حبَّات رصاص

 

حسن شوتام

 

الطّلْقُ الناري كان قريبًا جدًا، لكن نحيب الكلب كان مُروِّعًا، مزَّق صمت اللَّيل وأيقظ أجسادًا كانت تغِطُّ في نوم عميق. تعالت العيارات النارية وتوالت فاختلطت أصوات الكلاب الضالة وتداخلت بين نباح قصير وأنين شديد وعواء ضعيف...

-       قتلو دين امهم راه تيخلّيونا بلا نعاس!

صاح أحدهم وهو يطلُّ برأسه الأصلع من النافذة مُشرئبًا بعنقه في فضول شديد ومديرًا عدسته الماسحة في جميع الاتجاهات دون أن يظفر بلقطة واحدة تُشبع غريزة التشفِّي لديه.

-       خليتي نتا بعدا الناس ترقد!

جاءه الصَّوتُ من وراء ستار نافذة مقابلة... صوتٌ أنثوي حاد وحازم ينضح تهكمًّا. أشعل سيجارة ثم ردَّ على النيران الصديقة:

-       غير شعلي بعدا الضو نعرفو مولات هاد الصوت لحنين! ولا شتي شنو؟ تيري على دين امي كاع بشي فردي باش تهنى الحومة فمرّة!

طوَّح بالسيجارة في الهواء وارتدَّ على عَقِبَيْه مُترنِّحًا... بعد هنيهة اندلق من عمق شقته صوتُ تكسُّرِ أشياء من خزف أو زجاج!

من نافذة أخرى - غير بعيدة - مُواربة، كان أشرف يتابع ما يجري ولكن بعدم اهتمام... كان مَشغولاً أكثر بقطيع الكلاب الضَّالة والذخيرة الحيَّة التي تَسْلُبها الحركة قبل الحياة. يحبس أنفاسه وتنقبض ملامح وجهه كلَّما اندفعت أصداء الموت من فوهة البنادق وأفرغتها في أحشائه اللَّيِّنة على جناح الأثير.

أغلق النافذة بلطف ثم مشى على أطراف أصابعه، حتى إذا بلغ السرير، اندسَّ تحت اللِّحاف بحذر بالغ... إنارة الشارع العمومية كانت كافية لطرد العتمة عن الغرفة التي يشغلها وأخيه الأصغر. لكن الستائر السميكة نجحت في تخفيف حدَّتها ووفَّرت للأخوين فضاءً مناسبًا للنوم وسهولة في التحرك دونما حاجة لإشعال المصباح.

باتَ شاخصًا ببصره إلى السَّقف يُفكِّر، يتأمَّل أيمن المستلقي في الجهة الأخرى فوق المَرتبة وقد أشاح بوجهه نحو الحائط... يتخيَّل ردَّة فعله لو سمع أنين وصراخ الكلاب وهي تُقاوم صدأ الذخيرة الحيَّة قبل أن يُخرسها فريق البلدية بطلقات مُسدَّدة من خطِّ الرَّمي! يأمل في قرارة نفسه أن ينجو "روكي" من المجزرة، بيد أن بصيص الرجاء سرعان ما ينطفئ عندما تأتيه أصداء القذائف من بعيد مؤكدة تمشيط الدورية لمجال جغرافي أوسع، واضعة بلا مواربة "روكي" الجميل في مرمى النظر!

أطبق جفنيه كما ليطرد الفكرة من ذهنه أو ليستدعي النوم لكنه عجز عن ذلك... يتذكر اليوم الذي صادفا فيه روكي - وهما عائدان من المدرسة - على قارعة الطريق، وحيدًا خائفًا... ساعداه على بلوغ الرصيف فاستأنس بهما وظل يلاحقهما حتى وصلا البيت فتمطى عند العتبة. تعلَّق أيمن بالكلب واستأذن أمه بإيوائه في غرفة على السَّطح، لكنها رفضت وطلبت من أشرف إبعاد الحيوان عن الحي.

في اليوم التالي صادفاه لدى عودتهما من صالة الرياضة، وما كاد يراهما حتى سارع بالركض نحوهما... وازداد تعلُّق أيمن ذا الست سنوات به خاصة لمَّا شرع يحرِّك ذيله في خفة ويعدو أمامهما في سرعة قبل أن يرجع إليهما ويقعي عند أقدامهما وكأنه كلب مُدرَّب. وفيما هم يسيرون ويلهون أوحت لهما فتحة كبيرة تخترق السور الممتد على طول الطريق بفكرة... سيبنيان للكلب مسكنًا من بعض الأحجار والأشياء المُهملة وسيتقاسمان معه كل يوم ما تدسُّه لهما الأم من لُمْجَة داخل المحفظة.

خلف السور أرض مُجدبة ممتدَّة الأطراف تضم أشجار زيتون ولوز ورمان كثيرة لكن مُتيبِّسة من شدَّة الإهمال... هناك بنى أشرف للكلب بيتًا ذات أحدٍ، وأعطاه اسمًا من اختيار أيمن: روكي!

-       أشرف!

خاطبه بصوت خفيض وقد اعتدل على فراشه.

-       يحسن بك أن تخلد إلى النوم... الصُّبح بعيد!

-       نم أنت أيضًا!

-       أيقظني العطش لكن كما ترى أنا مُستلق على فراشي وسأنام.

ران صمت مُطبق بُرهة وجيزة لكن ما لبث أن كسره أيمن مخاطبًا أخاه بحماس:

-       لقد رأيتُ روكي... رأيته في حُلم!

-       اخفض صوتك!

ارتبك أشرف وجفَّ حلقه فيما ترك أيمن مرتبته الموضوعة على البساط ودنا من أخيه ثم أضاف هامسًا عند رأسه:

-       رأيته في نفس المكان الذي أبقيناه فيه. لكن مسكنه كبير وجميل تحيط به دارة من حيوانات بفرائها الكثيف المرقَّط النَّاعم. حتى أشجار تلك الأرض اليابسة صارت مورقة مثمرة تشذو بين أغصانها صنوف الأطيار!

-       جميل جدًا يا أخي... حلم جميل... هيا عد إلى فراشك!

-       متى سيُسمح لنا بالخروج؟ أريد أن أرى روكي...

-       قال أبي قريبًا إن شاء الله سيزول كورونا... قريبًا جدًا...

-       أمي أيضًا قالت نفس الشيء ولكن روكي هناك جائع وحيد...

ارتدَّ إلى المرتبة شارد الذهن. تمدَّد على بطنه مُولِّيًا وجهه نحو أخيه... تكاثفت الدموع في عينيه بيد أنهما ظلتا تبرقان وتتحركان وكأنهما تجولان بحثًا عن شيء مطمور في حفر النسيان... فجأة اتسعت حدقتاه... رفع رأسه ثم دفن وجهه في قلب الوسادة... كان في الحقيقة ينشِّف جفنيه... قام هذه المرة وجلس على حافة سرير أخيه... صاح:

-       كان عنق روكي يلمع!

-       أيمن ستوقظ والدينا... كنت تحلم فقط...

-       نعم... ولكن طوقه كان حبات رصاص نُحاسية تلمع... حبات رصاص!

اعتدل أشرف على سريره بغتة... عبرت قشعريرة جسده وأحسَّ مغصًا يخز أحشاءه... طوقًا من حديد صدئ يحبس أنفاسه ورصاصة غادرة تستقر بين فكَّيه!

*** *** ***

قاص مغربي

 

 

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 إضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود