الديمقراطية التوافقية في سبيل الوحدة الوطنية

 

الأب باولو دالوليو

 

مقدمة

انطلاقًا من مشاوراتي مع بعض المواطنين حول مستقبل البلد وحول طرق الخروج من الأزمة الحالية، اخترت أن أصيغ فكرة "الديمقراطية التوافقية" كمساهمة، إلى جانب الدعاء والصوم، في سبيل نجاح المحاولات للحوار البناء الجارية والقادمة التي لا بد منها لأجل النجاة من منطق سفك الدماء ودوامة الانتقام.

إنني راهب إيطالي الأصل وسوري التأصُّل والتعصُّب منذ ثلاثين عامًا. ومنذ أكثر من عشر سنوات قد قمنا في دير مار موسى الحبشي بندوات فكرية ودينية حوارية بمشاركة مختلف ممثلي المجتمع المدني والانتماءات الدينية، ونشرنا بعض الكتب (صدرت عن دار الخليل) للمساهمة في صب الأساس لديمقراطية ناضجة وفرز نموذج لها يناسب وضعنا الوطني والإقليمي الخاص. كنت وآخرون كُثُر نرجو التطور السلمي والنضج التدريجي لديمقراطية تعددية، مدنية ووطنية فعلاً لبلدنا العزيز. لقد سَرق منا مسارُ الأمورِ الرجاءَ سنة بعد سنة... أما اليوم فلا بد من تجديد الرجاء لرد الفعل البنَّاء ضد الانزلاق نحو منطق الحرب الأهلية وتفتيت الوطن وخطر وضع الثقة في الحفاظ على الماضي وأساليبه والعودة إلى الوراء. لذلك، عوضًا عن الانخراط في المشادَّات الكلامية وفي توزيع الآثام...، اخترت محاولة رسم مسودة للصيغة التي أراها مناسبةً لحل الإشكالية السورية والتي أسميها "الديمقراطية التوافقية".

لا بد من الأخذ بعين الاعتبار أن الوضع الحالي يثير مخاوف الأقليات الإثنية منها والدينية. على سبيل المثال نحن المسيحيون نعاني من التمزُّق بين التزامنا الوطني وتضامننا مع مصيره وبين خوفنا الذي نشعر به بالإجماع في أن نضيع في الصراع الجاري كما حصل في العراق. ويميل بعضنا إلى التمسك بماضٍ لم يعد بإمكانه أن يستمر ويمتنع عدد كبير منا عن المشاركة في التطور الجاري.

نعتبر أن الحقيقة الروحية القديمة لبلدنا، والتي تبقى حقيقة دائمة إن شاء الله، هي حسن الجوار والعيش المشترك بسلام ووئام واحترام متبادل، حيث يتساوى الجميع في بناء الوطن.

ملاحظة في سبيل تدبير الوضع الانتقالي

إنَّ الخطوة الأولى لإنقاذ الوطن اليوم تكمن في توفير الأمن للمواطنين دون منع المطالبة بالحريات وممارستها بطريقة سلمية. فمن أجل العبور إلى برِّ الأمان لا بدَّ من بذل الجهد للتمييز بين الحفاظ على الأمن داخل الأحياء، الذي بوسع اللجان الشعبية السلمية غير المسلحة أن توفره في معظم الأحيان وبغض النظرعن التوجهات السياسية؛ وبين توفير الأمن على يد الجيش والشرطة للمؤسسات والمرافق العامة، وضمان حرية التنقل ضمن البلد وعدم تعطيل النشاط الاقتصادي، ولمحاربة التهريب ولا سيما تهريب السلاح، أثناء هذه الفترة الانتقالية.

ثم لا بد من الاتفاق الواسع لتشكيل لجنة عُليا لوضع مشروع تعديل الدستور تتمثل فيها تيارات المعارضة كلها والقوى الوطنية جميعها. يعود لهذه اللجنة تحديد وتنظيم الانتخابات المقبلة وضمان نزاهتها بمشاركة اللجان الشعبية المحلية مع التغطية الإعلامية التعددية الحرة. لا بد لهذه اللجنة من القيام بوفاق وطني جديد، وباقتراح الخطوط الرئيسة للدستور الجديد لضمان توطيد ديمقراطية وطنية توافقية لا تغلُّبية، تعددية لا أُحادية الجانب.

نماذج

يود لي هنا أن آتي بوصف وجيز لجملة من النماذج الدستورية القائمة في عدد من البلدان والتي أراها غير مناسبة لبلدنا ثم أقترح ما أعتبره الحلَّ الأمثل.

النموذج الأول: نموذج المَلَكية الدستورية. إنه لا يناسب وطننَا بسبب تمسك معظم المواطنين بفكرة الجمهورية والتي تعتبر أكثر حداثةً وتطورًا وتقدمًا، بالرغم من كل الصعوبات التي عاشتها سوريا منذ الاستقلال إلى اليوم. مع ذلك نلاحظ كيف أن الملكية الدستورية تضمن، نوعًا ما، الوحدة الوطنية وتطور المؤسسات دون السقوط في ممارسة العنف. فالمَلِك يعتمد على وفاق وطني في ممارسة دوره كحكَمٍ وضامنٍ لحقوق كل مكونات المجتمع وهو يحميه من تغلُّب تسلطي من قبل فئة معينة أوائتلاف مشبوه يُدخل منطق الفصام والصراع في المجتمع المدني. ومع ذلك يراقب الملك الجدلية والديناميكية اللتين تحيا بهما الحركة الديمقراطية الصحيحة. في بعض الدساتير الحديثة يقوم رئيس الجمهورية المنتخب بدور مشابه لضمان توافقية الحركة السياسية واجتناب الفئوية والطائفية كما سنرى في النموذج النهائي لهذه الدراسة الوجيزة. يبدو أن المملكتين الأردنية والمغربية تتوجَّهان تدريجيًا إلى نضج ديمقراطي لتحقيق نموذج الملكية الدستورية.

النموذج الثاني: هناك نظام جمهوري ديمقراطي مبني على انتخاب الرئيس كقائد للأمة، ينتخبه الشعب بنسب قريبة من الخمسين في المئة من الأصوات، ويطلق عليه النظام الرئاسي... هذا النظام يناسب المجتمعات الوطنية المتجانسة ثقافيًا وعرقيًا وفيه تنخرط الأقليات في الحراك السياسي دون المطالبة بامتيازات وخصوصيات. هذا يفترض درجة عالية من علمانية المجتمع والدولة والمؤسسات. تبيَّن اليوم شيء من الضعف في مثل هذا النظام، بسبب عولمة المجتمعات، يتمثل في سهولة الضغط عليه من قبل لوبيات محلية ودولية ناهيك عن زعزعة المجتمع عند ظهور أقليات منظمة وضخمة والدخول في صراع بين أكثرية محافظة على امتيازاتها وكتل اجتماعية جديدة تطالب بحقوقها. هذا النموذجُ لا يناسب سوريا البتة؛ لأنه غير قادر على أن يخلق الوئام في مجتمع تعددي فيه انتماءات طائفية قوية ويبحث عن حل يرتاح له الجميع ولا يستغله من يريد أن يثير فيه المنطق الطائفي للتسلط على المجتمع برمته.

النموذج الثالث: هناك نموذج فيدرالي مبني على خصوصية واستقلالية المناطق أوالكانتونات وهو أيضًا لا يناسب سوريا إلى حدٍّ بعيد بسبب خطر تفتيت الوطن وبسبب الوضع الديموغرافي السوري الذي يتصف بتوزُّع الأقليات الدينية والإثنية في مختلف أرجائه.

النموذج الرابع: هو النموذج الطائفي اللبناني، وهو كذلك لا يناسبنا لأنه ضعيف في ذاته حيث يجمد فيه المواطن في جانب من جوانب هويته في معظم الأحيان، وكذلك يفتح الباب على مصراعيه للتدخُّلات الخارجية. مع أن مبدأ الاتفاق الوطني الدستوري اللبناني هو أيضًا حاجة حقيقية في هذه المرحلة التاريخية لسورية.

هويات غير تصادمية

قبل عرض نموذج الديمقراطية التوافقية لا بد من شيء من الكلام عن فكرة الهوية المركبة وغير التصادمية لا بل الحوارية الحديثة. إن الشخص المعاصر، المواطن في بلده والإنسان المشارك في التطور العولمي، يتصف بجوانب عديدة تكوِّن شخصيته أو هويته، كما أن هرم أولويات العناصر المكونة للهوية يختلف كثيرًا من شخص لآخر: هذا سوري قبل أن يكون مسلمًا، وذاك مسيحي قبل أن يكون سوريًا، هذا يهمه مصير الكادحين قبل أي شيء آخر، بينما ذاك له اهتمام برأسماله بغض النظر عن المكونات الثقافية، هذا عربي قبل كل شيء وذاك سوري قبل أيِّ صفة أخرى... ومع ذلك لكل من هؤلاء انتماءات هامة بدرجات مختلفة، منها إثنية، لغوية، مهنية، ثقافية، جنسية، قبائلية، طبقية، الخ. فعلى الدستور ألا يُبنى على مفهوم يَحصر الشخص في إحدى صفاته دون غيرها. كذلك لا يناسبنا دستورٌ لا يفتح المجال للمواطن أن يعبر عن الصفات التي يراها رئيسيةً وهامةً لهويته لسبب أم لآخر. فالمهم والأساس هو أن يتفق المجتمع ككل على مبدأ الشورى وعدم معالجة النزاعات الاعتيادية بأي نوع من أنواع العنف مع كامل الحفاظ على مبدأ حرية الضمير، حدودُه مبدأ "اللاضرر ولاضرار" وعدم جرح مقدسات الآخرين. ولضمان ذلك لا بد من توفير استقلالية القضاء، واستكمال مجال حرية الصحافة، وتشكيل الجمعيات بشروط يضعها القانون بعيدة عن روح الفئوية والتغلُّب بل بروح التوافقية.

الديمقراطية التوافقية

النموذج الذي نقترحه بكونه مناسبًا لوضع سوريا حاليًا مبنيٌ على أهمية دور الرئاسة كجهة ضامنة للوحدة الوطنية والتي تلعب دور الحَكَم الأعلى والمحامي عن كل كتلة اجتماعية مهمشة على اختلاف الأسباب. لذلك لا بد من انتخاب هذا الرئيس من خلال عملية توافقية تفاوضية وأيضًا من خلال إيجاد الحل الوسط الأمثل بين مختلف مكونات المجتمع. تبرهن خبرةُ عدد من البلدان أن الطريقة الأصح لتحقيق مثل هذا النموذج هي انتخاب الرئيس من قبل مجلسَي النواب والشيوخ مجتمعَين. ومن الواضح، بالنسبة للحالة السورية، أنَّ الحاجة هي للانتخاب بثلثي الأصوات، مما يجنِّبنا تكوين أي نوع من "أغلبية".

(في الكنيسة الكاثوليكية يقوم مجلس الكرادلة بانتخاب البابا بثلثي الأصوات مهما صعب الانتخاب أو طال، وذلك لضمان وحدة الجماعة فوق أية قيمة أخرى. قد يواجه هذا النظام صعوباتٍ عالجها البابا الحالي معدلاً طريقة الانتخاب. فالمرشحون الذين لا يحصلون على ثلثي الأصوات بعد عدد محدد من الجلسات الانتخابية، يخسرون نهائيًا إمكانية الترشيح فيضطر المجلس أن يبحث عن الاسم الذي يمثل الوحدة والتوافق ويجده بعون الله تعالى).

وبطريقة مشابهة يستطيع المجلس، مهما عانى من الانقسامات، أن ينتخب الإنسان القادر على أن يضمن إحلال الوئام الوطني. أقترح أن يُنتَخب الرئيس الأول لهذا النظام المجدَّد لمدة ثلاث سنوات فقط دون إمكانية التجديد؛ ثم، ولفترة خمسين عامًا، يُنتخب لمدة سبع سنوات دون إمكانية التجديد، من بعدها لمدة سبع سنوات قابلة للتجديد مرة واحدة وذلك لضمان ثبات وديمومة الوحدة الوطنية.

يُنتَخب مجلس النواب، كما هي الحال في معظم هذه الدساتير، انطلاقًا من قوائم لمختلف الأحزاب على أرض الوطن كله. هنا لا يمثِّل النائب منطقة بل فكرة اجتمع حولها الناس. فبطبيعة الحال سوف تَتمثَّل في مجلس كهذا مختلف التيارات السياسية، حتى وإن كانت ملونةً طائفيًا تارةً أو طبقيًا أو ثقافيًا تارةً أخرى.

إنه من المناسب لمجلس الشيوخ في سوريا أن يجمع ممثلي المناطق الجغرافية مما يساعد على ضمان تمثيل المكونات الوطنية المتصلة بالانتماء العرقي أو الديني أو أي شيء يكوِّن الخصوصية المحلية وبطريقة ديناميكية.

يُعيِّن رئيسُ الجمهورية رئيسَ مجلس الوزراء الذي يقوم بتشكيل الحكومة. ولا بد من موافقة المجلسَين على الحكومة وبنسبة عالية تصل مثلاً إلى 60% من الأصوات، مما يضمن توافقية الديمقراطية.

إنني أرى من المناسب أن يُنتخب المحافظ من قبل مجلس المحافظة بنسبة عالية تضمن التوافق الاجتماعي المحلي والتناغم الطائفي.

ختامًا

إنَّ ما عرضته لا يشكل إلا محاولة متواضعة للحوار حول موضوع دستورٍ مناسب. إنَّ سوريا الديمقراطية ممكنةٌ، بيد أنَّ الإصلاحَ يستحيل في تغييب كامل لحرية التعبير وبممارسة أيٍّ من أساليب جرح كرامة الإنسان وانتهاك حقوقه المدنية. فالشرخ بين مكونات الوطن يتعمق بينما يبتعد السلام والوئام.

من يقود البلد إلى النجاح؟ إن التاريخ حمَّل الدكتور بشار الأسد هذه المسؤولية ووضعه أمام عددٍ من الخيارات الصعبة والأليمة.

سمعنا الكثيرَ الكثيرَ عن المؤامرات ضد الوطن، وهي بطبيعة الحال دائمًا موجودة، فالأفضل أن نوظف كل ما هنالك محليًا وعالميًا من حسن النية واستقامة الإرادة للحصول على الحل الأمثل الذي لا بد له أن يكون توافقيًا.

باعتباري عضوًا في الكنيسة الكاثوليكية تمنيت لو استطاع بلد صديق لسوريا وهام بالنسبة للكنيسة كالبرازيل أن يجمع أصدقاءَنا في الخارج للمساعدة في توفير الأحوال المناسبة للتحول الديمقراطي الجاري وإلى تحقيقه كاملاً.

تحتاج المصالحة الوطنية إلى آلية توفير التعويض المعنوي والمادي للأهالي الذين خسروا ذويهم في الأحداث. كما أنه لا بد من خلق الفرص للذين خدموا وطنهم بحسب قناعاتهم إلى يوم الإصلاح من التنازل بطريقة سلمية مشرفة عن مناصبهم وذلك بتجنب إمكانية الانتقام منهم، الأمر الذي لن يسبب سوى المزيد من الخسائر ومن بينها فقدان الوحدة الوطنية.

أدعو للسيد الرئيس من كل قلبي وأطلب له ولذويه ولمستشاريه كلهم أن ينظروا إلى هذه الفرصة التاريخية لكي تقفز سوريا قفزة نوعية باتجاه مستقبل صحيح.

يتطلب حبَّ الوطن الاستعداد إلى أكبر التضحيات. ولا شك أن التحول الديمقراطي يحتاج إلى تضحية كبرى ويتطلب شجاعة وسخاء كبيرين. على الحكماء في المجتمع العالمي أن يسهلوا هذا التحول بفتح المجال عند الضرورة لبعض من يترك مهمته لكي يعيش بكرامة وأمان.

تُترَكُ مهمة دراسة وتقييم هذه المرحلة الصعبة والمفصلية من تاريخ الوطن للأجيال القادمة وحتمًا سوف تختلف وجهات النظر حول أدوار الفاعليات الحالية. أما نحن جميعًا الذين نعيش في قلب الحراك علينا أن نبحث عن منفذ معقول وعملي بجرأة وحكمة وموضوعية. ليس هذا وقت الحساب بل وقت العبور بأقل ما يمكن من الخسائر البشرية والمعنوية.

مع ما تم اقتراحه، يود لي أن أُعرِبَ هنا عن رجائنا كلنا بأن تتم هذه المرحلة الانتقالية بأقصى سرعة من أجل رفع العزلة الدولية التي تعيشها سوريا اليوم، ولأن الحاجة الاقتصادية أصبحت ملحة خصوصًا على الفقراء من أبناء شعبنا.

أخيرًا أؤكد على رغبتي في خدمة هذا المجتمع الحبيب مهما كلف الأمر، وعلى رفضي المبدئي للعنف بالفكر أو بالفعل، وأطلب من الله المحب للبشر أن يوفق سوريا ويجعلها مثالاً يُحتذى به جيلاً بعد جيل.

دير مار موسى الحبشي، 25-07-2011

*** *** ***

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 إضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود