الدّين الجبراني

 

باسكال تابت

 

اختلف الباحثون حول فكر جبران الديني. منهم من اعتبره مسيحيًا بلا منازع، ومنهم من وضعه في خطّ الديانات الشرقية. أين يقع بين هذين التصنيفين؟ ما هي عقيدته وبأيّ دين بشّر؟ لِمَ هذا الاهتمام الدائم بالفكر الديني الجبراني؟ ألأنه يحتل مكانة مهمة بل أساسية في فكره العام، وهو تاليًا لا ينفصل عنه، أم لأننا تعوّدنا، خصوصًا في الشرق، البحث عن هوية مفكّرينا الدينية لإنصافهم أو للحكم عليهم؟ نحاول البحث في دين جبران لا للحكم عليه، ولا لتبرير مواقفه الدينية، بل لأننا نرى الفكر الديني مسيطرًا في أعماله الفنية والكتابية منذ البدايات حتى بلوغ ذروتها في النبي ويسوع ابن الإنسان. كما أننا نقرأ في حركته الفكرية توجّهًا نحو المعارف الربّانية.

ولد جبران وتربّى في بشرّي الشمالية المارونية، وكان جدّه لأمّه كاهنًا. ولم يكن المجتمع اللبناني في تلك الآونة، أي في القرن التاسع عشر، يفصل بين النظرة الدينية والحياة العملية. السؤال المطروح: هل كان جبران مسيحيًّ بكل ما للكلمة من معنى؟ لا بدّ من أن روح المسيح ترسّخت فيه مدى حياته وأصبح يسوع هاجسه الذي تماهى به ورأى فيه مثله الأعلى. أحب جبران المسيح منذ نعومته فكان يذهب إلى الغاب يوم الجمعة العظيمة ويجمع الأزهار ويضعها أمام قبره ويحاول أن يتألّم معه. كان يردّد دائمًا طلبة الآلام، وقد احتفظ بولس البيطار كيروز بورقة قديمة خطّ جبران عليها هذه الطلبة. وكم افتخر بولادته في السادس من كانون الثاني أي يوم مولد يسوع بحسب بعض الطقوس. وتميّز جبران في شبابه بإسدال شعره على عنقه متماهيًا على الأرجح بصور المسيح التي كان يراها في الكنيسة وفي منزله. وإذا أمعنّا النظر في كتاباته عن يسوع نلاحظ أنه أسقط على يسوعه صفات جبرانية. قال مرّةً لماري هاسكل:

المسيح جاء إلى العالم مرارًا وقد مشى في بلاد كثيرة بيد أنه حسب غريبًا بين الناس ومجنونًا أبدًا.

شعور الغربة بين الناس وفي هذا العالم رافق جبران طوال حياته. وظلّ يتوق إلى الصليب وأنشد ذات يوم

دقّوا المسامير في كفّي فإن يدي/ مشلولة ليس يبريها سوى ألمي.

تشير ناهدة الطويل في دراستها عن جبران إلى ظاهرة القرين والظلّ؛ ففي رمل وزبد ينادي جبران يسوع قائلاً:

أيها المصلوب إنك مصلوب على قلبي والمسامير التي ثقبت يديك تخترق جدران قلبي. وغدًا عندما يمرّ غريب بهذه الجلجلة لن يظنّ أن دم اثنين نازف هنا، بل يظنّه دمًا واحدًا فقط.

صورة يسوع المصلوب رافقت جبران في صومعته ويقول عنها لماري هاسكل

إن كل شيء يبدو صغيرًا أمامها. هي اللوحة الوحيدة لصلب المسيح التي رأيت فيها يسوع يبارك الجموع بيمينه ولا دم يسيل من أيٍّ من يديه، أو رجليه، أو جنبه.

لكن مسيح جبران مختلف عن مسيح الكنيسة وعن مسيح المسيحيين. في يسوع ابن الإنسان يبشّر بمسيح "بشر مثلي ومثلك" كما يقول لصديقه نعيمه. وترد هذه الفكرة في مواضع عديدة من كتابه

ولكن الناصري الشاب لم يكن إلهًا، ويؤلمني أن أرى أتباعه يسعون أن يعملوا من هذا الحكيم إلهًا!.

مسيح جبران إذًا غير مسيح الكنيسة، فيه صورة مسيح التيوصوفيين الذين هدموا كنيستهم كمؤسسة وأسقطوا عنها الطقوس. المسيح هنا إنسان تفوّقت طاقته الروحية على طاقتنا بمجاهدات قام بها للارتقاء إلى ذاته الكبرى. إنه درجة روحية. الإنسان الذي مسحه الله بعد جهاده ونضاله. إله أرضيّ بل إنسان تألّه. ومن المؤكّد أن جبران خرج بذلك على تعليم الكنيسة فهل يمكن اعتباره بعد مسيحيًا؟

تعتبر الكنيسة أن العماد باب للخلاص "إن لم يولد الإنسان من الماء والروح، فلا يقدر أن يدخل ملكوت الله" (يو1/5). يقول جبران في المجنون:

وفي اليوم الحادي والعشرين لولادتي، وهو اليوم الذي تعمّدت فيه، قال الكاهن لأمّي: "إنني أهنّئك يا سيّدتي لأن ابنك وُلِدَ مسيحيًا." فقلت للكاهن مندهشًا: "إذا كان الأمر كما تقول فأحِر بأمّك التي في السماء أن تكون تعيسة بك لأنّك لم تولد بعد مسيحيًّا".

نستنتج أنّ جبران لا يرى في العماد شرطًا للمسيحية ولا ضرورة للخلاص وولوج الملكوت، الأمر الذي يتعارض مع تعليم الكنيسة، جسد المسيح السريّ. ويقول في يسوع ابن الإنسان إن المسيح ولد في الناصرة من رجل وامرأة، بينما يسوع الإنجيل ولد في بيت لحم من عذراء تدعى مريم؛ يسوع جبران مترفّع عن الألم، يخجل من أن يقول على الصليب "إلهي، إلهي، لماذا تركتني؟" بل يقول: "لماذا تركتنا؟". يبدو في بعض مواضع الكتاب أن جبران يرى في يسوع إلهًا

وعندما رآني مارّة توقّف عن الكلام هنيهة ونظر إليّ بلطف، فاتضعت روحي أمام نظرته، وأدركت في أعماق نفسي أنني مررت بإله.

ولإزالة كلّ التباس وكلّ تناقض عن الفكر الجبراني نوضح أن ألوهية المسيح بالنسبة إلى كاتبنا ليست خاصة به بل مشتركة بين البشر ولا نبلغها إلاّ بالترفع والمجاهدات من أجل بلوغ الذات الكبرى، الذات الكلية.

أثّر تنوّع مصادر الثقافة الجبرانية على نظرته إلى الدين وأبعده عن تراثه الماروني. قرأ جبران كتبًا سرّبها إليه فريد هولند داي، منها زمان الخرافة أو جمالات الميثولوجيا والمنجد الكلاسيكي، ويُذكر أنه بعدما انتهى من قراءته صرخ "أنا وثنيّ!". تأثّر بأبطال الميثولوجيا وقرّبهم في لاوعيه من الجبّار المصلوب. ويظهر هذا التأثر في بعض كتاباته كـ رماد الأجيال والنار الخالدة حيث تظهر شخصيات مثل ناثان ابن الكاهن حيرام والآلهة عشتروت ربّة الحب والجمال. كما تأثر بالأجواء المائلة في الولايات المتحدة إلى الخروج على التقاليد المسيحيّة وأخذت تولد في نفسه بذور من الهندوسية والمانوية والزرادشتية والبروميتية والأورفية. وأخذ عن ماترلينك فكرة تواحد الشخص مع المطلق. تاليًا، نلاحظ النزعة الصوفية والحلولية ومبدأ التقمص. وإذا اعتبرنا أن التصوف قائم على الزهد بالدنيا، والعشق الإلهي، والمعرفة الإشراقية أو العرفان، والفناء بالله، نتساءل إلى أيّ حدّ كان جبران صوفيًّا؟ من المؤكّد أنه لم يكن من سالكي الطريق الصوفي الذين يقهرون الجسد ويحقّرونه ويضعونه في مرتبة دون مرتبة الروح الهابطة من لدن الله، المنفصلة عنه. جبران لا يفصل بين المادة والروح. قال في رمل وزبد:

فالروح المجنّحة نفسها لا تستطيع أن تتخلّص من الحاجات الطبيعيّة.

عنده النفس، تلك الشعلة الإلهية، متحدة بالجسد اتحادًا جوهريًا. إنّهما اسمان لوجود واحد لا ازدواجية فيه، "فالجسد هو الروح الظاهرة والروح هي الجسد الخفي". وهذا جليّ في قصيدة المواكب:

لم أجد في الغاب فرقًا/ بين نفس وجسد (...) أعطني الناي وغنّ/ فالغنا جسم وروح....

كما أنه ابتعد عن الحياة الزهدية معتبرًا أن المدينة نوع من اليقظة الروحية وهي درجة من درجات سلّم الصعود نحو الكمال فيجب عدم الابتعاد عنها ورفضها والانعزال هربًا منها و"من الناس وشرائعهم". وإذا كان جبران اعتزل الحياة في أحيان كثيرة فذلك كما اعتزلها يوسف الفخري في العاصفة "للتأمل ومعرفة أسرار الأرض والدنو من عرش الله"، لكنّه "لم يطلب الوحدة للصلاة والتنسّك، لأن الصلاة، وهي أغنية القلب، تبلغ آذان الله... ولأن الله بنى الأجسام هياكل للأرواح وعلينا أن نحافظ على هذه الهياكل لتبقى قويّة نظيفة لائقة بالألوهية التي تحلّ فيها"، بل طلبها ليتمكّن في صمتها من بلوغ اليقظة المعنوية والروحية، وليعرف بحسّه الباطني ما لم يدركه ولن يدركه من طريق العقل. ففي هذه المعرفة يتفق كاتبنا مع الصوفيين. كما يتفق معهم في الإرتقاء الروحي، وفي سلامة المعرفة القلبية، والاستكشاف الباطني، والاهتمام ببواطن الأشياء والعزوف عن ظواهرها الخارجية العارضة. كما لا تخلو كتاباته من ألفاظ وتعابير صوفية مثل "الشوق"، و"الجوع الروحي"، و"الذات المعنوية"، و"النور الإلهي".

رأى جبران الله في كل شيء وفي مظاهر الوجود. حين سأل الكاهن المصطفى أن يحدّثهم عن الدين قال في معرفة الله:

وإن شئتم أن تعرفوا ربّكم فلا تعنوا بحلّ الأحاجي والألغاز. بل تأمّلوا ما حولكم تجدوه لاعبًا مع أولادكم. وارفعوا أنظاركم إلى الفضاء تبصروه يمشي في السحاب، ويبسط ذراعيه في البرق، وينزل إلى الأرض مع الأمطار. تأمّلوا جيّدًا تروا ربّكم يبتسم بثغور الأزهار، ثم ينهض ويحرّك يديه بالأشجار.

الله هو الذات الكونية وكلّ إنسان هو جزء من هذه الذات العظمى، والكون تجلّ لها فهو جوهر الله. ليندمج الإنسان في وحدة الوجود هذه عليه التسامي والتحرّر من الشوائب. يتمّ ذلك بالتقمّص أو العودات المتكرّرة إلى هذه الحياة. فالمجنون أتى الحياة سبع مرّات، ويسوع مرّ بحيوات عدة، والنبي يعد بأن تلده امرأة ثانية ولادة جديدة فيراه الشعب من جديد. بهذه العودات إلى الوجود وبالتفوّق على الذات من خلال حياة مثالية يتمّ اتصال الذات الصغرى التي تنمو وتتحدّ بالذات الكبرى. تظهر حلولية جبران في الكثير من مؤلّفاته. وهذا خيرُ دليلٍ على تَوقه المستمر للاتحاد بالمطلق. في كتاب النبي مثلاً يصبح المصطفى نقطة لا تحدّ في محيط لا يحدّ. ويذهب إلى التوحيد بين الأديان:

ولدت مسيحيًّا غير أنني أعلم إذا جرّدنا الأديان مما تعلّق بها من الزوائد المذهبية والاجتماعيّة، وجدنا دينًا واحدًا.

نستنتج أن جبران اغترف من أنساق التفكير ومن المذاهب والتيارات الدينية المختلفة ووظفها بحسب نظرته إلى الدين والإيمان واللهِ. دين جبران هو دين الحب الذي لا يميّز بين مسيحيّ ومسلم ويهوديّ وبراهمانيّ وبوذيّ. إنّه دين الحب الذي يمحو كلّ خوف. دينه هو دين الرحمة. كونيّ شموليّ.

يبقى السؤال: هل ظلّ جبران مسيحيًا؟ ربما لم يكن يومًا مسيحيًا بحسب الكنيسة، ولن يكون! مسيحيته مميزة، خاصة به. مسيحيّ في قلبه، في أعماقه، بالمعنى المسيحي المنفتح على الآخرين، مسيحيّ في تعلّقه بيسوع وبسرّ صليبه. لعلّ أجمل ما كتب في المسيح المصلوب نصّ لجبران في العواصف:

وأنت أيها الجبّار المصلوب، الناظر من أعالي الجلجلة إلى مواكب الأجيال، السامع ضجيج الأمم، الفاهم أحلام الأبدية، أنت على خشبة الصليب المضرجة بالدماء أكثر جلالاً ومهابة من ألف ملك على ألف عرش في ألف مملكة. بل أنت بين النزع والموت أشدّ هولاً وبطشًا من ألف قائد في ألف جيش في ألف معركة. أنت بكآبتك أشدّ فرحًا من الربيع بأزهاره، أنت بأوجاعك أهدأ بالاً من الملائكة بسمائها، وأنت بين الجلادين أكثر حريّة من نور الشمس. إن إكليل الشوك على رأسك هو أجلّ وأجمل من تاج بهرام، والمسمار في كفّك أسمى وأفخم من صولجان المشتري، وقطرات الدماء على قدميك أسنى لمعانًا من قلائد عشتروت. فسامح هؤلاء الضعفاء الذين ينوحون عليك لأنهم لا يدرون كيف ينوحون على نفوسهم، واغفر لهم لأنهم لا يعلمون أنك صرعت الموت بالموت ووهبت الحياة لمن في القبور.

*** *** ***

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود