مسار(ات) في الفرانكوفونية
المفهوم والتاريخ والأبعاد عبر المشهد الأدبي

 

حنـان عـاد

 

تطرح الدكتورة زهيدة درويش جبور في كتابها مسار(ات) في الفرانكوفونية[*] رؤيةً عميقةً إلى موضوع الفرانكوفونية la Francophonie، مفهومًا وتاريخًا وواقعًا وأبعادًا، مع إبراز مشهد الأدب الفرانكوفوني la littérature francophone في الشرق الأوسط والمغرب وأفريقيا، كونه النواة التي تختزن في داخلها الاجتماعي والسياسي والتاريخي والحضاري والفكري والثقافي إلخ. ومن هنا غوصها في هذا الأدب في محاولة استشراف مفاهيم التهجين والحوار والتعددية الثقافية في خضم زمن العولمة.

تنطلق جبور من نقطة البداية في الفرانكوفونية، التي كانت تعني في الأساس النطق بالفرنسية، ولم تتسم بمجموعة من القيم الثقافية والإنسانية إلا في العام 1962 بفضل ثلاثة رؤساء أفارقة هم: السنغالي ليوپولد سيدار سنغور والتونسي الحبيب بورقيبة والمالي هماني ديوري. وهي تعرض لمسار انتشار اللغة الفرنسية في العالم العربي، في البدء كنتيجة حتمية لطموحات فرنسا الاستعمارية في كلٍّ من مصر والجزائر ولبنان والمغرب وتونس، وكيف تطورت عبارة "فرانكوفونية" لتكتسب بُعدًا جوهريًّا هو "الأنسيَّة التامة"، وفق ما أكد عليها الرئيس سنغور في اجتماع بانغي (جمهورية أفريقيا الوسطى) في العام 1962، ولتضم مجموعة الدول التي تشكل الفرنسية قاسمًا مشتركًا في ما بينها. ثم اكتسبت الفرانكوفونية بُعدًا آخر مع بزوغ القرن الحادي والعشرين، وهو البعد الاقتصادي–السياسي الذي أمْلتْه تحديات العولمة، لأن

[...] أفضل تنسيق اقتصادي وأقصى توافُق سياسي أمران ضروريان راهنًا، فيما "العالم المتحضر" مدعو إلى التفكير في وسائل ردم الهوة بين البلدان الغنية والبلدان الفقيرة، وللعمل على حلِّ النزاعات التي تهدِّد سلام الشعوب في أماكن كثيرة من الكوكب.

ولا تقدم جبور هذا العرض المقتضب لأبرز المراحل التي اجتازتها الفرانكوفونية منذ ولادتها إلى اليوم إلا من باب الإلحاح على أهمية الدور الذي يمكن للفرانكوفونية أن تلعبه في العالم على مختلف الأصعدة. ففي موازاة استقطابها عددًا لا يُستهان به من دول العالم، على الرغم من الاختلافات الشاسعة بين بعضها بعضًا، إلا أن صعودها إلى مستوى الرمز المتعدد أمسى يفرض عليها الاضطلاع بمسؤوليات ذات منحى شمولي عالمي:

مع بلدانها الخمسة والخمسين، تتأكد حركة الفرانكوفونية كإحدى وسائل التعبير عن رفض الأحادية الثقافية واللغوية العالمية.

لتخلص المؤلِّفة إلى القول بأنه لا يجوز

[...] النظر إلى اللغات من منظار الصراعات، بحيث لا تتزاحم في ما بينها ولا تستبعد الواحدةُ منها الأخرى. فلكلٍّ منها مجالها الخاص، وكل منها يؤدي دورًا استثنائيًّا يتعذر تبديله.

وهي تلفت، في سياق كلامها على اهتمام فرنسا المتزايد بالعالم العربي، إلى أن السفارة الفرنسية في مصر [وفي سورية أيضًا – المحرِّر] أفلحت في إطلاق حركة ترجمة مهمة جدًّا هناك، معتبرةً أن منح جائزة نوبل للروائي المصري نجيب محفوظ ليس التفسير الوحيد المحتمَل لذاك التوجه الجديد الذي يعكس وعيًا في فرنسا لأهمية الثقافات الأخرى من أجل إعادة تجديد اللغة الفرنسية، ولضرورة الانفتاح والحوار بين الثقافات.

وتتوقف الدكتورة زهيدة درويش جبور عند تنامي سياسة فرنسية جديدة في موضوع الفرانكوفونية تشدِّد على التكامل والتعددية واحترام الخصوصيات الثقافية، مما يقودها إلى تعزيز علاقاتها مع الدول الفرانكوفونية والروابط الثقافية التي يمكن لها أن تؤمِّن قاعدة صلبة لبناء تنسيق فاعل.

أين العالم العربي من هذا المناخ؟ الرد أن من مصلحته، في زمن العولمة على الطريقة الأمريكية، أن يسعى إلى دعم الشعوب والحكومات التي تواجه التهديد نفسه في ما يخص "الهيمنة الظافرة". وتصلح المجموعة الفرانكوفونية عاملاً داعمًا له، شريطة تبنِّي سياسة أكثر پراغماتية وأخذ التزامات كلِّ دولة وأوضاعها الخاصة بالحسبان. كما أن من مصلحة العالم العربي أن يقيم أفضل تنسيق مع دول أفريقيا، وذلك لسببين: من أجل تضامن بين مختلف بلدان الجنوب، وفي سبيل تعاون أفضل بين تلك البلدان وبلدان الشمال. وثمة ضرورة تراها المؤلِّفة لمبادرة العالم العربي إلى تعزيز حضوره في حقل التنسيق الفرانكوفوني، كي يساهم في تشييد عولمة بديلة إيجابية، لعل الجميع يعمل لها، وفيها تمسي الشعوب والثقافات كلها في صيغة الفاعل، لا التابع.

وتُفرِدُ جبور فصلاً لمسار الفرانكوفونية في لبنان، وآخر لمسارها في المغرب، معرِّجة على أقوال وآراء لكُتاب لبنانيين وعرب يُعتبرون أعلامًا فرانكوفونيين، وتلتصق رؤيتُهم بالفرنسية بمحمولها العريق و

[...] الشغف بمثال الديموقراطية والحرية الذي طالما مثَّلته فرنسا وارثةُ عصر الأنوار.

ويُقفَل الجزء الأول من الكتاب على موضوع "الاستعمار والزنوجة négritude والفرانكوفونية".

الجزء الثاني (والأخير)، الذي عنوانه "مرآة الأدب"، يشكل ثلثَي الكتاب أو أكثر؛ وفيه قراءات نقدية، ذات نَفَس بحثي أكاديمي، لأعمال أدبية مختلفة اختيرت لكونها

[...] تعكس خيارًا خاصًّا للفرنسية لغةً للكتابة، وتجسد تصورًا جديدًا للهوية الثقافية التي تشكل الفرانكوفونية قسمًا متمِّمًا لها،

ويمكن لها، بالتالي، أن تجيب عن أسئلة جوهرية مرتبطة بالفرانكوفونية.

تستهل الدكتورة زهيدة درويش جبور بالتجربة الفرانكوفونية اللبنانية عبر دراسة لعملين روائيين تمحورا حول اختبار حياتيٍّ واحد: أوراق من دفاتر شجرة رمان (بالعربية) للزميلة مي منسى وبيت متاخم للدمع (بالفرنسية) لفينوس خوري غاتا. دراسة معمَّقة للروايتين تتيح عقدَ مقارنة بينهما على مستوى الاختلافات التي حملها اختلافُ اللغة. تلبث اللغة تنطق غالبًا بتقاليد مجتمعها وأفكاره وهواجسه وعُقَده وأحلامه. ومن هنا تغايُر المعالجة في كلٍّ من الروايتين، على الرغم من أن الموضوع هو نفسه. انخراطُ فينوس في البيئة الفرنسية أعوامًا مديدة جعلها تجرؤ على قول، جهرًا ومباشرةً، ما آثرت مي تخطِّيه في "محاولة لإعادة سلام". ترى درويش جبور أن صورة الأب في الرواية العربية تقود إلى استنتاج مَيْلٍ إلى تقليص البشاعة، إلى إيجاد أعذار للإفراط، وفي اختصار، إلى جعل ذاك الوجه محتفظًا بجانبه الإنساني؛ ثم تستخلص أن

[...] اللغة الأجنبية تؤمِّن لِمَنْ يكتب بها حمايةً أكيدة، تيسِّر، في رأينا، ولادة خطاب أكثر حرية. [...] قد تكون الكتابة بالفرنسية لغاتا وسيلة لتحدِّي الخجل، لمجابهة الحقيقة، مهما تكن قاسية ومرعبة. [...]

وتستكمل المؤلِّفة استنباط معطيات وعناصر مهمة خاصة بالفرانكوفونية ولصيقة بأعمال كتَّاب من جنسيات متعددة، وهم: السورية مريام أنطاكي، الجزائرية مليكة مقدم، والكونغولي هنري لوبيس.

إذا كانت زهيدة درويش جبور قد حاولت اعتماد معايير نقدية وبحثية مجردة تتوخَّى تقديم صورة موضوعية للفرانكوفونية راهنًا، فإن السياق العام لكتابها يعكس غالبًا هذا المناخ، وخاصة على مستوى المساءلة العميقة والدقيقة للأعمال الأدبية الفرانكوفونية المختارة، والإصغاء المرهف إلى كتَّابها، لاستخراج الخلاصات الملائمة.

*** *** ***

عن النهار، السبت 1 آذار 2003


 

horizontal rule

[*] Zahida Darwiche-Jabbour, Parcours en francophonie(s), Dar an-Nahar, Beyrouth, 2003.

 

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود