الوعي الإنساني والإشراط، ما هو الحجاب المكشوف

 

سامر زكريا

 

ما الفرق بين الوعي العادي والوعي غير المشروط؟ إن وعينا العادي (أو الذهني أو الفكري أو وعي الأفكار) هو وعي مشروط conditioned إشراطًا فرديًا (بتجاربنا الشخصية السابقة وما علمنا إياه آباؤنا ومجتمعنا وتاريخنا)، وجماعيًا حيث أن الإشراط conditioning ينتقل عبر المجتمعات والجماعات أيضًا فيتبادله الأفراد بالتأثر المتبادل.

ولكن ما هو الإشراط؟ إنه يشبه النظر إلى العالم من حولنا عبر نظارات خضراء فنرى كل شيء باللون الأخضر، أو زهرية فنراه باللون الزهري، أو نظرة الرجل الأبيض إلى الرجل الأسود على أنه عنيف ومتخلف، ونظرة الرجل الأسود للأبيض على أنه عنصري وفوقي، ونظرة الشيعي إلى السني، والسني إلى الدرزي، وابن المدينة إلى ابن الريف، والأوروبي إلى الإفريقي، والملحد إلى المتدين، والمتدين إلى الملحد. إنه يشبه ظننا أن سائق السيارة المجاورة لسيارتنا أسعد منا لأن سيارته أحدث أو لأن فتاة جميلة تجلس بجانبه.

الإشراط يشمل الحسد والغيرة بطبيعة الحال، ويشمل الندم ولوم الذات، الغضب، الخوف، وكل هذه المشاعر المرافقة لأفكارنا. والإشراط يشمل كل فكرة وكل معتقد وكل مفهوم وكل رأي وكل إيديولوجيا وعقيدة، ويشمل القلق من المستقبل، وكل لحظة تمر من حاضرنا دون انتباه.

كيف نتحرر من الإشراط؟ بالانتباه الآن، بالحضور في اللحظة الحاضرة دون الخضوع لأية فكرة مسبقة، ويمكن أن يساعدنا على هذا في المراحل الأولى من "التدرب" عليه (وهو ليس عادة يمكن إتقانها بالتدريب، بل هو على العكس، تحطيم لجميع العادات) بمراقبة النفَس دون قسر، وسيتحول لاحقًا إلى تنفس من البطن، وهو التنفس الطبيعي في حالة الحضور، بينما التنفس من الصدر هو تنفس القلق والإشراط، والعيش في حالة الوعي الذهني أو وعي الأفكار.

إن مراقبة الأفكار التي تعبر الذهن، بحياد (مثل غيمة صيفية تعبر السماء الزرقاء) وتركها تمر ثم العودة إلى الانتباه دون تفكير يعتبر "طريقة" أخرى لقطع سلاسل الأفكار (والأمر ليس فيه طريقة، لأن الطريقة إذا اتُّبعت تصبح إشراطًا بحد ذاتها) ولفتح ثغرات في هذا الجدار الثقيل العالي، جدار الإشراط الفردي والجمعي.

ومع مرور الوقت (والوقت وهم يكتشفه المتحرر من الأفكار) لا يحتاج الذهن الحاضر (المنتبه، الواعي) إلى رصد التنفس أو الأفكار ليكون حاضرًا، بل يمكنه أن يكون فجأة حاضرًا في خضم جدل عنيف أو زحمة مرورية، فيبدو له الآخر المنفعل أو السائقون الغاضبون شخصيات كاريكاتورية أو كوميدية لا تعي ما تقول أو تفعل، بينما هو يراقب دون أي انفعال ألوان وجوههم ونبرات أصواتهم دون أن يلقي بالاً لمحتوى ما يقولونه، وسيلاحظ في الحال تغريد طائر مرَّ فجأة لأن باله ليس مشغولاً بأية فكرة، المنتبه يشعر بشكل الكتاب وملمس أوراقه ورائحتها وشكل أحرف الطباعة، قبل أن يلاحظ مضمون أفكاره ومحتواه. وهكذا إذًا "يَحدثُ شيءٌ ما، كما في أريحا، حين أسقطتْ قوَّةُ الأبواقِ ولجاجَتُها جُدرانَ المدينة... سوى أنَّ الجُدرانَ هُنا هي تلكَ التي تحبِسُ الذِّهن، مُدَّعيَةً أنَّها تَحميه.."، هكذا وصف فيليپ جاكوتيه الكشف (الاستنارة).

دور الكحول والمخدرات: لمَ يدمنها الأفراد أو على الأقل يعتادون عليها؟ السبب هو رغبتهم في تكرار اختبار التحرر المؤقت من سجن الأفكار والأنا، شعور الانطلاق والانعتاق المؤقت الذي يمنحه تأثير الكحول أو المادة المخدرة، الذي يمكن تحقيقه دونها بالانتباه، ومع الاستغناء عن أضرارها التي تكون أحيانًا مدمرة.

يمكن تحقيق هذا الوعي غير المشروط الآن أثناء قراءة هذه الكلمات، وأساسًا لا يمكن تحقيق هذا الوعي إلا الآن، جرب أن تأكل تفاحة أو دراقة أو ترشف الشاي أو الماء، لكن دون أن تفكر بأي شيء آخر أثناء ذلك، سيكون الأمر صعبًا جدًا في البداية، لكن حين تنجح في ذلك، ستشعر أنك تتذوقها للمرة الأولى في حياتك، مع غبطة عظيمة وهائلة؛ والآن انظر من النافذة، دون أية فكرة؛ وإذا نجحت، ستشعر وكأنك كنت ضريرًا وتبصر للمرة الأولى، أو أن المنظر من النافذة جديد تمامًا وفي مدينة جديدة.

والآن جرب أن تنظر في عيني شخص، دون أن تفكر بأي فكرة مسبقة عنه، ستلاحظ جمال هذا المخلوق الإنساني وبريق عينيه ولون شعره وتجاعيد وجهه، دون أن يكون لك أي رأي بطباعه ومعتقداته وآرائه ونظرياته. يمكن أن يكون هذا الشخص شريكك، أو صديقك، أو أحد أبويك أو أبنائك. الخلاصة أن الوعي غير المشروط (وهو وعينا في الأساس قبل أن تحدَّه الإشراطات) هو خبرة لا توصف ولا تضاهى، ولا يعبِّر عنها بالكلمات، وقد أشار لها المسيح بـ"مملكة السماء" وهي موجودةٌ دائمًا هنا والآن تحجبنا عنها إشراطاتنا، ولا تنقل من شخص لآخر، وهو ما يعبر عنه القول البوذي القاسي: الإصبع (إصبع الواعي) تشير إلى القمر (الاستنارة) والأحمق (ذو الوعي المشروط) ينظر إلى الإصبع (يظن أن العقيدة والاتباع سيقودانه إلى الحقيقة). كما يقارن الحوار التالي (من التراث الصوفي الإسلامي) بين اختبار الحقيقة (الكشف، الاستنارة) والاتِّباع العقيدي:

-       هل تذوَّقتَ الحلاوة يومًا؟

-       لا، لكن عباءة جدَّي لامست مرَّةً واحدة عباءة جدِّ رجُلٍ تذوَّقها.

في الريف السوري والمصري وسواهما يتداول الناس عبارة "مكشوف عنه الحجاب" وهذا ليس إلا الوعي غير المشروط، فالحجاب هو حاجز أو جدار الإشراطات، الأفكار والمفاهيم التي تجعلنا نعيش في عالمنا نحن بدلاً من العيش في العالم الحقيقي، وحين يختبر المرء سقوط هذا الجدار "يكشف عنه الحجاب" ويدرك أن الخلافات بين عشرات العقائد المعروفة وغير المعروفة التي اتبعها البشر عبر التاريخ خلافات شكلية وعلى السطح، تسببت بحروب وعنف وآلاف الضحايا لأن أصحاب الوعي المشروط اختلفوا وكل منهم يظن أنه يدافع عن عقيدته الصحيحة وأن عقيدة الآخر باطلة أو خاطئة.

العقائد المعروفة التي اتبعها البشر عبر التاريخ

إذًا فحين "يكشف الحجاب" عن أحدنا، يدرك أنه ليس شخصًا بل انعكاس للوعي الكلي (الكوني) كانعكاس ضوء ثريا هائلة على زجاجة من زجاجاتها (مظهر من مظاهرها)، وهذا الوعي غير المشروط، هو ذاته وعي كوننا وهو يتمدد...

11 أيلول 2020

*** *** ***

 

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 إضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

info@maaber.50megs.com  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود