السيّدة إيميلي
مسرحية من فصل واحد

 

علي جازو

 

إلى الآنسة ديكنسون

 

(حجرة صغيرة مربعة، وسطها منفضة ضخمة دائرية صفراء داكنة لامعة ملساء بلا نقوش. أرضية الحجرة لا ترى، كونها مغمورة بأوراق أزهار مقطوفة ممزقة بنفسجية وردية يابسة. ثمة سيدتان غير مسنتان ترتديان، كلاهما، الثوب نفسه؛ أسود كتيمًا ملتاعًا. الثوب ناعم وخفيف، وطول المراقبة يجعله شبيه نسيج زهرة خرافية. لا نافذة، لا باب. الجدران بنية خشنة سميكة، تبدو كأنها طليت للتو. رائحة بخور عبقة تفوح من المنفضة المقسمة تحت ظلال ثلاث شموع ساكنة اللهب مثبتة على حوافها المعتمة. هواء رطب عبق بمذاق حبات زيتون ناضجة مهروسة منقوعة مع الخبز والنبيذ، مختلطة مع إكليل من شوك... الخ)

 

السيدة: ألم تكن سعيدة؟

السيدة: كانت تنظر عبر نافذة إلى حديقة مهدَّمة.
        كانت تحلم برجل سعيد، وامرأة سعيدة، جلسا
        برهة على مقعد حديقة مهدمة، جلسا صامتين.

السيدة: أيمكن حقًا سماع غناء الأشجار!

السيدة: كانت ثملة، وكان صوتها يلائم قلبها الممزق.
        كانت تغني حين تثمل، وكان همسها خفيضًا.

السيدة: والبشر ألا يمكنهم الغناء، رغم بؤسهم؟!

السيدة: كانت عمياء، وكان العمى يرى أنغام صدرها.
        وإذ كانت تجلس إلى النافذة، كانت ترى زمن قلبها
        يعبث، صافيًا، داخل دوائر شهيقها وزفيرها.

السيدة: للأشجار عيون نقية،
        تجيد الإصغاء، ولأنها كذلك
        لا تسأل، فهي سعيدة صامتة.

السيدة: لم تكن سعيدة إذن. "صمت"

السيدة: فمك جميل، لشفتيك نور دراقة.

السيدة: فمك جميل، لسانك مذاق نجمة.

السيدة: أشم رائحة الندى من عينيك.

السيدة: أرى غصنًا لينًا داخل قلبك. "صمت"

السيدة: والندى يلمع على الأغصان العارية،
        مثلما النظرة تشع بهوى دفين.
        آه. كيف نتحمل الأنفاس،
        وهي تحمل نقش المدى!

* * *

السيدة: سرعان ما يمحو الظلام آثار الظلال،
        إلى الرقاد تمضي الكائنات الوحيدة.
        قمر ليس الثلج ولا الحليب، ولا الفضة،
        يذوّبُ عينه على أجفان شاحبة. "صمت"

السيدة: عدتِ للحديث عن السماء!

السيدة: عدتُ للحديث عني.

السيدة: أملَّكِ أنني أحبكِ؟

السيدة: لم تكن سعيدة.
        كانت ترى الأفق علامة موت،
        وكانت تؤمن بالرماد والصدى.

السيدة: أؤمن بالغروب، والشرفات المظلمة.
        أؤمن أن خلف الصباح أجنحة عملاقة،
        وأنها، لحيائها الشديد، لا تُرَى.

السيدة: هذه الجدران كأنها تُرفَعُ الآن.

السيدة: هذه الكلمات مثل العيون. "صمت"

السيدة: ليس من المهم أن تكون سعيدة؛
        تلك التي قضت حياتها، تقلّد الموسيقى.
        تقلدها لتحظى بصمتها.

السيدة: ألم يحن الوقت لأحظى بضمة من صدرك؟

السيدة: هذا وقت الندى، تعالي أعانق آلامك.

(تضم السيدةُ السيدةَ إلى صدرها،
مثل وردة تبسط شذاها الخفيف)

السيدة: كم عمر فخذيك؟!

السيدة: كم عمر نهديك؟! (تفترقان، تصمتان)

السيدة: لستُ سوى جرح بين الظلمة والنور.

السيدة: لستُ سوى فجر، لستُ سوى غروب.

السيدة: كانت تنظر إلى الحديقة،
        وكانت تحلم أنها الحديقة نفسها.
        تستطيع أن ترى، لكن لا تستطيع أن تعيش!

* * *

السيدة: أشعر بحاجة إلى البكاء.
        بلغت الدموع حنجرتي،
        وكلماتي إن نطقتها،
        لن تسمع كما تسمع الكلمات.

* * *

السيدة: "يا ريح الغرب متى تهبين
        فينزل المطر الخفيف على الأرض؟
        يا إلهي، ليت حبيبي بين ذراعي
        وأنا على فراشي مرة أخرى."

السيدة: "القمر يأفل، وتأفل الثريا.
        نحن في منتصف الليل.
        والزمن يمرّ، الزمن يمر،
        وأنا مستلقية وحدي..." (صمت كالصلاة)

السيدة: لي وردة ينبغي صونها.
        وردة بلون الماء.
        وردة تُلْمَسُ، لكن لا تُرى!

السيدة: منذ متى لم أنجب دمعة...

السيدة: إنها تنمو فيّ،
        مثل ضوء في النهار،
        وردة هي الشمس، وردة هي الليالي كلها.

السيدة: لو تشرق بداخلي فحسب،
        لحظة، فلتأتِ ولأُجرَح بقدومها العادل الغاضب،
        فأحسّ أنني حية، أن قلبها يمزقني فأولد من قلبها.

السيدة: إنها تكاد تسقط. إنها تُرى الآن. "صمت"

السيدة: لم أنل يومًا ما أحبّ.

السيدة: رأيتها مثلما تُرَى البذور؛
        تلمع صغيرة سوداء.
        رأيتها مثلما يُسمَعُ صوت أجراس نائية.

(أجراس كنائسية عريقة، ذات صوت خشن جاف مديد...)

السيدة: كانت تجلس قرب النافذة.
        عيناها في صدرها،
        وكانت تحلم أنها تتنفسُ.

* * *

السيدة: كلماتُ الأنفاس،
        كلمات الأنفاس.
        أين تمضي،
        متى تعود؟ "صمت"

السيدة: هذا الكلام يخضعنا لليأس.

السيدة: هذا الكلام يخضعنا لليأس.

السيدة: ما اليأس.

* * *

السيدة: عمل من أعمال الأرض؟!

السيدة: عمل من أعمال البشر؟!

السيدة: لقد حضنْتُه مثل وليد،
        حضنته حتى حالت عيناي إلى هواء.

السيدة: "لست أستطيع أن أحصي
        كم من المرات،
        وبعدها توقفت عن تحمله -
        وجلست مثل ببغاء مع القديسين"

السيدة: الأرجوان هو السر الوحيد.

السيدة: "ضعي هذا الغار على من هو
        أكثر يأسًا من أن يخضع للشهرة -
        أيها الغار - لتهوِ شجرتك التي لا تموت -
        (فهو) هو متلقي قصاصك؟"

السيدة: كتابٌ يبتكر طفولةً ورعة ذاهلة،
        جرحًا مثل كنز.

السيدة: "باستطاعتي أن أخوض في الحزن -
        في برك من الحزن بأكملها -
        فقد اعتدتُ على هذا -
        غير أن أرَقّ دفعاتِ الغبطة
        تكسّر قدميّ -
        وإذا بي أترنح - سكرى"

السيدة: حياة شاسعة خطرة
        تلميذ حرمان عمره ألف عام.

* * *

السيدة: "أن يتزين المرء - بعد أن جعل الموت
        الزينة باردة
        أمام الذوق الحزين الذي كنا نود إرضاءه
        لأمر صعب، ومع ذلك -

السيدة: إنه أسهل - من تعقيص الشعر -
        وجعل الصدرة زاهية اللون -
        طالما أن العيون التي كانت تدلّلها
        قد اغتصبتها الوصايا العشر -" (صمت)

السيدة: "أن نتحمل نصيبنا من الليل -
        نصيبنا من الصباح -
        أن نملأ فراغنا بالبركة
        فراغنا بالازدراء -

السيدة: هنا نجمة، وهناك نجمة،
        بعضها يضل الطريق!
        هنا غمامة، وهناك غمامة،
        وبعدها - النهار!"

السيدة: "وبخفة سارت نجمة صفراء
        إلى مكانها الرفيع
        وخلع القمر قبعته الفضية
        من حول وجهه المطهَّر
        وبلطف وحيدًا أضاء الليلَ كله
        كحجرة مشعة بالنجوم
        وقلتُ للسماء أبتاه
        إنك دقيق الموعد"

السيدة: "نحن نسأل الله منة واحدة
        أن يسامحنا -
        على ماذا؟ يفترض أن يكون هو عارفًا -
        فالجريمة مخبأة عنا -
        وقد سيّجت الحياةَ جميعها
        داخل سجن سحريّ".

(تظلم ببطء، تتم..)

*** *** ***

عامودا، أيار-حزيران، 2007

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود