مدرسة فرانكفورت والتحليل النفسي
فروم بين ماركس وفرويد

 

إبراهيم الحيدري

 

ينتمي إريش فروم إلى أسرة يهودية متدينة. وقد تأثر مبكرًا بفكرة "المخلِّص الإلهي"، غير أنه تحرر منها بعد أن قرأ ماركس وسپينوزا وجون ديووي (1859-1952)، مثلما تأثَّر بآراء ماكس هوركهايمر (1895-1973) وثيودور أدورنو (1903-1969) وهربرت ماركوزي (1898-1979) بعد أن انتسب إلى مدرسة فرانكفورت النقدية في العام 1929. غير أن مسافة كبيرة كانت تفصل بينه وبين أعضاء مدرسة فرانكفورت، حيث كان معظمهم من المدرسة الفرويدية آنذاك. ومن أجل تقريب المسافة التي تفصله عنهم، بدأ بدراسة الطبيعة البشرية والاغتراب الاجتماعي، وأخذ يبلور اتجاهًا خاصًّا في التحليل النفسي ويضع مقدمات نظرية في "نسق الأخلاق" في إطارها الإنساني، موجهًا انتقاداته إلى الفرويديين الذين مازالوا يستخدمون طرقًا بيروقراطية قديمة في التحليل النفسي والپسيكولوجيا الطبيعية، محاولاً دمج التحليل النفسي بالنظرية الماركسية، على اختلافه معها. كذلك فقد انتقد تصورات علماء النفس حول "روح الجماهير" ورأى ضرورة عدم فصل الإنسان عن أوضاعه الاجتماعية. ولذلك وجد أن من الضروري دراسة الماركسية وفهمها وتحديد أسُسها، ومن بعدُ تطويرها انطلاقًا من مفهومَي الطبيعة الإنسانية والحرية.

إريش فروم (1900-1980)

في العام 1931، كتب فروم مقالاً حول "التحليل النفسي والسياسة" في Psychological Review أثار سجالاً علميًّا واسعًا. إذ كان محاولة لتطوير الفرويدية من خلال نظرية المعرفة الماركسية. وقد رأى فروم أن الماركسية كانت على خطأ حين أسقطت أهمية العامل الپسيكولوجي لغريزة التملك؛ كما رأى أن ماركس لم يولِ أهمية للمقدمات الپسيكولوجية مثلما يقوم به هو. وبحسب الماركسية، فإن للإنسان دوافع أساسية، كالجوع والعطش والجنس وغيرها، وهو يسعى إلى إشباعها؛ ولكن غريزة التملك ونزعة الربح هي نتاج علاقات اجتماعية. ولهذا فإن الماركسية تحتاج إلى مرجعية پسيكولوجية أوسع وإلى حلقة الوصل الضائعة التي تربط البنية الفوقية بالأساس الاقتصادي، وإلى تطوير علم نفس اجتماعي–تحليلي يقوم على دراسة أو فهم السلوك المدفوع بباعث غير واع، من طريق تأثير الأساس المادي في الحاجات البشرية الأساسية.

كما أكد فروم أن النزعة المسيطرة في المجتمعات الأوروبية تقوم على تعميم تجاربها على المجتمعات كلِّها، كما في موضوع مركَّب الأوديپ (وغيره)، الذي يرتبط بالمجتمعات ذات النزعة الأبوية البطريركية فقط، مؤكدًا على العلاقة التي تربط بين "روح الرأسمالية" وبين السلوك الأوديپي، في وقت كان طرح مثل هذه الأفكار غير اعتيادي. وبهذه العلاقة ربط فروم بين العقلانية الأوروبية وغريزة التملك والتزمت والكبت، من جهة، وبين قهر النظام الاجتماعي، من جهة أخرى.

وبعد قراءة فروم كتاب حق الأم الطبيعي ليوهان ياكوب باخوفن الذي صدر في العام 1861، حدث تحولٌ في فكره، فأخذ موقفه من نظرية فرويد يتغير تدريجيًّا، وبخاصة موقفه من الليبيدو ومن مركَّب الأوديپ، وذلك من طريق تجاربه السريرية، من جهة، وتطوير نظريته في علم النفس الاجتماعي، من جهة أخرى. وفي الوقت الذي أصبح فروم أحد الدعاة لنظرية "حق الأم الطبيعي" لباخوفن، تأثر أيضًا بآراء پريڤول في كتابه العواطف العائلية الذي صدر في العام 1934 والذي طرح فيه أفكارًا جديدة حول أهمية الأم ودورها في حياة الطفل العاطفية التي تكون شرطًا ضروريًّا للإنسان والتي تتشكل خلال فترة الحمل والطفولة. كذلك كان تأكيده أن الرجولة والأنوثة ليسا من طبيعة مختلفة، بل هما مستمدتان من اختلاف الجنسين في الوظائف الحياتية ذات الخصائص الاجتماعية. كما رأى فروم أن المجتمعات التي يسود فيها حق الأم يزداد فيها التضامن وتسودها السعادة ويكون الحب والحنان أعلى القيم الإنسانية، وليس الخوف والطاعة، حيث لا وجود فيها للملكية الفردية ولا للكبت الجنسي. وعلى العكس من ذلك يكون المجتمع الأبوي والمجتمع الطبقي: إذ كلاهما يضع الواجب والسلطة فوق الحب والمتعة والسعادة. وبمعنى آخر، فإن فلسفة التاريخ عند باخوفن تقترب في الواقع من فلسفة هيغل، حيث رأى أن صعود المجتمع الأبوي يتطابق مع الانفصام بين الفكر والطبيعة.

يوهان ياكوب باخوفن (1815-1887)

اهتم فروم بقراءة باخوفن من وجهة نظر اشتراكية، فركز على المجتمعات التي يسود فيها "حق الأم"، وليس على الأهمية التاريخية لتلك المجتمعات التي تعاقبت عبر التاريخ. والجانب الآخر من اهتمام فروم المتزايد بنظرية باخوفن يعود إلى تناقص إعجابه بنظرية فرويد. ففي العام 1935، أعلن فروم الأسباب التي دفعته إلى اتخاذ هذا الموقف من فرويد، قائلاً إن فرويد سجين أخلاقيته البورجوازية وقيمه الأبوية، وإن الوزن الذي يوليه لتجارب الطفولة في التحليل النفسي يؤثر في ملاحظات المحلِّل النفسي ويدفع بالأشخاص إلى الانحراف عن اتجاههم أو إلى صرف انتباههم. وفي حالة أن المحلِّل النفسي لا يقف من قيم المجتمع موقفًا نقديًّا، أو حين يخالف المحلِّل النفسي رغبات الأشخاص، فهو يلاقي مقاومة منهم. ولكن الحقيقة، بحسب فروم، هي أن التسامح المثالي، الذي يُفترَض أن يتحلَّى به المحلِّل النفسي ينبغي أن يوجَّه ضد الظلم الاجتماعي. ولكن عندما أصبح القرار في يد الطبقة الوسطى، تحول إلى قناع أخلاقي، ولم يخرج من التفكير والقول إلى العمل. والتسامح البورجوازي يبقى متناقضًا تناقضًا مستمرًّا: فإذا كان واعيًا فهو نسبي ومحايد، وإذا كان غير واعٍ فهو يقف قطعًا في خدمة النظام القائم. ومثلما أن للتسامح وجهين، كذلك للتحليل النفسي، حيث تختفي وراء واجهته المحايدة أحيانًا حالات سادية.

في العام 1939، انفصل فروم عن مدرسة فرانكفورت، مركزًا جهوده على العمل السريري في المستشفيات، ولم يلتزم الطريقة الفرويدية في التحليل النفسي في قوة، ثم أعلن انفصاله عن فرويد ومدرسته. كما أعلن في إحدى مقالاته في مجلة العلوم الاجتماعية نقده لفرويد ورماه بضيق الأفق.

قارن فروم بين العلاقات الإنسانية بالمعنى الفرويدي وبين علاقات السوق، باعتبار أن السوق هو مكان تبادل العلاقات الاقتصادية وإشباع الحاجات البيولوجية، حيث تصبح العلاقة مع الرفيق وسيلة لغاية. كما وقف فروم ضد تشاؤمية فرويد وضد مفهومه لغريزة الموت، فقارنها بالحاجة إلى التدمير، تلك الحاجة التي أهملها فرويد في كتاباته المبكرة، التي لم تكن كافية لتوضيح الناحية البيولوجية والتي لا تتطابق مع الحقائق العلمية. كما أن أهمية غريزة الهدم والتدمير عند الفرد والجماعات والطبقات تبرهن على وجود اختلافات كبيرة بينهم. ومن هنا فإن قوة غريزة الهدم والتدمير عند الطبقة الوسطى في أوروبا مختلفة، وهي أكثر اختلافًا لدى الطبقة العاملة، وكذلك لدى الطبقات العليا.

في عودته إلى ماركس وفرويد، طوَّر فروم مفهوم "الاغتراب" alienation، فربطه بخبراته ومعالجاته السريرية، منطلقًا من نقطة مركزية مهمة أكدت على الترابط الجدلي بين الإنسان والمحيط، مع ربط ذلك كلِّه بتوجيه أخلاقي ونفسي، ليس وليد الصراع الاقتصادي كما عناه ماركس، وليس نتاج الصراع الجنسي كما عناه فرويد، بل هو حصيلة أمور وجودية شخصية الطابع، اجتماعية المنشأ، وضعها في إطارها الإنساني الأوسع.

والاغتراب، كمفهوم ذو دلالات عدة مختلفة الأصول والأسباب، إنما يمثل نمطًا من خبرة يشعر فيها الإنسان بالغربة عن الذات: فهو لا يعيش ذاته كمركز لعالمه وكصانع لأفعاله ومشاعره. ومعاني الاغتراب متعددة، اجتماعية ونفسية واقتصادية، يمكن إجمالها بانحلال الرابطة بين الفرد والآخرين، أي بالعجز عن احتلال المكان الذي ينبغي على المرء أن يحتله وشعوره بالتبعية أو معنى الانتماء إلى شخص أو إلى آلية أخرى، بحيث يصبح المرء مرهونًا لسواه، بل ومستلَبًا له (وتهليل الشعب الألماني للنازية مثال جيد على ذلك)؛ وهو ما يولد شعورًا داخليًّا بفقدان الحرية والإحباط والتشيؤ والتذري والانفصال عن المحيط الذي يعيش فيه.

*** *** ***

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود