الأكوان المتوازية

الأكوان الممكنة والتأويل الفلسفي

 

حسن عجمي

 

يُقدِّم الفيزيائي ميشيو كاكو، الاختصاصي الكبير في "نظرية الأوتار"، في كتابه الجديد الأكوان المتوازية: رحلة عبر الخلق والأبعاد العليا ومستقبل الكوسموس[1] أطروحةً مُفادها أنه توجد أكوانٌ ممكنة عديدة ومختلفة. نشرح هنا هذه النظرية في إيجاز ونعرض للتفاصيل العلمية الأساسية التي تؤدي إليها. فالمعرفة كامنة في التفاصيل، وليس الشيطان مَن يكمن لنا فيها. بالفعل لقد مات الشيطان!

يؤكد كاكو أن نظرية الأوتار String Theory تؤدي إلى وجود أكوان ممكنة مختلفة وعديدة. بالنسبة إلى نظرية الأوتار، كل شيء في الكون يتكون من أوتار وتذبذباتها: فمع اختلاف أنغام الأوتار تختلف القُسيمات. فالذرات تتكون من قسيمات particles، والقسيمات (كالإلكترون والفوتون) تتكون من أوتار. في اختصار، العالَم سمفونية أوتار!

لكن نظرية الأوتار تستلزم وجود أبعاد عدة، بالإضافة إلى الأبعاد المكانية الثلاثة والبُعد الزمني (بحسب نظرية النسبية لأينشتاين). وفي هذه الأبعاد الإضافية، تتذبذب الأوتار، فتؤدي إلى نشوء القوى الأربع الناظمة للكون. هذه الأبعاد تلتف حول نفسها بحيث لا نراها في عالمنا. وبما أن الكون يحتوي على هذه الأبعاد المختلفة في هندساتها العديدة والمتنوعة، وعلمًا بأن قوانين الطبيعة تعتمد على هندسة الطبيعة، إذن فمن المتوقع أن تُشكِّل هذه الأبعاد العديدة أكوانًا مختلفة في قوانينها وحقائقها. هكذا تؤدي نظرية الأوتار إلى نتيجة مُفادها أنه توجد أكوان عديدة ومختلفة (ص 19، 199-200).

بالإضافة إلى ذلك، يشير كاكو إلى أنه تم اكتشاف مليارات من الحلول لمعادلات نظرية الأوتار، وكل حلٍّ من هذه الحلول يصف كونًا رياضيًّا متناسقًا ومختلفًا عن الأكوان الأخرى التي تصفها الحلولُ الأخرى لنظرية الأوتار. هكذا تدل نظرية الأوتار على وجود أكوان عدة (ص 207-208، 240).

من جهة أخرى، بالنسبة إلى النظرية الكوسمولوجية المعتمَدة حاليًّا، نشأ الكون من خلال التقلبات الكمية القائمة في العدم. لكن بما أن "العدم" يمتد إلى مساحات شاسعة، فإنه من الممكن علميًّا نشوء أكوان عديدة في "أمكنة" مختلفة من العدم. تضيف هذه النظرية أنه بعد أن نشأ عالمنا تعرَّض إلى تضخم هائل، ولهذا يبدو العالم متجانسًا. وبما أن الكون قد مرَّ بمرحلة تضخم في بدايات تكونه، إذن فمن الممكن أن الآلية ذاتها التي أدَّت إلى تضخمه مازالت فاعلة، مما يؤدي إلى نتيجة مُفادها أن عالمنا بالذات قد تضخَّم في مراحل مختلفة. وهذا التضخم المتوقع للكون في مراحل مختلفة يتضمن إمكانية ولادة عالمنا لأكوان مختلفة. هكذا تنجب الأكوانُ أكوانًا أخرى: الانفجارات العظيمة تحدث في استمرار، فتنتج عوالم مختلفة (ص 13-15، 94-95).

قطة شرودنغر

ليست العلوم التي تُعنَى بدراسة الأجسام الضخمة، كالكوسمولوجيا، وحدها تؤدي إلى نتيجة وجود الأكوان الممكنة، بل العلوم التي تدرس عالم ما دون الذرة هي الأخرى تؤكد وجودها. فبالنسبة إلى الميكانيكا الكوانتية، عالم ما دون الذرات محكوم بمبدأ هايزنبرغ في اللاتعين Indetermination Principle. تقول الميكانيكا الكوانتية إنه من غير الممكن قياس سرعة القسيم ومكانه في آنٍ معًا (عدم تعيين). لقد عَبَّر العلماء عن هذا القانون الطبيعي من خلال قولهم إن قطة شرودنغر حية وميتة في الوقت ذاته. فبما أنه من غير المعيَّن مكان القسيمات وسرعتها، إذن فمن غير المعيَّن ما إذا قد أُصيبت قطة شرودنغر بطلق ناري وماتت من جراء ذلك أم لم تُصَب ولم تمت؛ لذا فإن قطة شرودنغر حية وميتة في آنٍ معًا. لكن من المستحيل أن تكون قطة شرودنغر حية وميتة في الوقت ذاته، لأنه من التناقض أن تكون كذلك! من هنا استنتج بعض العلماء أن عالمنا يتكون من أكوان مختلفة، بحيث إن قطة شرودنغر حية في بعض تلك الأكوان، لكنها ميتة في بعض الأكوان الأخرى! وبذلك نتجنب التناقض. هكذا تقترح الميكانيكا الكوانتية أنه توجد أكوان ممكنة ومختلفة.

بالإضافة إلى ذلك، بما أنه بالنسبة إلى الميكانيكا الكوانتية مبدأ اللاتعين يحكم العالَم، فمن المحتمل أن تُخلَق القسيمات من العدم وأن يختزل بعضُها بعضًا، فتوجد بذلك القسيمات الافتراضية virtual particles التي ترقص في تجلِّيها في الفراغ لتفنى فيه. على هذا الأساس، قد تولد الأكوان المختلفة من العدم لكي تزول فيه مجددًا (ص 132-135، 145، 168).

لقد رأينا عرض كاكو للحجج والنظريات العلمية المختلفة التي تُلزِمنا بوجود الأكوان الممكنة. لكنه أيضًا يُقدِّم دفاعه الخاص على النحو التالي: بمجرد أن نسمح بإمكان نشوء عالَم واحد، نفتح الباب أمام احتمال نشوء عوالم ممكنة ولامتناهية. فبالنسبة إلى الميكانيكا الكوانتية، الإلكترون لا يوجد في مكان معيَّن، بل يوجد احتمالاً في كلِّ الأمكنة الممكنة حول نواة الذرة. لكن الكون في بدايته كان أصغر من الإلكترون. وبذلك إذا طبقنا الميكانيكا الكوانتية على الكون ككل، تصبح النتيجة أن الكون يوجد في كلِّ الحالات العديدة والمختلفة والممكنة في آنٍ معًا. وهذه الحالات الممكنة والمختلفة ليست سوى الأكوان العديدة. وبذلك يستنتج كاكو أنه لا مفرَّ من الاعتراف بإمكان وجود الأكوان الممكنة (ص 92-93، 176).

هذه الأكوان التي نتحدث عنها ليست المجرات المختلفة في عالمنا، بل إن المجرات جزء من عالمنا الواقعي بالذات. فالأكوان الممكنة قد تشبه عالمنا وقد تختلف عنه. وبعض الأكوان الممكنة يختلف في قوانينه الطبيعية وحقائقه وظواهره عن الأكوان الممكنة الأخرى وعن عالمنا الذي نحيا فيه. والفيزيائيون اليوم يعتقدون اعتقادًا قويًّا بأن هذه الأكوان موجودة (ص 96، 101، 107، 184).

ميشيو كاكو

نظرية الأكوان الممكنة ليست مجردة فقط، بل لها تطبيقات تفسيرية في العلم والفلسفة. فمثلاً، يستشهد كاكو بالعالِم الفيزيائي ريس Rees الذي يفسِّر لماذا يوجد عالَم كعالمنا من خلال وجود الأكوان الممكنة. يقول ريس: بما أنه توجد أكوان ممكنة مختلفة وعديدة، إن لم تكن لامتناهية، إذن فليس من المستغرَب أن يوجد عالمٌ كعالمنا له قوانينه وحقائقه الخاصة به. ومثال ذلك أننا إذا دخلنا إلى متجر لبيع الثياب، حيث توجد ثياب بمقاسات مختلفة وعديدة، لن يكون حينئذٍ من المستغرَب أن نجد ثوبًا على مقاسنا. وهكذا ليس من الغريب أن يوجد عالمُنا بالذات (ص 253).

عقول عديدة

أما أحد التطبيقات الفلسفية لنظرية الأكوان الممكنة فهو التالي: بما أنه (على الأرجح) توجد الأكوان الممكنة، إذن فلكلِّ عالم ممكن قوانينه وحقائقه التي قد تتشابه مع قوانين العوالم الأخرى وحقائقها وقد تختلف جذريًّا عنها. على هذا الأساس (وعلى الأرجح)، توجد أكوان ممكنة تشبه جدًّا عالمنا الواقعي، لكنها تختلف عنه في بعض حقائقها. بذلك فمن الممكن أن تنشأ في تلك الأكوان عقولٌ مختلفة عن العقل الموجود في عالمنا الواقعي. وبذلك فمن الممكن في تلك الأكوان أيضًا أن يتجسَّد العقل في أدمغة مختلفة جدًّا بعضها عن بعض، وتحديدًا مختلفة عن أدمغتنا؛ كما من الممكن في تلك الأكوان أن يوجد العقل في آلات، كالكومپيوترات المتطوِّرة، بدلاً من أن يوجد فقط في أدمغة بيولوجية كأدمغتنا. وبما أن هذه الأكوان شبيهة جدًّا بعالمنا، إذن فمن الممكن أن يتجسَّد العقل في تجسدات مختلفة في عالمنا.

وهذا يُرينا خطأ النظرية المادية في العقل التي ترفض تلك الإمكانية من جراء اعتبارها أن العقل هو مجرد الدماغ البشري. فعلى الرغم من أن قوانين الطبيعة والظروف التاريخية تحكم نشوء العقل وطبيعته، فمن الممكن وجود عقول مختلفة عن عقولنا في عوالم تختلف بعض ظروفها الطبيعية عن عالمنا. وبسبب اختلاف بعض الظروف الطبيعية في تلك العوالم، يختلف العقلُ فيها عن عقولنا، مما يسمح بتجسدات عدة ومختلفة للعقل.

أخيرًا، لقد رصد الفيزيائي كاكو في كتابه الأكوان المتوازية المعالم الأساسية لنظرية الأكوان الممكنة وكيف أن أحدث النظريات العلمية تستدعي وجودها. كما رأينا أن نظرية الأكوان الممكنة ليست نتيجة علمية مجردة فقط، بل لها تطبيقاتها العلمية والفلسفية أيضًا.

*** *** ***


[1] Michio Kaku, Parallel Worlds: A Journey Through Creation, Higher Dimensions, and the Future of the Cosmos, DoubleDay, 2004.

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

Editorial

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال يوسف وديمة عبّود