الشعر والوجود

قراءة في حياتي في الشعر

 

بطرس الحلاق

جامعة السوربون الجديدة باريس الثالثة

 

عجبت، وأنا أكتشف صلاح عبد الصبور، لهذا الصوت الفريد المغرِّد خارج سربه، ذلك السرب الضاج بالنبوءات والتموزيَّات، ممزوجة أحياناً بكلاسية عاتية. ولا غضاضة – أية غضاضة – من قيمة هذا السرب وقد شيَّد ركناً مهماً من أركان صرح الشعر العربي المعاصر. غير أنني أقر بأنه أصابني من قراءة دواوين عبد الصبور الأولى بعضُ ما أصابني من اكتشاف ديوان الوطن المحتل الذي جمعه يوسف الخطيب بعيد هزيمة 1967، على بُعد ما بينهما. ثم قرأت مأساة الحلاج فتبدَّى لي عالمٌ آخر يتميز هو أيضاً عن كل ما سواه. فرحت أتساءل: من هو عبد الصبور؟ إلى أن أتيحت لي الفرصة في هذه الاحتفالية بأن أعود إلى هذا السؤال فأطرحه على الشاعر نفسه، وأستمع إلى إجابته من خلال ما يقوله في حياتي في الشعر. وأهمية هذا الكتاب أنه ثمرة مرحلة نضج واكتمال1 وأنه يأتي استخلاصاً لتجربة طويلة، لا مشروعاً نظرياً لما يُنوى إنجازُه. سأكتفي بمساءلة هذا الكتاب، بغضِّ النظر عن صحة ما يصوغه الشاعر من آراء حول الشعر والنقد العربيين القديمين، وعن مدى فهمه للشعر والنقد الغربيين، وحتى عن مدى التطابق ما بين تصوُّره الشعري وبين ممارسته العملية كمبدع. ولن أحاول الإلمام بكل ما يتعرض له هذا المؤلَّف الثري الجوانب، بل سأقصر بحثي على ثلاث مسائل تبدو لي أساسية وهي:

1.    قضية "التشكيل"

2.    الشعر والمعرفة

3.    الشعر والنبوة

1. "التشكيل"

يُكثِر صلاح من استعمال هذا المصطلح، دون أن يحدِّده مسبقاً. ويتَّضح للقارئ أن مضمونه يختلف من موقع إلى آخر. فما هي المعاني الأساسية التي تنبثق من مجمل سياقات النص؟

في أغلب الأحيان، يحيل مفهوم "التشكيل" إلى المرحلة الثالثة من مراحل الإبداع الشعري، كما يحدِّدها صلاح. فالمرحلة الأولى تبدأ بـ"الخاطرة" التي يؤثر أن يسميها "الوارد" – وهو مصطلح صوفي مقتبَس عن السراج الطوسي،2 الذي يميِّزه عن "البادِه" (و"البادي" و"العارض" و"الوهم"...)، فيقول: "الوارد ما يَرِدُ على القلوب بعد البادي ويستغرقُها. والوارد له فعل، وليس للبادي فعل، لأن البوادي بدايات الواردات. قال ذو النون – رحمه الله: "واردُ حقٍّ جاء يزعج القلوب." (ص 12)3 ويشدِّد صلاح على أن "الوارد" أدقُّ وصفاً لهذه الحالة من "الحدس"، كما يعرِّفه الفيلسوف الفرنسي برغسون. فهذا "قمة شبه عقلية لنشاط عقلي"، قد يتجاوز العقل بعمليَّتيه التحليلية والتركيبية، فيصلح "لتفسير الوثبات الفكرية العالية"، غير أنه "عاجز عن تفسير الوثبات الوجدانية؛ فذلك من شأن الوارد".

أما المرحلة الثانية فتأتي نتيجة للوارد. ويقتبس لها صلاح عن القشيري4 تعبيراً صوفياً آخر وهو "التلوين والتمكين". يقول القشيري: "فما دام العبد في الطريق فهو صاحب التلوين، لأنه يرتقي من حال إلى حال وينتقل من وصف إلى وصف ويخرج من مَرْحَل [مكان الرحيل] ويحصل في مَرْبَع [محل الربيع والعشب]؛ فإذا تمكَّن وَصَل [...]. وصاحب التلوين أبداً في الزيادة وصاحب التمكين وَصَلَ ثم اتَّصل." (ص 16) إنها مرحلة الرحلة التي تبغي "الظفر بالنفس"، رحلة ينسلخ فيها الشاعر عن نفسه لكي يعيها و"يظفر بها". ثم تأتي أخيراً مرحلة "تشكيل القصيدة" أو محاكمتها.

تدل عملية "التشكيل" على فعل عقلي "ينظم ويوازِن"، على فعل أبولوني، حسب تعبير نيتشه كما يورده صلاح، يُكمِل الفعل الديونيسي. أبولون "إله العقل"، "مُلهِم النحت والشعر الملحمي"، يكمل فعل ديونيسوس، "إله النشوة ومُلهِم الرقص والموسيقى". فعملية التشكيل الأبولونية عملية عقلية، واعية، تنكبُّ على تنسيق "البناء" من خلال إبراز "ذروة" في القصيدة، أنَّى كان موقعها – بداية، واسطة أو نهاية – ومن خلال إقامة التوازن بين "الصور والتقرير والموسيقى".

إلا أن صلاحاً ما إن يحدد المعنى ويغلقه بإحكام حتى يفتحه ليشرعه على آفاق جديدة؛ إذ يضيف: "ولكن هل يتم هذا التشكيل بشكل واعٍ، بحيث تنتفي التلقائية فيه؟ لا. فليس لأبولو، كعقل، نصيبٌ في العملية الفنية، بل إن التشكيل يصبح لدى الفنان نوعاً من الغريزة الفنية، مثله مثل المقدرة على الوزن وتكوين الصور." (ص 49)

يصبح التشكيل إذ ذاك عقلاً وغريزة. غير أنه لا يستقر على هذا المعنى، بل يغادره ويتجاوز القصيدة ليصبح تشكيلاً للكون وتشكيلاً للذات في آن، تشكيلاً ينتقل بهذه الذات من "البراءة الغفلاء" إلى "براءة التجربة".5 ويمثل صلاح لذلك بمساره الشخصي المنطلق من "التديُّن السهل"، إلى "الإلحاد السهل"، فإلى إيمان شخصي، "إيمان السلام مع الله". فإذا به وقد "اجتاز التجربة وخرج منها كما يخرج الذهب من النار [وقد] اكتسب شكلاً ونقاء"، فأصبحت "مسؤوليته أن يشكِّل الكون وينقِّيه" (ص 159).

يصبح التشكيل بمختلف معانيه أقرب إلى التكوين – إلى الإنشاء والتنشئة – كما تعبِّر عنه الكلمة الألمانية Bildung، وهي الكلمة التي أطلقت المفهوم، وعنها نُقِلَ إلى باقي اللغات. فليس من باب المصادفة أن يسوق صلاح في هذا السياق تعبير غوته: "الفن تشكيل قبل أن يكون جمالاً." ومن يعرف فكر غوته لا يتردد لحظة في الربط بين الكلمتين – Bildung و"تشكيل" – بهذا المعنى الأخير. فغوته من أهم من ساهم في تحديد هذا المفهوم نظرية وإبداعاً.

فعلى المستوى النظري، يتبنَّى غوته مقولة زميله موريتس عن وظيفة "المحاكاة" في العمل الفني، كما يعرضها في مؤلفه الشهير في المحاكاة بكونها مشكِّلة للجمال،6 حيث يقلب المعادلة الكلاسية بين الفن والطبيعة، فيقرِّر أن المحاكاة الحقيقية لا تدور بين العمل الفني والطبيعة – فتلك محاكاة نافلة عميقة؛ إذ ما نفع النسخة مادام النموذج قائماً؟ المحاكاة الحقيقية المبدعة تقوم بين الفنان نفسه والطبيعة، فيصبح الفنان بمقتضاها خالقاً شأن الطبيعة، يحاكيها في عملية الخلق إذ يبدع بدوره، ولا يقلِّد نتاجها في لوحات فنية أو وصفية. مفهوم الخلق هذا، يعبِّر عنه موريتس بكلمة Bildung التي تَرِدُ عند غوته وينقلها صلاح7 بمصطلح "التشكيل". فالفن تشكيل من حيث إنه عملية ديناميَّة إبداعية.

أما على مستوى الممارسة الأدبية، فالتشكيل هذا – أو Bildung – مرتبط بصنف روائي محدد هو Bildungsroman، أي "رواية التنشئة"؛ وهي صنف روائي محدَّد يقوم أصلاً على تتبُّع مسار بطل ينطلق من حالة "فرد إشكالي" – حسب تعبير لوكاتش8 – أو من حالة الضياع والشواش إلى حالة النضج، حيث يتمثل شرطَه الإنساني في أبعاده الجسدية والعاطفية والاجتماعية، بل والميتافيزيقية، فيصبح عضواً مسؤولاً في المجتمع.9 وليس من باب الصدفة كذلك أن يكون غوته هو من بلغ بهذا الصنف الروائي شأوَه الأبعد في روايته سنوات تنشئة فيلهلم مايستر10 التي يُجمِع النقد الغربي على اعتبارها النموذج الأكمل في هذا المضمار.

فليس اعتباطاً أن نربط ما بين معنى التشكيل عند غوته ومعناه عند صلاح الذي يشير كلُّ شيء لديه إلى هذه الحركة التكوينية. فعملية الإبداع عنده "رحلة" اكتشاف، تتميز عن "الصنعة" التي يجعلها النقد الرسمي القديم معياراً للعمل الفني.11 وهذه الرحلة تكوين للذات أو، بحسب تعبير صلاح، "ظفر بالنفس" عبر "التجربة والخبرة". يقول صلاح: "والتجربة الشعرية عندئذٍ جديرة بألا تصبح تجربة شخصية عاشها الشاعر فحسب بحواسه ووجدانه. بل هي تمتد لتصبح تجربة عقلية أيضاً تشتمل على محاولة لاتخاذ موقف من الكون والحياة." (ص 59) ويضيف مباشرة: "وكثيراً ما نقع أسرى الفهم الضيق لكلمة "تجربة" التي هي بدورها مصطلح نقدي حديث لم يجرِ على ألسنة نقادنا القدماء، فتتصور أن مدلولها هو التجربة العاطفية والشخصية وحدها، مع أن التجربة بالمعنى الفني والفلسفي قد تعني كل فكرة عقلية أثَّرت في رؤية الإنسان للكون والكائنات، فضلاً عن الأحداث المعايَنة التي قد تدفع الشاعر أو الفنان إلى التفكير. وهي بهذا المعنى أكبر وجوداً وأوسع عالماً من الذوات، وكلُّ مجال عملها هي هذه الذوات." (ص 59) ومن جهة أخرى، نستطيع أن نتحرَّى معالم هذه الرحلة في مسار صلاح الشخصي كشاعر كما يرويه بنفسه: إنه مسار تنشئة ينطلق من بيئته الريفية الأولى، وينتهي باكتمال شاعريَّته وبتبنِّيه تصوراً شخصياً للحياة، مروراً بـ"عباءة جبران والمنفلوطي"، ثم بالماركسية والتراث الإنساني بأكمله أدباً وفلسفة، وانتقالاً من "الإيمان السهل" إلى إيمان مُشَخْصَن بعد مرحلة من "الإلحاد السهل".

فإذا ما اعتبرنا كافة المعاني التي توقفنا عندها بدا لنا "التشكيل" عملية بناء وتكوين للقصيدة متداخلة مع عملية تكوين الإنسان الشاعر لنفسه وللكون من حوله، دون أي فاصل ما بين المبدع والإبداع. ولا أدَلَّ على ذلك من عنوان المؤلَّف الذي نحن بصدده: حياتي في الشعر وليس "الشعر في حياتي".

2. الشعر والمعرفة

لا يقتصر الشعر، إذن، على كونه تعبيراً عن الذات والكون: إنه تكوين للذات وتكوين للكون. وهذا التكوين يقتضي، بدوره، موقفاً معرفياً. والشعر، عند صلاح، مشروع معرفي، مهما كان رأينا في مصداقيَّته. تتضح معالم هذا المشروع من خلال الدور الذي يرسمه صلاح لكلٍّ من العاطفة والفكر في العملية الإبداعية. فهو يعتبر أن الاعتماد على العاطفة ينطوي على خطر كبير: نضوب القريحة؛ إذ إن العاطفة المتوقِّدة مرتبطة بمرحلة الشباب ثم تنطفئ أو، أقلَّه، تخبو. ويسوق في هذا الإطار مقولة إليوت من أن لا قدرة للشاعر أن يستمر في الإبداع بعد الخامسة والعشرين. فلضمان استمرارية الشاعرية لا بدَّ للشاعر من الاعتماد على الفكر: "التجربة الشعرية يجب أن تصبح تجربة عقلية." فالشعر ينطلق من العاطفة ولكنه لا يستمر ولا يكتمل إلا بالفكر. فلا مندوحة للعملية الإبداعية من أن تتمثل، عن طريق الفكر، مشاكل الذات والشرط الإنساني برمَّته حتى يتاح لها الاستمرار وتبلغ شأوَها.

معرفة الذات والكون أمر أساسي يفتتح به صلاح نصَّه – منذ الجملة الثانية – حيث يستعيد قول سقراط الشهير "اعرف نفسك"، مؤكِّداً على أن الذات التي ينبغي معرفتها إنما تمثِّل العالم بأسره. فالذات هي "الكون الأصغر" microcosme الذي يعكس "الكون الأكبر" macrocosme، وإدراك كُنْهِ الأول هو إدراكٌ لكُنْهِ الثاني أيضاً. ومهمة الشاعر أن يسبر غور هذين الكونين من خلال تأويلهما. فالشعر تأويل للذات وللموضوع، ولا وجود لأيٍّ منهما خارج هذا التأويل. يقول صلاح في هذا الصدد: "إن الفن ليس تعبيراً فحسب ولكنه تفسير أيضاً [...]. إن الطبيعة لا حياة لها، بل هي بالتعبير الفلسفي "لامبالية"، والفن هو الذي يعطيها المبالاة والقصد. فهي تظل "شيئاً" حتى يلمسها الفنان فتتحول إلى "صورة" [...]. فما الحب لولا حديث الشعراء المحبين عنه، مثل دانتي والمجنون؟ وما الوجد لولا تأملات الصوفية عنه، وما الغيرة لولا عطيل، وما المجنون لولا هاملت، وما التشاؤم لولا أبي العلاء؟"12 (ص 65-66). ذلك ما يجعل صلاحاً يرى في الشاعر صنواً للفيلسوف والنبي في استبطان الوجود والإفصاح عن جوهره: "إن هناك ثلاثة طرق من الاجتهاد تحاول أن تمدَّ بصرها في إنسانية الإنسان لتساعده على تجاوز ذاته، كي يستطيع بعد ذلك أن يعطي لحياته معنى، هي الدين والفلسفة والفن" (ص 126).

من شأن هذا المشروع المعرفي أن يفسِّر جانبين مهمين من ممارسة صلاح الشعرية: اهتمامه بالأسطورة وإيثاره للمسرح. فبعد أن يقرر – بحق – أن "الأسطورة تتعرض عادة لتفسير الكون" (ص 183)، يشير إلى أن العلوم الإنسانية في العصر الحديث تبنَّتها بهذا القصد؛ إذ إنها رأت فيها "كنوزاً مبعثرة من التجربة والمعرفة، فحاول [الباحث] أن ينسِّقها في علوم استدلالية، محاولاً أن يعرف الإنسان عن طريقها بعد أن فشل في معرفة الإنسان عن طريق العلوم التجريبية الحديثة" (ص 181). أما اهتمامه بالمسرح فنابع من أن هذا الأخير "فن حكائي" (بعكس الفنون التعبيرية). والحكاية ذات ارتباط بالمعرفة وبذلك القول الأول "اعرف نفسك"، بينما الغنائية مجرد تعبير عن الذاتية. ويشير صلاح إلى ذلك بطريقة غير مباشرة، إذ يقرر أن المسرح عند الإغريق، كما عند عمالقته في العصور الحديثة أمثال شكسبير، هو أداة معرفية بكل معنى الكلمة، وليس عرضاً لأوضاع اجتماعية، بقدر ما هو غوص في الشرط الإنساني وفي مصدره ومآله. فيقول إن "المسرح ليس مجرد قطعة من الحياة، ولكنه قطعة مكثَّفة منها" (ص215).

وفي اعتباره الشعر مشروعاً معرفياً، لا يبرح صلاح عالم الـ Bildung، إنما في منحى آخر غير ذلك الذي يمثِّله غوته: في ذلك المنحى المتمثل في شعراء مدرسة يينا الألمانية، وعلى رأسهم نوفاليس.13 يقرر صلاح أن "غلغلة العقل في المادة هي مدار الحياة الدينية والفلسفية والفنية للإنسان، وهي أيضاً غاية سعيه نحو التقدم بالمفهوم الآلي التجريبي، وهي مدار "الثورية" الحقة في سلوكه البشري. فإن المجتمع الهامد هو الذي يحرص على ثباته المادي في حالة بعيدة عن الحيوية؛ فإذا قارَبَه التشكيلُ والنقاء رَفَضَه بضراوة. أما المجتمع الثوري فهو المجتمع الذي تتوق المادة فيه إلى التشكيل والنقاء وتسعى إلى الامتزاج بالعقل" (ص 159-160). وحين يتحدث عن "غلغلة العقل في المادة" في سبيل "تشكيل" الكون – وهو عمل يضطلع بمسؤوليته كشاعر – فإن كلامه هذا يذكِّرنا – دون أن يدري – بموقف نوفاليس القائل إن مهمة الشعر أن يتغلغل في الإنسان وفي الكون ليُخرِجهما من سيطرة الشريعة والموت إلى عالم الحرية، فيهيِّئ لبزوغ عصر ذهبي جديد على غرار عصر التناسق والتناغم والإبداع الذي كان سائداً قبل أن تتغلب قوى المادة على منطق الحرية المتمثل بالشعر. فبالشعر وحده خلاص الإنسان، والشعر وحده هو الذي يجعل من العالِم عالِماً، في التأريخ كما في الجيولوجيا أو الكيمياء، ومن الفيلسوف فيلسوفاً. فلا علم بالمطلق إلا عن طريق الشعر وبإلهامه.14

نجد الموقف نفسه عند صلاح كما عند نوفاليس، وإن اختلفت المفردة: الأساسي هو أن الشعر هو أداة المعرفة المطلقة.

3. الشعر والنبوة

لا تكتمل المعرفة عند صلاح إلا بالنبوَّة. ولا نقصد بالنبوة هنا الكشف عن المستقبل – فعلَ العرَّاف أو الرائي – بل الإعداد لمستقبل أفضل، انطلاقاً من المعرفة المتاحة، أو بتعبير آخر: "تشكيل" عالم أكثر إنسانية. يشير صلاح إلى ذلك بعبارته الشهيرة: "شهوة إصلاح العالم"، المقتبسة عن شيلي الذي أخذها بدوره عن سابق. وإن كانت هذه الشهوة "هي القوة الدافعة في حياة الفيلسوف والنبي والشاعر" (ص 135) على السواء فإن ما يميِّزها عن الإصلاح بشكل عام هو انطلاقها من الإنسان الفرد، لا من المجتمع؛ مما ينأى بها عن الإصلاح الاجتماعي الذي تنادي به الإيديولوجيات السياسية، ومنها الماركسية ذات النفوذ الأكبر حين صدور المؤلَّف. وأساس هذا التمييز بين الموقفين هو أن الإصلاح بمعناه الثاني ينصبُّ على المجتمع، بينما ينصب الأول على الإنسان. السياسة ترجو خدمة الإنسان من خلال تنظيم المجتمع؛ أما الإصلاح الشعري فينقذ الإنسان، وبذا ينقذ المجتمع. يؤكد على هذه الفكرة إذ يقول:

"هل للفن غاية بشرية؟

نعم، ولكن غايته هي الإنسان لا المجتمع.

هل للفن غاية أخلاقية؟

نعم، ولكن غايته هي الأخلاق لا الفضائل.

هل للفن غاية دينية؟

نعم، ولكن غايته هي الإيمان لا الأديان." (ص 126)

وبعبارة صريحة: "لا يخدم الفن المجتمع ولكنه يخدم الإنسان." (ص 117)

فما يجمع ما بين الإصلاح الشعري والإصلاح النبوي، في نظر صلاح، هو انصبابهما على الإنسان الفرد. وإن كان هذا التصور لا ينطبق حتماً على كل نبوَّة، فإنه ينطلق من فهم "علماني" للنبوة لا يتعارض مع الدين، بل ينطلق من ديناميَّته الأولى المتمثلة بشخص النبي قبل أن يُنْشِئ – هو أو أتباعُه – دينَه؛ وهو ما نادت به الرومانسية على تعدِّد أنواعها.

ولعل الرابط بين الشاعر والنبي هو الحزن. فآية كلِّ نبي، أو علامته المميزة، هي الحزن. فما الحزن إلا دلالة على المسؤولية الجسيمة التي يضطلع بها النبي. ولذلك يشير صلاح بإطناب إلى حزن الرسول العربي وإلى حزن المسيح. عن الأول يقول: "لقد همَّ محمد بإلقاء نفسه من قمة الجبل، واستند مرةً إلى جدار لكي يشكو بثه إلى الله: "اللهم، إليك أشكو ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس، يا أرحم الراحمين. أنت ربُّ المستضعفين وأنت ربي، إلى من تَكِلُني؟ أإلى بعيد يتجهَّمني أم إلى عدوٍّ ملَّكته أمري؟" وهو الذي قال في أحد أحاديثه: "الحزن رفيقي" (ص 137). وعن المسيح يقول: "أما يسوع فقد أدرك في مسائه الأخير أن ما حقَّقه دون ما أمل فيه، وأنه لا بدَّ أن يبذل ثمناً جليلاً لكماله، فصحب ثلاثة من أخلص أصفيائه وصعد الجبل وابتدأ يحزن ويكتئب. فقال لهم: "نفسي حزينة حتى الموت"، وخرَّ على وجهه. وكان يصلي قائلاً: "يا أبتاه، إن أمكن، فلتعبر عني هذه الكأس.""

هذا الموقف ليس طارئاً على الأدب العربي الحديث، بل إنه يظهر بشكل واضح عند جبران والمنفلوطي. فالنبوة منطلق الأدب عند كليهما. فشخصيات جبران الأساسية، شأن خليل الكافر ويوحنا المجنون،15 شخصيات "نبوية" بكل معنى الكلمة. كما أنه يتقمص هو نفسه، في كتاباته الإنكليزية بالأخص، شخصية النبي.16 أما الثاني فيقوم الأدب عنده على اصطفاء إلهي يهدف إلى تبديل الإنسان بتبديل قلبه.17 ولذا تمتلئ جوانب أدبهما بالحزن الذي يحيل إلى وظيفة النبوة. فـ"الكآبة" عند جبران ذلكم مصدرها ومآلها. في الأجنحة المتكسرة18 ينتقل بطلُه من "الكآبة الخرساء"، المرتبطة بالجهل والإحساس المحتدم في بداية تنشئته، إلى "الكآبة الناطقة" في نهاية مساره، ويبقى كئيباً إلى أن يكتمل ملكوت الحب في عالم ما بعد الموت. أما جبران نفسه فلا يجد ما يميز بين الشعراء والأنبياء عن عامة الناس إلا هذه الكآبة: "نحن أبناء الكآبة وأنتم أبناء المسرَّات." والبكاء عند المنفلوطي لا يعبِّر فقط، وأولاً، عن موقف نفسي أو اجتماعي مرتبط بفجيعة الطبقة الوسطى آنذاك،19 بل عن موقف إنساني عميق: "فالحزن مِنَّة لا يرتجيها إلا من اصطفاه الله ليصبح شاعراً – حسب تعبير المنفلوطي – يفضي إلى الناس بحقيقته وحقيقتهم ويساعدهم على سلوك طريق الإنسانية." وواضح أن صلاح ينخرط في هذا التيار، بطريقته الخاصة.

بهذا الموقف النبوي يلتقي صلاح أيضاً مع مدرسة يينا الألمانية (التي سبق ذكرها)؛ وبذا يكمل شوطه "التشكيلي". يلتقي ونوفاليس الذي إنما يقوم بثورته العارمة على النظام الكوني القائم لينبئ بعالم جديد متحرر من قيود الشريعة (بمعناها الشامل). ووسيلته إلى ذلك الشعر؛ فمصير الإنسان والكون برمَّته مرتبط بقدرة الشاعر على بثِّ الشعر فيهما؛ إذ إن مهمة الشاعر "شَعْرَنَة الكون": بالشعر وحده خلاص الإنسان.

الشاعر نبي العالم الآتي

الشعر عند صلاح عبد الصبور يرمي إلى "تشكيل" الإنسان والكون من خلال "تشكيل" القصيدة. والتشكيل يقتضي المعرفة بمعناها الأعمق، وينبئ بعالم جديد. ولعل في هذا الموقف الذي يلتقي من خلاله، بوعي منه أو بغير وعي، بتيار جبران والمنفلوطي المؤسِّس للأدب العربي الحديث، وبتيار التنشئة (لا سيما في منحاها الظاهر عند أصحاب مدرسة يينا) الذي أسَّس بدوره للأدب الأوروبي الحديث، ما يفسِّر مقاربته الثقافية واللغوية. فهو، من جهة، يرفض فكرة "الغزو الثقافي" لأن الثقافة لا تغزو: إنها ملك كلِّ إنسان، لا تعرف حدوداً ولا مصالح قومية أو فئوية، وعلى كل إنسان أن ينبذ الحدود في تلقِّيه إياها. وهو، من جهة أخرى، ينتفض على "القاموس الشعري"، قديمه وحديثه؛ إذ إن الأول، في رأيه، يحيل إلى الصنعة والثاني إلى التعبير الرومانسي الفردي؛ بينما هو ينبغي التعبير عن جوهر الإنسان في واقعه وفي ما يصبو إليه. وهذا ما يجعله يتبنَّى لغة الحياة اليومية، وهي لغة الواقع (لا لغة الواقعية)، المتجذِّرة في التراث والمنفتحة على إنسان العصر،20 كما فعل جبران والمنفلوطي في دنيا العرب وأصحاب التنشئة في دنيا الغرب.

فلغة الحياة هي لغة النبوة.

*** *** ***


1 صدر عام 1969 والشاعر في الأربعين من عمره، وقد أنجز القسم الأكبر من أعماله الشعرية.

2 عاش في القرن الرابع الهجري، وكان يلقَّب بطاووس الفقراء.

3 رقم الصفحة يحيل إلى ديوان صلاح عبد الصبور، مج 3، دار العودة، بيروت، 1973.

4 من أعماله المعروفة الرسالة القشيرية؛ توفي سنة 465 هـ/1072 م.

5 واضح أن هاتين العبارتين تحيلان إلى الشاعر الإنكليزي ويليام بليك، صاحب "نشيد البراءة" و"نشيد الخبرة".

6 ألف موريتس (Karl Philipp Moritz) هذا الكتاب (وعنوانه بالألمانية Über die bildende Nachahmung des Schönen) عام 1785، فاعتُبِرَ مؤسِّسَ علم الجماليات الحديث، وبه تأثر الشاعر غوته.

7 لا نعتقد أن صلاحاً قرأ موريتس أو غوته؛ فلا بدَّ أنه استقى الكلمة من مطالعاته بالإنكليزية عن الأدب الإنكليزي أو النقد الألماني الذي شاع في أوروبا كلِّها.

8 في مؤلَّفه نظرية الرواية، الصادر عام 1920.

9 إن رواية التنشئة التي بدأت على يد فيلدنغ وريتشاردسُن، قبل أن تبلغ ذروتها على يد غوته، هي التي أسَّست للأدب الأوروبي الحديث؛ كما أنها، في اعتقادي، أسَّست للأدب العربي الحديث، على يد جبران وقبله الشدياق. وما الرواية الواقعية إلا فرع من فروعها.

10 الصادرة عام 1797.

11 كما هي الحال عند ابن قتيبة الذي يجعل من الشاعر "حرفياً" شأنه شأن "الناسج والصائغ". وبطبيعة الحال، ليس هذا موقف كلِّ النقد العربي.

12 هذا القول يذكر بقول المنفلوطي في مقدمته للـنظرات: "فلولا خيال الشعر ما هاج الوجد في قلب العاشق، ولولا خيال الشرف ما هلك الجندي في ساحة الحرب، ولولا خيال الذكرى ما اختُرعَت المخترَعات، ولولا خيال الرحمة ما عطف غني على فقير...".

13 هذه المدرسة مكونة من مجموعة من الشباب، شاعرها الأكبر نوفاليس ومنظِّرها الأول فريدريك شليغل؛ نشطت بضع سنوات عند منعطف القرنين الثامن عشر والتاسع عشر وصاغت الأفكار الأساسية التي عاش عليها النقد الأوروبي حتى العقود الأخيرة من القرن العشرين.

14 يبدو هذا الموقف واضحاً في عمل نوفاليس الأساسي هنري فون دوفتردنغن.

15 راجع "خليل الكافر" في مجموعته القصصية الأرواح المتمردة (1908) و"يوحنا المجنون" في عرائس المروج 1907.

16 في كتابه الشهير النبي The Prophet.

17 راجع مقدمته للجزء الأول من النظرات، وهي مقدمة بالغة الشأن لفهم عالم المنفلوطي.

18 وهي روايته الوحيدة، صدرت عام 1912.

19 حسب تحليل ناجي نجيب في كتاب الأحزان: فصول في التاريخ النفسي والوجداني والاجتماعي للفئات المتوسطة العربية، دار التنوير، بيروت، 1983.

20 ولغة الحياة اليومية هنا ليست حتماً اللغة الدارجة. إنها لغة تنبذ اللغة المعجمية الإحيائية، ولكنها تحترم القواعد فيما تقتبس نسغها من كل قول حي.

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

Editorial

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود