مشكلات الهوية الدينية

 

علي حرب

 

مفارقات النصّ النبوي

الهوية هي اليوم في أشدّ أزماتها، كما يعيشها الذين يشهرون سيف خصوصياتهم الثقافية والمجتمعية في وجه الآخر والعالم. والأزمة مزمنة في العالم العربي، وتزداد تعقيدًا واستعصاء. بدليل أنه بعد قرنين من التعامل مع الغرب بوصفه الخصم أو العدو التاريخي أو الحضاري، أصبح الشقيق في الوطن والأخ في الدين هو العدو، كما تشهد الحروب الأهلية والفتن المذهبية في غير بلد عربي. وهذه هي المفارقة والفضيحة والكارثة.

لا غرابة. فهذه حصيلة التعامل مع الذات بعقلية المماهاة والاصطفاء والصفاء والثبات، مقابل التعامل مع الآخر بمنطق الضد والإقصاء أو النفي والاستئصال: أن تصبح الهوية مشكلة لأصحابها، وأن ترتدّ ضد حماتها والمدافعين عنها. آية ذلك أن الهوية ليست ذات مكوّن واحد أو وجه وحيد، وإنما هي متعددة البعد، سواء لجهة العلاقة بالأصل والتراث، أو بالمختلف والآخر، أو بالدولة والوطن، أو بالأحداث والمتغيرات.

وإذا كان لكل واحد من هذه الوجوه إشكاليته، كما تجسد ذلك في تعارضات الأنا والآخر، أو الأصالة والمعاصرة، أو الثبات والتحول، أو المحافظة والتجديد، فإن هذه الثنائيات قد استهلكت ولم تعد أداةً فاعلة في الفهم والتشخيص والمعالجة، بقدر ما استخدمت على سبيل التبسيط والاختزال أو الحجب والخداع. فلا مجتمع يثبت على حاله، وإنما هو في حراك دائم، وإن غير مرئي. ومن لا يحسن أن يتغيّر في مواجهة المتغيرات، يتراجع وتهمّشه الأحداث. كذلك بالنسبة إلى ثنائية الأصالة والحداثة: لا أحد ينسلخ عن تراثه أو خصوصيته، وإنما المشكلة هي أن نقرأ التراث قراءة خصبة وبناءة، أو أن نمارس خصوصيتنا بصورة حية، منتجة، خلاقة، عالمية. في المقابل لا أحد يخرج من زمنه أو عصره. هذا شأن الحركات الأصولية. فهي ليست خارج الزمن والتاريخ. بالعكس. إنها تعيش في قلب العالم ووسط المشهد، لكنها تمارس حداثتها أو معاصرتها بصورة مقلوبة، سيئة أو عقيمة أو مدمرة.

هكذا ليست المسألة أن نختار بين قطب وقطب أو بين بعد وبعد، لكي نقع بين فكّي الكماشة، بل أن نحسن إدارة قضايانا باجتراح المساحات المشتركة واللغة الجامعة والصيغ المركّبة.

وإذا كانت مشكلة كل شيء تكمن في مفهومه، فالمعالجة تحتاج إلى كسر المنطق الأحادي وتجاوز الثنائيات الضدية، للتعامل مع الهوية ببعدها المتعدد وبنيتها المركّبة وإمكاناتها التواصلية وصيرورتها المتحولة، ولا سيما في هذا العصر، حيث تتعولم المشكلات وتتشابك المصائر.

هنا مقاربة للمسألة من خلال علاقة الهوية بالوطن واللغة والنص والله.

الهوية وأبعادها

أبدأ من سؤال يواجهه الواحد، عادةً، حول علاقته بالدين. وفي جوابي عن ذلك، صرت أؤثر أن لا أعرّف نفسي من خلال هويتي الدينية، وإن كانت بعدًا من ابعاد شخصيتي بتراثها وتقاليدها ورأسمالها الرمزي. وإنما اعرّف بنفسي من خلال أطر ثلاثة: أولاً بلدي الذي هو مسقطي ومكان اقامتي وعنوان جنسيتي ومسرح أنشطتي ومشكلاتي وأحلامي. ثانيًا، مهنتي وعملي ككاتب مشتغل بالفلسفة، فذلك هو الأساس الذي أثبت به جدارتي واستحقاقي ومشروعيتي، والذي يشكل مصدر فاعليتي وحضوري في بيئتي وعالمي. ثالثًا، الاطار العربي، لأنني أنطق بالعربية وأكتب بها. وأنتمي إلى المجموعة العربية، واللغة هي عامل حاسم في مسألة الهوية، لأنها بيت الكينونة وعنوان الهوية ومبنى الثقافة.

على هذا الأساس، يُعرَّف الاشخاص في زمننا، إذ يقال أديب فرنسي وفيلسوف ألماني وشاعر انكليزي وروائي ياباني وممثل اميركي.

هكذا، فأنا أكتفي بهذه الوجوه الثلاثة، مستبعدًا الدين من مجال التعريف. مسوّغي إلى ذلك أن الدين بات في مجتمعاتنا، وكما كان دومًا، عامل انقسام ونزاع بين الطوائف والمذاهب؛ بالإضافة إلى أن النسبة إلى الدين، هي أقرب إلى التهويم الغيبي، أو هي تفتقر على الأقل إلى الصدقية عند شخص لا يهتم بممارسة الطقوس والفرائض، في حين أن الاحالة على اللغة والبلد والموطن والدولة والعمل، إنما تتصل بالوجود المُعاش، بإحداثياته وروابطه ومفرداته، كما تحيل على عالم الحياة وأمكنة العيش ومساحات التبادل.

بالطبع لا يعرى أحد من خيار فكري وجودي يمثل مصدر الصدقية والمشروعية، أكان على أساس ديني لاهوتي، أم على أساس دنيوي مدني، أم على أي أساس آخر. ولكن الإنسان يُعرَّف اليوم من خلال البلد والجنسية والمهنة والكتلة، لا من خلال العقيدة والثقافة والفلسفة والمنظومة الايديولوجية. فلا يعرَّف الهندي بأنه بوذي أو الكوبي بأنه ماركسي أو الاسباني بأنه كاثوليكي، ولا سيما أن الانقسامات العقائدية والايديولوجية توظَّف لتأجيج الذاكرة وتغذية العداوات وصنع الفتن والحروب، على ما هي مفاعيل الجرثومة الإصطفائية للديانات التوحيدية الثلاث التي تقوم العلاقة بين طوائفها ومذاهبها على النفي والإقصاء أو على التطهير والاستئصال المتبادل، وكما يجري الآن في بعض البلدان العربية.

من المفارقات في هذا الخصوص أن الغربيين يغلِّبون إنتماءهم إلى وطنهم وبلدانهم على الانتماءات الدينية والخصوصيات الثقافية، فيما يعاملوننا، بالعكس، أي على أساس الانتماء الديني والثقافي. ونحن نحمل المسؤولية عن ذلك، لأننا نصرّ على تقديم أنفسنا عبر هذه الأطر والمؤسسات والصفات. حتى الفلاسفة عندنا، عندما يتناولون القضايا ويحدّثوننا عن العقل والعقلانية، فإنما يخلعون الطابع الديني أو القومي على العقول والمعارف.

في كل حال، إن الأبنية الثقافية والأنساق الرمزية والمنظومات العقائدية التي تصنع الهويات هي سيف ذو حدين: قد تستخدم من أجل المعرفة والدراية والتدبير أو من أجل التضامن والتبادل، ولكنها تستخدم في الغالب، كآليات للحجب والطمس أو التهويم والعماية أو الخداع والزيف أو الاحتكار والمصادرة.

هذا ما يفسر كيف أن الجماعات تقف ضد مصالحها وتتواطأ على نفسها، لأنها تقفز فوق الواقع وتتعاطى معه من خلال ذاكرتها الموتورة وقوقعتها التراثية وهويتها الرمزية، بما ينطوي عليه ذلك من العُقد والحساسيات والجراحات. يقدّم لبنان مثالاً فاضحًا، إذ الأهمّ، لدى الجماعات والطوائف، ليس المطالب المعيشية كما يقولون أو يهوّلون، بل التحزّب السياسي والتعصّب الطائفي أو المذهبي. ولذا فالأولى عندهم هو الزعيم والطائفة، الأمر الذي يضرب فكرة المواطنة ويُضعف الدولة، بقدر ما يحوّل الجماعات والأحزاب ومثقفيها ومنظّريها إلى قطعان عمياء تمسي رهينة لمشاريع تقودها إلى حتفها وتجعل منها ضحايا هوياتها، بتهويماتها وتشبيحاتها وهواجسها وكوابيسها. في هذا المعنى، فالشعوب والجماعات هي ضحايا أفكارها وزعمائها في الدرجة الأولى.

النصّ والتباسه

مع ذلك، فمن التبسيط والخداع أن أنفي علاقتي بالدين كتراث وعادات وتقاليد ساهمت في تكوين ذاكرتي وشخصيتي. ولهذا قلت لسائلي عن تديّني، بأن علاقتي بالدين الإسلامي تتحدد في الدرجة الأولى من خلال النصوص، وخصوصًا من خلال النص القرآني. فهو الحدث والأثر، في ما يتعدّى تعاليم الرسالة والدعوة أو العقيدة والشريعة وأحكامها. فالنص هو ما في المتناول بحروفه المقروءة أو كلماته المسموعة أو طبعاته الفاخرة والمزيّنة. فإما أن أتعامل معه كمتراس عقائدي لإطلاق النار، رمزيًا أو ماديًا، على المختلف في الداخل وعلى الآخر في الخارج؛ وإما أن أتعامل معه كنص مفتوح على احتمالاته، غني بإمكاناته، أي كمساحة للتأويل أو كرصيد رمزي يحدد علاقتي بالمعنى، كما يتجسد ذلك في القيم العامة الجامعة لبني البشر، والتي على أساسها يتم التعارف والتواصل أو التفاهم والتبادل أو التضامن والتآزر. من هنا لم تعد تعنيني كثيرًا المناقشات اللاهوتية أو الفلسفية من أجل اثبات وجود الله والنبوات، بالبراهين العقلية والأقيسة المنطقية. هذه مهمة مستحيلة، إن لم تتحول إلى مماحكات عقلية عقيمة. فالمحك الآن، فيما تغرق المجتمعات في أزماتها وتولّد فخاخها ومآزقها، هو كيف يُترجم الواحد إيمانه على أرض الواقع، في ما يخص علاقته بنظرائه وشركائه، سواء أكان يؤمن بالله أم بالإنسان، بالنص أم بالعقل، أم بالحجر، على حدّ تعبير الشاعر اللبناني رشيد سليم الخوري.

كما يعنيني، كمشتغل في حقل من حقول المعرفة، أن أقرأ النص، قراءة فعّالة ومنتجة للمعرفة، كما فعل العلماء والمفكرون القدامى، الذين تعاملوا معه كموضوع لإنتاج المعارف الفقهية أو اللغوية أو الكلامية أو الفلسفية أو الصوفية. وقد ندخل عليه الآن من مداخل جديدة، سواء في ضوء تطور العلوم والأفكار والمناهج، أو على وقع التحولات والمنعطفات التي انتقلت معها البشرية من العصور الوسطى، إلى عصور الحداثة وما بعدها.

بحسب منهجي في القراءة، لا أتعامل مع النص، أكان دينيًا أم فلسفيًا، بوصفه مرآة الحقيقة أو ينطق بالحق أو يقبض على قوانين الواقع والتاريخ، إذ يشكل النص هو نفسه واقعة لغوية دلالية، معرفية، ادراكية، رمزية، مجازية... تضاف إلى سجل الوقائع التي تتحدث عنها، بقدر ما تساهم في تغيير الواقع وإعادة إنتاجه، بصورةٍ من الصوَر، ولو طفيفة أو غير مرئية.

لا شك أن النص، هو، ككل خطاب أو رسالة، إنما يطرح قضايا أحادية المعنى أو حصرية الدلالة يدافع عنها ويحاول البرهنة عليها أو يسعى إلى تبليغها. لكن ذلك لا يعني أنه يقبض على الحقيقة. الأحرى القول إنه يملك حقيقته أو يفرض واقعه، بقدر ما يخفي سلطته أو يحجب تعدده. وهو يحجب بشكلٍ خاص بنيته المفهومية ذات الكثافة المضاعفة، الزمنية والمكانية، سواء لجهة بداهاته ومسبقاته وذاكرته اللغوية وطبقاته الدلالية، أو لجهة آليات تشكّله ومنطق اشتغاله ونظام إشاراته أو نسق كتاباته، وذلك هو مصدر غناه وقوته. ومعنى كونه كذلك أنه يستعصي على القبض بقدر ما هو مفتوح على ازدواج الرواية أو التباس الدلالة أو اشتباه الآية، الأمر الذي يجعله يقبل تعدد التفاسير واختلاف التآويل.

لذا، لا قراءة وحيدة، تحتكر القبض على المعنى في النص القرآني أو في أي نصٍ ديني آخر، كما يزعم أهل المذاهب المختلفة والمتصارعة على التأويل والتفسير، فهذا ادعاء ينتج التبسيط والخواء، بقدر ما يؤول إلى الاقصاء والاستبداد أو إلى العنف والارهاب.

احتكار المعنى

على هذا، فالمطلوب كسره ليس فقط احتكار النص من قبل من يقرأه أو يتعامل معه، كما يقارب المشكلات بعض المشتغلين في الفكر الإسلامي، وإنما المطلوب كسره احتكارٌ مزدوج: الأول، احتكار التفاسير للنص الديني، كما يمارسه أهل كل مذهب بادعائهم أنهم وحدهم أهل الإيمان الصحيح والسائرون على الصراط المستقيم؛ الثاني، احتكار النص الديني نفسه للحقيقة. ففي النهاية، كل نص يملك حقيقته بقدر ما يصنع سلطته ويترك أثره ومفاعيله في تشكيل بنية الوعي وخريطة الفكر أو في سلّم القيَم ومبادئ التصنيف.

قد يقال إن ذلك يفضي إلى تقويض الأساس الذي تُبنى عليه الكتب الدينية، بوصفها مطلقة، منزلة، مقدسة، مطهرة... لكن الانتهاك والخرق لا يأتيان دومًا من جهة المستقلين عن الأطر والسلطات الدينية، وإنما يأتيان بالذات من جهة دعاة الإيمان الذين لا يحسنون سوى الارتداد على دعواتهم أو انتهاك شعاراتهم، بقدر ما يقدسون النص بوصفه ينطوي على الحقيقة المطلقة أو على العلم بكل شيء، لأنه لا وجود في هذا العالم إلا لما هو متغير ونسبي ومتعدد وعابر أو زائل. وتلك هي اشكاليتهم: يقدّسون النص لكي يقعوا ضحيته أو يقومون بانتهاكه؛ أو لكي يؤلهوا أنفسهم بإحلال كلامهم وتفاسيرهم محل النص. هذا هو مأزق الفكر الديني القدسي والمتعالي: فصاحبه إما أن ينتهك ما يقدّسه على أرض الواقع الحيّ المفخّخ بالأهواء والمطامع، وإما بالعكس يحوّل ما هو مدّنس، والأحرى القول ما هو يومي أو عادي أو مبتذل، إلى قدسي أو نوراني.

هذا ما جعلني أثناء ندوة لي أستدرك، بعد تصريحي بأنني انخرطت في سلك الفلاسفة والزنادقة، بالقول إنني أوسع إيمانًا من أهل الإيمان، لأنني أقبلهم جميعًا كمؤمنين، مسلمين ومسيحيين، أو كمسلمين سُنّة وشيعة، كلّ على طريقته، فيما هم يكفّرون بعضهم البعض.

الخطاب ومأزقه

الأجدى قراءة النص قراءة حرة، مفتوحة، في الدخول على المناطق المستبعدة أو المنسية أو المعتمة، أو المحتجبة من فرط وضوحها. النص الديني، شأنه شأن كل خطاب، إنما يُبنى على الحجب والنسيان، بقدر ما هو منسوج من التوتر والتعارض، أو من المفارقات والفراغات، من غير وجه:

1 - فهو يقدم نفسه كخطاب إلهي، فيما هو مكتوب بأخص ما هو بشري، أي بلغة خاصة بقوم بعلاماتها ونحوها وصرفها وأساليبها البلاغية وكلماتها المسموعة أو المقروءة.

2 - أو يهاجم الشعراء لكي يتستر على شاعريته، كما يتجلى ذلك في بيانه الآسر وايقاعه المؤثر وفي ضرباته المجازية الساحرة.

3 - أو يدافع عن قدسيته ويمارس سلطته بتقديم نفسه على أنه اعجاز لغوي، أي كلام يستحيل تقليده، ولكن هذه صفة كل نص يتمتع بالفرادة والابتكار، كما هي نصوص المتنبي أو شكسبير أو غوته.

4 - أو يدعو إلى الوحدانية ونبذ الشرك، ولكنه مبني على الاثنينية، كما يتجسد ذلك في خلق كائن معارض هو ابليس. لأن الوحدانية تعني الخواء، ولأن العالم لا يسير بمبدأ واحد، أو لأن لا مجتمع يخلو من شياطين، بالمفهوم الأصلي، الإيجابي والعقلاني، أي عدم الامتثال للأمر، بل استخدام العقل بما يعنيه من صفات الحيلة والمكر والدهاء، أو بما يجسّده من قدرة على التخطيط لابتكار السيناريوهات وتركيب الحلول. أيًا يكن، فالتعدد هو الأصل والمحرّك. وربما يسعنا الإشارة إلى ثلاثة أقطاب في النص النبوي: الله، الشيطان، الإنسان. هذا الثالوث هو مدار الخطاب القرآني. نحن إزاء ثلاث صور تولّد الصراعاتُ في ما بينها الثنائياتِ التي تخترق النص، كالأمر والعقل أو المعنى والقوة أو الإيمان والكفر أو التقوى والفجور...

5 - كذلك، فالنص يؤكّد أن العبودية هي لله وحده، الواحد الأحد في عليائه وغيبه. لكن مآل ذلك أن تتحول هذه العبودية، في العالم المُعاش، إلى من ينطق باسمه بوصفه خليفته أو نائبه أو الحاكم بأمره. بذلك يصبح الإنسان الحاكم بأمره هو، أي بأمر نفسه، لا بأمر الله، كما هو شأن صاحب كل دعوة. وهذا أيضًا شأن داعية الحداثة والتقدّم والتحرّر في ممارسته الوصاية على القضايا. إنه يخفي سلطته وهيمنته على من يريد تحريره. ولعل هذا ما يُفسّر لنا كيف أن عشّاق الحرية مارسوا المزيد من الاستبداد.

وأخيرًا، فالخطاب الإلهي يلعن الشيطان، لأن هذا الأخير عارض الأمر بمقاييس العقل، وبذلك يكون ابليس قد طُرد ولُعن، لأنه شغّل عقله فجادل وعارض.

أتوقف عند هذا المثال الأخير من المفارقات والفروقات التي تصنع النص اللاهوتي وتخترق هوية السرد النبوي، بما يعنيه ذلك من نفي الشيء في معرض تأكيده. لذا نرى الخطاب يؤكّد أن الله ليس كمثله شيء، ثم ينسُب إليه صفات البشر كالغضب والمكر والانتقام. وهذا شأن الخطاب الفلسفي الذي يؤكّد نسبية الأمور والحقائق بعبارات فاصلة حاسمة.

النقض والنقد

هكذا لا يخلو خطاب من تعدد أو تعارض، بقدر ما هو منسوج من الإلتباس والتوتر، على نحوٍ من الأنحاء. هذا إذا شئنا التعامل معه بعين نقدية تركيبية ترى ما لا يُرى وسط الرؤية، من فرط العماية، شرحًا وتفسيرًا أو تأويلاً وتفكيكًا. مع ذلك، فالقراءة التركيبية التفكيكية لا تقوم على نقض النص، لأن ذلك يصحّ على حكمٍ أو قضية. أما النص فيتعدّى كونه مجرّد معلومات أو قضايا وأحكام. إذ هو يشكّل عالمًا فكريًا بطيّاته وفجواته واحتمالاته وإحالاته وشبكة علائقه المنتجة للمعنى. لذا، فالقراءة الفعّالة لا تنقض النص، وإنما تُخضعه للنقد لإعادة ترتيب العلاقة مع المعنى وتغيير علاقات القوة.

من هنا الفارق بين النقض الذي يقوم على النفي والإلغاء، والنقد الذي يشتغل على الإمكان لسبره أو اجتراحه وبنائه، بتحويل الممتنع إلى ممكن، وعلى نحوٍ يفتح آفاقًا خصبة للتفكير والعمل. ومن مفاعيل النقد الإيجابي البناء، كما أفهمه وأتمرس به، أنه قد يفضح أشكال الحجب والزيف والوهم والإعتباط والتبسيط وآلياتها، في ما يخص معرفة الواقع بتعقيده البالغ وحراكه المتسارع؛ أو يبين كيف أن العقائد والمذاهب المتصادمة، تنبني على المنطق الإصطفائي نفسه، القائم على الرفض والإستبعاد، أو على التطهير والإستئصال، مما يعني أن أصحابها يتماهون في النمط الوجودي وإن اختلفوا في المعتقد الايماني؛ أو يكشف كيف أن ما نرفضه من المفاهيم والقيم قد يتسلل إلى عقولنا وخطاباتنا من حيث لا نعقل، مما يعني أن من نظنه المختلف أو الضد، إنما هو وجهنا الآخر الخفي أو اللامرئي؛ أو يفضح ممارساتنا بقدر ما يكشف لنا أننا لا نحسن سوى انتهاك ما ندّعيه أو ندعو إليه، كما هي حال أصحاب المشاريع والدعوات. العبرة من ذلك، أن نتواضع وأن نقتنع بأننا أدنى شأنًا مما نحسب من حيث علاقتنا بالحقيقة والعدالة أو بالصدقية والمشروعية، أي من حيث إدعاؤنا أننا نعرف حق المعرفة أنفسنا أو الآخر والعالم.

الله ودوره

أختم بالعودة إلى موقفي من الدين لأقول: لا شكّ أن الصيغة الدينية، كما نطق بها أول نبي أو رسول، قدّمت حلاً ناجحًا للمشكل البشري يصدر من تخيّل خلاّق ويجسّد منتهى الذكاء: ضبط البشر وحكمهم وإدارة شؤونهم، من خلال ربطهم، وعدًا ووعيدًا، بمرجع غيبي متعالٍ، هو فوق الكلّ وأقوى منهم، بقدر ما هو أكبر وأعلم وأحكم.

في هذا المعنى، تشكّل فكرة الله إحدى "الميمات" الكبرى التي لعبت دورها، ولا تزال، في حياة البشر وصناعة التاريخ. والمقصود بـ"الميمة"، كما ابتكر المصطلح العالم الأميركي تشارلز داوكنز، المنتج الثقافي الذي هو نظير "الجينة" على الصعيد الطبيعي والبيولوجي. ميمة الله، شأنها شأن اي اختراع بشري، كالديموقراطية أو الدولة أو العدالة أو الاشتراكية، إنما يجري تناقلها وتداولها أو نسخها وتطويرها، وربما تتراجع وتفقد صدقيتها. وإذا كانت فكرة الله، قد عادت إلى الظهور، على المسرح، كما يشهد صعود الأصوليات، وحروب الآلهة الجدد، فلا شيء يعود كما كان عليه. إنها عائدة على سبيل الثأر والانتقام، وعلى نحوٍ يدمّر التقوى وينسف المروءة، لكي يحوّل الهوية إلى عُصاب والعقيدة إلى محكمة، بقدر ما يحوّل الحياة إلى سجنٍ أو جحيم، أي إلى غيتوات ثقافية عنصرية، أو إلى مدن هي أشبه بالثكن العسكرية. لقد فقد الدين مفعوله كوازع هو مصدر تقىً يحمل المرء على احترام الآخر في كرامته وحريته وحقوقه، وأمسى مصدر انتهاكٍ أو صدامٍ أو عدوان، بقدر ما تحوّل إلى دولة أو نظام حكم أو شعار سياسي أو برنامج اقتصادي، وبقدر ما يُمارس كهوية ثقافية ومجتمعية في عصر الدولة والمواطنة والعولمة.

لذا، فالأصولية آخذة الآن في التراجع، بقدر ما تنكشف اللعبة أو الحيلة: اخفاق الانسان في ادعاءاته، سواء منسوبة إلى الله، أم إلى نفسه. ثمة حاجة إلى صيغة وجودية جديدة، أكثر تواضعًا، تتجاوز ثنائية اللاهوت والناسوت، أو العلمانية والدين، وتكسر ما يمارسه الإنسان من المركزية والاصطفاء والنرجسية والفاشية والعدوانية، تجاه بني جنسه أو تجاه الحياة والطبيعة والأرض. لقد أُتخمت المجتمعات من السلع الرمزية التقديسية التي تُنتج كل هذين التألّه والتوحش، كما يتجسد ذلك في نشر الشعوذة وزرع الخراب وتوليد البربرية في أرجاء الكرة.

لم تعُد تجدي إدارة الهويات والقضايا والشؤون والدول والعالم في ضوء الانهيارات والتراجعات والأزمات، بالعقليات السائدة: الإمبريالية والإستبدادية، الأصولية والشمولية، النخبوية والبيروقراطية، الجهادية والإنجيلية... فما يحدث ويتشكّل من التحولات الجذرية والمتسارعة يفتح الإمكان لولادة فاعل بشري جديد بتعدد نماذجه وأنماطه. والنموذج الفعّال في تشخيص الأزمات وتسيير الأعمال أو تحسين الأحوال، هو الذي يفكّر ويعمل أصحابه بمفردات التقى والتواضع والاعتراف، أو بعقلية التعدد والتوسّط والتهجين، أو بلغة الخلق والتحول والتداول، أو بمنطق التركيب والبناء والتجاوز.

*** *** ***

النهار

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 إضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود