهوتية وإلى لوثر مسلم

 

حوار مع جورج طرابيشي

 

مناسبة الحوار مع المفكر والباحث والمترجم جورج طرابيشي كانت محاضرته التي ألقاها في الجامعة الأمريكية في بيروت [...]، بدعوة من برنامج أنيس الخوري المقدسي، تحت عنوان "بذور العلمانية في الإسلام" والتي أثارت سجالاً وأسئلة.

ولا يمكن للمرء إلا التوقف في إعجاب حيال مساهمة جورج طرابيشي القيِّمة في الثقافة العربية. ففي البداية، ترجم فرويد وهيغل ومعجم الفلسفة وتاريخ الفلسفة وغيرها من الكتب التي فاقت 220 كتابًا. ثم ساهم في الكتابة النقدية بكتب مثل مذبحة التراث في الثقافة العربية المعاصرة وشرق غرب: رجولة وأنوثة ومن النهضة إلى الردة، وصولاً إلى نظرية العقل وسلسلة "نقد نقد العقل العربي"، ردًّا على محمد عابد الجابري وإعادةً للبناء، إلى آخر كتب تلك السلسلة: العقل المستقيل في الإسلام؟

يتطرق طرابيشي في حديثه إلى إشكاليات أساسية مفصلية في الثقافة العربية، وينهمك في تجربته وجهوده النقدية في بناء رؤية تعيد إلى العقل اعتبارَه وإلى المنهجية حضورَها، ناهيكم عن جرأة القول وصدقية الممارسة والانفتاح على الآخر، كمقومات لا بدَّ منها في معركة الحداثة.

س.ب.

***

 

لماذا لم تَنْمُ، في رأيك، بذورُ العَلمانية في الإسلام نصًّا وممارسة؟ وهل هناك تجربة تاريخية يمكن البناء عليها واعتبارها "عَلمانية" في التاريخ الإسلامي؟

لا ننسى أن الإسلام، أولاً وأساسًا، هو دين، وينتمي، تاريخيًّا وروحيًّا، إلى "الشجرة الإبراهيمية"، أي إلى الأصل المشترك للديانات الثلاث: اليهودية والمسيحية والإسلام، التي تعتبر إبراهيم المنطلق والسلف المشترك لهذه الديانات الثلاث. المهم أن في البنية المشتركة لهذه الديانات الثلاث، القائمة على الوحي والنبوة، ما يُسمَّى وحدة البُنى الأسطورية؛ وأعتقد، بالتالي، أن ما يصح على الديانتين الأولى والثانية، في معنى ما، يصح على الإسلام. ولا أعتقد أن هناك تجربة تاريخية كبيرة لليهودية في هذا المجال، إذ بقيت ديانة قومية؛ والمقارنة الأساسية الممكنة هنا هي بين الإسلام والمسيحية. فالمسيحية، كما يقال في استمرار، تحمل في أساسها بذرةَ العَلمانية في صورة العبارة الإنجيلية المشهورة: "أعطوا لقيصر ما لقيصر وما لله لله" [إنجيل متى 22: 21] – هذه الجملة التي كانت الوجه الأكبر للعَلمانية، أو لإمكانٍ ما لها، أو لفصل الله عن القيصر أو فصل الدين عن الدولة.

وثمة، في المقابل، أشياء كثيرة في القرآن والحديث تشي بنظرة عَلمانية، أشهرها حديث "تأبير النخل": فقد مرَّ الرسول بحيٍّ من أحياء المدينة، فسمع أزيزًا استغربتْه أذنُه، فقال: "ما هذا؟" فقالوا له: "إنهم يؤبرون النخل"، أي يلقحونه. فقال: "لو لم يفعلوا لصَلُح"، فلم يفعلوا. فجاء النخيل – كما يقول الحديث – شيصًا (أي لم يثمر). فأتوا إليه يعاتبونه، وقالوا له: "قد فعلنا بنصيحتك ولم يثمر النخل." قال لهم: "إنما أنا بشر ولست بزارع، وأنتم أعلم بشؤون دنياكم مني." وفي حديث آخر يقول: "لكم دنياكم، ولي آخرتكم." وفي موضوع آخر: "وما قلته عن الله فهو حق، وما قلته من قِِبَل نفسي فأنا بشر أخطئ وأصيب." إن التمييز الذي يقيمه الرسول، كناقل للوحي الإلهي وكبشر يخطئ ويصيب ويتصرف كبشر في شؤون الدنيا، لا يقل بدلالته، لو أُحسِنَ توظيفُه، عن دلالة العبارة الإنجيلية المشهورة. والفارق الكبير أنه في المسيحية ليس انطلاقًا من هذه العبارة بدأتْ العَلمانية؛ إنما بدأت عندما تَعَلْمَن الغرب، فاكتشف أهمية هذه الجملة في الإنجيل ووظَّفها في توطيد العَلمانية وتوكيد الفصل بين الديني والدنيوي. لكن علينا ألا ننسى أن الغرب نفسه، بطبيعته المسيحية، خلط بين الدين والدولة على مدى ألف وخمسمائة سنة، منذ أن تنصَّرت الدولة على يد قسطنطين في العام 335 ميلادية حتى قيام الثورة الفرنسية وما بعدها، فكانت الدولة تُسمَّى بـ"الإمبراطورية الرومانية المقدسة" و"الإمبراطورية الجرمانية المقدسة". فأين فعلت هذه العبارة فعلها في المسيحية؟ اكتُشِفَتْ بعدما تَعَلْمَن الغرب توكيدًا منه على صيرورة العَلمانية. وأنا متفق مع الأب يواكيم مبارك الذي لاحظ أن الكثير من المستشرقين والمتعاملين بالإسلاميات، وحتى بعض السياسيين من أصحاب المصالح، كانوا يستعملون هذا القول الإنجيلي كهراوة ضد الإسلام: أي أننا "متعلمنون" في الأساس وأنتم "غير متعلمنين"، وصعب عليكم أن تدخلوا الحداثة مثلما دخلناها نحن!

فوارق التجربة التاريخية

لكن ما هي الفوارق على مستوى التجربة التاريخية؟

الفارق الكبير ليس بين قضية البذور الأولى والأفكار الأولى للعَلمانية فيهما، لأن مَن يُعرِّف بالإسلام بأنه "دين ودولة" (وهذا التعبير شاع بفضل حسن البنَّا) يغالي: لاحظ أن كلمة "دولة" لا أثر لها في النص القرآني ولا في الحديث، وتعبير "دولة" هو إسقاط من الحداثة على الإسلام؛ إذ لا نرى لدى مراجعة ألوف الأحاديث الصحيحة والموضوعة أثرًا لهذا التعبير.

الفارق الكبير في التجربة التاريخية أن المسيحية مرَّت في ثلاثة قرون، قبل أن يتنصَّر قسطنطين، وهي لا علاقة لها بالسياسة، بل كانت تجربة روحية خالصة؛ ثم تداخَل الدينُ والدولة مع تنصُّر قسطنطين. أما في الإسلام، فإن الفترة التي دامت ثلاثة قرون في المسيحية استغرقت ثلاث عشرة سنة في الإسلام، وهي الفترة الفاصلة بين الإسلام الروحي والإسلام الدنيوي، الفترة المكِّية، أي إسلام الروح الخالص؛ وتلك المرحلة غنية بأحكام الآخرة. لكن لما هاجر الرسول إلى المدينة، بدأت تظهر في القرآن الأحكام التي تتعلق بالدنيا وشروط العبادة، وتغيرت، بالتالي، طبيعةُ العلاقة بين الدين والدنيا في الإسلام المدني. ثم بعد عشر سنين، بدأ الإسلام يدخل المجال السياسي، في حين أن المسيحية بقيت ثلاثة قرون في مجال روحي خالص قبل أن تتحول إلى سلطة زمنية، مما مكَّنها من تطوير الروحانيات فيها أكثر. واجهت المسيحيةُ دولةً قائمة هي الإمبراطورية الرومانية، في حين أن الإسلام لم يكن ضمن دولة أو في مواجهة دولة. ولم تتأسَّس "الدولة" في حياة الرسول، بل مع الفتح وأبي بكر وعمر.

وفي مقابلة الفارق بين التجربتين، نلاحظ أن مسار العَلمانية أعسر في الإسلام منه في المسيحية. لماذا؟ لأن الإسلام اختلط منذ البداية بالتاريخ السياسي والزمني – من دون أن ننكر البذور الأولى بالطبع. والمتتبع للتاريخ الإسلامي، وخاصة بعد الخلافة الراشدة، يلاحظ الفصل بين السياسي والديني في إسلام الصدر الأول: جاء علي ونقل العاصمة إلى الكوفة، وجاء معاوية ولم يتردد في نقلها إلى دمشق، التي كانت عهد ذاك ذات غالبية مسيحية مطلقة؛ كذلك فعل العباسيون حين نقلوها إلى بغداد؛ ثم جاء الأتراك ونقلوها إلى القسطنطينية، وهي عاصمة المسيحية التاريخية الأولى.

والملاحَظ أنه عندما تدخلت السياسة أُعطِيَتْ الغلبةُ للسياسة على الدين، حتى في عاصمة الدولة. ثم عرف الإسلام انشقاقَه الكبير الثاني بين السلطتين في أحاديث نُسِبَتْ إلى الرسول لاحقًا عندما استأثر بنو أمية بالخلافة وظهر ظلمٌ كبير للشعوب المسلمة المحكومة: إذ ذاك ظهرت أحاديث ضد بني أمية، على سبيل المعارضة، تؤكد أن الرسول تنبأ أن خلافته ستكون ثلاثين عامًا ثم يكون بعدها "ملك عضوض". وعندما حاول معاوية أن يستكتب البيعة سلفًا لابنه يزيد ليكون خليفة من بعده فقال: "على سُنَّة الله ورسوله"، أجابه أحد الصحابة: "لا والله، أنت كذاب! إنما على سُنَّة كسرى وقيصر. فلا محمد ولا أبو بكر ولا عمر أورثوها لأولادهم." نلاحظ أنه في الوعي الإسلامي الأول كان التمييز بين كسرى والخلافة وشكل السلطة – ولا أقول هنا فصل بين السلطتين، بل بذور التمييز بين هاتين السلطتين. ثم سألاحظ أنه حين وقع الخلاف–الصراع السياسي في أيام الخلافة الراشدة، تقدمت السياسةُ على الدين. وحين يواجه المقدسُ le Sacré المدنسَ le profane تكون الغلبة للمدنس. وحتى يوم وفاة الرسول، وقبل أن يُدفَن حتى، جاء الخلاف الكبير في سقيفة بني ساعدة، وشُهِرَتْ السيوفُ والشتائم بين الأنصار والمهاجرين، وكان انقسام، واستُبعِدَ علي سلفًا، وحدث صراع سياسي، – صراع على السلطة لا يرحم، – ووُظِّفَ الدينُ من أجل السياسة، وبويع أبو بكر خليفة. وفي أثناء الخلافة الراشدة، تحولت الخلافة إلى مقتلة للمسلمين. لم يُقتَلِ المسلمون، سواء في الخلافة الراشدة أو الأموية أو العباسية أو الفاطمية، مثلما قُتِلوا في هذه الصراعات، وضحايا المسلمين في هذه المعارك تفوق ما تكبدوه في الفتوحات! لا بل أكثر من ذلك، ثلاثة من الخلفاء الراشدين قضوا اغتيالاً، وعثمان مُثِّل به؛ ومن الذين شاركوا في ذلك محمد بن أبي بكر، الذي بدوره لقي مصرعه، حيث أمسكوه وحشوه في جلد حمار وأشعلوا فيه النار! وقُتِلَ عبد الله بن الزبير والحسن والحسين، وحوصرت المدينة، وحوصرت مكة وضُرِبَتْ بالمجانق، من دون أية مراعاة لحرمة، وأُحرِقَتِ الكعبة. واستمر هذا العنف كله في الجيل الأول للصحابة، إذ غُلِّبت السياسةُ على الدين.

ولو قلت إن العَلمانية، في بعض تعريفاتها، مدُّ السياسة بالسؤدد في استمرار، فهذا واقع الدولة في الإسلام. وسألاحظ أن الخلفاء في العصر العباسي جميعًا، وخاصة بعدما سيطر البويهيون على السلطة، تركوا للخليفة السلطةَ الدينية، فوقع في الإسلام ما وقع في الغرب بين الباباوات والأباطرة والملوك: حصل صراع مماثل في الإسلام بين الخلفاء والأمراء والسلاطين. وقد ظهر ذلك واضحًا في أسمائهم: فأسماء الخلفاء، مثلاً، المتوكل على الله والمعتضد بالله والمعتصم بالله، في حين نجد لدى السلاطين أسماء من نحو: مُعز الدولة وسيف الدولة وعضد الدولة. وبات واضحًا التمييز أن الخلافةَ تنتمي إلى اللاهوت والسياسةَ إلى الدولة؛ ولم تكن السيطرة للخلفاء، بل للأمراء والسلاطين. تلك المظاهر والمقدمات كلها تدل على أن أسطورة الإسلام كدولة هي أسطورة إيديولوجية من صنع الحداثة، وليست حقيقة تاريخية من داخل الدين.

هذه المقدمات كلها لأقول إنه لن يكون أصعب بكثير على الإسلام من المسيحية دخولُ العلمنة. ففي المسيحية ليست بذور العَلمانية هي التي تطورت إلى شجرة وغابة، بل العكس: عندما اكتملت القطيعة المعرفية التي حقَّقها الغرب مع نفسه وتَعَلْمَن، عادت المسيحية إلى تاريخها، لتكتشف هذا التعلمُن وتبرِّره. وأعتقد أن الإسلام سيدخل هذه المرحلة، وسيعود إلى ماضيه فيما بعد، ليكتشف تلك البذور ويمنحها تسميةً جديدة. وهذا الأمر ضروري للإسلام نفسه، وسيساعده على أن يتحول من إسلام سياسي إلى إسلام روحي، تمامًا كما حصل في المسيحية. وهكذا تحررت المسيحية، بفضل العَلمانية، من ربقة السياسة وذلِّ السياسة. وأعتقد أنه قد آن الأوان ليظهر الإسلام الروحي، فينحِّي جانبًا الحاكمين والمعارضين ورجال الدين. الروحنة هي مدخل الإسلام إلى الحداثة. وعندما يحدث ذلك لن نرى ردود فعله الحالية، من عنف وكره ورفض للحداثة.

لا عَلمانية في عالمنا العربي

هل العلمنة آلية أم غاية إيديولوجية؟ وإلى أيِّ حدٍّ وُضِعَ هذا الشعار في الممارسة لدى أحزاب "عَلمانية" وصلت إلى السلطة في المجتمعات العربية؟

لا، لا، على الإطلاق، لأن العَلمانية لا يمكن لها أن تكون غاية إيديولوجية؛ إذ إنها تجمع المؤمن والملحد على حدٍّ سواء. العَلمانية هي نقطة التفاهم بين المؤمنين وسواهم. فاللاإيمان نوع من الإيمان في النهاية. العَلمانية هي المفصل واللولب الذي يجعل الدوائر كلَّها تدور. والعَلمانية، إذا تحولت إلى إيديولوجيا، تصير خطرة؛ والدليل يقدِّمه تاريخ العَلمانية. إنه ما نلاحظه في الدول الشيوعية مثلاً، لا لأنها لم تفصل الدين عن الدولة، بل لأنها عادت الدينَ ودخلت في معركة ضد الكاثوليكية وضد التنظيم الكنسي. وهي، في الواقع، لم تكن دولاً عَلمانية حقيقية، بل متأدلجة علمانيًّا، وقد حاربت الدين. الدولة العَلمانية الحقيقية لا تحارب الدين، بل تتيح حرية الدين للجميع.

وماذا عن الشعار والممارسة في تجربتنا العربية؟ – أعني الأحزاب العَلمانية التي وصلت إلى السلطة.

أحتج على كلمة "عَلمانية" في السؤال، ولا أعترف بوجود أيِّ حزب عَلماني إلى الآن في العالم العربي. هل هم في الحقيقة عَلمانيون؟! لم يحدث، مثلاً، توظيفٌ للدين في سوريا كما وُظِّفَ الدينُ أيام عبد الناصر في زمن الوحدة: فُتِحَتِ المساجدُ في الدوائر الرسمية، وجميع المناسبات والجلسات كانت تُفتتَح باسم الله. أقول إن الناصريين والبعثيين ليسوا أحزابًا عَلمانية وليسوا أحزابًا دينية. والحقيقة أن مأساة العَلمانية العربية تمثَّلت في أن الأحزاب التقدمية والشيوعية والبعثية أغفلت موضوع العَلمانية وسايرت الجماهير والإسلاميين كي لا تصدم الوعي الديني وكي تصل إلى السلطة. أعتقد أنها أحزاب "انتهازية"، بمعنى أنها أرادت أن تكسب الجماهير من دون أن تصدم وعيها. لم تكن أحزابًا طليعية بل أحزاب "جماهيرية"؛ ولذلك نحَّت قضية العَلمانية ولم تطرقها وتطرحها جِديًّا. أعتقد أن جميع هذه الديكتاتوريات التي أقامتْها، وكل الفشل في التجارب الذي حصدتْه، لا علاقة له بالعَلمانية. وأعتقد أن في هذا نقضًا لطبيعة العَلمانية بالذات. فالاستبداد، عندما يسد المنافذ، لا يترك غير منفذ واحد مفتوح هو الدين. وعندما تسد أبواب السياسة على الناس وتمنعهم من العمل السياسي تشل الديموقراطية. والنتيجة أن الاستبداد اليوم هو أكبر خادم للنزعات الدينية الأصولية في المجتمعات العربية.

في ظلِّ الصراعات والنزاعات في العالم العربي، راهنًا، كيف يمكن الخروج من المآزق والخنادق إلى رحاب الأمل والحوار؟

مادامت الصراعات سلمية فهي مفيدة ومن علامات الصحة. لست من المؤمنين بوحدة الأمة في المطلق؛ إذ قد يوصلنا الأمر إلى المآزق الكبرى، إلى الأفغانية الطالبانية أو النازية. في الديموقراطية، على عكس المثال المشهور، كلما كُسِرَتِ العصي وأمكن كسرُها في سهولة تشتد الديموقراطية وتتعزز. الديموقراطية تتنافى مع وحدة الرأي والإجماع. ونحن – ويا للأسف! – ثقافة تقوم على فكرة الإجماع؛ وهذا "الإجماع" يقود إلى الأخطار وإلغاء الآخر وإلى "حديث الفرقة الناجية"! وهذا ينطبق على الجميع، من يساريين وقوميين وأصوليين. أعتقد أنه مادام الصراع سلميًّا ويحترم قواعد اللعبة الديموقراطية فهو من علامات الصحة والخير والتقدم والتنوع.

حديثك عن الإجماع (التراث) والديموقراطية (الحداثة) يجعلنا نسأل عن كيفية بناء الآليات وبناء الجسور بين التراث والحداثة، من دون الوقوع في خلل العلاقة مع الواقع الراهن. لماذا لم تنشأ، في رأيك، الكتلة التاريخية في المجتمعات العربية التي تدعم الحداثة وتحميها وتجسِّدها؟

هذا موضوع كتاب، وليس موضوع سؤال. لكن ثمة نقطة أساسية أود التركيز عليها، هي أن ما يميز مجتمعاتِنا العربية الإسلامية أنها "تراثية"؛ ولعل صفتها الأبرز أنها تحمل على كاهلها عبء تراث كبير. فالحضارة العربية الإسلامية هي تراث من النصوص ومن التاريخ، ولعلها واحدة من أكبر الحضارات المنتجة للنصوص في التاريخ البشري؛ وعبء التراث في الحضارة العربية الإسلامية قد يكون أثقل منه في أية حضارة أخرى. لكن ما دور التراث؟ للتراث دوران: دور اللجام ودور المهماز. والدور ليس بحسب طبيعة التراث نفسه، بل بحسب ما أتاك منه وبحسب الزاوية التي تطل منها على هذا التراث. فلو أردت العودة إلى الوراء، يقدم إليك التراث ثقلاً هائلاً؛ ولو أردت أن تتقدم إلى الأمام، فإنك توظف التراث من خلال إعادة القراءة. إذن، قراءتنا للتراث هي التي تحدد هل هو "مهماز" أو "لجام". من هنا أهمية إعادة قراءة التراث من منظار الحاجة إلى مهماز يتقدم بنا نحو الحداثة. لا نستطيع أن ندخل الحداثة ونحن عراة. ندخل الحداثة وعلينا أثواب وأثواب؛ لكننا نستطيع أن نجددها كي لا نقع على طرفي نقيض وينشب صراعٌ جديد بين "حداثيين" و"تراثيين".

أعتقد أن مكمن الصعوبة الكبيرة في أننا مازلنا نقرأ التراث بعيون قديمة؛ ولو قرأناه بعيون جديدة يمكن له أن يكون مهمازًا، وليس لجامًا كابحًا. ولعل المهمة الأساسية لهذا الجيل، إلى منتصف القرن المقبل، ليس أن يكون جيل الثورة والقطيعة مع التراث، بل جيل إعادة قراءة التراث. نحتاج إلى ثورة لاهوتية، إلى لوثر مسلم. كذلك فإن فولتير مسلمًا سيرى النور – وهذا حتمي ولن يكون خطرًا على الإسلام. لكننا في المرحلة الحالية في حاجة إلى لوثر مسلم. كل ما نستطيعه، نحن المثقفين الذين نشتغل على التراث، هو أن نطبِّق المنهجيات الحديثة عليه ونستقرئه جديدًا ونضيف إلى ثرواته ثروة جديدة. وعندما نقرأ الحديث والفقه والفلسفة والتاريخ بعيون جديدة نغنيه. والتراث نفسه يحتاج إلى ذلك ليتجدد ويغتني، فلا يتجمد ويدخل في الانحطاط. ليست مهمة التراث أن نقفز منه إلى الحداثة، بل أن نفيد من منجزات الحداثة لكي نبثَّ في التراث جديدًا. لست فقط عاملاً في خدمة التراث وموظِّفًا له في المعركة، بل أوظف نفسي في خدمة التراث وأكتشف جوانب غنية وثرية ومشرقة وقابلة بالفعل للتوظيف كمهماز لاجتياز طور الحداثة.

تحرير النصِّ والعقل

ما هي الحدود الفاصلة بين تحرير النصِّ من النصِّ ومن المقدس وبين تحرير العقل من النص؟

إنه الموضوع الذي طرحتُه في شكل خاص وموسَّع في كتابي مصائر الفلسفة بين المسيحية والإسلام. نحن الآن في مرحلة تحرير النصِّ من النص. ثبت لنا فشلُ الثورات عندما قام القوم بثورات اشتراكية وأقاموا أنظمة ديكتاتورية بحجة "حرق المراحل"، وكانت النتيجة أن الثورة أحرقت نفسها ولم تحرق المراحل! لست من دعاة حرق المراحل، بل أدعو إلى اجتياز الأشواط مرحلة مرحلة. والمهمة التاريخية المطروحة هي تحرير النصِّ من النص. أما تحرير العقل من النص، فهي مهمة مقبلة وليست مطروحة الآن. لا نريد أن نكون واهمين وندخل معارك دونكيشوتية. قد يظهر فولتير ما في العالم العربي الإسلامي. لكن حتى فولتير لم يحرِّر العقل من النص، فكان من دعاة التأليه الطبيعي ضد التأليه الديني. و"التأليه الطبيعي" يقوم على أن الله موجود وليس الوحي، وعلى أننا نصل إلى الله بالعقل ولا ننفي وجوده. حتى فولتير ليس ناكرًا للإله، كما أشيع عنه.

نحن الآن في مرحلة تحرير. لماذا؟ لأنني أعتقد أن المأساة الكبرى هي عصر الانحطاط الذي نعيشه. وللأسف، النهضة لم تخلِّصنا منه بسبب جريمة حرق المراحل (الثورات). والذي ضرب عصرَ النهضة هو التسريع الزمني للإصلاح؛ وبذلك أحرقوا النهضة وأحرقوا أنفسهم. أقول إن عصر الانحطاط مازال فينا، أعني منطق الانحطاط في المعنى المعرفي؛ وهو يزداد ضغطًا وعنفًا علينا في العقدين الأخيرين.

ماذا حصل في التجربة العربية الإسلامية؟ ميَّز ﺸپنغلر بين "حضارة الدائرة" و"حضارة السهم"، وقال إن معظم الحضارات قديمًا كانت تبني نفسها حول مركز في دوائر ضيقة أو واسعة، حتى جاءت الحضارة الغربية، فتحولت من الدائرة إلى السهم، إلى الأمام. أعتقد، بالرجوع إلى التجربة التاريخية العربية الإسلامية، أنه لم تظهر لدينا بعد فكرةُ السهم. غير أن العصر الذهبي كان بين القرن الثاني وآخر القرن الرابع الهجريين، قبل أن نغوص في القرنين السابع والثامن والانحطاط. كنَّا في نقطة المركز، وانطلاقًا منها ومما مثَّله ظهورُ الإسلام (النواة)، تكونتْ من هذه النقطة دوائرُ علم اللغة والفقه والتفسير والحديث وعلم الكلام والفلسفة وعلوم الطبيعة والطب والأنثروپولوجيا؛ وكانت الدوائر تتسع وتغتني في استمرار. ثم ماذا حصل؟ بدءًا من أوائل القرن الخامس الهجري صدر بيان الاعتقاد القادري، وهو بيان فقهي حُرِّم فيه الاعتزالُ والكلام؛ فراحت الدوائر تضيق: ضُرِبَتْ دائرةُ الفلسفة وكُفِّرَتْ، ثم دائرةُ الكلام؛ وضُرِبَتْ دائرةُ التصوف، وهي من أغنى دوائر الثقافة العربية، فصُلِبَ الحلاج وقُتِلَ السهروردي (المقتول)؛ وأُغلِقَتْ حتى دائرة الفقه، ووقعت مقتلة كبيرة بين الأحناف والحنابلة، وأصدر حينئذٍ المتصوف المشهور القشيري رسالة معروفة عنوانها شكوى أهل السنَّة في رواية ما أصابهم من المحنة؛ كذلك ضُرِبَتْ الأشعرية والحنفية والشافعية، واشتعلت نارُ الفتن بين المذاهب. ولما جاء المنصور، قضى على المذهب المالكي، وهو الوحيد في المغرب. وأكثر من ذلك، كُفِّرَتِ الكيمياء وكفَّروا الترجمة. وبدءًا من القرن الخامس، لم يترجَم كتابٌ واحد إلى العربية بحجة أنه "غزو ثقافي" – وهو المنطق نفسه السائد اليوم! كُفِّرَتْ دائرةُ الطب في القرنين السابع والثامن، وصدرتْ كتب "الطب النبوي"، ونُسِبَتْ إلى الرسول أحاديث بدائية في الطب! هذا التقلص الهائل للدوائر هو عصر الانحطاط بعينه.

تجديد الدوائر

لكن كيف السبيل إلى الخروج من هذا التقلص أو مما أسميتَه "إقفال الدوائر"؟

يكون ذلك بتجديد الدوائر، بإطلاق حرية الدوائر. ليس ضروريًّا الخروجُ مرحليًّا؛ إذ لا يمكن الصدام مع المركز، بل ينبغي إعادة تأويل المركز وفتح الدوائر والنوافذ. ولا نكتفي فقط بالفلسفة وعلم الكلام واللاهوت، بل نحتاج إلى العلوم الإنسانية والاجتماعية – ولنرَ بعد ذلك ما يكون. أعتقد أن مصير الثقافة العربية اليوم يمكن له أن يكون غدًا كمصير الثقافة الغربية: أي أنه من بقايا المركزية يمكن إنتاج ثقافة "سهمية". ثمة إمكان حقيقي لذلك. وأعتقد أن العَلمانية، بما تتيحه من حرية دينية، تسمح بأن يبقى المركز قائمًا، وبأن يندفع مَن يريد إلى الأمام كالسهم وبنوع من التوفيق – إذا أردت – بين "المركزية" و"السهمية".

ما تفسيرك لتراجُع العقل العربي الإسلامي، واستطرادًا، الثقافة العربية؟

أعتقد أن العقل العربي الإسلامي، بعد انفتاح وحضور هائلين، ومن خلال آليات داخلية ذاتية، حكم على نفسه بالانغلاق والتقوقع والجمود والانحطاط. وهذه الآلية هي آلية إقفال الدوائر بعدما كانت مفتوحة. أما مشكلات الهرمسية والغنوصية، فهي مشكلات لم يواجهها العقل العربي الإسلامي، بل واجهتْها المسيحية.

قرأ الجابري المستشرقين وتبنَّى رؤيتهم عن "غزو هرمسي". والواقع أن الغنوصية هي انشقاق عرفاني داخل المسيحية؛ والهرمسية هي إحياء للوثنية: عندما واجه الوثنيون المدَّ المسيحيَّ الصاعد حاولوا أن يوجدوا نصوصًا دينية لديانة بلا نصوص. القضية هي قضية صراع بين الوثنية اليونانية والمسيحية الصاعدة. لا وجود لهرمسيٍّ واحد في ثقافتنا خارج هذا الإسقاط. ثم هنالك الصراع التاريخي الآخر الذي نشأ بين الكنيسة، كمؤسَّسة رسمية هرمية، وبين الرهبان الذين لا ينتمون إلى الدين إلا بإرادتهم الشخصية. وقد دار صراعٌ كبير بين الرهبنة والكهنوت. الرهبنة كانت غنوصية – و"الغنوص" هو المعرفة والوصول إلى الله مباشرة عن طريق الأناجيل ومن دون هذه الوساطات كلِّها. فكأن الرهبان هم لوثر قبل لوثر. الكنيسة "أبْلَسَتْهم" وجعلتْهم أعداء لها.

وقع الجابري، نتيجة إسقاطاته، في أخطاء تاريخية، وكان لا بدَّ من تصحيحها. لكن ليس الهدف هو التصحيح، بل بناء عمل استغرق نحوًا من 18 عامًا. وقد أصدرت أربعة أجزاء، والجزء الخامس قيد الإعداد. إنها عملية إعادة بناء. في كتابي الأخير العقل المستقيل في الإسلام؟ تحدثت عن كتاب من تراثنا هو كتاب الفلاحة النبطية من التراث البابلي؛ وهو من أهم ما نملكه من التراث القديم، التراث السامي، ولعله الكتاب الوحيد من نوعه. وقد مثَّل لي هذا الكتاب كشفًا كبيرًا في حياتي نظرًا لعلاقته المباشرة بتراثنا وتراث المنطقة قبل الإسلام. ويتضمن الكتاب آراء فلسفية سابقة لعصرها، ويمكن توظيفها في معركة الحداثة. تَرْجَمَه ابن وحشية ونَشَرَه تلميذُه. كتب الجابري ثلث صفحة عن هذا الكتاب، وكتبت أنا 90 صفحة فيه؛ وكتب الجابري صفحة ونصف صفحة عن إخوان الصفاء، واعتبرهم عرفانيين وهرمسيين ومعادين للعقل، وكتبت 125 صفحة في إعادة الاعتبار العقلاني إلى إخوان الصفاء، ليس ردًّا، بل إعادة اعتبار وإعادة بناء جديدة.

ولو سألتَني: لماذا الجابري وليس سواه، فلأنه لعب – ولم يزل يلعب – دورًا هائلاً في تكوين عقل النخبة العربية المثقفة؛ وبالتالي، فإن التصدي لمشروعه هو صراع من أجل تقديم رؤية جديدة للنخبة العربية، سواء في قراءتها للتراث أو للحداثة، ولأن إحدى النقاط الأساسية التي تفصل بيني وبينه انتهت إلى نوع من الأصولية. هو يطالب منذ خمس عشرة سنة بسحب كلمة "عَلمانية" من التداول في قاموس الفكر العربي المعاصر، بينما أعتقد أن هذه الكلمة حاسمة في تحديد مواقف المثقف العربي من قضاياه الحقيقية.

*** *** ***

حاوَرَه سليمان بختي

عن النهار، الأربعاء 8 والخميس 9 حزيران 2005

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

Editorial

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود