العرب والتاريخ

متى نفرِّق بين الظاهريِّ والعميق؟

هاشم صالح

 

قال لي أحدهم: «منذ ثلاث سنوات أو أكثر وأنت تستخدم فكر هيغل أو فلسفته للتاريخ من أجل فهم ما يجري في العراق وفي العالم العربي ككل. ألا تعتقد بأنك تضل سواء السبيل إذ تفعل ذلك؟ فهذا الفيلسوف يقول بأن العقل يحكم العالم، وبأن العالم سائر نحو الحرية والعدالة والحقيقة – على الرغم من كلِّ شيء! فهل تعتقد أن تفجيرات لندن أو شرم الشيخ هي من العقل في شيء؟! أليس الجنون هو بالأحرى سيد العالم، والسبب الأساسي لكلِّ هذه الأحداث الفجائعية والإجرامية على حدٍّ سواء؟ وأين هو العقل في كلِّ هذه الفوضى التي تكتسح العالم العربي والإسلامي، من أقصاه إلى أقصاه، بل تصل بشظاياها وحممها البركانية إلى العالم الخارجي؟! لقد جُنَّ التاريخ، يا سيدي، لقد جُن!»

قلت له: «على رسلك، أيها الصديق! إني أفهم ذعرك، وأشاطرك إياه إلى حدٍّ كبير، وأعترف أمامك بأني أُصاب أحيانًا بالتشاؤم الأسود واليأس المطبق، وأكفر عندئذٍ بهيغل والهيغلية، بالعقل والعقلانية، وبكلِّ الفلسفات المتفائلة للتاريخ! عندئذٍ أهمُّ بإلقاء سلاحي – أقصد قلمي – لكي أستسلم نهائيًّا لما جرى ويجري. لكنْ لا أعرف من أين تجيئني هذه القوة الداخلية التي تدفعني إلى الأمل والمقاومة باستمرار، على الرغم من انسداد الآفاق! نعم، إن فلسفة التاريخ لهيغل تغريني وتجذبني، فأسقط في شباكها، لأني لا أجد شيئًا آخر غيرها؛ لا أجد فلسفة أخرى تشبعني فكريًّا أو تساعدني على فهم الأحداث المتسارعة والمختلطة التي نعيشها الآن. نعم، إنها تعزِّيني وتجعلني قادرًا على الوقوف على قدميَّ حتى الآن. لهذا فإني متشبِّث بها.»

فما الذي تقوله هذه الفلسفة في خطوطها العريضة؟ وكيف يمكن تطبيقها على الواقع العربي والإسلامي الراهن؟

إنها تدعونا إلى ضرورة التمييز بين التاريخ الظاهري أو السطحي للأحداث وبين التاريخ العميق. فظاهريًّا، يبدو كلُّ شيء جنونيًّا أو فوضى عارمة، أو نوعًا من العبث واللامعقول. ولا شيء في العالم يمكن أن يبرِّر التفجيرات الإجرامية التي حصلت في لندن أو شرم الشيخ، أو التي ستحصل حتمًا في أماكن أخرى لاحقًا – لا عقل ولا منطق ولا دين ولا إيمان يمكن له أن يبرِّر ذلك!

بلى، هناك «فهم» معيَّن للدين وللإيمان يمكن له أن يبرِّر حتى هذه الأحداث المأساوية! وهذا «الفهم» – أو بالأحرى، هذا الجهل المطبق والظلامي – هو الذي يسيطر علينا منذ مئات السنين ويملأ برامج التعليم؛ وهو الذي سيدفع الثمن لاحقًا، كما يقول لنا هيغل، صاحب فلسفة التاريخ. فهذه الأحداث كان من الضروري حصولُها لكي ينكشف للناس الطابعُ المرعب للسلفية الانغلاقية. وهنا يكمن «مكر» التاريخ: فالتاريخ في حاجة إلى هذه الأحداث الإجرامية والشخصيات الشريرة، لكي نتقدم إلى الأمام، ولكي ندرك حجم المهمة الملقاة على عاتقنا في هذا العصر العربي–الإسلامي الأسود. لولا انفجار هذه الأحداث، لما تنبَّه أحد إلى ضرورة النقد الراديكالي للذات التراثية أو للتراث المكرور والمتراكم منذ مئات السنين. وجميع الدلائل تشير إلى أن هذا التراكم التراثي قد أصبح عبئًا علينا، لأننا تركناه يتراكم دون أن ندري به تقريبًا أو دون أن نشعر. لقد أمسى حجر عثرة في وجه تقدم التاريخ في العالم العربي والإسلامي كلِّه.

وبالتالي، فإن التاريخ العميق منطقي وعقلاني، حتى عندما يستخدم وسائل لاعقلانية، أي تفجيرات إرهابية وجنونية، من أجل تنبيهنا إلى نوعية المرض العضال الذي ينخر في أحشائنا دون أن ندري. هل تعتقد بأن أحدًا كان سيهتم بنقد العقل الأصولي الانغلاقي، الذي يعتبر نفسه بمثابة حقيقة مطلقة، نقدًا جذريًّا، لولا تفجيرات 11 سپتمبر، و11 مارس في مدريد، و7 يوليو في لندن، و24 يوليو في شرم الشيخ؟ لولا هذه الانفجارات المروعة والوحشية التي حصدت مئات البشر وفجعت آلاف العائلات وشوهت آلاف المقعدين مدى الحياة، ما كان بالإمكان طرح سؤال واحد على إيديولوجيا الشر والظلام في العالم العربي. بل حتى بعد هذه الأحداث كلِّها، نجد صعوبة كبيرة في طرح الأسئلة أو الإشارة بالبنان – مجرد الإشارة! – إلى موطن الداء. فمعظم المثقفين – ما عدا قلة قليلة، لكنها متصاعدة أو متزايدة، لحسن الحظ – لا يزالون مصرين على الخطأ والضلال، وعلى إيجاد تخريجات أو تبريرات لهذه الأعمال الإجرامية؛ لا يزالون مصرين على إنكار الحقيقة الساطعة سطوع الشمس! وهذه التبريرات لا تقل خطورة، في رأيي، عن التفجيرات الإجرامية ذاتها: فتأييد الشرِّ أو التعاطف معه لا يقل خطورة عن ارتكابه. وهؤلاء المبرِّرون ليسوا مثقفين، بل سوفسطائيون وديماغوجيون، لا معنى للحقيقة في نظرهم ولا أهمية.

ما الذي يقوله لنا هيغل عن ذلك كلِّه؟ إنه يقول ما معناه: ما من شيء عظيم يتحقق في التاريخ إلا من خلال الصراعات الدموية والأهواء البشرية المتناقضة والهائجة. إنه لوهم ساذج ومغفَّل أن نعتقد بأن البشر يتوصلون إلى الصحيح دون المرور في الخطأ، أو إلى الحق دون المرور بمرحلة الباطل، أو إلى النور دون الخبط خبط عشواء في غياهب الظلمات. هذا ما حصل سابقًا للشعوب الأوروبية، قبل أن تتقدم وتتحضر وتستنير؛ وهذا ما يحصل حاليًّا للشعوب العربية والإسلامية التي تعيش الآن مخاض الحداثة العسير، وسوف تكتوي بحرِّ ناره قبل أن تصل إلى نتيجة.

وبالتالي، فإن التاريخ «عقلاني»، على الرغم من أنه يبدو لنا فوضويًّا، مليئًا بالحروب والمجازر والظلم والقهر. التاريخ عقلاني، على الرغم من كلِّ المظاهر السطحية الخادعة التي تقول لنا عكس ذلك. هناك عقلانية عميقة للتاريخ، لا نراها بالعين المجردة، وحده الفيلسوف الكبير يستطيع أن يراها. وهيغل كان فيلسوفًا كبيرًا: أي ظهورًا في التاريخ، تمامًا مثل ديكارت أو كانط.

وبالتالي، فالعالم العربي أو الإسلامي، الذي يعيش الآن أحلك لحظاته، دخل في مصهر التاريخ الكبير، ولا أحد يعرف متى سيخرج منه. فالقضية كبيرة، بل أكبر مما نتصور بكثير! ونحن لا نزال في بداية البدايات؛ وبالتالي، فالفرج ليس قريبًا – ولا أريد أن أبيع أوهامًا لأحد! والدليل على ذلك أنك لا تستطيع حتى الآن أن تنشر دراسات نقدية عن الإيديولوجيا الأصولية التي تتحكم برقابنا، من أقصى المغرب إلى أقصى المشرق ومن المهد إلى اللحد! وأنا شخصيًّا انتظرت حتى الآن – أي حتى سنِّ الخامسة والخمسين! – لكي أجد ناشرًا لأول كتاب لي عن التنوير الأوروبي ونقد الأصولية المسيحية. فما بالك لو أني كرَّست كتبي كلَّها لنقد الأصولية الإسلامية التي استفحل خطرُها وعمَّ العالم حاليًّا؟ كانت ستقوم الدنيا ولا تقعد! بل حتى الترجمات[*] التي نشرتُها كنت متخوفًا منها – فما بالك بالكتابة المباشرة؟! – وهي ترجمات محاصرة على أية حال، وممنوعة في بيئات عديدة.

لكن هذه هي طبيعة التقدم: فهو لا يتحقق إلا من خلال الصراع والمقاومة والعناد – والمعركة مفتوحة!

*** *** ***

عن الشرق الأوسط، 8/8/2005


 

horizontal rule

[*] يقصد هاشم صالح ترجماته لمؤلَّفات أستاذه محمد أركون. (المحرر)

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

Editorial

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود