مرآة نرسيس

 

دارين أحمد

يا مرآةً!
يا ماءً برَّدك السأم في إطارك الجامد.

مالارميه

 

ما أحوجنا إليه، هذا الماء الذي لم يبرِّده السأم في إطار جامد، وما أحوجنا إلى مرآته التي تمنحنا صورًا واقعية عن أنفسنا: متموجة وهذيانية بعض الشيء، على العكس من صورة مرآة السأم الواقفة بيننا وبين أنفسنا مثل جدار ناعم وصلب. فما الفرق بين المرآتين حتى تمنح الأولى تعددًا تختزله الثانية إلى أسر، وحتى تمنح الأولى تنوعًا وشكلاً من العلاقة المحرضة على التفتح تختزله الثانية إلى أحادية أنوية وسأم يبطل الواقع والحياة؟ وهل نرسيس هو الإنسان الواقف "الثابت" أمام مرآة سأم يكرر علاقة ميتة مع صورته الثابتة على حساب بقايا العلاقة مع الآخرين، أم هو، وكما يقول جواشيم غاسكيه: "العالمُ هو نرجسٌ شاسعٌ مستغرق في التفكير بذاته"؟ وإذا كان نرسيس هو الإنسان-الصورة الأحادي فلماذا بكته الطبيعة ومنحته واحدة من أجمل أزهارها، ولماذا أشعل الرغبة الخلاقة، وهو الكائن المغلق وفق التصور الفرويدي، في مخيلة العديد من المبدعين الكبار؟ أسئلة كثيرة يخلقها التناقض بين الجمال الظاهر والخفي في أسطورة نرسيس وبين الفقر الثقافي لتصويره مرضًا تتناقض فيه العلاقة بين الذات والآخر. فهل الذات والآخر حيزان منفصلان يتصارعان على مكانها في نفس الإنسان أم أن عشق الذات هو ذاته عشق العالم بتفاصيله كلها بما فيها الآخر؟

يقدم أوسكار وايلد تصورًا فريدًا عن أسطورة نرسيس[1]، وعنده يتحقق التبادل الجمالي بين الإنسان الباحث عن هويته في جمال الطبيعة والطبيعة الباحثة عن هويتها في جمال الإنسان، ويكون الاثنان كلاً واحدًا يحوز جزءه الفاني الحضورَ الأبدي "الخالد" عبر امتثاله لقانون الجزء الثاني الذي يقول بخلود المادة وفناء شكلها. فنرسيس، كأحد أشكال تجليات الجمال، عرضة للموت، إنما كشكل فقط، إذ يأخذ منه الموت شكله الآدمي مانحًا إياه حضورًا أكثر التصاقًا بالطبيعة وتجدُّدها وهو زهرة النرجس. وفي هذا الاستبدال يتحقق وعي نرسيس بذاته ومعرفتها، وما كان مرآةً – سطح الينبوع أو البحيرة أو النهر – يتحول ليصبح منزلاً وحياة.

ما الفرق بين مرآة نرسيس ومرآة من اصطلح على تسميته "نرجسيًا"؟ يقول لويس لافيل:

إذا ما تخيلنا نرجس أمام المرآة فمقاومة الزجاج والمعدن ستضع حاجزًا أمام مشروعاته. وسوف تصطدم جبهته وكفاه بها؛ ولن يجد شيئًا إذا دار حولها. فالمرآة تسمِّم فيه عالمًا باطنًا يخفى عليه، حيث يرى نفسه من دون أن يستطيع استحواذ ذاته، حيث تفصله عن ذاته مسافة زائفة بإمكانه تقصيرها، لكنه لن يتمكن من مجاوزتها. وعلى العكس، الينبوع طريق مفتوحة أمامه...

هذا الإنسان الذي بُترت صلته مع إمكانية الموت، مع إمكانية الغرق، يتمثَّل الصورة الثابتة الواضحة التي تقدمها مرآة جامدة، وهي صورة الخلود الثقافي لهذا العصر بدءًا من بداية تشكُّله عندما أضاع جلجامش عشبة الخلود فاستبدل خلود الطبيعة [التجدُّد] بخلود الصورة [التاريخ].

المرآة السائلة مرآة شفافة يرى الإنسان فيها صورته وقد اندمجت بصورة السماء والقاع، يرى فيها الشجرة والغيمة والحصى، يرى فيها الحاضر حاضرًا بكليته في وجهه. وإذا ما قرر امساك الصور المتداخلة دخل مباشرة أرض اللعب والمتعة، ولنتجرأ أكثر فنقول أرض الفهم العميق لوجوده حيث يمنحه حضور الطبيعة ولعبيتها قدرًا من الحب معينًا على لحظة اكتشاف الضآلة.

في المقابل، تقف مرآة السأم كتيمةً أمامنا، لا شيء فيها سوى وجودنا المنبسط على سطحها، وجودنا المأسور لعلاقة مع آخر في مرآة شبيهة أخرى. يتمرى أحدنا في مرآة السأم ليرى كم هو لائق ومطابق ونافع في مرآة سأم الآخر. لا علاقة مع الآخر هنا بل انقطاع للعلاقة. ووجهنا في هذه المرآة لا يخصنا بل هو توقُّع الآخر والمنزلة المشتهاة. وإذا ما أردنا امساك حضورنا فيها فلن نجد سوى برود السأم وصقيع الحسرة النابع من تناقض مرآة كتيمة في الرأس مع مرآة كتيمة أمامه. إنها الوحدة التي لا تكسرها يدٌ لن تجد إلا الوجود المسبق؛ فالمرآة الكتيمة ماض للتوهم أو حسرة على ماض للواقع أو رغبة في مستقبل منقولة عن صورة ماضي. ولكن، حتى المرآة الكتيمة تحمل إمكانية الحاضر في لحظة قاسية هي لحظة اكتشاف الضآلة في الفراغ، ومن يجتاز تلك اللحظة دون كسر تلك المرآة الكاشفة في تلك اللحظة الكاشفة يدرك ويعرف كم ابتعد عن المرآة السائلة، وكم هي ملِّحة العودة.

وهذه العودة ليست عودة ذاتية إلى البحث عن مرآة سائلة في داخل إنسان منفصل بل هي عودة لا تتحقق إلا على ضفةٍ أي في مكان التقاء العالمين: الداخلي والخارجي، الذاتي والموضوعي. فالنهر هنا، أو الينبوع أو البحيرة، له من الحضور المادي ما له من الحضور الرمزي. وبدون الحضور الأول سيكون من العبث، أو من النفاق، أو من القتل، البحث عن الحضور الثاني؛ فما من بؤس أشد من بؤس قاتل وجوده إن وعى وتجاهل. يقول ميشليه:

إنها نزعة مشؤومة في عصرنا أن نتخيَّل الطبيعة حلم يقظة، فهذا كسلٌ، وهذا سأم.

ليست الطبيعة حلمًا وإن كانت أصل كل حلم، ليست رمزًا وإن كانت أصل كل رمز، هي حضور مادي قبل كل شيء آخر، وما ينبثق عن هذا الحضور الأولي من تجليات مادية أو صورية أو حلمية تجمع بينهما هو المكان الذي يعمل فيه الوعي البشري ممثلاً بالثقافة والفنون في غليانهما الحي، وهو أيضًا المكان الذي يمكن أن يتوقف فيه عمل الوعي البشري في احتجاز الثقافة له في إطار جامد.

ها نحن: نقف أمام مرآة سأم ونعيش فشل التواصل مع صورة، والعالم الذي يجب أن يكون "نرجسًا شاسعًا مستغرقًا في التفكير في ذاته" هو عالم مأسور لفشل هذا التواصل.

نعم، ما نعجز عن تحقيقه قد يحققه "الخيال" لنا ما دامت عناصره حية ولو بنسبة ضئيلة في واقع العجز ذاته. ولكن التشاؤم معد، والأرض القاحلة أرض شؤم، ومع الوقت سيكون عطاءها الوحيد لنا عطاء حمى، وعطاء موت لم نتواصل معه فالتبس بالقتل، في الذهن وفي الواقع معًا؛ مع الوقت الذي نصوب فيه أعيننا مثل أسلحة في وجه الصور وتصوب فيه الصور جفافها في وجهنا تمر الوفرة[2] شاحبة أمام انتباهنا التائه.

*** *** ***


 

horizontal rule

[1]  تقول حكاية وايلد أنه عندما جاءت الأورياديات، ربات الغابة، ووجدن ماء البحيرة العذب وقد تحول إلى مالح بسبب دموعها سألنها لماذا تبكين؟ فأجابت البحيرة: أبكي نرسيس. وعندما بررن بكاءها نرسيس

بجماله سألتْ: وهل كان نرسيس جميلاً؟ فأجابت الأوردياديات: "ومن يعرف هذا أكثر منك؟ ففي مرآتك كان يتأمل جماله كل يوم". أجابت البحيرة: "أحببت نرسيس لأنني، وفي كل مرة كان ينحني على ضفافي وينظر إلي، كنت أتأمل في مرآة عينيه جمالي".

[2]  "إنما التفاؤل وفرة"، غاستون باشلار، من كتاب الماء والأحلام، ترجمة علي نجيب ابراهيم، المنظمة العربية للترجمة. جميع الشواهد الموجودة في هذه الافتتاحية باستثناء قصة أوسكار وايلد أُخذت من

الكتاب المذكور.

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 إضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود