"تسافر نفسي في العطر كما الآخرون في الموسيقى"
من قصائد بودلير النثرية

شارل بودلير

 

قَدَرُ شارل بودلير أن يكون رائد الشعر الحديث في العالم – وزنًا ونثرًا. فمجموعتاه أزهار الشر وقصائد نثر صغيرة هما أعظم أنموذجين أولين للشعر الحديث في أية لغة من اللغات. "إنه الرائي الأول، ملك الشعراء، وإله حقيقي"، بحسب قول أرتور رامبو الذي سيصبح، بدوره، "رائيًا أول" يتجاوز "إلهه" بأشواط بعيدة!

شارل بودلير (1821-1867)

وبما أن كلمتنا هنا تتعلق بقصائده النثرية فسنقتصرها عليها. كيف، إذن، وُلدت هذه القصائد؟ علَّل ذلك بودلير في رسالة وجَّهها إلى صديقه أرسين هوسي وصدَّر بها مجموعته النثرية هذه. قال:

صديقي العزيز، لك عندي اعتراف صغير، وهو أني، بعد قراءتي، للمرة العشرين على الأقل، للكتاب الشهير غاسپار الليل لألويزيوس برتران (كتاب يعرفه كلانا، وبعض أصدقائنا، أليس له ملء الحق في أن يُدعى بـ"الشهير"؟) – جاءتني فكرةُ أن أحاول شيئًا مماثلاً، فأطبِّق الطريقة التي استعملها لرسم الحياة القديمة، المثيرة للإعجاب في غرابة، في وصف الحياة المعاصرة، أو بالأحرى، في وصف حياة معاصرة وأكثر تجريدًا. فمَن منَّا لم يحلم، في أيام طموحه، بمعجزة نثر شعري، مموسق، من غير وزن ولا قافية، نثر طيِّع كفاية، وغير مترابط كفاية، يتكيف مع حركات النفس الغنائية، وتموجات أحلام اليقظة، وطفرات الوعي الفجائية.

هذا ما قاله بودلير لذلك الصديق. فكأنه، بهذا الاعتراف، يشق الأهداب على أول رصدٍ لنموذج يُعدُّ اليوم أفضل واسطة للتعبير عن عصرنا، بعد أفول الشعر التقليدي الرتيب وتراجُع شعر التفعيلة أو الشعر الحر. على أن النقاد يلحقون ببرتران اسمين لا يجهلهما بودلير، هما: لوفيڤر–دومييه، صاحب كتاب المتنزَّه، وموريس دوغيران، صاحب قصيدة القنطورس (1840)، ورسائل أخرى له حازت على تقدير الناقد سانت–بوڤ، يمكن أن نقتطع منها قصائد نثرية، شبيهة بأسمى ما لدى "البُحيريين" الإنكليز (أي الشعراء الذين عاشوا في مقاطعة البحيرات، غرب إنكلترا، أمثال كولريدج، وردزورث، سوذي) من جموح خيال.

وبعد، فإذا كان بودلير استقى من تلك الينابيع، فمن أين استقت هذه الأخيرة؟ في رسالة بودلير إلى صديقه، يُرجع ميلاد هذا الشكل المسيطر إلى مخالطة المدن الكبرى وتشابُك علاقاتها التي لا يطالها حصر. ويرى آخرون الجذور في أرض الطقوس المزروعة بالمزامير والزياحات. وآخرون يذهبون إلى أن ذلك العصر، وقد حبل ببضع مجموعات من المنتجات الشعرية الأجنبية، ظهرت بفضل الترجمة في ثياب قصائد نثرية، هو الذي أغرى جرأة المبدعين. فمجموعة قصائد وأغانٍ شعبية من ألمانيا، على الأخص، كان لها في وسطهم حماسة أذنٍ لنغم طريف، وعطش حلق إلى رئة خابية. ولكن يبقى الحكم الذي لا يردُّه جدل، مهما تراشقت الأفواهُ حول الينابيع، هو أن بودلير كان المكهرِب الأول لشريط الانطلاقة الحديثة. فإن يكُ برتران وزميلاه أعطوا ما أعطوه اتفاقًا، فإن بودلير أقبل على عمله، "عن سابق تصوُّر وتصميم"، في لغة القانون. ولكن في حديث آخر لأندريه پيير دو مونديارغ، يرى أن أولى قصائد النثر التي كُتبت بالفرنسية هي في نصوص لسيرانو دُه برجيراك، وأن من الصعب أن نُطلق مصطلح "قصائد نثر" على نصوص بودلير الشعرية. هذا صحيح، لكنْ من منظورنا الحديث لهذا المصطلح – وإلاَّ تسقط جميع الأسماء التي استشهدنا بها، بمن فيها برجيراك بالطبع.

مهما يكُ من أمر، يظل أن قصائد بودلير النثرية قد اتخذت موقع الصدارة بين الأعمال الرائعة في الأدب المعاصر. وهذا هو المجد الثاني، إلى جانب المجد الأول في أزهار الشر، لهذا الشاعر العبقري الذي يضاهي بأهميته، بحسب بعض النقاد الفرنسيين، عبقرية پاسكال. يكفي، في نظرنا، أن من صلبه الفذِّ خرج عبقريٌّ فذٌّ آخر، سوف يوصل تجربته إلى صيغة فريدة ذات جوهر عجيب، رؤيوي، لا تزال تتفاعل حتى أيامنا – وعنيتُ به "مراهق باريس": رامبو.

إلى القارئ ترجمة بعض القطع من هذه المجموعة الشعرية النثرية، التي لم تنل من العناية والتقدير ما نالته أزهار الشر التي حَجَبَ مجدُها لفترة طويلة مجدَها، وخصوصًا في عالمنا العربي. ولكن بعد وثبة قصيدة النثر، استيقظ لها النقادُ وأوْلوها قدرًا كبيرًا لا يزال مستمرًّا ومتناميًا.

هـ.ف.ص.

* * *

 

الغريب

-       مَن تحب أكثر، أيها الإنسان اللغز، قل؟ أباك، أمك، أختك، أم أخاك؟

-       ليس لي أب، ولا أم، ولا أخت، ولا أخ.

-       أصدقاءك؟

-       أنت تستعمل كلامًا لا يزال معناه حتى اليوم خافيًا عنِّي.

-       وطنك؟

-       أجهل في أيِّ خطِّ عرض يقع.

-       الجمال؟

-       أحببته بطيبة خاطر، إلهًا وخالدًا.

-       الذهب؟

-       أكرهه كما تكره أنت الله.

-       إذًا، ماذا تحب، أيها الغريب العجيب؟

-       أحب الغيوم... الغيوم العابرة... هناك... الغيوم الرائعة!

* * *

 

صلاة اعتراف الفنان

كم هي مؤثِّرة أواخر أيام الخريف! آه، مؤثرة حتى الوجع! فثمة مشاعر لذيذة، غموضها لا ينفي حدَّتها؛ ولا حدَّ أقطع من حدِّ اللانهاية. وأية لذة عظيمة أن يغوص المرءُ بنظره في شساعة السماء والبحر! يا للوحدة، والسكون، ونقاوة الزرقة اللاتُضاهى! وفي الأفق يتهادى شراعٌ صغير، كأنه يحاكي في صغره وعزلته وجودي اللايُرمَّم، ويُسمع النغم الرتيب للأمواج المضطربة، وتفكِّر عبري، تلك الأشياء كلها، أو أفكِّر عبرها (لأن الأنا تضمحل بسرعة في عظم الحلم!). أقول تفكِّر، ولكن على نحو مموسق، مثير، دون مجادلات عقيمة أو شكلية، ودون استنتاجات.

إلا أن هذه الأفكار، سواء نجمت عني أو انطلقت من الأشياء، تتكثَّف في الحال. وتخلق طاقةُ اللذة ضيقًا وألمًا إيجابيًّا. ولا يصدر عن أعصابي المشدودة غير ارتعاشات صاخبة ومؤلمة.

والآن يرهقني عمقُ السماء؛ يُسخطني صفاؤها. ويثيرني لاشعور البحر، وجمود المشهد... آه! هل يجب التألم دائمًا، أو الهرب دائمًا من الجمال؟ أيتها الطبيعة الساحرة، عديمة الرحمة، الغريمة المنتصرة أبدًا، دعيني! كُفِّي عن ابتلاء رغباتي وكبريائي! وإن دراسة الجمال هي مبارزة تَحمِل الفنَّانَ على الصراخ من الذعر قبل أن يستسلم.

* * *

 

لكلٍّ سرابُه

تحت سماء شاسعة رمادية، في سهل أغبر رحيب، بلا دروب، بلا عشب، ولا شوك، أو قرَّاص، التقيت كثيرين من الناس كانوا يسعون منحني الظهور.

كلٌّ كان يحمل على ظهره سرابه الهائل، كأنه كيس طحين ثقيل، أو كيس فحم، أو عُدَّة جندي روماني.

لكن هذا الحيوان المرعب لم يكن ثقلاً جامدًا؛ بالعكس، كان يحيط به، ويضغط عليه بعضلاته المطاطية والقوية؛ ويتعلق بصدر مطيَّته بمخلبيه العريضين، ورأسه الخرافي يعلو جبين الإنسان، كتلك الخُوَذ المخيفة التي كان المحاربون القدماء يأملون أن يخيفوا بها العدو.

وسألت أحد هؤلاء الناس: إلى أين ذاهب؟ أجاب بأنه لا يعرف، لا هو ولا الآخرون، لكنهم أكيدًا كانوا يتجهون إلى مكان ما، لأنهم كانت تدفعهم حاجةٌ لا تُقهَر إلى السير قُدُمًا.

إنه لأمر عجيب جدير بالملاحظة: لم يكن أيٌّ من هؤلاء المسافرين يبدو ساخطًا على هذا الحيوان المتعلق بعنقه والمتشبث بظهره، بحيث يُخيَّل إليك أنه يعتبره جزءًا منه. تلك الوجوه المتعَبة والرصينة كلها، لم تكن تُظهِر أيَّ يأس، تحت قبة السماء الكئيبة، وبأقدام غائصة في تراب أرض مغمومة كما السماء كانت تسير بملامح مستسلمة كأولئك المحكومين بالأمل إلى الأبد.

ومرَّ الموكب بقربي، وغاب في مدى الأفق، حيث سطح الكرة الأرضية المستدير يتوارى عن فضول النظر البشري.

حاولت لبضع ثوانٍ أن أتفهم هذا السر، لكنْ سرعان ما أطبقت عليَّ اللامبالاة اللاتُقهَر، حيث أحسست كأني مثقل بشكل فظيع، أكثر مما كان أولئك المثقلون بسراباتهم الساحقة.

* * *

 

نصف كرة الأرض في شعرها

دعيني أكتشف، طويلاً طويلاً، رائحةَ شعرك، وأُغرِقُ فيه وجهي كظامئ إلى ماء نبع، وأحرِّكه بيدي كمنديل عطر، كي أهزَّ الذكريات في الفضاء.

لو تعرفين ما أراه! كلَّ ما أحس به! كلَّ ما أسمعه في شعرك! إن نفسي تسافر في العطر كما الآخرون في الموسيقى.

شعرك يضم الحلم كلَّه، تملؤه الأشرعة والصواري، شعرك يضم البحار الشاسعة التي تحملني رياحُها الموسمية إلى أقاليم ساحرة، حيث الفضاء أعمق وأصفى، وحيث الجو عَبِقٌ برائحة الثمار والأوراق والبَشَرة الإنسانية.

في أوقيانوس شعرك ألمح مرفأ يضج بالأغاني الحزينة، بالرجال الأشداء من كلِّ بلد، وبالسفن من كلِّ الأشكال التي تتقاطع عماراتُها الدقيقة الصنع والمعقدة تحت سماء شاسعة تسترخي فيها الحرارة الأزلية.

وبمداعبة شعرك أستعيد خدر الساعات الطويلة الماضية على أريكة في غرفة سفينة جميلة، تهدهدها ترنُّحات المرفأ الخفية، بين أُصُص الأزهار وأباريق المرطبات.

وفي موقد شعرك الملتهب، أتنشق رائحة التبغ ممزوجًا بالأفيون والسكَّر، وفي ليل شعرك، أبصر تألق اللانهاية في السماء الاستوائية الصافية، وعلى ضفاف شعرك الزغبية، أنتشي بالروائح المشوبة بالقطران والمسك وزيت جوز الهند.

دعيني أعضُّ ضفائر شعرك الثقيلة السوداء. فحين أعضعض شعرك الطيِّع والحرون يخيل إليَّ أنني أزدرد الذكريات.

* * *

 

الغسق في المساء

يميل النهار. وتحل سكينةٌ شاملةٌ في النفوس الفقيرة المتعَبة من عناء النهار. وتصطبغ الآن أفكارها بألوان الغسق العذبة الغامضة.

ولكن يصل من قمة الجبل إلى شرفتي، عبر غيوم المساء الشفافة، عويلٌ عظيم، يثيره سيلٌ من الصرخات المتنافرة، يحوِّلها المدى إلى إيقاع، مغمٍّ كإيقاع المدِّ الصاعد أو يقظة العاصفة.

من هم أولئك المنكودو الحظ الذين لا يُسكِّن روعَهم المساءُ والذين، كالبوم، يرون في مَقدَم المساء إشارةً إلى محفل السبت؟ إن ذلك النعيق المشئوم يأتينا من المأوى الأسود الرابض على الجبل؛ وفي المساء، فيما أدخن متأملاً في طمأنينة الوادي الشاسع، المثقل بالمنازل التي تقول كل نافذة فيها: "هاهنا السلام الآن، هاهنا فرح العائلة!"، كنت، إذ ذاك، حين تهب الريح من الأعلى، أرجِّح فكري مندهشًا من تلك المحاكاة لإيقاعات الجحيم.

الغسق يثير المجانين. أذكر صديقين كان الغسق يجعلهما مريضين. أحدهما كان يتجاهل حينذاك روابط الصداقة واللياقة كلَّها، وكان يعامل بقسوة، كمتوحش، أيَّ شخص. شاهدته مرة يقذف رأس مدير خدم بدجاجة فاخرة، لا أعرف أية هيروغليفية مُهينة كان يرى فيها. كان المساء البشير بالملذات يفسد عليه أشهى الأشياء.

والآخر، جريحًا طموحًا، كان يضْحي، ما إنْ يأفل النهار، أكثر حدة وغمًّا ونكدًا. في أثناء النهار كان حليمًا وأنيسًا، وفي المساء شرسًا، ولم يكن هوسه الغسقي يصبُّ جام حنقه على الآخرين فقط، بل وعلى نفسه أيضًا.

الأول مات مجنونًا، عاجزًا عن التعرف إلى زوجته وابنه، والثاني كان يعاني توعكًا دائمًا، وقد حظي بكلِّ الأمجاد التي يمكن للجمهوريات والأمراء أن تمنحها، وأظن أن الغسق كان يشعل أيضًا في دخيلته الرغبة المضطرمة في الامتيازات الوهمية.

على أن الليل الذي كان ينشر الظلمات في نفسيهما، كان ينشر الضياء في نفسي، ومع أنه ليس نادرًا أن نرى العلَّة ذاتها تولِّد معلولَين متناقضَين، فإنني دائمًا ما أكون في قلق وحيرة من جراء ذلك.

أيها الليل، أيتها الظلمات المنعشة! أنت بنظري دلالة على عيد داخلي، أنت الخلاص من الضيق! في عزلة السهول في المتاهات الحجرية في عاصمة ما، حيث تلألؤ النجوم، وتفجُّر المصابيح، أنت الألعاب النارية للآلهة الحرية!

كم أنت ناعم وعذب، أيها الغسق! إن الأضواء الوردية التي لا تزال مبعثرة في الأفق كنزاع النهار تحت سيطرة الليل المنتظر، وكذلك شُعَل المشاكي التي تظهر كبقع حمراء كامدة على آخر أمجاد الغروب، والستائر الثقيلة التي تسحبها يدٌ خفية من أعماق الشرق، كلها يحاكي المشاعر المعقدة التي تتصارع في قلب الإنسان في أوقات الحياة الاحتفالية.

يبدو أيضًا كأن الغسق أحد تلك الأثواب الغريبة للراقصات الذي يُستشَف، من خلال شَفِّه المعتم، البهاءُ الملطَّف لتنورة رائعة، كما يخترق الماضي العذبُ السوادَ الحاضر، وتمثل تلك النجوم المتذبذبة، الذهبية والفضية، المغروسة فيه، تلك النيران الخيالية التي لا تشتعل جيدًا إلا في مأتم الليل.

*** *** ***

تقديم وترجمة: هنري فريد صعب

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود