أمَـــــل[1]

يوسف سامي اليوسف

 

لست أحنُّ إلى كائن من كائنات الماضي والحاضر، في هذه الأيام، بمقدار ما أحن إلى أمل – وهي التي ما خُلِقَتْ إلا لتكون عزاءً لي في هذا العالم المأتمي الشاحب الكئيب. فقبل أن أصادفها كنت أحسب أن المرأة التي أستطيع أن أتولَّه بها متعذرةُ الوجود. ولكنني حينما التقيتُها وشغفتْني حبًّا آمنتُ بأن المثال يملك أن يتحول إلى عيان منظور. وبعدما رحلتْ أو فارقت، وأدركتُ مدى الفاقة التي يتردَّى فيها الواقع، صرت أكتفي بالأخيلة وحدها، أتخذها قوتًا لروحي المحزون بعد الخسران. فيا للحنين الحارق المنهوم! ويا للأشواق التي لا تلبية لها بتاتًا!

* * *

كانت من الخارج ماسةً مكسوةً بالرونق والزَّهاء؛ أو هي صافية كالماس دون سواه من الأشياء التي أنجبَها النور. وليس بالمصادفة أو من قبيلها أنها كثيرًا ما كانت تذكر ذلك الحجر الكريم بوصفه رمزًا للصفاء والبراءة ونظافة الوجدان. فلو لم تكن هي نفسها ماسةً لما فعلتْ ذلك. وأما من الداخل فهي ياقوتة، أو تتضرَّم كالياقوت. فمازالت تخطر في بالي فتيةً، يانعةً كالنعناع البري؛ بل هي أجمل من بزوغ البدر في مساء هانئ رغيد. ولسوف تظل في مخيلتي فتاةً من شيعة النور، من سلالة الألطاف الحسنى التي هي المطلب النهائي لروح الإنسان.

كنت حين ألتقيها أرى البِشْر يطفح من وجهها ويفيض، بل أشعر بأنها تجسيد للأسطورة التي هي أصدق من الحقيقة وأمتع والتي من شأنها أن تصون بكارة العالم دومًا، حتى لكأنها نافذة تطل على الأزلية. وعندي أن هذا التناسُم مع الوسيم هو السعادة نفسها أو الغبطة التي لا تطالها اللغة، بل يقصِّر عن إدراكها كل شكل من أشكال التعبير؛ أو قُلْ إنه البرهة الجوهرية التي لا مذاق للعمر من دونها قط: فكل مَن لم يَعِشْ ذلك التناسُم المنعش لا يعرف لباب الحياة ولا خبرة له بسرِّها المصون عن غير المرهفين. إنها النهلة العسلية التي لا يذوقها المرء في حياته إلا لمامًا، حتى وإن عاش مئة سنة. أما إذا ما ذاقها فعلاً، فإنه يكون مثل مَن تناول رشفةً من النكتار، شراب الآلهة المترنِّم النشوان. ومن دون تلك النهلة لا يكون العمر إلا صنفًا من أصناف الاعتلاف بالتبن والزؤان. ونظرًا لأن لذَّتها عظيمة، فإنها تكاد أن تكون اللقمة التي تكفي زادًا للعمر كلِّه.

لكم هي سعيدة تلك البرهة الشبيهة بقوس قزح ينتصب في أعالي الفضاء، فأعبُّ البهجةَ من أُنْس الفتاة وبِشْرها ودماثتها ورخامة صوتها الشبيه بزقزقة العصافير وتغريد القبَّرات. فمن البديهيات أن مشاهدة أمل من طبعها أن تولج الدفء والمسرة إلى سويداء الفؤاد، وعلى نحو تلقائي يسير. وبسبب زخم حضورها وقوة تأثيرها، ولأنني لم أكن أصدِّق أنها معي، فقد كنت أشعر بأنها تشبه الزمن الذي هو موجود وغير موجود في آن معًا.

ولكن حضرتها الطاغية أو الآسرة – حضرتها الاستيلائية والأنيسة في الوقت نفسه – من شأنها أن تدفعني إلى اقتناع مكين بسرمدية الفروق بين الأفراد، وكذلك بديمومة التغاير الذي لا يعنو لأيِّ امِّحاء. فشتان بين مَن هو مؤنس حميم ومَن هو موحش دميم!

وفي غضون تلك الجلسات التي عشتها مع أمل، أو قُلْ في أثناء التناسُم مع المدمث الأهيف، صرت أجيد فنَّ الإصغاء، بل أتقنه أيَّما إتقان، مع أن ذلك ليس بالأمر اليسير؛ استوعبتُ ما فحواه إن الاستماع الكامل هو التمثل الكلِّي لأية لفظة يتلفَّظ بها الجليس. فكأنما كانت تبذر في تربة نفسي بذور الصدق والطيبة والإخاء البشري. وعندئذٍ أشعر، بل أتيقن من أن لي روحًا خالدة لا تفنى. وهذا هو الاتصال في العمق الذي تسعى إليه النفس في كلِّ زمان ومكان.

أما روائحها الطيبة فتخلق في وجداني مشاعر سرِّية، حتى لكأنني أشم رائحة الأنوثة نفسها، أو رائحة الجوهر الأنثوي الذي لا يدركه إلا التجريد المحض. وحينئذٍ أراني أغتبط لأنني إنسان، كائن ينتسب إلى الجنس البشري الذي يتمتع وحده بالعواطف الروحية. ولهذا كلِّه، لا أنكر أنني تذوقت بعض لُقَيْمات من السعادة في ما مضى من زماني الغابر البعيد. وها أنا ذا اليوم أقسم بأغلظ الأيمان أن كلَّ الذي حصلت عليه من أمل هو الكلام وحده، أو كما قال أحد الشعراء التراثيين:

كلمتْني، وذاك ما نلت منها      إن سعدى ترى الكلام ربيـحًا

ولكم علمتْني أمل من حقائق روحية نفيسة – ولعل هذه الفكرة أن تكون أهمها دون استثناء: الجمال نصرٌ تحرزه الروح على المادة، النور على الظلام؛ أو هو آية صراح على جنوح المادة نفسها صوب الاستحالة إلى روح. والجمال أشبه الأشياء بالنور، وذلك لأن الشيئين كليهما لا تدركهما أية حاسة سوى حاسة البصر التي هي من سلالة الضياء. إن بقية الحواس لا تمسها بتاتًا. ترى، أإذا لمستَ خدَّ امرأة جميلة، أتكون قد لمستَ الجمال أم جلد وجهها فقط؟ إذن، لا يُذاق النور والجمال إلا بالروح وحدها. وهذا كله جزء من مذهب أمل الطيبة الحنون.

وبفضل هذه المزايا كلِّها، ولجتْ الفتاةُ إلى سريرتي فتيَّمتْني، فتولَّهتُ بها حتى درجة لا تطالها اللغة. وتحت رقية هذا التولُّه الاستيلائي، تمكنتْ أمل من أن تعلِّمني الكثير. إذ ما من شيء يعلِّم كما يفعل الحب الناجي من الضحالة والفتور. فلكم هي لحظات منعشة، دافئة، فاتنة، تلك اللحظات التي عشتها مع أمل في غابر الزمان والتي همدتْ وتلاشت إلى أبد الآبدين – واحسرتاه! وعندي أنه ما من نار إلا وهي برد وسلام – عدا نار اللوعة التي يتركها الحنين إلى ما يند عن الاسترداد.

أما الأماكن التي ارتدتُها مع أمل وحدنا، أو دون ثالث، في سالف الأيام، فبودي أن أكرِّسها للقداسة حصرًا، أو أحيلها إلى مزارات ومعابد، فلا يؤمها إلا الأبرار والأطهار دون سواهم من الناس كافة. ولا لزوم للكتمان. فأنا مازلت حتى اليوم أرتاد تلك الأماكن وحدي، أتجول فيها في تؤدة وأناة، تُبهِظني اللوعةُ والحسرة، ويسوقني حنينٌ عارم يتموَّر في باطني دون أن يرضخ لأيِّ كبح أو ضبط؛ ولكنه حنين يشوبه حزنٌ رقيق ناعم سببه الشعور بالخسران المؤبد، وذلك لأن ما مضى لن يعود أبدًا.

ومع ذلك كلِّه، مع تلك اللوعة والحسرة والحزن الباهظ، لا تمتد أية يد لتمسح الأرق والتوتر عن جفوني. وفي أثناء تجوالي في تلك الربوع المقدسة، أراني أُكثِر من ترديد هذا البيت الذي قاله مجنون بني عامر:

وإنِّي وإن غالَ التقادمُ حاجتي           لآتٍ إلى أبيـاتِ ليلى فناظر

مازالت تلك الأماكن المكسوَّة بالمستور تنتج في سريرتي شعورًا بالدنف والحسرة والمرارة، شعورًا بالخيبة والخسران. يقينًا، إن الإنسان هو الشعور، على وجه الحصر؛ أو قُلْ إن المرء شعور وزمان، أو فلذة من الدهر قبل كلِّ شيء. فما تشعر به هو الحقيقة، وإن كان هنالك ألف من البراهين التي يملك كل منها أن يفنِّد شعورك ويدحض ما لديك من انطباعات.

فمما هو سهل الاستيعاء أن مَن اشترى عطرًا فإنه يكون قد اشترى شعورًا. وكذلك حال من اشترى خمرًا. وشراء الملابس مزيج من الاستجابة للحاجة ومن الاستمتاع بالأناقة. أما الحب فهو شعور لذيذ قبل أن يكون وسيلة إلى تخليد الجنس البشري. وأعتقد بأن قيمة أيِّ شيء تكمن في قدرته على أن ينتج شعورًا أصليًّا منعشًا في فضاء روحي المغرم بإفراز العواطف المأهولة بألوان شفقية، لا تخلو من حزن ناعم شفيف. ولهذا أراني أؤمن بأنه ما من أهمية لأيِّ أدب أو فن لا يبلغ إلى سويداء الفؤاد (ومن هنا جاءت البلاغة) أو لا يؤثر في الصميم من باطن الإنسان. كما أؤمن بأن التأثير الإيجابي جملةً له معنى خلاصته أن القوة استحالت إلى خير وليس إلى شر.

ومع أنني عايشت أو حاورتُ فتياتٍ أجمل من أمل بكثير، ولاسيما هيام التي أحسبها استحضارًا ملموسًا للسر، بل للأزلية نفسها ولكُنْه الكون وفحواه، إذ إنَّ لها مقلتين عسليتين صافيتين، وثغرًا صغيرًا مثل برعم الورد، ووجه فتاة غريرة بريئة ناجية من كلِّ خبث أو عَكَر – مع ذلك، فإن أمل الخالصة من جميع صور الدمامة قد تركت في شعوري أثرًا لا يمحوه الزمان إلا إذا تمكَّن من محو الأهرام! وكثيرًا ما كنت أستهجن أن الأرض لا تتفجر عيونًا حين تسير عليها هيام الفاتنة المبهاج، الشديدة القدرة على السبي بعد الاستيلاء. إنها من أولئك النعناعيات اليانعات اللاتي يرشقن عليك نظرةً سالبة، ثم يفارقنك، فلا تراهن مرة ثانية إلا بمصادفة خالصة. أجل، ويفارقنك ويخلِّفن تفطُّرًا في بنية الروح، ولكن دون أيِّ عزاء مهما يكُ صغيرًا. وذات مرة، أو خلال سنة 1965، قلت فيها قصيدةً لا زلت أحفظ مطلعها:

هام الجمالُ على خدَّيكِ وانتشرتْ        أطيافُ شَهْدٍ مصفَّى في مآقيك

وفي بيت آخر، وهو مما نسيت، – وما أكثر ما نسيت! – وصفتُ شفتيها الطريتين كالقطيفة بأن لهما – على ما أتخيل – مذاق العسل البري المفرط في العذوبة والحلاوة، بل مذاق كلِّ ما هو برِّي مترع بالبكارة والطراء، وإن كنت لم أذقهما بتاتًا. ويلاه! إن الماضي يتحكم في الحاضر على نحوٍ صريح أحيانًا، وعلى نحو مكتوم أحيانًا أخرى.

* * *

وأحسبني صادقًا إذا ما زعمت بأن المسرَّة كانت تنبع من حنايا صدري، ويتدفق مسيلُ النعمة في شراييني، حين كنت ألتقي أمل على انفراد، وإن يكن اللقاء في مكان عام. إذ في مثل تلك البرهة أشعر بأنها تشع رونقًا له جاذبية خلابة آسرة؛ بل إن جاذبيتها لا تقل شدة وفعالية عن الجاذبية الأرضية التي من شأنها أن تمنع الأشياء من التبعثر في الفضاء. وهذا يعني أن التفاعل والتأثير المتبادل، وليس التراصُف والتجاور، هو بيت القصيد في هذه الدنيا بأسرها، وأن القوة لا تتجلَّى في أيِّ مجلى إيجابيٍّ كما تتجلَّى في التفاعل الذي يعيد الصيغة الباطنية من جديد.

كنت، حين أراها معي وحدي دون ثالث، أشعر بأن الرواسي تميد، وبأن الكائنات سراب، والأصوات أصداء، والعالم طيف بلا ملامح ولا قسمات، حتى لكأن خيالي الناشط يتعمد أن يمارس النفي والتعديم على الموجودات قاطبة، وذلك كي أبرهن لتلك الآنسة الهيفاء بأنها الكائن الوحيد الذي يحق له أن يتكون في هذا العالم الشاسع الرحيب. وكثيرًا ما كنت أتخيلها في برهة اللقاء وكأنها العروس في حفلة العرس: فهي لباب الزفاف كلِّه، وجميع المحتفلين ليسوا سوى لحائه أو قشوره الناشفة العجفاء. وأما في باطني فثمة نشوة لا تنتج مثلها أية خمرة، بل لا ينتج لها صنوًا سوى تلك الحضرة الصوفية أو المستورية التي لا تعنو لأيِّ تفسير. وأحسب أن هذا هو الوصال الأصلي الذي يلوب عليه كل روح حي.

ترى ما هذه الحال الباطنية الصرف التي يسمونها العشق؟! وكيف يستولي الشائق على المشوق، أو مصب الحنين على ذاك الذي يفرز الحنين؟! هل يجوز القول بأن الحب ما كان له أن يعرف دربَه إلى الوجود إلا لتبلغ الحياةُ ذروةَ كمالها وشرفها ونبل مقصدها؟ ومما هو مؤسف أن لا يتنبَّه علمُ النفس الحديث إلى الفرق بين الشبق والعشق. أويُعقَل أن يكون للحياة الروحية أي مستوى من مستويات الامتلاء بغير هذا الصنف من أصناف التفاعل الأصيل؟! فيا لهذا المعراج – هذا البُراق الذي يعرج بالروح إلى سدرة المنتهى! ولكم أصاب الصوفيون حين قالوا: "لا مرام سوى الغرام"!

ولهذا أقصد أن الحب آسر يستولي على الصميم، فتلتذ الروح باستعباده لها عبودية استرقاق. كنت إذا غابت أمل ألوب عليها كما يلوب الفطيم على ثدي أمِّه. فإذا طال الغياب أصابني الدنف – وهو في الأصل كل مرض مُلازِم ثقيل، ولكن صار مخصوصًا لمرض الحب حصرًا. وهذا يعني أن الغرام شقاء، ليس إلا. ومع ذلك، فإنه خير من أن يعيش المرء خاليًا منه، لأن الخلوَّ من الحب يعني ألا يذوق الروحُ طعمَ رحيق الآلهة. ويبدو أن الجمال والحب والحرية هي أبعد غايات الروح البشري وأسماها وأشهاها إلى النفس.

ولكن تجربتي مع النساء قد أكَّدت لي أن حبًّا بلا ضفاف هو من قبيل اللامتاح – أو قُلْ إن الحب الكامل العميق هو اللامتاح نفسه، وإنه إذا ما أتيح، أو صار ممكنًا، فليس ذلك إلا على ندرة فقط، وخلال برهة عابرة وجيزة، أو هي ليست بالطويلة ولا بالهانئة إلى الحدِّ المنشود.

ومع ذلك، فإن وجودي كلَّه لا محيدًا له عن أن يكون وجودًا شبحيًّا شاحبًا، أو غسقًا أطلس دامسًا، لولا حفنة الفتيات اللائي تَقاطَع مسارُ حياتهن مع مسار حياتي، فصارت كل واحدة منهن بمثابة جذوة مازالت تتوقَّد وتتوهج، فتُدفِئ أيامي في هذا الطور الشتائي من أطوار العمر. ولَكَم صَدَقَ ذلك الشاعر العباسي الذي قال: "فما طيَّب عيشًا إلا الخناث الإناث." ولا غلوَّ إذا ما زعمتُ بأن تماسِّي معهن هو تعويض لي عن وجود الشرور في هذا المسلخ الكبير الذي يسمَّى "العالم"، الذي يتحكم فيه المالُ والمرابون والانكشاريون الجدد وجميع أصناف النذالة والسفالة.

* * *

وعلى أية حال، فإنني لست بالمفتري إذا ما حسبت أن ما تمسُّه أمل بأناملها الغضة يَخْضَوْضِر ويُزهِر من فوره، بل يستحيل إلى نور، حتى كأنها مأهولة ببذرة سرية تملك أن تشعَّ مثل حجر كريم. إنها بذرة من نور قمريٍّ يتألق في سويداء فؤادي، بل يتضرم كالياقوت الرمَّاني الذي هو أجود أصناف اليواقيت. وبما أنها تسكن في نقطة ازدلاف الأشياء، أو بين ينابيعها الغزيرة، بل في بؤرة القلب حصرًا، كما أنها تحيط به في الوقت نفسه إحاطةَ المريمات بالمسيح في برهة المحنة، فإنها سوف تظل حيةً مادام هذا الفؤاد ينبض ويضخ الدمَ في الأوردة والشرايين. ولهذا، فإن لها قدرةً على أن تنتج في وجداني غبطةً لا يضارعها أي شعور آخر سوى الثمالة والانتشاء بالأسرار.

وكنت أحسب حين تتكلَّم أمل بأنها اكتشفت ما هو سرمدي في الأشياء، أو ما هو أزلاً عين ذاته، وذلك لأنها تتكلَّم في ثقة لا يحوزها إلا مَن وضع يدَه على اللغز؛ وكذلك لأنها تبحث عن الوئام والانسجام بين الكائنات، بدلاً من التنقيب عن الاختلاف والنشاز والانشعاب وما إلى ذلك من صفات سالبة أو شائبة. وهي بهذا تذكِّرني بذلك الرأي القديم الرامي إلى أن الكون مثال يتجلَّى فيه مبدأ التناغم على خير وجه ممكن: "لم يكن في الإمكان أخيَر مما كان." فهي بذلك تجسيد لحنين الإنسان الدائم إلى كمال متعذر، أو قُلْ إلى اللامتاح نفسه.

ومع أنني كنت – ولازلت – أؤمن بأنه ما من سلام في الكون بتاتًا، بل حربٌ دائمة لا تكف ولا تركد، – أو قُلْ مع أنني أومن بوجوب الصراع والنزاع، وبالحاجة إلى الشقاق بدلاً من الوفاق، حتى يزول الفقرُ والظلم والعدوان من الدنيا بأسرها، وحتى يؤمن جميعُ الأوغاد والأوباش والعدوانيين بأيِّ مبدأ أخلاقيٍّ من طبعه أن يفضي إلى احترام إنسانية الإنسان، – مع ذلك، فقد احترمتُ شعور أمل بالحاجة إلى الصلح والسلم وهدأة البال، كما احترمت إنكارها لوجود اللَّعنة الكلِّية في عالم ساقط ملعون، تتحكم فيه القرصنة والربا والأسلحة الفتاكة، وأكبرتُ أفكارَها الملتزمة بالطيبة والعيش الهنيء، وإن يكن بسيطًا، بل فقيرٌ بالأدوات. وشعرت بأنها روح مطهَّمة هيفاء، أو نعمة هبطت عليَّ من المواضع اللدنِّية، أو "من المحلِّ الأرفع"، وفقًا لعبارة ابن سينا. فلكم أتمنى لو أن الوقائع تنبجس من الأساطير والأحلام ترفرف في فضاء النفس، دون أن تتمكن من أن تشتق لها دربًا إلى الخارج العينيِّ المحسوس.

ذات يوم، حدَّثتْني عن الماس وعن احتراقه بلهب أزرق لا نظير له بتاتًا، وأوحت إليَّ بأنه نور تجمَّد فصار من أجل اللمس، بعدما كان من أجل البصر وحده. وفي تلك الهنيهة، راحت تحرِّك أناملها بلطف فتَّان، فخيَّلتْ إليَّ أنها تبذر بذورَ النور في قاع روحي! لكم كانت أمل عذبةً ونقية وصافية كالماس، بل أصفى منه بكثير. وحين تتكلَّم بصوتها الرخيم المنغوم، ذي الرنين الفضي الهادئ، أشعر بأنها وردة تمارس التضوُّع والنفح، أو بأن روحها مأهولة بشرارة علوية لها سمة التضرم على الدوام. فلكم يحرِّضك حضورُها على أن تقول من صميم فؤادك: ليت الحياة شباب خالد، وحب دائم، وربيع مقيم لا يرحل ولا يذبل ولا يزول.

* * *

أما سجيَّتها الأولى فمؤداها أنها تملك أن تأخذ بيد الرجل إلى الكمال. وهي بذلك تشبه واحدة من اللائي ربطتْني بهن فيما مضى صداقةٌ متينة أو علاقة من فصيلة الاستهواء المتبادل: واحدة فقط، اعتدتُ أن أسمِّيها باسم "السمراء". ولقد ألهمتْني قصيدةً سنة 1957، يوم كنت في التاسعة عشرة، ختمتُها بهذا البيت من الشعر الذي لازلت أحتفظ به في خزانة ذاكرتي حتى الآن:

ما أنت، يا سمراء، إلا قبلة     طَبَعَ الزمانُ بها جبينَ حياتي

إن "السمراء" جرحي النغَّار الذي لا يرقأ له نزيفٌ ولا يعنو للاندمال بتاتًا. ويبدو أن الزمن لا سلطة له على الأعماق ولا على الأحداث التي تخص قاع النفس. فقد مرَّ زهاء نصف قرن على ذلك الجرح، ولكنه مازال هو هو تمامًا، ينزف مثلما كان في بداية عهده. وإن "السمراء" كبرى خسائري، أو هي الخسارة التي لا تبذها أية خسارة أخرى سوى خسارتي للوطن وحدها!

وإني لأستهجن كيف عاشت "السمراء" حتى اليوم، مع أنها مزوَّدة بالخصال الثلاث التي إذا اجتمعتْ في أية شخصية فإنها قلَّما تظل على قيد الحياة: الطيبة والجمال والذكاء، وكذلك قوة الحضور التي تنم عن عمق النفس ورجاحة العقل، أو عن الكمال حصرًا. إن الكمال هو الغاية النهائية التي يطلبها الرجلُ في المرأة، بل في نفسه قبل سواها. وهذا يعني أن الجمال وحده لا يكفي. وكما قال د.هـ. لورنس، الروائي الإنكليزي الذي أحبُّه كثيرًا، عن فريدا، زوجته الألمانية التي تعلَّقت به كما يتعلَّق الحديدُ بالمغناطيس: "إنها امرأة للعمر كلِّه."

وفي قناعتي أن أيًّا من هاتين الفتاتين – أعني أمل و"السمراء"، ومن الميسور أن أضيف هيام – تصلح لأن تكون "امرأةً للعمر كلِّه" فعلاً. كما أن الشيء الطفيف الذي حصلتُ عليه منهن يكفي زادًا لما فات من عمري، ثم للشطر الذي لم يأتِ بعد، وذلك لأن أيًّا منهن تجسِّد الهناء على هذه الأرض اليباب. ولكنني أستهجن كيف أطعتُ لوعةَ فراقهن جميعًا، أو كيف عشتُ دون أية واحدة منهن.

وأيًّا ما كان جوهر الأمر، فإن سجية من أبرز سجايا أمل تتلخَّص في أنها حسَّاسة تجاه الغوغائية والجلافة وسوء الأخلاق؛ وهي شديدة القدرة على أن تشم رائحة السوقية التي تُضمِرُها أقوالٌ لظاهرها صفة الخير ولكن باطنها مكتظ بشرٍّ أسود كالح غشوم. وبعد سلسلة من المحاورات، استقرأتُ أن لها حساسيةً مرهفة وقدرةً على الاستبار واكتشاف المخبوءات أو إماطة اللثام عن المكر المستتر داخل المقول الملغوم، وكذلك داخل المسكوت عنه في آنٍ واحد. ولهذا، فقد تركتْ فيَّ انطباعًا مُفاده أن الكثير من مشاعرها ينطوي على وضاءة وجدان أو نضارة عقل دائمة تند عن سلطة الزمن، فلا يطالها الجفافُ أو الذواء بتاتًا. ففي الصدق أن بعضًا من مشاعرها قد التغمتْ مع نسيج نفسي إلى الأبد؛ إذ إنها ما فتئت تخفق هنالك حتى اليوم. وكثيرًا ما شعرت بأنها تمتح مزاياها أو سجاياها من ينبوع الينابيع كلِّها، حين يتدفق الكلام من بين شفتيها الطريتين كشمع العسل أو بتلات الورد. يقينًا، إن لصوتها جاذبيةَ الغناء المطرب الحنون، بل هو لا يقل روعةً وتأثيرًا في الوجدان عن وَقْعِ المطر حين يهمي على الأرض. وخلاصة الأمر أنني لم أعد أشاهد فيها أية مثالب، بل مناقب وحسب.

* * *

ثمة نسوة كنَّ ينلن شديد إعجابي، وكنَّ يجذبنني إلى حدِّ الاضطهاد. أولئك نسوة كنت أقف في حضرتهن ذاهلاً مصعوقًا، كأنهن البهتان لشدة صدقهن! ومع أن لهن أخذةً وفتونًا، أو مع أنهن من ذلك الصنف الاستيلائي المؤثر حتى مخِّ العظام، فإنني لا اشتهيهن البتة، ولا تسوِّل لي نفسي أن أشاطرهن أيَّ فعل ينتسب إلى مملكة الجسد، بل لا تساورني أيةُ رغبة حتى في لمسهنَّ باليد، كأنهن تجسيد لمستور من المستورات العظمى. وأحسب هذه الفصيلة الباهرة من النساء ما وُجِدَتْ إلا لتكون من أجل العين وحدها، أو من أجل إيقاظ أحلام من ذلك الصنف الوجداني الشبيه بنافذة وهمية تطل على السرمدية. ثم إن لهنَّ قدرةً خاصة على دفع النفس نحو التعلق بالسمو، وذلك لأن جمالهن السامي لا يُذاق إلا بالروح وحدها. وحين أكون في حضرة واحدة من أولئك الزاهرات أشعر بأن الإنسان، إذا ما اكتمل بنيانُه الداخلي وصورته الخارجية في آنٍ واحد، فهو كائن شريف فاضل مؤنس نيِّر، يتضرَّم كالشمس في رأد الضحى. وحينئذٍ أراني أؤمن جازمًا بأن البشر ليسوا البتة سواسية كأسنان المشط.

في الماضي، كنت أقول بوجوب التمييز بين المرأة "الجميلة" والمرأة "الشهية"، أو بين الحسناء الخلابة التي يصلح مشهدُها للتذوق الجمالي والسموِّ الوجداني فقط وتلك التي تحرِّض في النفس نزعة الاشتهاء التي لا ترقى إلى مستوى النزعة الأولى بتاتًا. فشتَّان بين الروحاني والجسماني، بين ما هو من أجل اللباب وما هو من أجل القشور. أما اليوم، فلا يعني الإنسان أيَّما معنى في نظري إلا بمقدار ما هو طيب وأنيس. ولئن أضاف الذكاء إلى الطيبة والأنس، فإنه يكون قد بلغ إلى تحقيق المثال أو تحويله إلى عيان منظور. وبسبب هذا المزاج النازع إلى الأقاصي والأعالي، لم تسوِّل لي نفسي في أيِّ يوم من الأيام بأن أقبِّل شفتَي أمل الورديتَي اللون والمخملتَي الملمس، لأن ذلك، في نظري، عدوان على الحقيقة حصرًا وجريمة بحقِّ الجمال نفسه. فالينبوع الروحي لا يُذاق إلا بالروح وحدها. أما الشفاه فلها قوت هو الخبز، وأما الوجدان فلا قوت له سوى الجمال وبكارة الألطاف الحسنى.

وعلى أية حال، فإن ذلك الصنف الجليل من النساء، المتخصِّص في إنجاز النضج والكمال، أو في إضفاء الفحوى على الكينونة، هو الذي يستهويني ويجتذبني، أو يأسرني على نحو لا فكاك لي منه – بغضِّ البصر عن جمال وجوههن أو هيف أجسادهن الممشوقة الباذخة. والنضج هو الامتلاء الزاخر الهادئ، والكمال هو الفيض المتدفق الغزير. ومما هو صادق تمامًا أن أمل واحدة من هذه الفصيلة العظيمة السامية النادرة. فهي دائمًا تتدثَّر بجلال وقور ينم عن معنى يرخم في أقصى ينابيع الشخصية، بحيث لا يتيسَّر للمرء أن يكتنه فحواه في سهولة – مع أنها فتاة جدُّ بسيطة، وتحب الخير والسلام لجميع الناس؛ بل هي حقًّا تحب الإنسانية التي لا أعرف مَن أحبَّها في أيِّ مكان من هذا العالم. وربما رَخَمَ سرُّها الذي لا يُسبَر له غور في بساطتها وفوريَّتها المباشرة، فضلاً عن جمال وجهها المهيِّئ لاضطرابات النفس.

* * *

ما مِن شيء يستهويها كما يفعل النور الذي يزوِّد جميع الكائنات بالأنس، وكذلك اليخضور، ولاسيما تلك النباتات الزاهرة التي من شأنها أن تُشيع الغبطة في جوف الوجدان. فما كان منِّي إلا أن سمَّيتُها "سميرة النور" بعدما تيقنت من أن لها بالنور شغفًا لا يبذه سوى شغفي بالغيوم والأمطار. إنها تتحدث عن النور كما لو أنه شيء يصلح للشرب بدلاً من النبيذ، بل حتى بدلاً من الماء العذب الزلال. ولقد أوحى إليَّ مجمل أحاديثها حول هذا الموضوع بأن النور هو الوطن وبأن الظلام هو المنفى الذي تستقر فيه السحالي وتسكن الغيلان. إن النور والظلام يتنافيان إلى الأبد. وكثيرًا ما رأيتها، وخاصة في أحلامي، نجمةً تشع وتتألق في فراغ غاسق لزج؛ بل كثيرًا ما اعتقدت بأنها هي نفسها ما وُلدت إلا لتكون بمثابة انتصار تحرزه قوة النور على قوة الظلام وقوة الحب على قوة البغضاء، وذلك نتيجة لمرسوم أصدرتْه العنايةُ نفسها. فالنور عندها رمز السلام وسمة الصفاء في آنٍ واحد. والنور هو الشيء حين يكون صرفًا نقيًّا وخالصًا من كلِّ ما يشوب. وأحسبها متأثرةً بالثقافة الهندية في ذلك كلِّه. ويوم قرأتُ الفتوحات المكية في أواخر السبعينيات أو بعدما فارقت أمل بكثير ورأيت ابن عربي يقول في المجلد الثاني: "الضياء ليس من عالم الشقاء"، عندئذٍ أدركتُ السرَّ الذي جعل الفتاة مغرمةً بالنور على ذلك النحو اللطيف. وعندي أن جميع المولعين بالنور أرواحهم مرهفة وملآنة بالعذوبة. ولكن ثمة ماهية أخرى إلى جوار النور كان على أمل أن تدركها جيدًا: إنها روحي التي أهملتْها وأزعجتْها بالفراق والغياب الطويل!

ولكن منذ أن ولجتْ أمل إلى ساحة عمري، وصارت النور الذي يفعم سريرتي أو وجداني، لم يعد هنالك أي ظلام في العالم كلِّه، أو هكذا صرت أشعر في كثير من الأحيان: فقد امَّحى الظلام، وحلَّ محلَّه الوئام الذي هو الفرح والابتهاج بحضرة الجمال والأنس اللطيف، على الرغم من حضور اللَّعنة في كلِّ مكان من أماكن هذا العالم. وأخذت الأشياء تتفتح وتزيح براقعها عن وجوهها، فصرت رائيًا ملهَمًا، يتدفق مسيلُ الصور والمعاني في داخل ذهني مثلما يتدفق سيلٌ في نيسان مع ذوبان الثلوج؛ حتى لكأنَّ البرقع ما أميط إلا عن روحي قبل سواها، وحتى كأن نورًا سماويًّا قد اخترق الحجاب المسدل على كُنْهِ سريرتي، فصرت أعرف على نحو أفضل من ذي قبل. وظل الأمر كذلك حتى غادرتْني أمل، فعاد الظلام مثلما كان. ترى ألا يتمكن مسلسل الإحباطات الذي تعرضتُ له طويلاً من أن يبدِّدني إلى نثار؟!

وعلى أية حال، فإنني مع أمل وحدها كنت أنتعش وأتجدد خلال بضع سنوات، وذلك لأنها استطاعةٌ فائقة على الكشف عن بكارة الوجود والديمومة الراخمة هاهنا بالقرب من الجميع. وعندي أن إنعاش الروح هو إحياء للعالم نفسه. مع أمل لا يظل الوجود موحلاً ولا كئيبًا، بل يصير إلى السلاسة والنعومة وهدأة البال، حتى لكأنه منسوج من خيوط النور.

وحين غابت أمل، لم يبقَ سوى الظلمات والوحول. إن امرأة تمكَّنتْ من أن تؤثر هذا التأثير كلَّه في بنية روحي، أو أن تنجز هذا الاستقلاب الكبير في وجداني، لهي بالضرورة كائن عظيم من شأنه أن يوقظ الربيع في غير أوانه. فبحرارة حبِّها وبهرة أنوارها ودفء حنانها استطاعت أن تحرِّر طاقاتٍ كثيفةً كانت غافية داخل سريرتي. وما كان في الميسور أن يحرِّر تلك الطاقات أحدٌ سواها أو سوى حبها الصادق الرؤوم الذي يبذ حنوَّ الأمهات على أطفالهن. فقد أسلفت أنها من ذلك الصنف الذي يأخذ بيد الرجل صوب الكمال. ولكن ما كان للأمر أن يجيء على هذا النحو اللطيف لو لم أتمكَّن من إقناعها بأنها مصبُّ اللهفة واللوعة في آنٍ واحد. فعليك أن تذهب إلى الأشياء من سفحها المشمس، أو أن تتجه إليها على الدرب المسيَّج بالياسمين، إذا ما أردتَ أن تبلغ إلى الفاتن الناعم الحميم.

وبفضل الرؤية الجديدة، استطعت أن أرى الإنسان: ذلك الكائن الذي يند عن كل حدٍّ أو قيد، بوصفه برهةً سريةً لا يستوعبها الذهن ولا الخيال، وإنما يستوعبها الوجدان الرائق النبيل. وسرعان ما أدركت أن سر الحياة هو نبضها المتدفق الدائم. فكأنما استطاعت أمل أن تستردَّ روحي من منفاها البعيد وأن تجعلني أشعر بأنني كائن سري فريد أو حادث شديد الخصوصية لا يقبل التكرار بتاتًا. لقد أنجزتْ لي ميلادي الحقيقي، حتى لكأنها أعادت صياغتي من جديد. ولكن ذلك ما حدث إلا بعد أن استحالت أمل إلى طيف يهاجسني أو يرفرف في فضاء ذاكرتي كما يرفرف السراب في الصحراء. فكل ما هو نفيس له ضريبة باهظة محتومة كالقدر.

* * *

أمل، يا قبَّرتي الخضراء، يا نقاوة الدنيا وصفوتها، يا أنصع حقيقة في تجربتي كلِّها، يا عصارة وجودي وزبدة عمري – لماذا لم يخطر في بالك يومئذٍ، أقصد يوم اتخذتِ قرار الجفوة، أن الجحيم هو المسافة، أو غياب الشائق عن بصر المشوق؟ لكم أنا مشتاق لرؤية شعرك الذي مازال يتأرجح في البال، وسوف يظل كذلك حتى آخر الدهر. فيا طالما تمنيت أن ألمسه بيديَّ كلتيهما، لأن اللمس أكثف أصناف الاتصال وأكثرها تأكيدًا للحضور. نعم، شعرك الطويل الغزير المنثال على كتفيك في هدوء، كأنه رمز من رموز الخصوبة والوفرة، فضلاً عن كونه استحضارًا عينيًّا للجمال. أمل، يا أملي، كل مسافة غربة، وكل فصال قهر وعذاب!

كان الصوفيون يقولون للمحبوب: عذِّبْ بما شئت، ولكن لا تعذِّبْ بالنفي أو بالبعد عنك. بيد أن النفي هو الطريقة الوحيدة التي اختارها ذهنكِ ليفتك بروحي الملتاع. فكيف سمحتِ بتعذيبي، وأنتِ مَن علَّمني اللطف والرفق بالحياة، أيًّا كان شكلها؟ كيف رحلتِ وتركتِني مطروحًا أرضًا في سواء الفراغ وحصار الانخلاع، مرميًّا بغير جذور، مقتلَعًا وحيدًا، يبرِّح بي الجوى، لا يحيط بي أي شيء سوى اللاشيء وهمجية الكائنات، دون أن تأبهي لحجم الجرح الذي أحدثتِه في سويداء فؤادي؟ عندئذٍ بلغتْ غربتي نهايتها القصوى، وذلك لأن سقف الكون قد راح ينز بؤسًا ويقطر تعاسةً واضطرابَ نفس. ولكن زخم المكابدة أو عذاب المقاساة هو الدرب الذي يؤدي إلى بؤرة المعنى، بل حتى إلى النضج المنشود.

أمل، يا حمامتي البيضاء، يا نجمتي الماسية المتألقة، يا واحتي في وسط هذا الاقفرار الشامل العقيم، يا زنبقةً زُرِعَتْ في أعالي الجنة، يا وردة غُرِسَتْ في عليين، حيث لا أحد سوى الأبرار والأطهار، يا مَن تشحذين روحي، بل تمغنطينها، لو عشتِ في زمن السيد المسيح لكنتِ واحدة من المريمات اللائي أحطْنَ به في محنته القاسية.

أمل، يا زهرةً لا تذبل بتاتًا، سوف يظل الرابع من آب يومًا مقدسًا في ذاكرتي الشقية. ففي ذلك اليوم، كما تعلمين، التحم الأزل بالزمن عندما بلغتْ سورةُ الوجد ريعانها، فكان اللقاء الأول الذي يستعصي على اللغة ويتأبَّى. ولسوف يبقى يومًا صرفًا بارزًا بين جميع أيام السنة، مقدسًا إلى أبد الآبدين. إن جميع الأيام ملفَّقة موحلة، إلا ذلك اليوم الأصيل النبيل.

أمل، يا ماستي الفريدة، يا سليلة الألطاف الحسنى، يا صديقة الصدق والنور واليخضور، أعلم أنك تحبين اللونين الأبيض والأخضر: فالأول عندك لون الملائكة، والثاني لون النُّسَغ والحيوية والمملكة النباتية الهادئة المسالمة. فأنت منذورة للخير والسلم بمرسوم أصدرتْه العناية الإلهية نفسُها. صدقًا إن التماهي بينك وبين الربيع أو السخاء هو سمة لا تفلت من العين. ولعل في مقدور المرء أن يكتشف عذوبتك الاستثنائية الهانئة إذا ما عايشك لهنيهة واحدة فقط. ولكن لماذا كانت قسوة الوجود؟ ولماذا كانت الحياة على ما هي عليه، ولم تكن على أيِّ نحو أفضل وأمتع؟ أما من جرعة مسرَّة واحدة في هذا العالم الشرس؟! وأين يسع المرء أن يجد إجازة طويلة من هذه اللَّعنة الفاتكة؟!

أنت تعلم، يا إلهي، أنني أحب أمل حبًّا جمًّا لأنها السحر نفسه؛ بل تعلم أن أمل هي حضور الروح في الماديِّ، وتعلم أن حضرتها تمكِّنني من معاينة الأصيل الذي تلوب عليه النفس دون انقطاع، فتُخرِجني من اللَّعنة مادامت أمام بصري؛ وتعلم كذلك أنها هي الوسامة حصرًا والجمال الذي يلبِّي حاجتي إلى العلوِّ أو إلى إجازة من التجربة المعيشة ورتوبها الماحي لوقدة الروح. ترى ما الذي يسعه أن يتلألأ في جوف هذه الغيابة الدامسة البكماء التي مابرحت تضغط على روحي منذ فارقتْني أمل حتى يوم الناس هذا؟

حنانيك، يا رب! فأنت تعلم أن أمل هي الحضرة التي لا تبذها أية حضرة أخرى، وأنها وحدها القادرة على أن تمنحني إجازةً من اللَّعنة. فلماذا لا تنعم عليَّ بتلك البرهة – ولو مرة واحدة – طوال ما تبقَّى لي من عمر؟

رباه، هلا نهلة صغيرة في فمي؟ – نهلة صغيرة واحدة فقط!

رباه، كلُّ شيء يُخِلُّ بواجبه تجاه روحي!

*** *** ***


[1] يشكِّل هذا النص فصلاً من فصول الجزء الثاني من مذكرات الكاتب التي صَدَرَ الجزءُ الأول منها بعنوان تلك الأيام (دار كنعان، دمشق، 2005).

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

Editorial

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال يوسف وديمة عبّود