عرس الدم للوركا: سوف تأتي أيام رهيبة!

 

إبراهيم العريس

 

هنا سأبقى مقيمة هادئة مطمئنة: فهم ماتوا جميعًا. ومن الآن وصاعدًا، سأنام بعد منتصف الليل من دون أن أخاف الخناجر والمسدسات. الأمهات الأخريات سينحنين على النوافذ والشرفات، يلسعهن المطر بسياطه في انتظار عودة أبنائهن. أما أنا، فقد انتهى كل شيء بالنسبة إليَّ. وسأعمل من رقادي حمامة باردة من العاج تحمل أزهار الكاميليا الندية إلى المقبرة. المقبرة؟! لا بل مثوى من تراب يحميهم ويهدهدهم في السماء [...]. ابعدي يديك عن وجهي، فإن أيامًا رهيبة ستأتي. وأنا لا أريد أن أرى أحدًا. فقط الأرض وأنا. دموعي وأنا. وهذه الجدران الأربعة... أواه...!.

هذه العبارات القاسية التي يلوح منها الموت وراحة اليأس في آن واحد، هي بعض آخر العبارات التي تتفوه بها في مسرحية عرس الدم الشخصية الرئيسية في المسرحية: شخصية الأم. إنها عصب المسرحية ومحرِّكها، ومع هذا قلما يلتفت إليها أحد من الذين، في هذه المسرحية بالذات، يعتبرون الخطيبين والغريم العاشق ليوناردو، محور العمل. صحيح أن هذه الشخصيات الثلاث تتحرك على الخشبة، وفي ما يروى لنا حتى حينما لا يكونون حاضرين، وأن الأحداث كلها مبنية على العلاقات المعقدة بينهم، لكن الأم، هذا الكائن الواقعي/الخرافي في آن واحد، هنا، هي التي تحمل عبء روح المسرحية، لأنها تمثل يد القدر، وتبدو قرينة للمرأة الأخرى المتشحة بالسواد والتي تطارد العاشقين الهاربين ممثلة الموت في عمل يبدو الأكثر إسبانية بين كل ما عرفه المسرح الإسباني: مسرحية فدريكو غارثيا لوركا، هذه. وعرس الدم هي الأولى بين أعمال لوركا المسرحية الشعرية الكبرى التي طفق يكتبها بدءًا من عام 1933، منتجًا بسرعة عددًا من الأعمال في مسيرة لا بد من أن نسأل إلى أي روعة كانت ستقود الشاعر الكاتب لو لم يأت مقتله على أيدي فاشيي فرانكو في آب (اغسطس) 1936 ليقطع مسيرة وعملاً، هما من الأكثر شاعرية وغنى في إسبانيا النصف الأول من القرن العشرين.

لقد عرف لوركا كيف يمزج في عرس الدم، شاعريته القصوى مع الفولكلور الأندلسي الإسباني ليطلع من ذلك بعمل لا يزال يقدم في شتى أنحاء العالم لجماله ولقوته وربما أيضًا لبساطته وشاعريته: عمل لقي بخاصة إقبالاً في مجتمعات مثل المجتمعات العربية، طالما أحس بأحاسيس وإذعانات للقدر تشبه ما في هذه المسرحية.

كتب لوركا عرس الدم في عام 1933، وكان في الخامسة والثلاثين من عمره. صحيح أنه كان كتب أعمالاً عدة للمسرح قبل هذه المسرحية، غير أن شهرته كشاعر كانت لا تزال هي الطاغية. وكان، بدءًا من عرس الدم، وبفضل مسرحيات عدة أنتجها من بعدها، من بينها عمل عنوانه الجمهور (1935) ظل شبه مجهول، أوصل لوركا عمله المسرحي إلى الذروة. وحسبنا هنا أن نذكر أن أعمالاً مثل يرما وبيت برناردا آلبا ولغة الزهور كانت هي ما أنتجه لوركا بعد عرس الدم، لندرك تميُّز تلك المرحلة الأخيرة من حياته، عما سبقها. والغريب أن من يقرأ أو يشاهد هذه الأعمال الشاعرية والمغرقة في علاقتها بالتراب الإسباني من دون أي نزعة «واقعية - اشتراكية» سيدهشه أن يكون الفاشيون قتلوا الكاتب الشاعر بتهمة الشيوعية. فهذه المسرحيات لا تنتمي بأي حال لأي من النزعات الفنية التي ارتبطت بالمسرح الشيوعي. بل نعرف أن لوركا نفسه لم ينتم أبدًا إلى أي تجمع شيوعي، بل كان – من موقعه التقدمي والمثالي في آن واحد – منتقدًا للكثير من الأفكار والممارسات الشيوعية.

المهم أن مسرحية عرس الدم نقلت صاحبها، مرة واحدة، من كونه شاعرًا كبيرًا، إلى كونه واحدًا من أكبر كتاب المسرح في العالم خلال زمنه. ومع هذا، لو تمعَّنا في هذا العمل، من ناحية موضوعه وبناء شخصياته، لدهشنا أمام عادية تلوح فيه. ولكن من الواضح أن الموضوع ومجرى الأحداث، بل حتى الشخصيات، لم يكن هذا كله ما همَّ لوركا، بل رسم المناخ عمومًا، إضافة إلى تصوير يد القدر وهي تحكم قبضتها على الناس وتسيِّر حياتهم، حتى وإن حاولوا المقاومة.

إذًا، فإن يد القدر، وربما تمثله الأم هنا، هي البطل الحقيقي لـ عرس الدم. وحسبنا أن نروي أحداث هذه المسرحية حتى نتيقن من هذا. وهذه الأحداث تدور في منطقة ريفية جبلية أندلسية غير بعيدة عن قشتالة. وتحديدًا في اليوم المعيَّن لعرس فتاة حسناء لفتاها الموله بها. وأم هذا الفتى التي تفتتح المسرحية عليها أرملة سبق لزوجها وابنها الأكبر أن قتلا خلال اشتباكات ومعارك ثأر مع آل فليكس، وها هي اليوم تحضر لعرس ابنها الوحيد المتبقي وكلها أمل في أن يتمكن هذا من أن ينجب لها أحفادًا يملأون عليها حياتها. والأم سعيدة بالطبع لابنها (الخطيب) الذي يعيش حكاية حب عميقة مع عروسه المقبلة. لكن الأم فجأة تصبح أسيرة للتشاؤم حينما يتناهى إلى علمها أن الخطيبة كانت قبل فترة مخطوبة إلى ليوناردو وهو واحد من أفراد عائلة فليكس العدوَّة. صحيح أن ليوناردو متزوج الآن، لكن هذا لا يمنع الأم من أن تسأل عما إذا لم يكن ثمة أثر للغرام بينه وبين كنتها. وفيما تكون الأم غارقة في شكوكها يحدث أن تقوم، مع ابنها، بزيارة للخطيبة فتفاجأ بأن الفتاة ليست متحمسة في شكل زائد عن حده للزواج فيزداد تشاؤم الأم، فيما نعلم نحن لاحقًا، من خلال حوار بين الخطيبة ووصيفة لها، أن ليوناردو زارها سرًا. وهنا نصل إلى صباح يوم العرس، فإذا بليوناردو، الذي لم يبرح حبه للخطيبة فؤاده، يصل ويصارح هذه الأخيرة بأنه لا يزال هائمًا بها، غير أن الفتاة، باسم الشرف وحده، ترفض الانصياع لليوناردو والذهاب معه، مقررة استئناف مسارها في الزواج من خطيبها. ومع هذا، حينما تحل لحظة العرس يغلبها هواها، وقدرها بالتالي، فتهرب مع ليوناردو... وتبدأ الأم بتحريض ابنها الذي يشرع في مطاردة الهاربين تقوده عبر الغابات امرأة غامضة متشحة بالسواد سنعرف على الفور أنها تمثل الموت. وهذه، خلال حوار لها مع القمر تكشف أن ليوناردو والخطيب سيمضيان إلى الموت معًا... وبالفعل يقتل الاثنان خلال العراك بينهما، وتعود الخطيبة إلى الأم باكية منتحبة لتقول لها إنها، على أي حال، بقيت عذراء على طهارتها، ليس فقط لأن ليوناردو قتل، بل لأنها أصرت على تلك الطهارة قائلة: "لا تهينيني... إنني طاهرة كالطفلة الرضيعة. وبمقدوري أن أبرهن عن ذلك. أوقدي نارًا، فإننا سنضع يدنا فيها: أنت عن ابنك وأنا عن جسدي، وإنك لسترغمين على نزع يديك قبلي". فتجيبها الأم: "وما يجديني أنا طهرك؟ وما ينفعني أن تموتي؟ وما نفع أي شيء بالنسبة إلي...؟".

مسرحية عرس الدم هي، إذًا، مسرحية القدر الذي لا يملك المرء افلاتًا منه... ولربما رأى كثر في هذه المسرحية "نبوءة" من لوركا بنهايته التي كانت بدورها أشبه بهجمة للقدر، نهاية وصفها الشاعر ماتشادو في قصيدة يقول فيها:

لقد قتلوا فدريكو في الساعة التي يطل فيها الضوء. ولم تكن مفرزة الجلادين لتجرؤ على مواجهته. فأغمضوا أعينهم وصلوا قائلين: إن الرب نفسه لن ينقذك!. وسقط فدريكو مجندلاً على جبينه الدم والرصاص في أحشائه. ووقعت في غرناطة جريمة. هل تدرون؟ مسكينة هي غرناطة... غرناطته؟.

وحينما مات لوركا على ذلك النحو، كان في السابعة والثلاثين من عمره، وكان يعتبر واحدًا من كبار شعراء وكتاب زمنه، هو الذي ولد عام 1898 في قرية أندلسية قرب غرناطة لأب غني وأم مدرِّسة، ما أتاح له أن يدرس في البيت متجهًا نحو الأدب والموسيقى ما أهَّله، لاحقًا، لأن يصبح شاعرًا ثم كاتبًا دراميًا. وهو قام بالعديد من الرحلات، أهمها الى نيويورك مارًا بفرنسا وبريطانيا، غير أنه لم يحب نيويورك وعبَّر عن ذلك في قصيدة الشاعر في نيويورك.

الأربعاء، 07 سبتمبر 2011

*** *** ***

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 إضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود