الحقيقة المتوحشة

 

حميد مجدي

 

1

قد يكون مستحيلاً أن أعود أدراجي إلى الوراء عبر ماضيَّ الذي مع ذلك أقبع فيه ويشكِّلني، وعبر التاريخ والزمن الذي يلتهم في طريقه كل شيء، حيث أبدأ من بداياتي واتنبه بيقظة شديدة لكل المنعرجات والدروب والأماكن والأغوار والسلط، وأرهن روحي وفكري وجسدي لمعرفة الحقيقة وتلمسها والقبض عليها حتى لا تنفلت منا، وأخلص نفسي، والعالم، من مآسي الأوهام والتيه الذي يكتسحنا ويقض مضجعنا، والجهل المطبق بما نحن فيه وعليه وبمن نكون ولماذا نحن كذلك، وما السرُّ في الوجود والموجود بهذا الشكل...

كل الآلام والحروب والأمراض والمصائب التي تنخر جسد العالم، لا توازي في شيء ألم وجراح جهلنا بالحقيقة، بل إن هذه الآلام ستكف عن أن تكون كذلك إذا علمنا سرَّ الوجود وسببه والعوالم المحيطة بنا والأهداف المتوخاة من كل ما نعيشه.

لماذا هي الحقيقة عصية على الظهور!؟ ما الذي يجعلها خفية!؟ ولأي سبب!؟ لماذا هذا العبث!؟ ولماذا هذا التحدي!؟

إن أبسط شروط العيش والحياة هو أن نعرف عن أنفسنا وعن العالم كل شيء، أن تكف الأسئلة عن أن تكون.

لكي نستمر في العيش علينا أن نعلم. يجب أن نغدو آلهة ليستمر الوجود. يجب أن نعرف لنتعاط ونندمج وننسجم مع الحياة والموت والكون. أن تصبح المعرفة غير ذي موضوع.

برغم كل هذه السنين، كل هذا الوقت، وكل هاته العقول والعلوم والديانات والدراسات والتجارب والكتب والعلماء... إلخ والحقيقة عصية على الظهور. كيف ولماذا هي متخفية إلى هذا الحد!؟

أبحث في فكري وكلماتي وحدسي وجسدي وحياتي عن شيء لا أعرف عنه شيئًا. أبحث عن حقيقة لا أعلم كيف هي ولا ما هي. أبحث وأبحث عن شيء لا أعرفه. ومع ذلك، لا يسعني إلا أن أبحث إذا كنت أريد التخلص من إرادة الموت. أبحث، لعل الحقيقة تظهر لي. سوف أقفز من إمكانيات إلى أخرى وأخطو خطوات سأرى بعدها إلى أين ستقودني. أحاول أن أكون ذلك الذي يقفز متنقلاً بين الصخور، في تمثُّل نيتشه لـ

مسافرين وسط سيل همجي يحمل معه حجارة: فالأول يقفز بخفة مستعملاً الحجارة ومتنقلاً من واحد إلى آخر بالرغم من أن الحجارة تتفتت فجأة خلفه، بينما يبقى المسافر الآخر على الضفة، ساعيًا بدون جدوى وراء مساعدة، عليه أولاً أن يبني دعائم تتحمل خطاه الثقيلة والحذرة. وهذا غير ممكن أحيانًا. ولن يجد إلاها يساعده في اجتياز السيل[1].

لن تحدني حدود أو قيود أو قوانين أو سلطة. أو لنقل، هذا ما سأكافح لأجله أو أدعيه، لأن العرقلة الأولى التي تواجهني هي "أناي"، حيث أناي نفسه مجهول ومركب ومقولب ومراقب وغير مدرك. فما نحن عليه فعلاً

لن يقيض لنا أبدًا أن نعرفه، بل أقصى ما نستطيعه هو أن نتخيله، أي أن نريده. وأن نعرف الأشياء، فهذا معناه بالضرورة أن نعرفها مغايرة لما هي كائنة عليه. والإنسان لا خيار له إلا في أن يتصور نفسه مغايرًا لما هو كائن عليه. وكل تأويل الكون، سواء أكان أخلاقيًا أم ميتافيزيقيًا أم دينيًا أم حتى علميًا، منوط بذلك الوهم...[2]

المشكل الأولي المطروح – والعقبة الأساسية – هو في الذي يسأل ويبحث عن الحقيقة. الموجود الذي يسأل: الأنا، أو"الآنية" كما يسميها هيدجر. و

الآنية – بأسلوبها الذي تتخذه في الوجود وتبعًا لذلك أيضًا بفهمها الخاص للوجود – قد نشأت في أحضان تفسير موروث للآنية. إنها تفهم نفسها دائمًا من خلال هذا التفسير وفي ظلِّ محيط معين. هذا الفهم هو الذي يقض إمكانية وجودها وينظمها. إن ماضيها الخاص – وهذا يعني دائمًا ماضي جيلها – لا يسير وراءها ولا يتبعها، وإنما يسبقها في كل حين[3]،

كذلك فإن الحياة العامة، حياة الناس

تلغي كل الفروق وتقضي على كل أصالة وتنزع عن الآنية كل قدرة على تحمل المسؤولية والاستقلال بالرأي واتخاذ القرار، أي تحرمها من أن تكون هي ذاتها، وتملي عليها أسلوب وجودها. الناس يحملون عنا عبء وجودها، ويحسمون القرارات نيابة عنا. وهنا يتم نوع عجيب من "التغطية" أو "التنكير". فالسيطرة التي يفرضها الناس تجيد التخفي. كل إنسان يعمل ما يعمله وكأنه هو ذاته، وما من أحد هو ذاته. الناس هم كل الناس ولا أحد. لا بد إذًا أن تكون هناك أصالة تواجه عدم الأصالة هذه. ولا بد أن تحاول الآنية أن تختار نفسها على أساس إمكانياتها الذاتية. الأمر لا يخلو أبدًا من مواقف وحالات يتعذر فيها اتخاذ القرارات الحاسمة واختيار الذات نتيجة الظروف الخارجية التي تتحكم فينا كل لحظة[4].

لا يقف الأمر بـ"الناس" عند هذا الحد. إن سيطرتهم تمتد وتتسع فتحدد كذلك فهم العالم والذات. لقد ضاع "الناس" في عالمهم – عالم كل الآحاد، ولا أحد! –، وليس عجيبًا بعد هذا أن يفهموا أنفسهم على مثال الموجودات غير الآنية، أي الموجودات الحاضرة وحسب. أي أنهم يحددون أنفسهم تحديدًا "مقولاتيًا" لا "وجوديًا"، على نحو ما فعلت الأنطولوجيا القديمة التي نظرت إلى الإنسان نظرتها إلى موجود حاضر بين الموجودات، ولم تستطع أن تقترب من آنيته المتواجدة ووجوده المهموم بإشكال الوجود[5].

2

عندما تاهت الحقيقية جنَّ العالم واختلطت الأمور بعضها مع بعض، وتوسم المفكرون والفلاسفة والعلماء طريقها والاقتراب منها، فلم يتمكنوا من ذلك، فاتخذت "الحقيقة" وجهات مختلفة ومتعددة، وكان أخطر وأكثر من أبعدها، وزاد من جريمة الآلام والمآسي والمتاعب، نوع من "جبن" هؤلاء وارتكانهم إلى سعادة ضئيلة جدًا، إلى نظام وأجوبة متعسف عليها. لم يعترفوا بعجزهم في تلمُّس السبيل إلى الحقيقة. شيدوا "حقيقة" من مخيلتهم. أرادوا الحفاظ على بعض السكينة. السكينة التي تخفي في الأعماق الغليان والتناقض والتيه والجهل والحيرة والألم وعدم الارتباط وعدم المعرفة. فما كان عليهم إلا أن يمارسوا لعبة الوهم والكذب، فيصدقوا كذبتهم ويصدقها الناس، ذلك أن الحقيقة كانت شديدة عليهم وقاسية، وإنها بالفعل لكذلك!

إن ألم السؤال وحرقته وعلاقات السلطة والمعرفة لم يتركا خيارًا – أمام العجز الذي تحدثنا عنه – إلا لممارسة التمويه والربط التعسفي للألفاظ والأحداث والوقائع والمواقف والأشياء... إلخ لتطمئن القلوب وتكتمل الصورة التي في المخيلة، وتصبح بالتالي ادعاءات المفكرين والعلماء حقيقية، تمتلك السلطة والمعرفة والعلمية والعقلانية. يقول نيتشه:

كل ممارسة حديثة للفلسفة محصنة داخل سعة اطلاع وهمية، وذلك بطريقة سياسية وبوليسية مرتبطة بالحكومات، بالكنائس، بالجامعات، بالأخلاق، بالأزياء الشائعة وبالجبن البشري[6].

فأصبحت بذلك آرائهم وادعاءاتهم أخلاقًا ومبادئ لا يجب على أي أحد أن يحيد عنها، وأصبح لهم، باسم "الأخلاق"، سلطة الحكم على "نقائص الإنسان" وحتى حق عقابهم وجزائهم!

لقد أضعنا جهدًا كبيرًا ووقتًا طويلاً. تهنا في أمور واكتشافات، فكرية، علمية، تقنية، كنا نظنها هي الأهم وهي مفتاح الفرج-الجنة-الحقيقة، لتتحول هذه الاكتشافات والصناعات والتقنية – التي حولت العالم إلى مختبر كبير تحت قبضة صدفة العلم – والمذاهب والأفكار و"الحقائق" إلى نقمة على الكائنات. تعقدت الحياة وأفرغت من معناها، وتاهت معها الحقيقة، وأصبحت المعرفة يشوبها التوجيه والمراقبة والضبط والإقصاء والقوة، وغدت الحقيقة بعيدة المنال.

كان هيدجر نافذًا في تأمله عندما اعتبر أن الخطر على الفكر يكمن في الفكر ذاته وفي الإنتاج الفلسفي، وهو ما يدعو الفكر إلى التفكير ضدَّ نفسه.

إن السؤال الحقيقي، الذي هو سؤال الوجود-الأصل-الحقيقة، بقي منسيًا وتاه التفكير الإنساني في تقاليد وكلمات وأشياء ومظاهر فرعية أبعدته عن السؤال الحقيقي الأصلي. التفكير في أشياء موجودة بالفعل ولكنها أحيلت إلى ذوات مستقلة على المستوى الفكري والذهني والعملي. حقيقة مفصولة عن أبعادها وملابساتها الوجودية وعن تربتها المغذية.

تركز التفكير الميتافيزيقي، عبر التاريخ، على مساءلة الموجود-الحاضر، واستنفد فيه طاقته، وتخلف عن مساءلة الوجود والموجود كوجود.

لذلك كان على هيدجر أن يعيد صياغة السؤال حول الميتافيزيقا والوجود، وذلك من خلال البحث والتفكير في أرضية هذا النسيان الذي فرضته، وبالتالي مجاوزة الميتافيزيقا، ليس عن طريق إزاحة الميتافيزيقا أو إلغاءها أو تعويضها أو التفكير ضدها أو اجتثاث جذر الفلسفة ضمن الشجرة التي رسمها لها ديكارت، ولكن انطلاقًا منها ومن خلال البحث والتفكير فيها، من خلال البحث في عمق غرسها وفلح أساسها...[7]

لا يتعلق الأمر

بإلغاء التراث أو نبذه أو القفز عليه، بل بالخطو إلى الوراء، الذي لا يشكِّل عودة تاريخية بالمفهوم التقليدي للتاريخ. إن الخطوة إلى الوراء تنطلق مما آلت إليه الميتافيزيقا وقد اكتملت، أي من عصر العلم والتقنية والموضعة الحاسبة للكائن، لتعود إلى البداية، ليس كشيء انقضى ويوجد وراءنا، بل كشيء ما انفك يأتي إلينا ويهيمن علينا، إنها تمكُّن الفكر من الإحاطة بتاريخه في مجموعه ومن الالتفات إلى ذاك الذي يربط بين كل ما فكر فيه المفكرون، ذاك الذي يشكل أصل ومنبع قولهم وكلامهم وخصامهم ويظل بالرغم من ذلك بمنأى عن كل تساؤل أصيل. فاللامفكر فيه L’impensé ليس ما لم يفكر فيه المفكرون Le non-pensé، بل ما ظلَّ يحرضهم على القول ويتكتم في ما يقولونه: الوجود كاختلاف[8].

التفكير في الوجود حاضر في كل العصور، ولكن لم يتم التمييز بينه وبين الموجود، الحاضر، الزمني. الموجود يؤخذ على أساس أنه الوجود أو هو متضمن فيه فحسب. إن المشكلة هي في كون الميتافيزيقا نسيان للوجود بما هو نسيان للاختلاف بين الوجود والموجود.

ففي علاقة هيدجر مع الفكر الإغريقي، الذي ساد وأثر على الوعي والحياة، أكد على أن الإغريق ليس، في استعمالاتنا اللغوية، خاصية عرقية، ولا موطنًا ولا ثقافة أو حضارة: الإغريقي فجر قدر انكشف على ضوئه الوجود كموجود. التراث الفلسفي ليس شيئًا مضى أو هو مجرد موضوع من موضوعات التاريخ، إنه "يجيء صوبنا، لأننا معرضون إليه ولأنه قدرنا"، والأهم من ذلك أن التاريخ عند هيدجر "ليس حركة تقدمية تنتقل من الخواء نحو الامتلاء"، كما يقول بذلك هيجل الذي تتحدد حركة التاريخ عنده في الانتقال "من اللاتعيين نحو التعيين، ومن الخواء نحو الامتلاء ومن النسيان نحو التذكر"، بل على العكس من ذلك إنه حركة تدع الأصل يفلت من يدها. والأصل هنا ليس لحظة زمنية معينة من لحظات التاريخ، "ليس هو البداية الزمنية الكرونولوجية"، الأصل عنده لا ينفك عن الابتداء

إنه يظهر حيث يسبق كل ما يحدث، وهو لذلك يأتي بالرغم من تستره ليقترب من الإنسان كموجود تاريخي. إن الأصل لا يمضي أبدًا. إنه ليس شيئًا يمضي ويزول. لذلك فنحن لا نجد الأصل أبدًا إذا ما أولينا نظرنا نحو الماضي الزماني التأريخي، بل نجده في الفكر المتذكر الذي يعمل فكره في الوقت ذاته في الوجود الماضي وفي حقيقة الوجود. هو إذن أصل جنيالوجي لا يسأل أين صدرت الأشياء؟ بل أيضًا كيف تكونت؟[9]

لذلك فإن

حقيقة الكون، التي ما زالت خفية، ممتنعة عن بشرية الميتافيزيقا. إن الحيوان العامل مستسلم لنشوة صنائعه حتى يمزق ذاته ويدمرها في العدم السلبي[10].

3

الغريب أن غياب الحقيقة، أو تغييبها، أوجد أرضية تفرض مقدرات هذا الغياب وعلاقاته وحقيقته وإكراهاته أو لنقل عالمه. وبقدر محاولات بعض المفكرين والفلاسفة التخلص من هذا العالم-السجن الدقيق، والذي يقدرون فعلاً أنه فاسد، بقدر ما يتم استنزافهم في ذاوتهم وحيواتهم من الداخل، مما يفرض على العديد منهم التراجع في النهاية والاستسلام لانشغالات هذه الأرضية ومتطلباتها ولكأن الحقيقة تستدعي هذا الاختفاء.

فقد وجدت منذ القديم أسئلة جريئة ومقلقة وحقيقية تتعرض لتلف الإنسان في هذا الكون الغريب، ولكن، بسبب نوازع العادة و"الآخرين" واللغة والتعب والموت، تحولت هذه الأسئلة وهذا النمط من التفكير في الكون إلى خط فكري مستوعب مسبقًا، وحُدِّدت له قواميس ومربعات محسوبة يستعصي الانفلات منها حتى وإن تم رفضها، حتى أضحى السؤال الرئيسي، الأصلي والحقيقي، حول الوجود ترفًا فكريًا وهروبًا من الواقع المعاش! وأي واقع هذا الذي يتناسى واقع وحقيقة الحياة المعاشة المجهولة والموت! وكأن الحياة والموت أشياء مختلقة فحسب.

مهما كانت النتيجة التي فرضت على المفكرين في النهاية، فإن قلق الوجود ومآسيه حاضرة بامتياز في عمق لحظات حقيقية من حياتهم، في جميع الأزمان والحقب.

يستعصي على هذه المحصلة النهائية، هذا الإنسان الضعيف والمريض والخانع والمزيف، أن يقف وجهًا لوجه أمام الحقيقة. وكل من تجرأ على هذه المواجهة اليقظة يتحمل أعظم الآلام والوحشة وخطورة موقف الحقيقة والحياة والموت، وتتفتق أسئلته القلقة، مضحيًا برفاه العلاقات الاجتماعية لأنه يكاد يرفض موجب وجوده الذي لا يعرف مبدأه ولا محتواه ويعلن ثورته على سبب الوجود أو مسببه مهما كان، حتى ولو لم يكن يعرفه.

يعبِّر أبو العلاء المعري بسخاء شديد وكلمات جميلة ومريرة عن حالة العيش بهذا الشكل المريض وحتمية التواجد والوجود دون معرفة ولا اختيار بالقول:

ما باختياري ميلادي ولا هرمي            ولا حياتي؛ فهل لي بعد تخيير؟

وقال:

سعى آدم جد البرية فــي أذى          لذرية في ظهره تشبه الـــذرا
تلا الناس في النكراء نهج أبيهم           وغر بنوه في الحياة كمـا غرا

وقال:

خير لآدم والخلق الذي خرجوا            من ظهره أن يكونوا قبل ما خلقوا

المعري تعبير حيٌّ للقلق والتشظي اللذان يعيشهما ذوو القلوب والأجساد والنفوس المتقدة. ضاق ذرعًا بالحياة وكره الدنيا أشد الكره. وقد عبَّر عن ذلك في أشعاره وكتاباته التي كتبها بعقله ودمه وجوارحه. يقول في الفصول والغايات:

لو أمنت التبعة لجاز أن أمسك عن الطعام والشراب حتى أخلص من ضنك الحياة؛ ولكن أرهب غوائل السبيل[11].

ما أخطر وما أصعب على الإنسان الضعيف البائس أن ينتظر قدر الموت الذي لا يعرف عنه شيئًا. عندما تعرف خصمك أو عدوك فأنت تتهيأ له، أما الموت فإنه يعذبك قبل أن ينال منك، وكأنما أنت معصوب العينين وتنتظر متى ومن أين سيبلونك الموت. ما أخطر أن يعلم الإنسان بهذا الجهل. ربما حري به ألا يعلم ما يميته في كل لحظة، ذلك أن الوعي والمعرفة بالجهل يبيدانك في الخوف. أعتى خوف وأشده على الخليقة هو ألا تملك للأشياء ولذاتك فهمًا ومنطقًا يساعدانك على الحياة والموت ثم الرغبة والاختيار والحكم!

عاش المعري الذي شقَّ عليه القرار والاختيار هذه المأساة. وما لزومياته وكتاباته كلها إلا دليلاً مؤلمًا وقاسيًا على ذلك. يقول في بعض أشعاره الجميلة أيضًا والمؤثرة والمعبرة عن الحياة والموت:

صاح! هذي قبورنا تملأ الرحـــ                 ـب، فأين القبور من عهد عاد؟
خفف الوطء
! ما أظن أديـم الــ                  ـأرض إلا من هـذه الأجسـاد
وقبيح بنا، وإن قــــدم العهـ                  ـد، هوان الآباء والأجـــداد
سر،إن استطعت، في الهواء رويدا،                لا اختيالاً عـلـى رفات العبـاد
رب لحد قد صار لحــدًا مـرارًا،                 ضاحك من تزاحـم الأضــداد
ودفين على بقايـــا دفـيــن،                 في طويل الأزمـان والآبــاد
فاسأل الفرقدين عمن أحســــا                 من قبيل، وآنســا من بـلاد
كم أقـاما على زوال نـهـــار،                 وأنارا لمدلج فـــي سـواد
تعب كـلـهـا الـحياة، فما أعـ                  جب إلا من راغب في ازديـاد
إن حزنا، في ساعة الموت، أضعا                  ف سرور، في ساعة الميـلاد[12]

ويقول:

خلقت من الدنيا وعشت كأهلها            أجد كما جدوا وألهو كما لهوا
وأشهد أني بالقضاء حللتهــا            وأرحل عنها خائفا أتــألـه[13]

هو يؤكد ألا شيء من اختياره، يعترف أنه يتأله خوفًا، يعيش في ألم، ومرعوب مما يمكن أن يحيق به. لا يدري إلى أين سترمي به الأقدار والمصادفات.

لشد ما عتب المعري على الحياة وكرهها ورفض منطقها وأراد وقاية الناس منها. يقول:

على الولد يجني والد ولو أنهم            ولاة على أمصارهم خطبـاء
وزادك بعدًا من بنيك وزادهـم            عليك حقودًا أنهم نحســاء
يرون أبًا ألقاهم في مــؤرب            من العقد ضلت حله الأرباء

(العقد: نقيض الحل. تأريب العقد: إحكامه. الأرباء: جمع أريب، وهو الداهية البصير بالأمور)[14]

ويقول المتنبي في نفس الاتجاه:

وما الدهر أهل أن تؤمل عنده             حياة وأن يشتاق فيه إلى نسل[15]

ويستجدي المعري نهاية آلامه في اللزومية الخامسة[16] قائلاً:

متى يتقضي الوقت والله قادر              فنسكن في هذا التراب ونهدأ

وفي لزوميته الحادية عشرة[17] يقول:

وجدت الناس كلهم فقيـر                 ويعدم في الأنام الأغنيـاء
نحب العيش بغضا للمنايا                  ونحن بما هوينا الأشقياء

وإمعانًا في الجبرية والحتمية، اللتان تنتظمان الوجود، وعلى الرغم من شقاء الحياة وضآلتها، فإن الإنسان يطلبها وهو مضطرب لا يستقر على حال. يقول المعري في اللزومية الثالثة عشر:

ودنيانا التي عشقت وأشقت                كذاك العشق معروفا شقاء
سألناها البقاء على أذاهـا               فقالت عنكم حضر البقـاء
بعاد واقع فمتى التدانــي                وبين شاسع فمتى اللقـاء
ودرعك إن وقتك سهام قوم               فما هي من ردى يوم وقاء[18]

وقد ذهب المعري حد نعت هذه الحياة بالوباء في البيت الرابع من اللزومية التاسعة عشر. يقول:

مهلاً أمن وبأ فررت وهل ترى            في الدهر إلا منزلاً موبوءا[19]

وفي اللزومية الواحدة والعشرين يرفض المعري حياة وسعادة يتلوهما الموت. يقول:

وكيف أقضي ساعة بمسرة                و أعلم أن الموت من غرمائي

(الغرماء: ج غريم، وهو الذي له الدين والذي عليه الدين جميعًا[20])

فلا معنى للعيش حتى وإن كان في يسرة مع الموت ومع الجهل بأبعاده وأسبابه. يقول في اللزومية التاسعة والعشرين:

موت يسير معه راحــة                 خير من اليسر وطول البقـاء
وقد بلونـا العيش أطواره                 فما وجدنا فيه غير الشقــاء[21]

ويقول:

ولو كان يبقى الحس في شخص ميت               لآليت أن الموت في الفم أعذب[22]

وقد سيطرت على المعري حتمية الأقدار والموت والجهل، فعبَّر عنها في غير ما صورة كما هو الأمر في اللزومية الثالثة والأربعين:

بقيت وما أدري بما هو غائــب                   لعل الذي يمضي إلى الله أقـرب
تود البقاء النفس من خيفة الردى                  وطول بقاء المرء سم مجـرب
على الموت يجتاز المعاشر كلهـم                  مقيم بأهليه ومن يتغــــرب
وما الأرض إلا مثلنا الرزق تبتغي                  فتأكل من هذا الأنام وتشــرب[23]

وفي نفس السياق والألم، فلا مندوحة عن الموت ولا سبيل للخلاص منه مهما كان موقع الشخص وشأنه. يقول في اللزومية الخامسة والخمسين:

ولم يدفع ردى سقراط لفظ                 ولا بقراط حامى عنه طب[24]

هكذا يكون المعري قد عبر وكفى، بأصدق وبأجمل صورة، عن حقيقة الوجود وألمه واختفائه وتناقضاته، ذلك أنه لا منطق للوجود يمكن الاستئناس به والرجوع إليه. وقد عبَّر عن تناقضاته من خلال تناقض المعاني الشعرية لعدة أبيات ومقولات، فهو تارة يريد الموت ويشتهيه وتارة يخافه، ولم يستقر حاله في هذه الأشعار، وفي عناوين أخرى، حول أصل الوجود وهدفه وطبيعته، على رأي. فقد عاش المعري، إلى حدٍّ كبير، تعابيره وكتاباته الوجدانية وكان حقيقيًا في ذلك. فلا قرار لنفس بشرية يلفها الجهل والتيه، ولا داع لأن تبحث لها عن منطق ينتظمها، لأنه، بكل بساطة، غير موجود. وبالتالي لا مجال للحكم على المعري انطلاقًا من لغة البشر ومنطق الأشياء كما يتصورونها ويريدونها وليس كما هي فعلاً. وكما هي فعلاً لا يدركها أحد. وكان عدم الادراك هذا هو ما ألهم المعري وألهم الشعر والفن عمومًا عند ذوي النفوس المتقدة ليقول ولتقول ما قالته، ولتكون في حياتها العميقة ما هي عليه: حكيمة ومتبصرة.

في نفس سياق التهكم الصارخ على هذه الحياة وصنعتها يتجرأ قابيل على لسان بيرن، أو هو بيرن على لسان قابيل – ذلك المنبوذ التاريخي المغضوب عليه، "أول الشر"، متحديًا قدره وكل الصفات الملعونة التي يوصف بها –، يتجرأ على مقارعة إبليس فيقول:

لم وجدت؟ ولماذا أنت شقي؟ ولم انتظم الشقاء كل موجود؟ يجب أن يكون بارينا هو الآخر شقيًا ما دام قد خلق هكذا الكائنات؛ فإن الشقاء لا يمكن أن يكون من عمل السعادة. ومع هذا فإن أبي يقول عنه إنه قادر قدرة مطلقة. فإن كان خيرًا، فلماذا إذن وجد الشر؟ سألت أبي هذا السؤال، فأجاب بأن هذا الشر ليس إلا سبيل الوصول إلى الخير. يا عجبًا لهذا الخير الذي لا يولد إلا من خصمه اللدود![25]

ويقول – قابيل – لزوجته:

إن جمالك وحبك، وإن حبي وسروري، وكل ما نتعشقه في أبنائنا وما يهواه كلانا في الآخر، كل هذا لن يفيدهم إلا في أن يقضوا، كما قضينا نحن، سنوات طويلة مليئة بالخطيئة والألم، قد تكون طويلة وقد لا تكون، لكنها دائمًا قاسية أليمة، تتخللها بين الفينة والفينة لذائذ قصيرة حتى يأتي الموت – هذا المجهول![26]

وبما أن الموت والشقاء قد انتظما العباد دون سبب مقنع ولا مبرر ولا منطق ولا علم، فإن بيرن يرفض الامتثال لأي واجب ويتمرد على من صنع الحياة الأليمة، فيقول:

... عم أكفر؟ أعن خطيئة أبي التي كفَّر عنها من قبل ما عانيناه جميعًا واحتملناه، وسينتقم من عيشنا لأجلها أضعافًا مضاعفة فيما سيمر من قرون؟ ويطلب مني بعد هذا كله أن أدعو وأن أصلي؟ لا، ليس علي إلا أن أتمرد وأن ألعن: "تعسًا لمن خلق الحياة التي تفضي إلى الموت!"[27]

كما يقول على لسان إبليس، في مخاطبته لقابيل، عن الموت:

-        اسأل الهدام.

-        من؟ الباري؟

-        سمه ما شئت، فإنه لا يخلق إلا ليهلك[28].

إن أقصى ما يعلمه العقل، بحسب بيرن، هو أن الناس يموتون. يقول:

ماذا تعلم، اللهم إلا أنك قد ولدت لتموت[29].

وعلى نفس المنوال، يتأمل عمر الخيام الحياة ويقول:

حتام تمضي العمر في عبادة نفسك أو التأمل في الوجود والعدم؟ ألا فلتشرب الخمر، فأخلق بالعمر الذي ينتهي بالموت أن ينقضي في السكر أو في النعاس[30].

ويبلغ الجرح والتمرد والتشظي أقصى مداهم عند عمر الخيام عندما يقول:

إلهي! حطمت كأس مدامي، وغلقت باب النعيم من دوني، وأهرقت على التراب خمرتي الوردية. تراب في فمي، فهل أنت سكران مثلي؟[31]

ومثل بيرن يتأسى سيمبليسوس، بطل رواية سيمبليسوس الألماني المغامر لجريملسهاوزن، في وصف لمتضمنات تجربته في الحياة، والتي كتبت عام 1668:

حياتك لم تكن حياة، بل كانت هي الموت: كانت أيامك ظلامًا ثقيلاً. متعتك كانت خطايا ثقيلة. وشبابك كان مجرد خيال. والرفاهية التي عشت فيها كانت مجرد كنوز من السحر الأسود، تطايرت كالدخان وتركتك قبل أن تشعر بها[32].

4

تتحدى قوة الموت – مثلها مثل عدم المعرفة – كل إمكانيات الإبداع الممكنة: الفن أضعف من الحتمية بكثير، هكذا تعلن عن ذلك دراما أسخيلوس بروميثيوس مقيدًا، على لسان بروميثيوس المربوط إلى صخرة على مرِّ العصور عقابًا له على حبه المفرط للبشرية وإرادته تخليصها من رعب الموت والجهل ومن العذابات التي تعاني منها، ضدًا على قدرها المحتم. بروميثيوس المتمرد والصامد أمام سلطة الإله زيوس وجبروته[33].

الموت، ذلك المجهول الذي يسكننا – على اعتبار أن عددًا كبيرًا من الميتات تنتظم جزيئات في جسد الإنسان كل يوم، بل في كل جزء ضئيل من الثانية –، يقطع الطريق ويضع حدًّا للحياة وحدًّا للموت ذاته، ذلك أن الحياة والموت متداخلان بعضهما ببعض إلى حد كبير. ولكن، ما يرعب الناس أكثر هو التفكير في الحد النهائي للوجود الآني.

سطوة الموت، قدرته، قوته وجبروته، كونه يكرر نفسه باستمرار، لا حد له ولا حساب، يخترق كل شيء، الأفراح والأحزان والأعمال والألعاب، والأطفال، "هو الموت العبوس الذي يسترق الخطى كاللص، ومع ذلك يأتي إليك سيدًا"[34]. ظلاله تخيم على كل حياة وعلى كل اللحظات وتحد من استشراف المستقبل. لا مستقبل مع الموت. الظلمة والصمت والتحدي واللامبالاة والاختفاء الذي ينتظم مساره ويحيط به من كل الجوانب، حتميته... إلخ، هذا ما يحيل الموت إلى قيمة تفوق وتتجاوز كل القوى والقيم. ما يجعله أكثر قوة وحلكة وفراغًا ومأساوية هو كونه غريب، خفي ومجهول دائمًا.

يشير هيدجر في الوجود والزمان، إلى أن

الموت إمكانية وجود للآنية، أو هو بالأحرى أعلى إمكانيات هذا الوجود وأشدها خصوصية وتفردًا. وهو يختلف عن إمكان وجود شيء من الأشياء التي تكون تحت تصرفنا وفي متناول أيدينا، أو نجدها حاضرة أمامنا. والآنية تسلك إزاءه مسلك الانتظار والتوتر والترقب لإمكانية ستقع يقينًا ولكن في وقت غير معلوم. ولهذا سنصف الوجود – للموت (الذي علينا أن نتحمله ونواجهه وندخل في حوار دائم معه) بأنه استباق إلى الإمكانية. ولكن أية إمكانية هذه؟ إنها إمكانية كل وجود (أو استحالته). وهي تتضخم وتزداد هولاً مع الاستباق إليها. ليس هناك مقياس تقاس به. بل إنها لا تعرف الأكثر والأقل، ولا تعطينا أي فكرة واقعية عن هذا الممكن الذي نترقبه حتى نستطيع أن نتهيأ له. كل ما هناك أن إمكانية استحالتنا هي التي تنتظرنا يقينًا، ولكن في وقت مجهول وبصورة غير محددة: إن الموت هو أخص إمكانيات وجودها التي تتعلق بها تعلقًا مطلقًا. بهذا يمكن أن يتكشف للآنية – عن طريق هذه الإمكانية المتميزة لذاتها – أنها قد انتزعت بعيدًا عن "الناس" أو أنها تقدر أن تنتزع نفسها منهم. وفهم هذه "القدرة" هو الذي يكشف عن الضياع الفعلي في حياة الناس اليومية[35].

لا شيء حقيقي في الواقع، والموت، تلك الحادثة القصوى، المتخيلة والواقعية في نفس الوقت، لا تحتمل أي معنى ولا أي موضوع. ليس للموت موضوع تحيط به اللغة والمفاهيم. أقصى ما نعلمه عن الموت أنه غير ذي موضوع، بدون معنى.

نتحدث عن الموت ونحن أحياء، أي معرفته انطلاقًا من رؤية الآخرين وهم يموتون، وليس كتجربة. لم يستسغ للموتى إبلاغنا بما يجري ولم نتجرع الموت كتجربة حتى يمكن الحكم عليها بما نعرف، وبالتالي فهو يضاف إلى قائمة المجهول الذي يتعب العالم.

هذه التجربة الغامضة – مثلها مثل الحياة – هي تجربة في الحياة لأنني أتحدث عن تجربة الموت كما أتمثلها وأنا حي وليس وأنا ميت. لا موت بعد الحياة. الإحساس بالموت كرؤيا، كواقع، كتمثل، كخيال، كصدمة، يوجد وأنا حي. تجربة الموت "النهائية" و"الفعلية" لا أعرف عنها ولا أقول عنها شيئًا.

الموت نوع من التلاشي النهائي للجسد. الجسد يتلاشى مع مرور الزمن ومأساة الإنسان هو وعيه بالتلاشي

الكائنات الحية من نبات وحيوان تنتهي، أما الإنسان فهو وحده يموت. لأنه وحده الذي يهتم بأعلى إمكانيات وجوده وأخصها، وهي إمكانية استحالته وانتهائه وموته[36].

مأساته هو كونه يولد ليس يعلم لماذا وكيف، ويتلاشى نحو الموت النهائي وليس أيضًا يجد لذلك أي منطق ولا أي معنى! مأساته هو أنه يموت لوحده، وحيدًا، لا يشاركه ولا ينوب عنه في موته أحد.

بقدر ما تكون الآنية – ما بقيت كائنة – هي ما ليس بعد، بقدر ما تكون دائمًا هي نهايتها. والانتهاء الذي نصفه بالموت لا يعني بلوغ النهاية، بل يعني الوجود من أجل الانتهاء. الموت أسلوب وجود أو كينونة تتحمله الآنية ما بقيت كائنة[37].

طالما يلبسنا الجهل تكون الولادة أساسًا وليس الموت، بدون معنى ولا أي أساس. الموت تحصيل حاصل مثله مثل الأمراض والكوارث والآلام... إلخ.

لطالما أحال الموت الحياة والولادة إلى لا قيمة ومزيد من الهزأ والعبث. إن حياتنا هي موت متأخر على كل حال. أو كما يقول هيدجر:

ما أن يأتي الإنسان إلى الحياة حتى يصبح شيخًا هرمًا ناضجًا للموت[38].

ربما ذلك ما حدا بسيورون Cioran إلى الإشارة إلى أننا نضيع عند ولادتنا أكثر مما نضيع في موتنا. نحن لا نعدو نحو الموت، ولكننا نهرب من فاجعة الولادة. الشر ورائنا وليس أمامنا. وإن ما يؤكد تقهقر الشعوب والقبائل هو ألا أحد منها يستقبل مواليده بالعويل والعزاء[39].

هناك قراءات عديدة لمفكرين يعرفون الموت والحياة ويضفون معنى عليهما متعسف عليه، في حين أن الأمر يتعلق بمحاولاتهم الفاشلة والبائسة للهروب من سطوة حقيقة أن لا معنى لأي تأويل يترصد الموت والحياة. فما لم تعرف كل شيء – كما يشير إلى ذلك نيتشه – فإنك لن تعرف أي شيء. وقد عمل هؤلاء، في ابتعاد صارخ عن حقيقة الوجود، على الانتقال إلى توجيه البشرية في كيفية التعاطي مع الموت وكوارث الحياة. إنهم يتناسون أنه ما لم تحسم أمرك مع الحياة وتدرك كنهها المطلق، فإن الانتقال إلى الموت هو من قبيل تضييع الجهد والوقت، خصوصًا وأن الحياة هي موت أيضًا بشكل من الأشكال. أو لنقل الموت حاضر في عمق الحياة ولا يمكن فصل بعضهما عن بعض.

"حذار أن نقول إن الموت مضاد للحياة" يقول نيتشه[40]. الموت يحيط بنا من كل جانب ويثقل كاهل الناس والمفكرين أساسًا في كل الحقب الزمنية. الموت هو أساسًا عدم التغير، يقضي على التطور. لا تطور مع الموت. عود دائم على بدء. تكرار. الموت يكرر نفسه دائمًا متى شاء وكيفما شاء وككل لحظات الموت السابقة. لا يضفي أي جديد على الوجود. الموت يبتلع كل جديد. تنتفي معه الحركة ويقضي على فكرة الزمان.

حدة الجهل وآلامه لم يتركا مجالاً متسعًا للارتياح والاختيار أو التوفيق، وجل الذين خبروا هذه الآلام وشرور الجهل التي تسود يفضلون عدم الإحساس بشيء، أو لنقل عدم الوجود أصلاً. إنهم يطلبون الموت عوضًا عن الحياة. "ألا فلتخفف من عناء مصيرك، بأن تموت!"[41]. ولكن المثير في الأمر والمستفز هو أن اختيار الموت وما يمكن أن يكون عليه الإنسان بعد الموت مجهول تمامًا كما الولادة والحياة. الموت ذاته غير معلوم مما لا يترك لأحد مجالاً للاختيار أو الرغبة أو التفاضل بين الحياة والموت أو ما بعد الحياة.

5

يوجد تحول نفسي وتقني في عملية الموت، في وضع الموت ووقعه على النفوس والأبدان. فيما مضى كان الموت محاطًا بطقوس تختلف عما هو عليه الأمر الآن. كان الأمر "إلهيًا" أكثر، مهيبًا. الموت حاضر أكثر في متخيلات الناس وحياتهم اليومية. يتعاطون معه كواقع في جل ممارساتهم ولحظات أعمالهم حتى تلك التي يعتبرونها سيئة، يدارونه، يقدمون له القرابين، يصل الأمر عند بعضهم إلى مواجهة الموت بالموت عندما يضحون بالكائنات الحية (إنسان أو حيوان) كقرابين للقوى التي يعتقدون أنها الموت أو تتحكم في الموت، يرقصون ويتغنون ويرسمون احتفاء ورهبة وحضورًا. دفء الحقيقة والاقتراب من لهبها هذا ما كان يطبع العلاقة ويؤثثها.

كان الموتى أشد حضورًا، وكانت المصالح متبادلة بين الأحياء والأموات، حيث يمكن أن يساعد بعضهم البعض أو يعاكس بعضهم بعضًا وينتقم بعضهم من بعض.

يتم الاهتمام بالموتى بإقامة الشعائر وتقديم الطعام والشراب خوفًا من أن تخرج أرواحهم المحرومة على هيئة أشباح فتعيث فسادًا وشرًا فيصاب الناس بالمس والشر. إحدى التعاويذ المقروءة على نص مسماري تقول، على لسان إنسان يبدو أنه ضحية مرض أو شأن سلبي، ما يفهم منه أنه من شبح:

سواء كنت شبح شخص غير مدفون، أو كنت شبحًا لم يلق عناية لائقة، أو شبح الميت الذي لم تقدم له القرابين الجنائزية أو الذي لم يسكب له الماء [...][42].

وفي نفس المرجع نجد في أحد الكتابات السومرية أيضًا مريض يتضرع إلى عائلته من الموتى، يقول:

يا أرواح عائلتي، يا أرواح أبي وأمي وأجدادي وأخي وأختي وكلِّ أهلي وأقربائي. كنت أقدِّم إليك القرابين الجنائزية وأسكب الماء لك وأبذل العناية بك وأبجِّلك. قفي الآن أمام شمش وجلجامش، واعرضي قضيتي، واحصلي على قرار رأفة بحقي. ليتسلَّم نمتار الروحَ الشريرة التي في جسدي وأعصابي، وليمنعها نيدو من العودة ثانية. خذي هذه الروح إلى أرض اللاعودة ودعيني، أنا خادمك، حيًّا. سأقدِّم الماء البارد لشربك، فامنحيني الحياة لأغنِّي بمديحك[43].

وفي نفس سياق التعامل الذهني واليومي، الشعبي والرسمي السياسي أيضًا، بين الأحياء والأموات، عثر على رسالة رسمية إدارية تقول:

لقد قمت بإعادة الشعائر التي تشمل الطعام والشراب المقدم لأرواح الموتى الملوك، التي كانت مهملة، وأنجزت كل ما هو حسن للإله والإنسان، للميت والحي[44].

وعثر في وثيقة أخرى على نص يشير إلى تقديم القرابين استرضاء لآلهة العالم السفلي:

إنك تقدم القرابين الجنائزية من أجل الحقل الذي لا ينتج، ومن أجل الأقنية التي لا تجلب الماء. إنك تقدم القرابين لآلهة العالم السفلي[45].

من ضمن العقوبات التي يتألم لها الإنسان القديم ويرفضها وتشكل عبئًا عليه في مماته أكثر من حياته، الحرمان من الدفن. لذلك فقد سنها التشريع الجزائي آنذاك عقابًا للأعداء والخارجين عن القانون وأثناء الحروب التي كانت تنبش فيها أضرحة ملوك الأعداء لاستخراج الجثة. وفي هذا الإطار سنت إحدى القوانين الآشورية ما يلي:

إذا أجهضت امرأة حامل نفسَها فيجب أن يحاكموها؛ وإن أدينت توضع على الخازوق ولا تُدفَن؛ وإذا ماتت أثناء الإجهاض فيجب أن توضع على الخازوق ولا تُدفَن جثتُها[46].

ومن النصوص المهمة كذلك التي تؤكد إلى أي حد يتداخل الموت مع الحياة وكيف أن الموت حاضر بقوة في الحياة، وبالإمكان ليس فقط أن ينزعج الأحياء من الأموات، ولكن هناك نوع من المبادلة، فبنفس القدر أو أكثر، يمكن للأحياء أيضًا إزعاج الأموات والانتقام منهم والتحكم في مصائرهم من خلال منع الطعام والشراب عنهم، والحرمان من الجنائز والحرمان من الدفن:

لقد نبشتُ قبور ملوكهم السابقين والمتأخرين الذين لم يخافوا من هيبة آشور، والذين أقلقوا أسلافي من الملوك؛ لقد نبشتُها وعرَّضتُ هياكلهم للشمس وأخذتُ عظامهم إلى بلاد آشور؛ لقد فرضت الإزعاج على أرواحهم وقطعتُ عنهم قرابين الطعام وسكب الماء[47].

وفي نفس الإطار، وعلى إثر الانقلاب الفاشل الذي قام به مردوك – بلادان ضد الملك سنحاريب. فإن مردوك وخشية من انتقام الملك قد أخرج هياكل أسلافه وفر بها بعيدًا[48].

إن مسألة دفن الموتى تحت أرضيات المنازل أو القصور تشير إلى أي حد كان الموت قريبًا جدًا من الأحياء وليس بعيدًا كما هو شأن الموت في المستشفيات والمقابر البعيدة عن محال السكن اليوم.

وبنفس الحضور والقرب، كانت تقام شعائر واحتفالات وولائم جنائزية يستدعى إليها الأجداد وأرواح الموتى.

عدد من المفكرين والعلماء الذين تحدثوا عن الموت، وقفوا مذهولين أمام هذا القدر المظلم المنيع الصامد الذي يبتلع الزمان وتتآكل معه جميع المعاني وتنتهي فيه ومعه كل الإبداعات، ولأنه لا يوجد تفسير فقد استنجدوا بالفن كحد أدنى من التعويض الممكن للعيش.

ما كان يمكن إلا أن يتخذ الموت طابعًا فنيًا وأسطوريًا. وقد تكون أولى الكتابات الفنية، التي جسَّدت جراح الموت وقوته وجبروته، ملحمة جلجامش، التي رفض فيها هذا الأخير تقبل قدر الموت، وما سبب له فقدان صديقه الحميم أنكيدو من آلام ومآسي:

أنكيدو! صاحبي، وأخي الأصغر الذي اقتنص
حمار الوحش في النجاد والنمر في البراري
لقد تغلبنا جميعًا على الصعاب وارتقينا الجبال
وأمسكنا الثور السماوي وقتلناه
وقهرنا "خمبابا" الذي يقطن في غابة الأرز
فأي نوم هذا الذي غلبك وتمكن منك؟
لقد طواك ظلام الليل فلا تسمعني

إذا ما مت أفلا يكون مصيري مثل أنكيدو؟
ملك الحزن والأسى روحي
وها أنا ذا أهيم في القفار والبراري خائفًا من الموت

... كيف لا تذبل وجنتاي ويمتقع وجهي
ويملأ الأسى والحزن قلبي وتتبدل هيئتي
فيصير وجهي أشعت كوجه من أنهكه السفر الطويل
ويلفح وجهي الحر والقر وأهيم على وجهي في البراري
وقد أدرك مصير البشر صاحبي وأخي الأصغر (أنكيدو)
الذي صاد حمار الوحش في البراري والنمر في البادية
والذي تغلب على جميع الصعاب
وارتقى الجبال ومسك ثور السماء وقتله
وغلب خمبابا الذي يسكن غابة الأرز
إنه أنكيدو صاحبي وخلي الذي أحببته حبًا جمًا
لقد انتهى إلى ما يصير إليه البشر جميعًا
فبكته آناء الليل والنهار
ندبته ستة أيام وسبع ليال
معللاً نفسي بأن يقوم من كثرة بكائي ونواحي
وامتنعت عن تسليمه إلى القبر
فأبقيته ستة أيام وسبع ليال حتى وقع الدود على وجهه
فأفزعني الموت حتى همت على وجهي في البراري
إن النازلة التي حلت بصاحبي تقض مضجعي
آه لقد صار صاحبي الذي أحببت ترابًا
وأنا، سأضطجع مثله فلا أقوم أبد الآبدين
فيا صاحبة الحانة أيكون في وسعي أن لا أرى الموت الذي أخشاه وأرهبه؟
فأجابت صاحبة الحانة جلجامش قائلة له:
"إلى أين تسعى يا جلجامش
إن الحياة التي تبغي لن تجد
إذ لما خلقت الآلهة البشر قدرت الموت على البشرية
واستأثرت هي بالحياة[49].

وبنفس القوة والتأثير يقود هوميروس في القرون القديمة، فنه حول القوة والموت المرعب للبشر والآلهة الخالدين على السواء في الإلياذة. فالآلهة ذاتها تخشى الموت ولا تريده وإلا لكانت اختارت الموت منذ زمن طويل. أما بالنسبة للبشر الفانين فالموت محتم. يقول آخيل:

إن المصير واحد لمن يتراجع، ولمن يقاتل بضراوة
نحن جميعًا محكوم علينا بقيمة واحدة يتساوى فيها الشجاع مع الضعيف
فمن لا يفعل شيئًا يموت مثل الذي فعل الكثير[50].

تجسيد الموت، فاجعة الموت، ما يترتب عنه من مآسي، أضفى هالة من الحزن والألم والانمحاء حتى على أصحاب النفوذ والقوة، الأمراء والملوك وأنصاف الآلهة: فهاهي أندروماكي زوجة هيكتور، التي لم تعلم بعد بموت زوجها:

إذ لم يأتها رسول موثوق يبلغها
كيف ثبت زوجها في مكانه خارج الأبواب
فقد كانت تحيك قماشًا في القاعة الداخلية من البيت العالي،
لتصنع ثوبًا أحمر فضفاضًا، وتطرز عليه أشكالاً متقنة
كانت قد استدعت وصيفاتها ذوات الشعر الجميل في أرجاء البيت
وطلبت منهن وضع قدر كبيرة على النار، لكي يتجهز الماء الساخن
لهيكتور عند عودته من القتال
ويا للبريئة المسكينة، التي لم تعرف أنه، بعيدًا جدًا عن مياه الاستحمام،
قد أوقعت به بالاس أثينا بين يدي آخيل[51].

تعلِّق سيمون فايل عن هذا المقطع بالإشارة إلى أنه

لا شك أنَّ ذلك المسكينَ كان بعيدًا عن الحمَّامات الساخنة. ولم يكن الوحيد. فالإلياذة كلُّها تقريبًا تدور بعيدًا عن الحمَّامات الساخنة. وقد جرت دائمًا الحياةُ الإنسانية كلُّها تقريبًا بعيدًا عن الحمَّامات الساخنة[52].

عندما علمت أخيرًا أندروماكي بمقتل زوجها هيكتور انتحبته بحرقة وألم غائرين، وفي الحقيقة انتحبت على "موتها هي" وفجيعتها. أما هو فلم يعد يحس بشيء ولا حتى موته:

هيكتور، إنني أتفطر حزنًا عليك. أنا وأنت وُلدنا لنتشارك
في مصير واحد. أنت في طروادة في بيت بريام، وأنا
في طيبة، تحت جبل بلاكوس المشجر
في بيت إييتون، الذي رعاني وأنا صغيرة
كان مصيره سيئًا، وكان حظي تعيسًا ليته لم يرزق بي
وها أنت تمضي إلى بيت الموت في الأمكنة السرية
من الأرض، وتتركني وراءك هنا وسط أحزان الندب،
أرملة في بيتك وابنك ما يزال رضيعًا،
ذلك التعيس الذي رزقنا به أنا وأنت لن تستطيع بعد اليوم
أن تعينه يا هيكتور بعد أن متَّ ولا هو يستطيع أن يعينك
ومع أنه نجا من هجمات الآخيين بكل مآسيها،
إلا أن أيامه كلها، بسببك، ستكون شقاء وآلامًا،

لأن الآخرين سيأخذون منه أراضيه
ويوم اليتم يترك الولد دون أقران يصادقونه
إنه يحني رأسه أمام كل إنسان، وخداه يظلان مبللين بالدموع،
ويعيش ولدًا في فاقة بين أصدقاء والده
يتعلق بهذا الرجل من عباءته، وبآخر من ثوبه
ويشفقون عليه، فيعطيه أحدهم رشفة من كأس،

لا تكفيه إلا لتبليل شفتيه، ولا ترطب له حلقه
وقد يطرده من الوليمة ولدٌ أهله أحياء
ويضربه بقبضته ويحقره بالكلام:

اخرج من هنا·أنت·فأبوك ليس في الاحتفال معنا
ويذهب الولد باكيًا إلى أمه الأرملة.
يا لأستواناكس، الذي كان في الأيام السالفة على ركبتي أبيه
لا يأكل إلا النقي ولحم الخراف الأكثر سمنة وشحمًا

وحين يغالبه النوم، كان ينعس وهو يلعب
وينام بين ذراعي مربية، وفي فراش وثير
وقلبه مترع بالرفاهية
أما بعد ذهاب أبيه، فلم يتبق له إلا المعاناة،
وهو الذي سماه الطرواديون أستواناكس، سيد المدينة،

لأنك الوحيد الذي دافعت عن الأبواب والسور الطويل.
أما الآن، فقرب السفن المحنية، بعيدًا عن والديك،

ستتغذى عليك الديدان المتلوية، بعد أن تشبع الكلاب
من جثتك العارية، وفي بيتك أكوام من الثياب
حسنة النسج وهفهافة، مشغولة بأيدي النساء
سألقي بها كلها إلى النيران[53].

لوكاون أيضًا، ابن بريام، الأخ غير الشقيق لهكتور، مات في الحقيقة قبل أن يقتل على يد أخيل، اختلج في دواخله العميقة قدر نهايته الأليمة وتجسدت هيبة الموت في أقصى تجلياتها وجبروتها وطعمها المر في يد آخيل الذي سيهم بقتله. لم يكن المفكر فيه أو المشكل في حد ذاته هو آخيل، وإنما الذي يختلج في نفس لوكاون والحاضر بقوة الأقدار وصرامتها هو الموت.

ولكنه في اليوم الثاني عشر
ألقاه الإله مرة أخرى بين يدي آخيل، الذي أرسله
هذه المرة قسرًا في طريقه إلى إله الموت
فحين رآه آخيل الباسل سريع القدمين، وعرفه
وكان عاريًا دون خوذة أو ترس، ولم يبق معه رمح،
فقد ألقى بذلك كله على الأرض لشدة تعبه وتعرقه
عند هربه من النهر، وركبتاه قد تخاذلتا من التعب،

وهو في غاية الاضطراب... والرغبة في قلبه
أن ينجو من الموت الزؤام والقدر الغاشم
وهنا أمسك آخيل الباسل بالرمح الطويل فوقه
واستعد لطعنه ولكنه زاغ عن الضربة وأمسك بركبتيه
منحنيًا فمر الرمح من فوق ظهره، وانغرز في الأرض
رغم رغبته الشديدة في أن يمزق اللحم البشري
أما لوكاون فبيدٍ أمسك ركبتيه متضرعًا،

وبالأخرى أمسك بالرمح المدبب لا يريد أن يفلته
ثم تحدث بصوت عال وخاطبه بكلمات مجنحة: "يا آخيل،

أنا مرتم عند ركبتيك فاحترم حالتي، وأشفق علي
وأنا في وضعِ مستجيرٍ، أيها المبرز المجيد، يجب أن يراعى
فقد كنت أنت الأول الذي تذوقت إلى جانبه من غلال ديميتر
يوم أسرتني في الحديقة المنظمة،
وأخذتني من أبي وأصدقائي وبعتني
في ليمنوس المقدسة وقد جئتك بثمن هو مئة ثور
وكانت فديتي لإطلاق سراحي ثلاثة أضعاف ذلك
وهذا هو الفجر الثاني عشر على عودتي إلى إليون،
بعد معاناتي الطويلة. ومرة أخرى يضعني قدري اللعين
بين يديك وأظن أن زيوس الأب يكرهني
لكي يسلمني إليك مرة أخرى، وأن أمي لاوثوي
قد حبلت بي لأعيش حياة قصيرة، وهي بنت ألتيس العجوز
وألتيس هو ملك ليليغيس، الذي يجد متعته في المعارك،

ويسيطر على بيداسوس المتحدرة فوق نهر ساتنيويس
وقد أُعطيت ابنته لبريام، الذي لديه زوجات عديدات إضافة إليها
ونحن اثنان من ولدتنا وستكون قد قطعت عنقي الاثنين،
حيث أنك قد قتلت الأول، بولودوروس الشبيه بالآلهة،
في مقدمة المشاة بضربة من الرمح الحاد
وهذه المرة سيقع البلاء علي في هذا المكان، إذ لا أظن
أنني سأنجو من يديك، طالما أن الإله قد أوقعني بينهما
ولكن ضع في قلبك هذا الشيء الآخر الذي سأقوله لك
لا تقتلني فأنا لست من الرحم ذاته الذي جاء منه هيكتور،
الذي قتل صديقك القوي والرحيم".

هكذا خاطبه المجيد ابن بريام متضرعًا
ولكنه سمع بالمقابل صوتًا لا رحمة فيه ولا شفقة:
"أيها الأحمق المسكين، لا تحدثني عن الفدية، ولا تجادل حولها
فقبل وصول باتروكلوس إلى قدره
كان في قلبي اتساع للخيار في إطلاق سراح

بعض الطرواديين وكثيرون ممن أسرتهم أحياء بعتهم
أما الآن فليس هناك من ينجو من الموت، إذا ما أوقعته الآلهة
بين يديَّ أمام إليون لا أحد من الطرواديين
وخاصة، وأكثر من الآخرين، أبناء بريام
ولهذا ستموت أنت أيضًا يا صديقي، فلم هذه الجلبة حول الأمر؟
باتروكلوس ميت أيضًا، وهو الأفضل منك بكثير
ألا ترى أي رجل أنا، وكم أنا ضخم وبهي،

وأنني ابن لأب عظيم، وأمي من الآلهة؟
ومع ذلك أنا لدي موتي وقدري الغاشم أيضًا

وسيكون هناك فجر أو عصر أو ظهر،
يأتي فيه أحدهم في القتال ويأخذ حياتي مني أيضًا،

إما برمح مقذوف أو بسهم منطلق من وتره".
قال ذلك فارتخت ركبتا الآخر وقلبه معًا
أفلت الرمح وجلس وهو يمد يده الاثنتين
ولكن آخيل امتشق سيفه وطعنه
عند العنق فوق عظم الترقوة فغاص السيف ذو الحدين

بطوله كله إلى الداخل وسقط على الأرض منكبًا على وجهه،
وتمدد بطوله، وتدفق الدم الأسود فبلل الأرض
وأمسك به آخيل من قدمه وألقى به في النهر
ليأخذه التيار...[54]

تقول سيمون بصدد ذلك:

إنَّ الرجل الأعزلَ العاريَ الذي يصوَّب عليه سلاحٌ يصبح جثةً قبل أنْ يُلْمَسَ. منذ لحظة كان يفكر ويتصرف ويأْمل.. لكنه فهِمَ سريعًا أنَّ السلاحَ لا يحيد، ومع أنه مازال يتنفس، لم يعدْ سوى مادة، ومع أنه مازال يفكر، لم يعدْ في وسعه التفكير في شيء[55].

كانت الفكرة السائدة، عند الإغريق القدامى خصوصًا، تعتبر أن الموت محفوف بالمخاطر، وتعتبر أن العالم الآخر هو عالم أشباح:

الموتى يصبحون أشباحًا لا تدب الدماء في عروقها، تهيم ضائعة في العالم السفلي الذي كان أكثر هولاً من أي شيء معروف على سطح الأرض.

يقول آخيل معبرًا عن وجهة النظر هذه:

أناشدك، يا أوديسيوس الشهير ألا تتحدث برفق عن الموت، فلأن تعيش على الأرض عبدًا لآخر خير من أن تحكم كملك لا ينازعه السلطان أحد في مملكة الأشباح اللاجسدية.

ويقول في إذعان حزين جدًا واستسلام لوضعه الإنساني: "لكن الموت يرف من فوقي وكذا قوة القدر القاهرة". ويشير سافو إلى أن الآلهة كذلك تعد الموت شرًا عظيمًا وإلا لكانت هي أيضًا قد ماتت[56].

من ضمن أوائل النصوص القديمة التي حفظت لحد الآن من الفلسفة الإغريقية قبل سقراط، نص للفيلسوف اليوناني أنكسماندر يعبر فيه صاحبه أيضًا عن الحد الهائل الذي بلغته فكرة الموت والفناء. يقول النص:

إن الأشياء تفنى وتنحل إلى الأصول التي نشأت عنها، وفقًا لما جرى به القضاء، وذلك أن بعضها يعوض بعضًا وتدفع جزاء الظلم وفقا لما يقضى به الزمان[57].

يعلق نيتشه على هذا النص باعتباره "بيانًا غامضًا قدمه متشائم حقيقي"، ويفسر هذا القول بأن الدمار والموت هما الجزاءان اللذان تتحملهما الأشياء الجزئية عن جريمتها المتمثلة في الخروج عن الأساس الخالد للوجود، ويشير نيتشه إلى أن شوبنهاور كانت تراوده فكرة مماثلة حينما تحدث عن الإنسان كمخلوق ما كان له في الأصل أن يوجد، ومن تم فإنه يدفع جزاء وجوده الفردي في صورة المعاناة والموت[58].

6

أما الموت اليوم فهو تقني أكثر. تخضع الأبدان والنفوس للجراحة والتطبيب ويغرق الناس، المرضى و"المعافون" أيضًا، في الأدوية والمستشفيات العامة والخاصة والفحوصات والأشعة ويصبح الموت الإكلينيكي البارد والمرير مصاحبًا وجارحًا. يدخل الناس في تحد مباشر وضعيف مع الموت. لم ينجحوا يومًا، ولكن يحملون آمالاً وأفكارًا بقوة التداوي والعيش المديد، فيتحول التعاطي مع الحياة والموت إلى قسوة أكبر وبرودة أشد. يطول الألم ويتعمق ويستحوذ المرض والموت على عقول الناس ضمن استراتيجية تجارية وتقنية وسياسية. نوع من الاقتصاد السياسي للمرض والموت.

أصبحت عملية الاستشفاء من المرض أشد وأقسى من المرض ذاته. لذلك فإن "الموت" دخل في عملية توجيه وترويض للجسد وإذعانه.

التقنية الصحية ومركباتها أفرغت العمق الإنساني من فنه، من دفئه، من طبيعته، من قيمته، من سكينته التي ستتوه عنه إلى الأبد. يوجد نوع من التعويض الخطير والموحش للألم الوجودي بألم جارح، آني، لا يسمح لك بأن تمارس غرائزك وأوهامك وتناقضاتك الطبيعية وأبعادك الفكرية والفنية. يمنع عنك عبر وضعك بيد الطبيب والموظفين تجاوز عتبة الزمان والمكان ويمنع عنك السفر إلى أبعادك وذاتك ومحاولة التوافق معها.

على خلاف ما كان عليه الأمر، وعلى الرغم حاليًا من الضجيج المصاحب للموت في وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمكتوبة، حيث الأخبار التي لا تنتهي عن ضحايا القتل والحوادث والحروب والزلازل والأمراض وكثرة حوادث الموت، حيث يموت الناس اليوم بالمئات والآلاف؛ على الرغم من كل ذلك، فإن عمق الموت وفنه ظل موارى، ولم يعد حاضرًا لا في الطقوس ولا في غيرها من الممارسات اليومية.

الحياة العامة التي نحياها مع الآخرين تعرف الموت بوصفه حادثًا يقع كل يوم، حالة تتكرر كل ساعة ولا يصح أن نفاجأ، أو تشغلنا. والناس يهونون من شأن الموت، ويؤمنون أنفسهم منه، ويقذفون به في حلق المستقبل البعيد، يهربون منه. بهذا يحرمون الآنية من أخص إمكانيات وجودها، ويزينون لها أن تضيع في الناس ومسكناتهم المألوفة عن الموت، ويئدون فيها شجاعة القلق الذي تواجهه به. هكذا تسقط الآنية في هذا الفهم اليومي الذي يصبح هروبًا مستمرًا منه[59].

الموت يتجه نحو الاختزال والسرعة. لا وقت للتفكير في الموت والتعاطي معه وجهًا لوجه. يجب الإسراع في دفن الميت والانتهاء منه والانتهاء من التفكير فيه أو في موته. يموت الشخص وحيدًا وفي غالب الأحيان في المستشفى. موت تقني محاط بموظفين وأطباء ووسائل التشريح والتمريض القاسية والباردة. موت بارد جدًا، لا روح فيه ولا عاطفة ولا حب ولا فن.

اختطف الموت وانتزع من بين أيدي الناس، لتتكفل به وتحكمه التقنية والاقتصاد والأمن والإدارة. لا يحق لك أن تدير عملية الموت وحدك. طالما الموت موجود، فيتوجب استغلال وجوده والاستفادة منه قدر الإمكان وإحالة الموت إلى أشياء أخرى غير الموت. لأن الموت في ذاته وبذاته رهيب وغير مفيد.

بقدر سعي التقدم العلمي والتقني إلى هزم المرض وبالتالي الموت، بقدر ما أصبح هوس طلب الاستشفاء وتأخير الموت يحتل الجزء المستحوذ على حياة الناس بشكل مرضي وعقيم.

عملية تأخير الموت – وهي هدف تقني ضئيل القيمة – نجحت فعلاً في واقع التقدم التقني والعلمي، وأصبحت جل الشعوب هرمة جراء ذلك. فقد تراجعت بشكل كبير نسبة وفيات الرضع والأطفال، وازدادت عدد السنوات التي يعيشها الفرد مقارنة مع ما كان عليه الأمر فيما سبق، وبالإضافة إلى سياسة تحديد النسل غلب طابع الشيخوخة على الدول.

تحديد النسل بفعل التقدم العلمي تم تعويضه بارتفاع معدل الحياة بفعل التقدم العلمي كذلك. وكأننا بصدد (ناقص الحساب الزمني المفترض أن يعيشه المواليد بدون تحديد النسل، يساوي تقريبًا، زائد المدة الزمنية المفترض إضافتها للأفراد الأحياء مع عملية تحديد النسل).

وفي نفس مستوى التغييرات التي حدثت بين الأمس واليوم في العلاقة مع الموت، حدث تغيير مهم في تعريف الموت البيولوجي وتحديده. فقد كان الإنسان، من الناحية البيولوجية على الأقل، يموت ويدفن "قبل الأوان"، حيث كان يعتمد توقف جهاز القلب عن الخفقان أو الجهاز التنفسي ليتم الإعلان الرسمي عن موت الشخص وكان يعتمد في معرفة ذلك على آليات حسية أساسًا وبسيطة. وإلى عهد قريب جدًا كان الناس في البوادي وحتى في المدن يدفنون وهم "أحياء". أما الآن فإن توقف القلب عن الخفقان أو تعرضه للمرض والتلف، فإن الطب الحالي يعيد إحياءه بالصدمات الكهرومغناطيسية أو يتم تعويضه كليًا بقلب اصطناعي، فيتم عبر ذلك تأخير موته. وعليه فقد تحول التشخيص الرسمي البيولوجي للموت من توقف القلب عن الخفقان إلى توقف الجهاز العصبي أو المخ تحديدًا، أو لنقل إلى صعوبة تحديد هل يتعلق أمر الموت بتوقف القلب أو المخ أو الوعي... إلخ. الانغماس في التعريف التقني للموت أفسد الموت والحياة معًا.

النظام العالمي – التقني والحداثي والتكنوقراطي والإعلامي – بما يحيط به من حروب وأسلحة دمار شامل وإبادات جماعية ومجاعات وأوبئة، يفرض نوعًا من الصمت المريب والتدليس على الموت وعدم الحديث عنه أو إشهاره. العالم الحالي ينتج الموت السريع والكثيف والبارد، وكأن التقدم المرهون بزيادة أعداد القتلى، يفرض على الموت أن يكون ولكن عليه أن يتوارى. إخفاء الموت من خلال التحريض على الكلام عن الموت والتكتم في ما يقوله. أو لنقل، إخفاء الموت من خلال الكلام الكثير عنه.

يختفي الموت من خلال إحداث ضجيج من نوع ما. هناك تلوث يتوارى الموت خلفه. السرعة والتقنية والانشغال اليومي والضعف والخوف من المجهول لا يدع مجالاً لإظهار الموت والوقوف عنده والتفكير فيه. على الموت أن يبقى متخفيًا، موارى في وسائل الإنعاش والأدوات الطبية التي تحيط بالمريض في المستشفى.

خطاب الموت يحول الموت إلى شيء آخر غير الموت بالذات. مثلما تتجه إلى ذلك كل الديانات والمذاهب التي تتجاوز الخوض في الموت، للتركيز على ما قبل الموت وما بعد الموت.

في إطار التيه الذي تفرضه الحياة ويحتمه الموت برزت بشكل مؤسساتي دعوة منظمات حقوقية وغيرها إلى شرعنة ما يطلق عليه "الموت الرحيم". الحق في إنهاء حياة لا تحتمل، لمحتضر أو مريض يتألم، رأفة به أو رأفة بالعائلة التي تحتضنه أو إرادته في ألا يكون عالة على أحد أو رفضه تعويله في أفعاله وحركاته وفي حياته على الآخرين. هذا التوجه يؤكد إلى أي حد وقع تغير جذري في العلاقات الاجتماعية والعلاقة بالعلم، واليأس من الحلول العلمية. ثم كيف تم التحول إلى مأسسة الموت، ليس في إطار عقابي كما هو الشأن في الحكم القضائي بالإعدام، ولكن هذه المرة في إطار اجتماعي و"إرادي".

تحول النضال ضد القتل في الممارسات القضائية للإعدام إلى النضال من أجل القتل "الرحيم" قضائيًا. وسيتحول طلب الموت مستقبلاً حتى للأشخاص الذين لم يصل بهم الأمر بعد حدَّ العجز الكلي جسديًا أو ذهنيًا ولكن يشكِّلون عائقًا للأفراد أو الجماعات ذوي النفوذ والسلطة، أو انطلاقًا من رغبة ذاتية أو فلسفية لإنهاء الحياة. ستعج المحاكم بطلب قتل النفس أو قتل أحد أفراد العائلة!

يظهر مما سبق تغير علاقة الموت بالمجتمعات والأفراد، وكيف أن الموت تحول من كونه جزءًا من الحياة إلى جزء ترفضه الحياة.

محاولة لإنهاء مشكلة الموت عبر الموت ذاته، بالقتل الشرعي. ومحاولة لإنهاء مشكلة الموت من خلال نسيانه كليًا أو تعويمه في الضجيج والتلوث المتعلق بالكلام الكثير عن الموت، وتلبيسه لبوسًا أخرى غير الموت.

7

استهان العالم بذوي الأجساد والعقول والنفوس المتقدة عبر التاريخ، أولئك الذين كان بإمكانهم لو سادوا أن يراجعوا الطريق، أن يشككوا فيه، فيتم القبض على مداخل ومخارج الحقيقة.

لم يكن مستبعدًا أن يكون الإنسان حقيقيًا كما وجد فعلاً ولأجل ما وجد، متخذًا مكانه الصحيح في الكون، منسجمًا مع ذاته وطبيعته، متماهيًا مع الطبيعة والوجود المتعدد ضمن وحدة لا فراغ فيها، في مكانه الأصلي والأصيل دون عبء ولا تعسف ولا تعب ولا سؤال...

حدث شيء ما قذف بالإنسان في أتون الصدفة والتوجيه والمرض. فقد بوصلته فتحول إلى كائن تعس تتقاذفه الأوهام التي يؤمن بها، والقوى والسلط التي تحدده، وتقولبه ليقوم بأشياء ويمتنع عن القيام بأشياء. انفصل عن ذاته التي تشكل الحقيقة القصوى لوجوده وحياته المباشرة، وذلك كنتيجة طبيعية ومؤلمة وباردة للابتعاد عن الحقيقة الأصلية، حتى أن كيركيغارد – وفي انتقاده الشديد لهيجل ممثل ذروة الميتافيزيقا المثالية اللاإنسانية من حيث كونها تفصل الفكر والعقل عن فعالية الإنسان ووجوده الحي وتحيله إلى مشهد مرئي متأمل من طرف عقل لا يعرف أحد مضمونه ولا من حامله! – وصف هذه الفلسفة – التي يمثل هيجل ذروتها – "بأنها فلسفة (أساتذة)، وليست نتاج بشر موجودين حقًا". وهكذا فالفكر عند كيركيغارد مرتبط بنزوعه وحياته الشخصية ومصدر فلسفته ذاتيته أولاً، والفكر

يجب أن يتحد مع اللحم الحي، وأن يكون كل إنسان هو لحم وجوده. فليس الموت هو المشكلة الفلسفية، ولكن هي أنني كائن يموت.

وإذا كانت الفلسفة قد فصلت بين الذات والموضوع وأكدت على ضرورة أن يكون المفكر محايدًا وموضوعيًا في البحث والحكم على الأشياء لأجل المعرفة فإن كيركيغارد يؤكد على أن الفلسفة هي بالذات الإصغاء إلى تمتمات أفكاره العميقة والحقيقية مهما كانت. وكيركيغارد نفسه بعد أن ابتعد عن ضجيج خطيبته وأصدقائه، استحوذ عليه عالم الصمت الذي ساعده في الاستماع إلى ذاته "وسط التغير اللامتناهي في العالم". يقول:

يعجبني هذا الصمت، إذ أنني أجد نفسي قادرًا على بذل هذا الجهد [أي الصمت]. وإنني أشعر أنني أستطيع أن أحمل المرآة، مهما أظهرتني، أكان ذلك مثلي الكامل، أو مسخي المشوه.

يرفض كيركيغارد فكرة المذهب في الفلسفة لأنها تدعي الإجابة على الأسئلة الكبرى للوجود استنادًا إلى منهج علمي وعقلي صارم، "وإلى تفسير كلي يشتق من ذاته قدرة لامتناهية على إطلاق أحكام جزئية". كما لا يتقبل اعتبار الوجودية نظرية بين النظريات لأن الوجود هو موضوع معاناة ذاتية، قبل أن يكون موضوع تحليل فكري حيادي. والحيادية في التجربة الوجودية غير ممكنة، إذ لا يمكن للمفكر أن يرفض ذاتيته التي هي مصدر كل مشروعية لفلسفته. ورغم أن كيركيغارد يقر أن العقل الإنساني يملك آمرًا يدفعه إلى المعرفة الموضوعية يشبه الأمر الأخلاقي الذي يدفعه لتحقيق الواجب عند كانط إلا أن هذا الآمر ينبغي أن يتحد مع الذات. والحياة نفسها هي التي تقدم منهجًا للوصول إلى هذه المعرفة، التي لن تكون إلا معرفتي أنا. وكيركيغارد لم ينقطع أبدًا عن الإلحاح على هذه النقطة، وهي أنه ليس ثمة حقيقة بالنسبة للفرد إلا تلك الحقيقة التي ينتجها بنفسه وهو في حال الفعل والمعاناة. فالحقيقة لا يمكن أن تعلو على الفرد وأن تمتلكه، بل هو مالكها وهو مبررها الأخير. فالحياة والحقيقة تتحدان في تجربة الفرد[60].

للاستمرار في العيش حسب ما تقتضيه الضرورة وليس الحقيقة، اتخذ الفكر والممارسة الصوفيين كذلك وسيلة خارقة – ولكن غير ثاقبة – للاقتراب من لهب الحياة ولكن ليس من الحقيقة. هذا الاتجاه فرضته إكراهات سلطة التشريع وقوانينه وضيق أفق التعبير والأخلاق واللغة والقوة والمجتمع.

هذا ما حدا بمفكر وعالم كبير مثل الغزالي إلى الاحتماء بالتصوف لكي يعيش في حدود دنيا من التوازن. وعلى الرغم من أنه يعد من المحسوبين على الذين رهنوا جميع أسئلتهم ووجدوا خلاصهم وأجوبتهم في وجود وموجود مطلق. وعلى الرغم من ضيق أفق التقليد وإكراهاته وسطوته على البلاد والعباد الذي كان سيد الموقف عند المسلمين، انتفض الغزالي في إحدى اللحظات الحقيقية من حياته منتقدًا ورافضًا لرابطة التقليد السائد، طالبًا للحقيقة. يقول في المنقذ من الضلال:

رأيت صبيان النصارى لا يكون لهم نشوء إلا على التنصر، وصبيان اليهود لا نشوء لهم إلا على التهود، وصبيان المسلمين لا نشوء لهم إلا على الإسلام. وسمعت الحديث المروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال: "كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه". فتحرك باطني إلى (طلب) حقيقة الفطرة الأصلية، وحقيقة العقائد العارضة بتقليد الوالدين والأستاذين، والتمييز بين هذه التقليدات، وأوائلها تلقينات، وفي تمييز الحق منها عن الباطل اختلافات[61].

فالغزالي إذن ضاق ذرعًا بالتقليد المتجذر في بيئته، وهو يشك الآن في البداهات والعلوم والمعارف التي تلقاها من الآباء والأساتذة ويطلب حقيقة الفطرة الأصلية وحقيقة العقائد العارضة، وهو طلب شجاع لم يستطع الكثيرون التجرؤ على طرحه في بيئة يحكمها نص مقدس، على الرغم من أنه استبقى مسألة وجود الله في منأى عن أي تساؤل. وهذا أمر يستحق الانتباه، فالمستغرب له، أنه حتى المحسوبين على التيار الإلحادي العربي القديم لا يخوضون في مسألة وجود الله من عدمه! وقد حاول عبد الرحمن بدوي شرح ذلك في كتاب من تاريخ الإلحاد في الإسلام من خلال طرحه

إن الإلحاد العربي كان لابد أن يصدر عن الروح العربية، وما تضعه هذه الروح من صلة، في تدينها الخاص، بين الله وبين العبد. فإنها لما كانت تنظر إلى هذه الصلة على أنها صلة افتراق وبعد كامل فقد وسطت بينهما الكلمة، كلمة الله. وكلمة الله لا ترد عنه مباشرة لوجود الهوة الهائلة بين العبد والله؛ بل بالوسيط وهو النبي. لهذا كان الأنبياء هم الذين يلعبون أخطر دور في الحياة الدينية عند الروح العربية. ومن هنا نفهم كيف كان الأنبياء جميعًا من أبناء هذه الروح وحدها. وإذًا فالدين والتدين عامة إنما يقومان على فكرة النبوة والأنبياء. وعلى هذا فإن الإلحاد لابد أن يتجه إلى القضاء على هذه الفكرة التي تكون عصب الدين وجوهره لدى تلك الروح. وهذا يفسر لنا السر في أن الملحدين في الروح العربية إنما اتجهوا جميعًا إلى فكرة النبوة والأنبياء، وتركوا الألوهية، بينما الإلحاد في الحضارات الأخرى كان يتجه مباشرة إلى الله[62].

في خضم هذه المرحلة من الشك والتيه والقلق، ما كان على الغزالي الذي ارتد على حياته السابقة إلا أن يلم به مرض شديد يخبرنا بحدة وقعه وأثره عليه في كتابه المنقذ من الضلال وكيف أن الأطباء عجزوا عن مداواته. يقول:

فلم أزل أتردد بين تجاذب شهوات الدنيا، ودواعي الآخرة، قريبًا من ستة أشهر أولها رجب سنة ثمان وثمانين وأربع مائة. وفي هذا الشهر جاوز الأمر حد الاختيار إلى الاضطرار، إذ أقفل الله على لساني حتى اعتقل عن التدريس، فكنت أجاهد نفسي أن أدرس يومًا واحدًا تطييبًا للقلوب المختلفة إلي، فكان لا ينطق لساني بكلمة واحدة ولا أستطيعها البتة، حتى أورثت هذه العقلة في اللسان حزنًا في القلب، بطلت معه قوة الهضم ومراءة الطعام والشراب، فكان لا ينساغ لي ثريد، ولا تنهضم لي لقمة؛ وتعدى إلى ضعف القوى، حتى قطع الأطباء طمعهم من العلاج وقالوا: "هذا أمر نزل بالقلب، ومنه سرى إلى المزاج، فلا سبيل إليه بالعلاج، إلا بأن يتروح السر عن الهم الملم"[63].

لقد قاده إلى هذا المرض المستحكم شكه وتعطشه لمعرفة يقينية بحقائق الأمور وأصولها باعتماد

العلم اليقيني الذي ينكشف فيه المعلوم انكشافًا لا يبقى معه ريب، ولا يقارنه إمكان الغلط والوهم، ولا يتسع القلب لتقدير ذلك؛ بل الأمان من الخطأ يجب أن يكون مقارنًا لليقين مقارنة لو تحدى بإظهار بطلانه مثلاً من يقلب الحجر ذهبًا والعصا ثعبانًا، لم يورث ذلك شكًا وإنكارًا. فإني إذا علمت أن العشرة أكثر من الثلاثة، فلو قال لي قائل: لا، بل الثلاثة أكثر – من العشرة – بدليل أني أقلب هذه العصا ثعبانًا؛ وقلبها، وشاهدت ذلك منه، لم أشك بسببه في معرفتي، ولم يحصل لي منه إلا التعجب من كيفية قدرته عليه! فأما الشك في ما علمته، فلا. ثم علمت أن كل ما لا أعلمه على هذا الوجه ولا أتيقنه هذا النوع من اليقين، فهو علم لا ثقة به ولا أمان معه، وكل علم لا أمان معه، فليس بعلم يقيني[64].

التمس الغزالي حقيقته "المطلقة" انطلاقًا من الشك في الحقائق والمواضيع والقضايا وكذا أو أساسًا في الوسائل والسبل التي تؤدي إلى اليقين والحقيقة. فالحواس التي يرتبط عن طريقها ويتعرف أول ما يتعرف على العالم الخارجي كانت أول ما وثق به وعدم فيه الثقة. فحاسة البصر

وهي تنظر إلى الظل فتراه واقفًا غير متحرك، وتحكم بنفي الحركة، ثم، بالتجربة والمشاهدة، بعد ساعة، تعرف أنه متحرك، وأنه لم يتحرك دفعة – واحدة – بغتة، بل على التدريج ذرة ذرة، حتى لم يكن له حالة وقوف. وتنظر إلى الكوكب فتراه صغيرًا في مقدار دينار، ثم الأدلة الهندسية تدل على أنه أكبر من الأرض في المقدار. وهذا وأمثاله من المحسوسات يحكم فيها حاكم الحس بأحكامه، ويكذبه حاكم العقل ويخونه تكذيبًا لا سبيل إلى مدافعته[65].

فما كان من بد إلا أن يبطل الثقة في المحسوسات ويثق بالعقليات. ولكن وعلى خلاف تام مع أفلاطون الذي انتهى إلى الإيمان المطلق والنهائي بالعقل مصدرًا للحقيقة، عندما أشار إلى أن

الجانب الحقيقي في موضوعات الحس هو الكليات. ولكن المصدر الذي نعرف عن طريقه هذه الكليات ليس هو الإحساس وإنما العقل. بالنسبة للإحساس لا يستطيع أن يعطينا تصورات. التصورات تتكون بالتجريد، بالاستدلال. من هنا العقل وحده هو مصدر الحقيقة، والإحساس هو مصدر الخطأ. الإحساس يعرفنا بعالم الحواس، عالم الموضوعات الجزئية وهو العالم الزائف. الحقيقي الأصيل هو الكليات. ونحن نعرف هذه الكليات من خلال العقل. فالإحساس يعطينا الظاهر والعقل يعطينا الحقيقة[66].

بخلاف ذلك، فإن تأملات الغزالي قادته إلى أن ثقته بالعقليات لا يبعد أن تكون كثقته بالمحسوسات، التي كان يثق بها ثقة عمياء، حتى أتى حاكم العقل فكذبها ولولا حاكم العقل لكان مستمرًا على تصديقها

فلعل وراء إدراك العقل حاكمًا آخر، إذا تجلى، كذب العقل في حكمه كما تجلى حاكم العقل فكذب الحس في حكمه، وعدم تجلي ذلك الإدراك، لا يدل على استحالته.

وعندما وصل هذا الدرك من الشك اشتد به القلق والمرض وحاول لذلك علاجا فلم يتيسر – كما يقول:

فأعضل الداء، ودام قريبًا من شهرين أنا فيهما على مذهب السفسطة بحكم الحال، لا بحكم النطق والمقال، حتى شفى الله تعالى من ذلك المرض، وعادت النفس إلى الصحة والاعتدال، ورجعت الضروريات العقلية مقبولة موثوقًا بها، على أمن ويقين؛ ولم يكن ذلك بنظم دليل وترتيب كلام، بل بنور قذفه الله تعالى في الصدر، وذلك النور هو مفتاح أكثر المعارف...[67]

هكذا يخلص الغزالي نفسه عنوة من دائرة القلق – ربما – لأنه لم يكن بالإمكان بالنسبة إليه الذهاب إلى أبعد مما ذهب إليه. فما كان قادرًا على تحمل الحقيقة ومواجهة وحشتها ومترتباتها والاستغناء عن الرفاه الاجتماعي والاستمرار في نكران ما لم يتيسر له دون براهين. وقد يصدق فيه في هذا الصدد ما قال به ليبنيز في حق ديكارت في رسالة إلى جان برنولي سنة 1696:

لقد ارتكب (ديكارت) – وبالنسبة لنا نحن هنا الغزالي – خطأ مضاعفًا حين شك أكثر مما يلزم، وتوقف عن الشك قبل بلوغ اليقين[68].

ويعود الغزالي إلى مربعه الأول من التقليد مسلمًا أشعريًا، ولكن وكذلك صوفيًا، لكي يتمكن من العيش والتكيف مع متطلبات التناقض الدينية والمنطقية واللغوية والحسية والوجودية.

يريد العالم اليقظ أن يتحرر عنوة من قدره، فلا يستطيع أن يتجرع جراح وآلام جهله وضعفه، فيحاول من خلال الكتابة والشعر والأسطورة والتصوف أن يتعمق في لذة آلامه، ويقدم لنفسه مكانة تلغي الزمان وتتجاوز حدود معرفته وتضعه في مصاف الآلهة، يقدر على كل شيء ويعرف كل شيء ويتوحد أو يندمج مع حقيقة الوجود والمعرفة والأصل. ويعتبر التصوف ألذ وأرقى مخرج آمن به أصحابه ودافعوا عنه للتملص من حقيقة الوجود والتخلص بالتالي من براثن السؤال والشك والخوف والظلمة، وأضفوا على التعبير الصوفي جمالية هائلة وحارقة، ليتسنى بذلك، وبلطافة، إخفاء خفاء الوجود وهالته، وكأنه باستطاعة ضوء قنديل أن يدحض ضوء الشمس! وكانت وسيلتهم للتعاطي مع الوجود فنية، رمزية: الشعر، الرسم، الموسيقى... إنما وكما يشير إلى ذلك بروميثيوس في الأسطورة التي كتبها أسخيلوس فإن الفن أقل بكثير من قوة القدر وعنفه.

*** *** ***


 

horizontal rule

[1]  فريدريك نيتشه، الفلسفة في العصر الإغريقي، تقديم ميشال فوكو، تعريب الدكتور سهيل القش، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت، ط2، 1973، ص 47.

[2]  روجي غارودي، البنيوية، فلسفة موت الإنسان، ترجمة جورج طرابيشي، دار الطليعة للطباعة والنشر، بيروت، ط2، 1981، ص 7.

[3]  مارتن هيدجر، نداء الحقيقة، ترجمة وتقديم ودراسة د.عبد الغفار مكاوي، دار الثقافة للطباعة والنشر، القاهرة، 1977، ص 45.

[4]  المرجع السابق، ص 70- 71.

[5]  المرجع السابق، ص 71.

[6]  فريدريك نيتشه، الفلسفة في العصر المأساوي الإغريقي، تقديم ميشال فوكو، تعريب الدكتور سهيل القش، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت، ط2، 1973، ص 45.

[7] HEIDEGGER /Questions1et 2traduit de L’Allemand par KOSTAS AXELOS ,JEAN BEAUFRET,WALTER BIEMEL,LUCIEN BRAUN,HENRY CORBIN, François FéDIER,GERARD GRANEL,MICHEL HAAR,DOMINIQUE JANICAUD,ROGER MUNIER,ANDRé Préau, ALPHONSE DE WAELHENS. Gallimard.1968 p.26-27

[8]  أمينة جلال، هيدجر وسؤال الحقيقة: مدارات فلسفية، مجلة الجمعية الفلسفية المغربية، عدد 16، السنة 2008، ص 61.

[9]  عبد السلام بنعبد العالي، أسس الفكر الفلسفي المعاصر، مجاوزة الميتافيزيقا، دار توبقال للنشر، الطبعة الأولى، المغرب، 1991، ص 52-53-54.

[10]  مارتن هيدجر، تخطي الميتافيزيقا، ترجمة إسماعيل المصدق، مدارات فلسفية، العدد 14، ص 180.

[11]  أبو العلاء المعري، الفصول والغايات، ص 190.

[12]  أبو العلاء المعري، سقط الزند، دار بيروت، دار صادر للطباعة والنشر، 1957، ص 7 – 8.

[13]  طه حسين، مع أبي العلاء في سجنه، دار المعارف، مصر، 1981، ص 153.

[14]  طه حسين وإبراهيم الأبياري ، شرح لزوم ما يلزم لأبي العلاء المعري، الجزء الأول، دار المعارف، مصر، ص 62.

[15]  المرجع السابق، ص 57.

[16]  المرجع السابق، اللزومية الخامسة، ص 78.

[17]  المرجع السابق، اللزوميه الحادية عشرة، ص 97.

[18]  المرجع السابق، اللزومية الثالثة عشر، ص 100-101.

[19]  المرجع السابق، اللزومية التاسعة عشر، ص 145.

[20]  المرجع السابق، اللزومية الواحدة والعشرون، ص 158.

[21]  المرجع السابق، ص 184-185.

[22]  المرجع السابق، اللزومية التاسعة والثلاثون، ص 257.

[23]  المرجع السابق، اللزومية الثالثة والأربعون، ص 269.

[24]  المرجع السابق، اللزومية الخامسة والخمسون، ص 318.

[25]  عبد الرحمن بدوي، أرتور شوبنهور، دار النهضة العربية، القاهرة، الطبعة الثالثة، 1965، ص 258.

[26]  المرجع السابق، ص 258.

[27]  المرجع السابق، ص 259.

[28]  المرجع السابق، ص 262.

[29]  المرجع السابق، ص 269.

[30]  المرجع السابق، ص 263.

[31]  المرجع السابق، ص 264.

[32]  باربارا باومان وبريجيتا أوبرليه، عصور الأدب الألماني، تحولات الواقع ومسارات التجديد، ترجمة هبة شريف، عالم المعرفة، فبراير 2002، عدد 278، ص 107.

[33]  أندريه بونار، تمرد بروميثوس وصيرورة العدالة، ترجمة سهيل أبو فخر، موقع معابر.

[34]  عبد الرحمان بدوي، نيتشه، الطبعة الخامسة، وكالة المطبوعات، الكويت، 1975، ص 245.

[35]  نداء الحقيقة، مرجع سابق، ص 89- 90.

[36]  المرجع السابق، ص 84.

[37]  المرجع السابق، ص 85- 86.

[38]  المرجع السابق، ص 86.

[39] De l’inconvénient d’être né, Emile Michel CIORAN .p 2-3/ Livres philosophiques en ligne-Ebooks gratuits

[40]  عبد الرحمن بدوي، نيتشه، مرجع سابق، ص 242.

[41]  المرجع السابق، ص 100.

[42]  بشار خليف، شعائر الموت ومعتقداته في المشرق العربي القديم، موقع معابر.

[43]  المرجع السابق.

[44]  المرجع السابق.

[45]  المرجع السابق.

[46]  المرجع السابق.

[47]  المرجع السابق.

[48]  المرجع السابق.

[49]  طه باقر، ملحمة جلجامش، إعداد موقع أولف الإلكتروني: WWW.A-Olaf.com

[50]  هوميروس، الإلياذة، تحقيق الناشر: المجمع الثقافي، الطبعة الأولى، موقع قائمة الكتاب حسب الترتيب الأبجدي، ج 1 https://spreadsheets.google.com

[51]  المرجع السابق.

[52]  سيمون ڤايل، الإلياذة أو قصيدة القوة، ترجمة محمد علي عبد الجليل، مكتبة معابر الإلكترونية.

[53]  هوميروس، الإلياذة، مرجع سابق.

[54]  المرجع السابق.

[55]  سيمون ڤايل، مرجع سابق.

[56]  جاك شورون، الموت في الفكر الغربي، ترجمة كامل يوسف حسين، مراجعة إمام عبد الفتاح إمام، عالم المعرفة، عدد 76، أبريل 1984، ص 34.

[57]  المرجع السابق، ص 36.

[58]  المرجع السابق، ص 37.

[59]  هيدجر، نداء الحقيقة، مرجع سابق، ص 87.

[60]  مطاع صفدي، استراتيجية التسمية في نظام الأنظمة المعرفية، منشورات مركز الإنماء القومي، بيروت، الطبعة الأولى، راجع الصفحات 68-69-70-71.

[61]  الإمام الغزالي، المنقذ من الضلال، والموصل إلى ذي العزة والجلال، تصحيح وتحقيق واختيار محمد اسماعيل حزين وشذا رائق عبد الله، نشر موقع الفلسفة الإسلامية، ص 4.

[62]  عبد الرحمن بدوي، من تاريخ الإلحاد في الإسلام، سينا للنشر، الطبعة الثانية، 1993، ص 8.

[63]  المنقذ من الضلال، مرجع سابق، ص 30-31.

[64]  المرجع السابق، ص 5.

[65]  المرجع السابق، ص 6.

[66]  حنا ديب، هيجل وفويرباخ، دار أمواج للطباعة والنشر، بيروت، الطبعة الأولى، 1994، ص 48.

[67]  المنقذ من الضلال، مرجع سابق، ص 6-7.

[68]  مارتن هيدجر، مبدأ العلة، ترجمة د. نظير جاهل، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، ص 16.

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 إضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود