من يوميات س. م.

 

س. م.

 

آب 1995

لا أعلم لماذا أكتب وإلامَ سأصل. ولا أعلم أي الغايات تقودني إليها...

لكن يبدو أنه حين نكون في أرقى حالاتنا تكون الأهداف والغايات ملغية تماماً، ونصبح حينئذٍ مكتفين بتلك الومضات الغامرة التي نكون فيها في حضرة ذلك الفيض الآسر من الجمال العصيِّ على الوصف، أو حتى على الاحتمال، إلا بمفارقة الجسد نهائياً.

كنت أتساءل في سرِّي لماذا العودة، وما الغاية بعد الاختبار على تلك السويَّات؟ وتجيبني الاختبارات اللاحقة من أجل المتابعة, من أجل المزيد من الكشف, من أجل تحقيق تماسات جديدة على سويَّات لم نختبرها بعد, من أجل الخلق والتطوير باتِّجاه المستقبل اللامتناهي.

حين كانت تجتاحني لحظات من التصعيد الروحي، وأرى نفسي فجأة – دون مقدِّمات – في حالات من الطاقة لم أبلغها بإرادتي الخارجية، كنت بعد العودة، على الرغم من الجو القدسي الذي يفرض نفسه بقوة، أقول لنفسي: قد يكون ذلك وهماً؛ وأنا لا أريد أن أقع في مطبٍّ، أكون فيه ضحية لتلك الرؤى أو الاختبارات. لذا رحت أوجِّه لنفسي كلَّ الاتهامات التي كان من الممكن أن يوجِّهها لي علم النفس, كأنْ أقول: ربما كان ما حصل محاولة أعيشها في داخلي لتحقيق توازن يجعل لحياتي معنى ضمن هذا الركام المضجر من التفاهة؛ ربما كان تعويضاً، وربما إسقاطاً، وربما ماضياً سحيقاً، وربما أمراً مستقبلياً، وربما... وربما...

ورحت أتجاهل المعاني المرسلة من أعماقي, لا لشيء إلا لأنها تقضُّ مضجع أفكار كنت أعتقد أنها ثابتة في مرحلة مبكرة من حياتي الحالية.

حتى تلك الحالات ذات الخصوصية الشديدة التي عشتها، التي خلقت مشاركة عميقة وانبثقت عنها طاقات لطيفة، والتي لم أعشها بهذا المستوى الرفيع من قبل... حتى هذه الحالات أدرتُ لها ظهري, قانعة نفسي بأن ذلك قد يكون وهماً، ولا أريد أن أنجرف باتِّجاه خيالات يخلقها داخلي لسبب أجهله، غائب عن إدراكي حالياً.

وبتقادم الزمن، أكَّدت الاختبارات أن هذه القرارات الخارجية التي يصدرها العقل لا وزن لها، ولا تستطيع ردَّ شيء تريد الحقيقة أن تقوله لنا عبر تلك الإيحاءات (التي كنت أعلم أنها مرسلة من الأعماق). ولكن... أية أعماق؟ أعماق داخلي؟ أعماق الكون والوجود؟ لا أدري!

ولكنها كانت، بطريقة ما، تريد أن تقول إن هناك أموراً تسمو على الإدراك المباشر ولا نستطيع التقاطها وفهمها هكذا بسهولة. وصرت أفهم وأتقبل هذا الغموض واللامباشرة في إرسال المعاني والأفكار عبر الرموز. وفيما بعد، احترمت هذه الطريقة واعتبرتها لزوم التطور. كأن الحياة اختارت هذا الطريق لحثِّنا على المزيد من التفكير والتأمل والتطوير والبناء لإغناء التجربة الكلِّية. وبعد ذلك، تعلَّمت الانتظار... تعلَّمت أن لا أستعجل شيئاً. فالحقيقة ستغزل خيوطها داخلنا، ولكن لكل شيء أواناً... قد يكون بأيدينا تحيين موعده، وبإرادتنا وتعمُّقنا وفهمنا تتكشف أمور جديدة تكشفاً مستمراً.

هذا ما توصَّلت إليه فيما بعد. أما في البداية فشعرت أني في ورطة حقيقية! أمامي مسلسل من الألغاز، وعليَّ الربط والفهم. لا أخفي أن الأحلام تعطي بعضاً من معانيها، ولكن الأمر يبقى غامضاً، خصوصاً في تلك الحالات التي أتت على التوالي، مشيرة أحياناً إلى معانٍ متشابهة.

لقد كانت هذه الرموز تضعني في عالم كلِّي, أسطوري، غامر... ولكنها كانت تريد الثمن راحتي الخارجية وقلقي المعرفي. وفي غمرة حضورها كانت تلحُّ عليَّ أن أتعرف عليها – لا بل أن أعترف بها.

وخلال هذا الفيض المتواصل كان لا بد من اتخاذ قرار المصالحة مع ذاتي. لا أعلم إن كان بإمكاني القول إنه من هنا بدأت علاقتي مع داخلي ترى النور وتعيشه أكثر فأكثر.

وعلى هذا، أخذت أراقب وأسجِّل أحلامي والحالات التي أعيشها بتواريخ حدوثها، مع سعي دؤوب صادق إلى محاولة فهم رموزها ومعانيها. وعلى الرغم من الخيبة والإحباط الذي كنت أشعره حين أظن أني فهمت – أو قاربت فهم – بعض منها, وعلى الرغم من توالدها وتتابعها بالعشرات في متوالية لم أعد أعرف لها نهاية... على الرغم من ذلك، قررت المتابعة والمراقبة.

***

الثلاثاء 16/7/1996

اختبار محيِّر، سرعات هائلة، دخول في الصمت, ارتحال في الظلام, مفارقة الجسم, إضاءة خفيفة أرى من خلالها الأرض تبتعد عني مسرعة، كما تبتعد عنَّا الأشجار والبيوت ونحن نمرُّ أمامها في سيارة مسرعة جداً. أبتعد عنها كما لو أني قُذِفتُ إلى خارجها بسرعة عظمى. للتقريب، قد تبدو المشاهد متشابهة؛ إلا أن وصف الاختبار بدقة يبدو مستحيلاً.

لم يكن ارتحالاً طوعياً. لم أكن مراقباً خارجياً. لم أشعر بوجود مراقب خارجي؛ كنت فقط في جملة مسرعة ترتحل خارجاً بسرعة مذهلة أشعرها كذلك للمرة الأولى، لدرجة جعلتني أعتبرها سرعة مطلقة.

لم تكن هذه هي المرة الأولى التي أعي نفسي فيها خارج جسمي؛ فقد تكرر هذا الأمر مرات عديدة، في ظروف وأوقات مختلفة. لا أنكر أني في البداية كنت أفزع وأخاف ولا أعرف لذلك تفسيراً. إلا أني، فيما بعد، تعودت على ذلك وحاولت تفهُّمه, خصوصاً أنه لا سلطان لي عليه حتى أرفضه أو أقبله. ثم... لماذا أرفضه إن كان يحملني، عبر تلك الاختبارات، إلى أبعاد أخرى تجعلني في حالة عليا من الصفاء والسكينة، ثم يعيدني إلى جسمي محمَّلة بطاقة عظمى من الغبطة والامتلاء!

لكن ما جعل هذا الاختبار يختلف عن الاختبارات السابقة، سواء في مجرياته أو في نتائجه، هو شعوري الواضح جداً بالسرعة العظمى, شعوري بالارتحال الشاقولي, شعوري بالسقوط المفاجئ, الآلام الشديدة التي أحسستها في عضلات جسمي – وخصوصاً عضلة قلبي – في الساعات، لا بل في الأيام التالية للاختبار.

ففي الاختبارات السابقة لم أكن اشعر بالسرعة، إنما بالمرونة والخفة؛ وحين عودتي أرى جسمي ممدداً، وأدخل في غيبوبة، ثم أستيقظ فيه وأنا ممتلئة بالغبطة وبالسلام. وعلى الرغم من الخدر البسيط الذي أحسُّه في جسمي في اللحظات أو الساعات التالية للاختبار، إلا أني كنت أفهم أنه – أقصد جسمي – لا زال غير قادر على تحمل واستيعاب تلك السويَّات العالية من الطاقة. وقد تعوَّدت على استعادة توازني التدريجي بعد كل اختبار.

إلا أن ألمي الشديد هذه المرة جعلني أفكر وأفكر... أيكون السبب في الطريقة غير الهادئة والمفاجئة التي عدت بها، وكأني سقطت فجأة من ارتفاع شاهق؟ ربما...

للمرة الثالثة, كان من أعادني إلى جسمي من اختبارات كهذه هي ابنتي. ولكن هذه المرة كانت العودة مختلفة؛ كانت عودة عنيفة، ولم يكن وعيي المفاجئ وأنا في جسمي إلا بسبب أنها هزَّتني بشدة وهي تبكي دونما سبب وتضمني وتقول لي: "لا تتركيني... أحبكِ!"

وعلى الرغم من ذهولي – لأن المشهد ما زال حاضراً أمام عيني – وعلى الرغم من الألم المفاجئ الذي انتشر في جسمي, قرَّبتُها مني، وحضنتها، وتمالكت نفسي، ولم أظهِر لها أو لزوجي أي ألم, إذ استيقظ على صوت بكائها. ومضت تلك الليلة، ولم أستطع النوم حتى الصباح، ولا حتى التحرك في أيِّ اتجاه, حيث كانت ابنتي تتمسك بي بكلتا يديها كلما حاولتُ التحرك, ولو أية حركة بسيطة.

عندما حان وقت استيقاظنا للذهاب إلى العمل لم أستطع البوح لزوجي بما حصل. فقد كان يخشى عليَّ عندما كنت أحدِّثه عما يحصل معي فيما مضى، ولا يشجِّع على الخوض في مثل هذه الأمور. لذا جهَّزت ابنتي وكلَّ ما يلزم، كما تجري الأمور كل يوم، وذهبنا إلى العمل.

في مكتبي لم أستطع إبعاد اختبار الأمس عن ساحة شعوري ولا عن ذاكرتي، ولا إبعاد آثاره في جسمي الذي ازداد سوءاً لدرجة أني لم أعد أشعر بالتناسق، حتى صرت أحسُّ أن كل جهاز في جسمي يعمل وحده، وخصوصاً قلبي: أحسست أنه واهن، متدلٍّ، يعمل في نظام منفصل، غير متَّسق مع عمل باقي الأجهزة – مع العلم أني لم أشكُ في حياتي كلِّها من أيِّ ألمٍ في القلب، ولم أكن لأعرف كيف يكون ألم القلب لولا ذلك الاختبار المضني.

ونتيجة تزايد آلامي قررت العودة إلى المنزل. كل ذلك ولم أطلِع أحداً على ما حصل – حتى زوجي. وحين سألني عن مبرِّر عودتي المفاجئة للمنزل برَّرتُ له أنه تعب بدني مفاجئ أحسست به وأني سأكون على ما يرام حين عودته من العمل. ذهبت إلى الروضة حيث كانت [...] واصطحبتُها معي إلى بيت أخي. هناك قررت أن أعالج نفسي بنفسي, فاستلقيت، ووضعت جسمي في حالة استرخاء، وأخذت أتنفس تنفساً هادئاً وعميقاً، ضاغطة بيدي على قلبي. استمر بي الأمر هكذا إلى أن بدأت أشعر بالتحسن، وغرقت بعدها في نوم عميق.

على الرغم من أن شعوري بالتحسن بعد الاستيقاظ كان نسبياً، وليس حاسماً للحالة، إلا أني استعدت صحتي وتوازني بعد عدة أيام.

لقد مرَّ هذا الاختبار قاسياً... لكنه، على الرغم من ذلك، يبقى مهماً، بل مهماً جداً. لقد ولَّد داخلي تساؤلات عديدة، وربما أجابني أيضاً عن تساؤلات عديدة.

لكني خشيت أن يتكرر وتصير العودة مستحيلة. فرغم توقي الشديد إلى المعرفة، ورغم توقي الشديد للاختبار في أبعاد أعمق من تلك التي تسمح بها حواسنا الخارجية, إلا أني لم أتَّخذ قراراً بالارتحال وإنهاء حياتي الأرضية؛ إذ إنني أعلم مدى أهمية وجودنا هنا، وأشعر بمسؤولياتي الكبيرة, إن لم يكن من أجل بناء وتطوير ذاتي أو من أجل مساعدة الآخرين، فمن أجل [...]. فأكبر مسؤولية تشغلني وتجذبني لمتابعة الطريق هنا هي مسؤوليتي تجاه ابنتي من أجل المساهمة في بناء وتطوير شخصيتها.

وعلى هذا، قررت أن أكون أكثر تيقظاً وأكثر مراقبة لأموري العميقة والعادية... قررت تحويل حياتي إلى حركة دؤوب باتجاه البحث والمعرفة، علَّني أستطيع توحيد شعوري المتداخل في تلك العوالم أو الأبعاد المختلفة، دون أن يؤثر ذلك سلباً على ما يجب أن أبنيه هنا خلال رحلتي في هذه المرحلة من حيواتي.

***

لم تكن تجربتي خياراً بوعي الخارجي, بل نداء الأعماق... دعاني. بدايةً تجاهلته. لكنه كرَّر النداء... وألحَّ عليَّ، حتى أقلق حياتي... صحوت. قررت تلبية النداء. وها أنا ذا مستمرة بكل سعادة ومحبة, بكل ما حملته وتحمله لي التجربة من ثراء معرفي عميق, سواء من الحوار مع الآخر، أو من الحوار مع داخلي, مع ما يفرزه من رؤى وحالات أعيشها مما يتكشِّف تكشفاً مستمراً.

لقد أتتني رؤى جعلتني أرى الأشياء من عمق أبعد ومن أفق أرحب. هذا ليس تبجُّحاً، لكنها الحقيقة تتحرك داخلي وتكشف لي كل يوم شيئاً جديداً. نتيجة لذلك تطورت نظرتي، فصرت أرى الآخرين بأبعاد أو من أبعاد قد يكونوا هم أنفسهم غير مدركينها فيهم بعد.

لقد أتت تلك الرؤى مترافقة مع تلك الدعوة المُحِبة الآتية من أعماق الأشياء, من أعماقي، تستميلني وتستدرج فهمي المتواضع لها, وتطلب مني المتابعة, مهما بدت الظروف صعبة وقاسية؛ ترشدني وتُفهِمني أن الأمر ليس صعباً, وأنه سيتم دعمي باسمرار, شرط ألا أتراجع.

وفي لحظة نادرة من التواصل معها، وفي حالة خاصة كنت فيها المراقِب والمشارك في آن معاً, تم وضعي في مركز دائرة, في موقع كنت فيه في حالة شعورية وطاقية غامرة, بحيث صرت مولَّفة ومهيأة تماماً لأن تعبرني الحياة بطيف أوسع، وتقرِّر من خلالي ما يتلاءم وطبيعة المهمة المطلوب مني تأديتها في هذه المرحلة من حياتي الحالية. وبينما أنا في هذه الحالة، يظهر عدد من الأشخاص يتَّجهون، بشكل طوعي وعفوي، لتشكيل حلقات حول المركز, أراها تكبر وتكبر وتمتد، حتى أبلغ حالة لا أعود أنا فيها مركز أي شيء, أو لا أعود مركز شيء يخصُّني وحدي: إنه موقع وحالة تخص كل كائن. فهمت أنه في تلك الحالة الشعورية الغامرة، المنبثقة من الداخل، والمتشكِّلة بإزاء تكوين الحلقات – تلك الحالة، مع تشكيل الحلقات، سوف توسِّع الطاقة الشعورية الجمعية التي تساعد كلَّ مهتمٍ أن يحقق توازناً واتصالية عميقة بمركزه الخاص, وتساعده أيضاً على العثور على دوره الحقيقي ضمن هذا المخطط الكوني اللامتناهي. وبذلك يصبح، بدوره، محمَّلاً بطاقة شعورية من محبة سوف تمنح الآخرين بعضاً من الطمأنينة والعناية، وتخلق فيهم سلاماً داخلياً يبعث فيهم الأمل والتفاؤل والتجدُّد.

***

أخرج من الحالة, أفكِّر, أتأمل, أتساءل، وأتساءل، وتزدحم التساؤلات:

كيف نبحث عن دورنا الحقيقي؟ كيف نجده؟ هل سيتأثر الدور الذي سنؤديه بالمكان الذي نشأنا فيه؟ أم أن الدور الذي سنؤديه هُيِّئ لظهورنا في بقعة محددة على الكرة الأرضية؟ هل نأسف لأننا خُلِقنا هنا؟ لماذا نحن هنا بالتحديد؟ لماذا هذه الأنا المدركة خاصَّتنا لم ترَ النور في زمان آخر أو في مكان آخر؟ وهل هي حقاً لم تره في زمان آخر أو في مكان آخر؟

إنها تساؤلات صعبة، تجرنا إلى الأعماق وتحتاج إلى الكثير من التفكير والتأمل.

لقد تساءلت في الماضي: لماذا ظهر المسيح في هذا الموقع المحدَّد؟ لماذا مكان رسالته هنا تماماً، وليس في الهند أو الصين؟ هل مكان رسالته هنا حيث تجمَّع الكثير من الشعوب والكثير من التناقضات؟ هل كان دوره أن يعيد التوازن إلى نصابه؟ أم كان يهيِّئ البشرية لمرحلة اختبار أسمى؟ وبالمثل، تساءلت عن دور البوذا والحكماء الكبار الآخرين في الثقافة الشرقية...

أهو التكوين العميق لشخصيتنا، إذن، هيأ لتجسُّدنا هنا؟ أم هو شيء يتلاءم مع طبيعة الدور الذي سنؤدِّيه في هذه اللقطة الصغيرة من حياتنا اللامتناهية؟ أم هو الاثنان معاً؟ أم أن هناك أشياء أعمق لا يمكننا إدراكها في مرحلة وعينا الحالي؟ بالتالي، هل نحن مسؤولون – وبعمق – عن وجودنا هنا؟ هل نحن محمَّلون بمسؤولية محددة؟

التكوين العميق لشخصيتنا يحمِّلنا مسؤولية عن الماضي، وإدراكنا لذلك يحثنا على تحمُّل مسؤولية الحاضر والمستقبل. فهل يمكننا تمثُّل ذلك والإسراع في تحمُّل المسؤولية؟ ولكن، إذا خُلِقنا هنا, هل محتَّمٌ علينا أن يكون دورنا هنا؟ هل يجب أن يكون دورنا هنا؟ أتساءل: إذا خُلِقنا هنا، وما زلنا هنا، ولم نجد دورنا هنا, وفكَّرنا بالارتحال إلى "هناك", هل سنجد دورنا "هناك" إذا لم نفهم لماذا خُلِقنا هنا؟

وأمضي في تساؤلي أكثر: هل سيختلف دورنا فيما لو كنا "هناك"؟ هل إذا فهمنا أنفسنا، وبحثنا أكثر، واتَّسعت رؤيتُنا، وأصبحت شمولية أكثر, هل يصبح دورنا هنا كما لو كان "هناك"؟

أتأمل أكثر: هل تتدرج أدوارُنا وفق سويَّات إدراكنا وفهمنا وتفتح وعينا؟ هل نخضع بشكل مستمر لقانون السبب والنتيجة؟ هل نعمل، كما العنكبوت، وفقاً لهذا القانون؟ هل يمكننا التغيير؟ هل يمكننا القفز والانفلات لنصبح صانعي مستقبل؟ هل علينا تحمُّل مسؤولية شيء صنعناه نحن في ماضينا العميق وحملناه معنا في ذاكرتنا الخاصة؟ هل يجب علينا تقبُّل كل أدوارنا السابقة، منذ تشكُّلنا الأول؟ هل علينا تقبُّل كل ذلك لأنه الحياة تعلِّمنا، في كل طور وفي كل رحلة لها عبرنا (أو لنا عبرها)، درساً جديداً؟

هل علينا، إذن، الاستمرار قُدُماً في متابعة رحلة الارتقاء والتطور الحاصل عن الحركة الناشئة عن فِعْلَي الكشف والخلق المستمرين، منذ الأزل وإلى الأبد، بين طرفي اللانهاية؟

***

الزمن والوعي – هذان المصطلحان الصديقان لي, لا أعلم إلى الآن، على الرغم من اختباراتي العديدة، أيَّهما يتجول في الآخر: الوعي أم الزمن؟ وهل هناك من "آخر" أو من متجوِّل؟ أو هل هناك من فصل بين فعل التجوُّل وبين المتجوِّل في المعنى العميق المجرَّد؟

كنت فيما مضى أعيش انسحابي الانسيابي من جسمي وأشعر بالارتحال والاختبار والعودة. أما الآن، منذ فترة، أعيش الأفكار والصور وهي مرتحلة إليَّ، وأتساءل: هل هناك من مُرتَحِل في لحظة يتساوى فيها الزمن مع اللازمن؟

سبقَ أن أشرتُ في اختبار سابق أنني قررت التزام الصمت لأمنح عقلي فرصة للإلمام والفهم. ولكن ماذا بوسعي أن أفعل أمام هذا الفيض المستمر من المشاهد والمعلومات التي تتزاحم وتتراكم، غير متيحة لي فرصة لالتقاط أنفاسي. لا يكاد يمر يوم دون أن يُسَجَّل فيه حدثٌ جديد. طبعاً المسألة ليست في الكم، إنما في الكيف، وفي السوية والأهمية.

يحضر إلى ذاكرتي كلامٌ وَرَدَ في أحد أحلامي منذ عام، كلام يشير إلى تغييرات عميقة تُحدِثْ أو سَتُحدِثْ قفزة في سويَّة الوعي للانتقال إلى سويَّة أخرى، باستخدام الرقم: 25 سنة، لا أعلم إن كانت الماضية أو القادمة.

سأروي بعضاً مما يحدث لي. ففي يوم الأحد 24/11/1996، أثناء متابعتي لفيلمي الفيديو في [...], حصل ما لا يُصدَّق. فبينما كنت أتابع مشاهد البحث في أعماق المحيط في فيلم البحث عن قارة الأطلنطس، بدون تفكير مسبق، وعلى غفلةٍ مني، تنساب روحي بكل هدوء ورقة لتستقر في الصور – صور أعماق المحيط – وجسمي جالسٌ هناك على الكرسي وعيناي مفتوحتان وجامدتان. في ومضة، تغدو الصور حياةً حقيقية، وتسبح روحي في الأعماق، متحرِّكة في التيار وتسبقه. هنا لا أعلم من بثَّ الحياة في الآخر: أهي روحي جعلتْ صورَ المحيط تغدو محيطاً حقيقياً؟ أم هي الصور حرَّكت عمقي فجعلته محيطاً حقيقياً؟

أستعيد وعيي في جسمي، أرتعش، أتساءل: هل كان ذلك حقيقياً؟

ألمس يد صديقتي. أخبرها أني غير مستقرة تماماً في مكاني. أطلب منها تحريكي فيما لو طال تجمدي.

تابعت الاستماع إلى الترجمة بكلِّ ما فيَّ من قوة حضور, ماسكةً روحي بوعيي, مانعةً إيَّاها من المغادرة, ولكن دون جدوى. هناك، على ما يبدو، مشاهد وصور تتفوق بقدرتها على قوة إدراكي الواعي, تدعوه – أقصد وعيي – فيلبِّي طائعاً، مرتحِلاً باتجاه أعماقها.

وعلى هذا، توالت الارتحالات أكثر من مرة. لكن ما كان يفوق الوصف هو ذلك الاختبار الذي عشته في تلك المشاهد السريعة, المعالَجة كومبيوترياً لسطح وتضاريس كوكب الزهرة، بحيث إن الكوكب، بكلِّ ما فيه، أصبح حاضراً, ووعيي يرتاد الموجة السريعة، ويسبح ويعيش في أجوائه. وسواءٌ عندي إن كانت موجة الكوكب المعلوماتية هي التي حضرت وسبح فيها وعيي هنا, أو أن موجتي أصبحت هناك في الكوكب. لا يبقى من شيء مهم في تلك اللحظة إلا ذلك الشعور وذلك الاختبار الطاقي الخارق الذي سوف لا يُمَّحى من ذاكرتي ما حييت – مع العلم أني لم أقرأ عن اختبار كهذا في أيِّ كتاب، ولا حتى راودني كفكرة مسبقة من قبل؛ إنما عشته حدثاً هكذا، لحظة اختباره.

بعد ذلك ماذا يبقى؟ وأية إجابات هذه يمكنها تغطية ذلك التوالد المستمر من التساؤلات؟ وأي فارق يكمن، بالتالي، بين الصورة والحقيقة؟ كيف يتم التحول من إحداهما إلى الأخرى؟ وهل هناك أخرى؟ أم أنهما شيء واحد في حقل معلوماتي يجمعهما ويوحِّدهما, بينما يفصلهما شيء يخصُّ وعيَنا فقط؟ هل باستطاعة وعيي، في اختبار لاحق، أن يكون له دورٌ مشاركٌ في الحدث بأن يخلق مشاهد جديدة ضمن المشاهد الأصلية؟

سأدعو لمتابعة اختبار آخر على جانب كبير من الأهمية، حيث إن ما حدث يوم الأحد أعتبره امتداداً طبيعياً للحالة التي كنت فيها في اليومين السابقين له.

ففي يوم الجمعة دهمني صداع شديد لم أعهده بهذه القسوة من قبل، مترافقاً مع نوبات متواصلة من السعال عن حساسية مفرطة لأي تغيُّر طفيف في درجة حرارة أو رائحة الهواء. اشتدَّ الأمر عليَّ ليلاً. كنت قد عوَّدت نفسي على عدم تناول الدواء, فحاولت الاسترخاء أكثر من مرة، علني أستطيع التخلص من الألم برسالة ذهنية، ولكن دونما جدوى. فالصداع الشديد والسعال المتواصل حالا دون ذلك. أخيراً تمالكت نفسي، وتمدَّدت على ظهري، طالبة المدد من أية سويَّة في أعماقي.

الصمت مطبق, الضوء خافت جداً لدرجة الظلام التام, الكل نائم. وحدي عيناي متجمدتان ومفتوحتان باتجاه السقف وأنا في قمة الوعي والتيقظ. أنتظر. شيء يشبه الضباب يمتد بيني وبين السقف. تتبدل الألوان والصور. تختفي معالم السقف. فجأة، أحس بموجات تنساب أمام عيني، مع مشاعر عميقة بذلك. موجات على شكل هيئات عرفتُها، مُحِبَّة وخيِّرة، تعتني بي، فتسحب مني الألم وهي تجتاز مجال رأسي، من اليمين إلى اليسار، بإيقاع متواتر ومتواصل، جيئة وذهاباً، مع إحساس متزايد بموجات تنسلُّ منسحبة من رأسي.

استمر ذلك مدة لا أستطيع تقديرها، حتى أخذت عيناي تدمعان. أغمضتهما قليلاً. وبتزامن مدهش, توقف التواتر الموجي. فتحت عينيَّ من جديد، فإذا بالسقف يستعيد وجوده، وأستعيد معه ليس شعوراً متميزاً بالصحة فحسب، بل شعور عظيم ولطيف يملؤني ويغمرني بالعناية وبالمحبة من سويَّات أخرى في أعماقنا وفي الوجود.

تلا ذلك تخاطرٌ فكري متلاحق طُلِبَ مني فيه رفعُ سويَّة الوعي البصري المدرِك لدي. فهمت أنه في سويَّات أعمق لوجودنا نعيش أشياء متكاملة من الوعي السمعي والصوتي. ولكن المطلوب مني حالياً هو رفع سوية الوعي البصري.

ثم استغرقت في نوم لطيف. لم يكن نوماً اعتيادياً لأنني كنت واعية، ترافقني تلك الهيئات في تجوال خارج الزمن، أو ربما داخل اللازمن, لا يهم. المهم أن ذلك جعلني أعيش يومي السبت والأحد التاليين وكأني في حلم أبدي لن أستفيق منه أبداً.

***

لقد لمَّحتُ في كتاباتي الماضية إلى تحولات جديدة تحدث في مرحلتي الحالية. قبل الدخول في تفاصيل هذه التحولات أود أن أشير إلى أني خلال السنوات الماضية، وحتى وقت قريب، ما برحت أتبلَّغ رسائل ذات مضمون متشابه. وقد حاولت إيصال مضمونها بطريق غير مباشر أكثر من مرة. إنما يبدو أنني فشلت في ذلك. ما زلت محتفظة بها موثَّقة بتواريخ حدوثها.

أما فيما يخص التحولات الجديدة, فكانت بدايتها من فترة قريبة, حيث دخلت في حالة من الاختبار لم أكن أنتظرها ولا أتوقعها. وقد بدت كل الحالات الاختبارية السابقة باهتة بالنسبة لها. رغم ذلك فأنا لا أستخفُّ بالحالات السابقة، مهما بهتت أو بدت قليلة الأهمية أمام الحالات اللاحقة، وأعتبر كلَّ حالة خبرةً بحدِّ ذاتها, لها ظروفها ومغزاها, وقد شكَّلت في وقتها مركز ثِقَلٍ جَذَبَ اهتمامي وحرَّكني باتجاه ما هو أهم, فكانت نقاط استناد مهمة هيَّأتْ حالات الاختبار اللاحقة وساهمت فيها.

سأحاول تجسيد الاختبار على الرغم من الصعوبة البالغة في ذلك:

فجأة أعي نفسي في حلقة تدور مع مجموعة من الأشخاص (هيئات من سويَّة أخرى غير أرضية). أُشحَن بالطاقة وأشعر بمرورها في أثناء الدوران. أمرٌ كوني يحدث, يكتنفني خلاله شعورٌ عظيمٌ بالغبطة والسمو. كاميرتي الداخلية تميِّز موقعي بينهم. الدوران مستمرٌ مترافقاً مع حركات لا أعلم إن كان بإمكاني وصفها بـ"الطقوسية"، إلا أني لم أعرف مثلها في حياتي.

هنا وعيت نفسي في اللحظة الأولى وأنا في السويَّة الأخرى من الطاقة يستمرُّ الدوران. وفي ومضة، يختفي كلُّ شيء، ما عدا نقط ضوئية تتألق وتستمر بالدوران في مشهد مذهل لا يمكن وصفه إلا بحجرة كونية تتحرك في الفضاء الشاسع. ورغم تغير المشهد واختفاء الأشخاص واختفائي, إلا أني ما زلت أشعر بالدوران مع تحرك النقط الضوئية. شيء عميق يخاطبني من الأعماق: هكذا تُختبَر – الألوهة. لا يمكنني أن أقول سوى أني شعرت بوجودي في حضرة إلهية.

تنتهي الحالة. أدخل في غيبوبة. ثم أعي نفسي في جسمي الممدد. يتقدم شخص من السويَّة الأخرى ممرِّراً يده بلطف فوق جبيني. تلمع نقطة ضوئية, تتَّسع وتكبر لتصبح شاشة كبيرة متألقة أطل منها على فضاءات نورانية. عند هذا الحد لا يحق لي أن أروي. تعجز الكلمات. كل ما يمكنني قوله هو أن الضوء وطيف الألوان التي تخلَّلت المشاهد كانا مختلفين عن اختباراتنا الأرضية.

كانت المشاهد في قمة الوضوح، وكان ما أحياه واحداً، سواء أغمضت عينيَّ أم فتحتهما. اختبرت ذلك وتأكَّدت أني لم أكن أرى عبر الجهاز البصري في جسمي العادي. ومع ذلك، فقد بقيت في قمة الوعي والإدراك لفترة لا يمكنني تقديرها. استمر الاختبار حتى أُغلِقَت الشاشة بأن صَغُرَت حتى آلت إلى نقطة. انتهى الاختبار.

أجلس في جسمي العادي وأنا في قمة الغبطة والسلام. أتأمل بصمت حتى الصباح. كان الاختبار يفوق الوصف والتصور. أين العقل والنفس والجسم؟ أين تفسيرات العلم؟ أين علم النفس والفلسفة؟ أين الكتب التي نقرؤها؟ أين كل ما سمعنا عن الظواهر الخارقة؟

لا شيء إلا النور... وكلُّ شيء ظواهره وأشكاله.

كوني أوثِّق هذه الاختبارات ضمن مذكراتي الخاصة، وبتواريخ حدوثها، يساعدني على تلمُّس خط التطور الذي أسير وأصير فيه. وكوني أنقلها للآخر المستعد والمهتم بعمق فلأن ذلك من صميم الرسالة. ليس الاختبار ملكاً لي، وإن كنت مهيأة لأن أحياه. فهو يصبُّ، مع الاختبارات الفردية الأخرى، في محيط الحياة الكلِّي.

بتُّ أفهم أنْ لا أحد يمكنه أن يختبر أو يتعلم بالنيابة عن الآخر، وأن لكلٍّ خط سيرورته وصيرورته الخاص. ولولا هذه التنويعات لَفُقِدَ المعنى ولتوقفت حركة التطور.

ولكن هذا لا يمنع من نقل الخبرة – كمعلومة – للآخر. فمن يدري؟ قد تحرِّض داخله مناخاً لخلق خبرة جديدة تساهم في رفد خط صيرورته الخاص ورفد خط الصيرورة الكلِّية.

***

عند ع. خ.

قرأت هذه العبارة في أحد الكتب: "توجد الكلمات لأجل المعنى. ولكن حينما تدرك المعنى بإمكانك طرح الكلمات جانباً." كلام جميل على صعيد الاختبار الذاتي. ولكن حينما نريد نقل المعنى المختَبر إلى الآخر لا بدَّ من العودة إلى المصطلحات. ولكن أية مصطلحات هذه يمكنها أن تستوعب المعنى وتلمَّ به إذا تجاوز ذلك قاموس المصطلحات؟! لتوسيع قاموسنا لا بدَّ من إيجاد الوقت للدراسة والقراءة المستمرة؛ ليس لهذا فحسب، بل من أجل توسيع وتطوير مداركنا وآفاقنا المعرفية.

ومع ذلك، يمكنني التأكيد أن بإمكاننا، في غمار هذا النوع المميز من المعاينة، طرحَ كلِّ ما تعلَّمنا على الأرض جانباً (طبعاً بشكل مؤقت)، وذلك لمتابعة الحدث؛ وبالأدق لأن طبيعة الحدث تستلزم ذلك. ففي مثل هذه اللحظة النادرة جداً من المكاشفة لا يسعنا إلا الانبهار والذهول، وربما التفاعل بكل ما يمكن تجميعه من طاقة، للبقاء أطول فترة ممكنة في متابعة هذا الحدث.

ينقلنا هذا النوع من التجربة إلى سويَّة عالية من الشعور لا يمكن تسميته حدساً أو شعوراً مبهماً بالأشياء, بل مواجهة ومكاشفة تظهر فيها الأشياء بصورة مرئية زاهية ومحسوساً بها بإحساس متميز، متجاوز لإحساساتنا الأرضية.

من معاينات التجربة لا أعلم إن كان بإمكاني القول إن وعيي يصبح كاميرا. لا أشعر أني مرتحلة بجسمي، بل أنا في جملة مرتحلة وسط الصمت والظلام. تظهر بقع ضوئية صغيرة تتوزع وتمتد بشكل لانهائي. إنه الكون، بكلِّ امتداده واتساعه! تظهر بقعةٌ ضوئية أكبر من مثيلاتها، ولكن بلون عاتم, وهالةٌ متوهجة توهجاً خفيفاً حولها. وأنا متجهة إليها تكبر وتكبر... هناك شيء يشبه الضباب أدخل فيه وأصبح موجة في الضباب الملتف حول الكوكب. لا أعلم كيف أصف ذلك، حيث المقاييس والأبعاد هناك مختلفة تماماً عما يمكن تصوره من خلال جسمي العادي على الأرض. تظهر هيئات تتحرك كالهيولى. أنفلت وأتابع الارتحال. أشعر بالتعب، وأطلب العودة إلى الأرض, لكن ليس إلى جسمي. أنا فوق [...]. أستطيع تمييز المعالم، على الرغم من الألوان العاتمة. في البداية يظهر شارع وأبنية، ثم شارع طويل وباص وشجر. ثم يظهر جبلٌ عالٍ كبير أخترقه بومضة. بعدها أرى نفسي فوق البحر. من هناك أقرر فجأة استجماع طاقتي وأرتحل شاقولياً.

وتتوالى مشاهدُ الكون كأنه شريط سينمائي يمتد أمامي بكل معالمه. في غمرة ذلك يظهر فجأة جسمٌ عاتم مغزلي الشكل. أتخاطر معه بعمق، وأعلم أنه شيء يشبه محطة فضائية. أدخلها. وهنا تبدأ الصعوبة – وربما الاستحالة – في الوصف.

طاقة بيضاء متوهِّجة متمركزة في موضع يشبه العين، لكنه ليس بالعين. هناك امتدادٌ في الداخل، وكأن هذه المحطة عالمٌ قائم بحد ذاته. لم أستطع الرؤية في البداية من شدة التوهج والانبهار. ثم أخذت المعالم تتضح شيئاً فشيئاً. داخل المحطة شيء يشبه الجدار، ولكنه ليس بالجدار. إنه لوحة فنية مذهلة، توجد عليها تكوينات بأشكال وألوان مختلفة، تتداخل معها بعضُ الرموز ذات مستوى عالٍ من الدقة والرقي، بأبعاد مختلفة. لا أعلم إن كان بإمكاني تسميتها أبعاداً أو حتى تكوينات هندسية؛ إنها شيء يشبه ذلك، ولكنه مختلف تماماً. إنها أشياء تفوق ذلك لأن إحساسي بالأبعاد كان إحساساً مختلفاً. حتى إن بإمكاني القول إن كل قطعة وكل لون لقطعة هو بعدٌ بحدِّ ذاته. كأنه أيقونة ناطقة تختزل وتلخِّص تواريخ طويلة، بحيث أصبح لها وظيفة وبُعْدٌ ضمن هذا الترتيب المنسجم والمتكامل من التكوينات، مما يجعل المتابع لها يحسُّ بالجمال، لا بل يشعر بأنه في حضرة الجمال بذاته!

لا أخفي أني أحسست وأنا أنظر إليها بأني قرأت ألف كتاب وكتاب، وكأن آلاف الحضارات أرسلت بمعلوماتها إلى ذلك العالم الراقي جداً، بحيث تحولت كل قطعة في هذا التكوين إلى بُعْدٍ محمَّل بالوعي بذاته.

(فاتني أن أقول إنه قبل متابعتي للتكوينات على "الجدار" ظهر كائنٌ وجهه كبير، عليه هو الآخر تكوينات ملونة بطريقة تتوافق وتنسجم مع التكوينات في المحطة: هناك مكان للعيون، إنما لم تكن كعيون البشر. وقد أحسست، منذ لحظة دخولي، أن كلَّ ما في المحطة من تكوينات – الأشكال والألوان والكائن، والطاقة المركزية حتى – أحسَّ بوجودي وتبادل التخاطر معي.)

ظهر لي أن لكلِّ تكوينة لوناً وشكلاً وبُعْداً محدداً ضمن هذا النسيج الكلِّي المتجانس... لها وظيفة بحيث تقوم بتوصيل المعلومات، وفق بعدها، من أماكن خارج المحطة أو من داخلها، إلى الطاقة المركزية ذات الضوء الأبيض الوهاج، بحيث يرتدُّ الشعاع المحمَّل بالوعي لينقل المعلومات إليها. وهذه الطاقة المركزية البيضاء المتوهجة نوراً محمَّلة بوعي كوني متميز يقود نفسه بنفسه.

أما الكائن فهو يظهر ضمن هذه اللوحة النابضة بالحياة، متصلاً بها ومنفصلاً عنها في نفس الوقت.

الآن سأتحدث عن العودة إلى جسمي. عدت محمَّلة من الكون بطاقة عالية, أو كنت في سويَّة عالية من الطاقة. المنطقة العلوية من رأسي لم تكن تنبض، بل تطرق طرقاً. أما عيناي فكانتا تحرقانني بشدة. استمر الأمر كذلك مدة ثلاثة أيام، إلى أن خفَّت حدة الحرق تدريجياً.

خرجت من التجربة وعندي شعورٌ عميق بالامتلاء وبالاتِّصالية الكونية, بالامتداد، وبالكثير الكثير من المعلومات التي أجبرت نفسي على التعبير عن بعضها – وكنت أفضِّل الصمت، ليس بدافع الأنانية, إنما لأمنح عقلي فرصة الإلمام والفهم. لقد أثَّرت هذه التجربة فيَّ بعمق، وما زال أثرُها حاضراً عميقاً في ذاكرتي.

إلى هذا شعرت أن وجودي على الأرض ليس وجوداً تافهاً، بل وجود مسؤول. فعلى الرغم من اختلاف السويَّة بين عالم الأرض والعالم الذي تكاشفت معه, شعرت أن وجودنا وجودٌ مهم ولامحدود, وإنْ كنا نلبس الثوب البشري بسويَّة اهتزازية مختلفة. واستنتجت، بشكل وجداني، واعٍ وعملي، أننا – كبشر – نملك إمكانات وطاقات لا محدودة. وربما هذا النوع من الإبانة والكشف مهمٌ، ويمكنه رفد النوع الآخر من الإبانة عن طريق البحث العلمي والفيزيائي، كإرسال سفن فضاء أو رسائل إلى الكون.

لكن... من كلِّ اختبرت لدى اختراق عتبة الزمن الفيزيائي، والدخول إلى تلك العوالم، وإحداث التواصل معها كونياً، وتبادل المعلومات, استنتجت أننا حقاً نرسل سفينة فضاء، لكنها من طبيعة فيزيائية، تخص اهتزازاتنا. فقد تمر بكواكب فيها عوالم، لكنها لا يمكنها التكاشف مع كائناتها نظراً لاختلاف السويَّة الاهتزازية. من ناحية أخرى، فإن عمر الإنسان أقصر من أن يرسل سفينة فضاء أو رسالة كونية وينتظر الإجابة بعد آلاف آلاف السنين، فيكون ما وصل إلينا هو ماضي تلك الحضارات. أما في هذا النوع من المكاشفة فنرسل وعينا بسويَّة اهتزازية قد تتوافق مع طبيعة أحد هذه العوالم فتحصل المكاشفة.

ويمكننا القول، بالتالي، أن ظهوراتهم لنا عبر "الصحون الطائرة" ظهورات تتوافق اهتزازاتها مع طبيعتنا على الأرض, أو تتوافق اهتزازاتها مع اهتزاز حاسة البصر، فنتمكن من رؤيتهم.

وللحديث تتمة...

*

قد يقال بعد القراءة إنه جنون, خيال...

إن كان جنوناً فسأرتاده، وأطيعه، ما دام يحملني إلى تلك الأماكن البعيدة عن مجال إدراك حواسي هنا لأتابع التكاشف.

وإن كان خيالاً... فأنا أُجِّلُ، وأقدِّس، وأقف خاشعة أمام ذلك الجمال الآسر الذي أفرزه خيالي.

***

أيار 1997

ذكرت منذ سنوات أن هناك طاقة محبة غير عادية تغمرني وتجذبني, تسمو على أية محبة عادية في عالم الأرض وتتجاوزها.

يعود ميلاد شعوري بتلك المحبة الغامرة إلى عشر سنوات تقريباً. ففي لحظة شعورية نادرة قفزتْ إلى ساحة إدراكي وشعوري الخارجي فجأة مساحاتٌ سحيقة من ذاكرتي العميقة جعلتني أطلُّ على أحداث في تواريخ بعيدة عشتها في حيواتي الماضية، تختلف عن تلك التي ما زلت أحتفظ بها في ذاكرتي الحالية عن حياتي السابقة مباشرة والتي تذكَّرتُها منذ أن كان عمري سنة ونصف.

لقد كانت تلك اللحظة الطاقية المكثفة كافية لإرشادي إلى فضاءاتي الداخلية ولبعث ميلاد جديد يعيد صياغة علاقتي مع عالمي الداخلي بطريقة مذهلة ومثيرة. لقد كان هذا الميلاد بداية الطريق، والممهِّد لتوثيق العلاقة بين وعيي الخارجي والسويَّات الأعمق في كياني الذي أخذ يرسل تباعاً معلومات وصوراً ورموزاً، ويحملني للاختبار على تلك السويَّات القصيَّة عن إدراك حواسي على السويَّة الأرضية.

والاختبارات التي عشتها لا يفهم مضامينَها العميقة إلا من مدَّ وعيه وأحدث تماساً حقاً مع السويَّات الأخرى في الوجود وهو ما يزال موجوداً هنا.

لا أستطيع ترجمة ما عشتُ حينئذٍ في تلك اللحظة النادرة لأنه اختبار يفوق الوصف. مشاهدُ حضرت وألغت كل ما كان يربطني بالمكان حينئذٍ، وابتعدت بي وحملتني معها إلى بُعدٍ آخر في فضاء لامتناهٍ. ومن حينه وأنا ما أزال أنتقل من اختبار لآخر على تلك السويَّات، مع شعور متزايد بالمحبة، على الرغم من كل العثرات وكل الصعوبات التي ترافق وجودنا هنا، وعلى الرغم من صعوبة التكيُّف بعد العودة من تلك السويَّات. فلابدَّ من التقدم والمتابعة.

منذ البدء لم يكن الأمر سهلاً: لا أمر المعاينة على تلك السويَّات، ولا أمر نقل المعنى منها وترجمته إلى كلمات. إنه لأمر شاق حقاً أن تحيا لحظات ذات طبيعة سامية وأبديَّة، تعود بعدها لمتابعة الحياة هنا، وكأن شيئاً لم يحدث! مثلما هو شاق أيضاً، في مرحلتي الحالية من النمو، أن أبقى في تلك الأبعاد إلى الأبد. يحدث أن أعاين، وبمشاركة عميقة... ثم أنفصل ليسارع عقلي إلى الربط لتثبيت المعنى ونقله.

كان أبرز تلك الاختبارات، فيما يخص الرموز، تلك التي تتعلَّق بالرموز الدائرية أو الكروية، ثم الهرمية. ففي البداية ظهرت رموز دائرية ومربعة ومثلثية. وفيما بعد – وكان هذا مثيراً ومذهلاً – اختبرت الرمز دون أن يكون رمزاً، بل أنا، إنما في تشكيل كروي أو هرمي.

وعيت نفسي ذات مرة معلَّقة في الفضاء اللامتناهي، وأنا نفسي كقطبين يشكِّلان سطح كرة مقذوفة في الكون، تدور وتدور... وتنبعث من كلانية القطبين، ومن هذا الدوران، طاقةٌ غامرة وسامية ما زلت أتذكَّر آثارها كلما حضرتْ إلى ذاكرتي.

أما الهرم فقد ظهر مرة، بكل جلاله ووقاره، في رؤيا مع رموز أخرى جعلتني أعيد النظر في رؤيتي للعالم من حولي وللعالم داخلي. كان ظهورُه مؤشِّراً ومبشِّراً لي بأني على مشارف مرحلة جديدة على طريق تقدُّمي. ولقد تحقق ما أوحي لي به فيما بعد، وتكشَّفتْ أمورٌ جديدة.

وقد حصل اختبارٌ متقدِّم، كنت فيه في تشكيل هرمي أتنفس مغتبطةً طاقة لطيفة وأحيا في حقيقة جمالية عظمى. وما كنت لأعرف ما للهرم من عظمة في الاحتفاظ بالطاقة لولا هذا الاختبار.

إن ظهور الهرم واختباري فيه أكثر من مرة وجَّهني لأن أبحث عن كتب تختص بالأهرام. وما إن وجَّهت تفكيري باتجاه البحث عن الهرم ورموزه حتى تهيأتْ ظروفٌ خارجية ساعدتني على الحصول على كتب تؤيد ما كنت قد اختبرته دون معرفة مسبقة.

حين أستعرض شريط حياتي لا أصدق ما حصل. وتحضر فوراً إلى ذاكرتي تلك اللحظة الطاقية النادرة التي جعلتني أستيقظ على حقيقتي العميقة والتي حوَّلتْ تجربتي المعرفية إلى مغامرة كبرى تُحدِث في أعماقي تغييراً متواصلاً وتبعث فيَّ موقفاً جديداً ومتجدداً من الحياة.

وأنا أطلُّ من الآن على الاختبارات التي تلت تلك اللحظة وعلى تسلسلها، أراها منطقية، وإن كانت مذهلة. وفي كل الأحوال، كانت بانية وغائيَّة. وقد ساهمت، إلى حد بعيد، في دفعي خطوات باتجاه البناء المعرفي الذي عمَّق شعوري بالحياة وأتاح لي فرصة التماس مع السويَّات الأعمق في كياني.

وعلى الرغم من أن تلك الاختبارات جعلتني أمتد أكثر باتجاه الماضي – وأقصد ماضي الحيوات السابقة البعيدة – في البداية، إلا أنني لا أهتم بالماضي، مهما كان زاخراً، إلا بقدر ما يدفعني إلى الأمام. نظري متَّجه دائماً إلى الأمام. وأنا أفهم الآن أن كل ما مضى، وإن كان يوجِّهنا، لا ينبغي الانغماس فيه، بل السعي سعياً دؤوباً للبناء فوقه... للبناء المستمر. ولهذا فأنا في شعور دائم بأني على تخوم مرحلة جديدة، وأتهيأ للانتقال لأخرى. ويبدو أن هذا سيرافقني إلى ما لا نهاية في طريق بناء ذاتي وتقدُّمها.

أشعر أن حركة التطور ستبقى مستمرة في كل إنسان، إلى ما لانهاية، ما دامت الحياة مستمرة وديناميَّة ولامنتهية. سنستمر ما دمنا منها وإليها، كلٌّ منَّا يُكامِل ويتكامل معها وفيها. وعلى هذا، فمهما تعمقت معرفتُنا واتَّسعت، سيبقى دائماً شيء أعظم يجذبنا إليه في رحلة التكوُّن والنمو المستمرين إلى الأبد.

*** *** ***

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

Editorial

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود